سيد الحبايب
سيد الحبايب..
تتداعى في الذاكِرة أُغنيتها التي ردداها سوية، عِندما كانت تتكئُ عِند خواصر المتوسط موجات المدِ القادِمةِ من خلف الأعالي.. يدهُ على مِقودِ السيارةِ، عيناهُ تفيضان بالدمعِ! في آخر جلسةٍ لهُما اِفتر فمها عن اِبتسامةٍ شاحِبةٍ، كانت عينيها تُنذران باِقترابِ الرحيلِ، هَاهوَ الرحيلُ دَنَا، وجاءَ الْموت في الموعدِ المكتوبِ لها لِتُبحِر روحها في ملكوت السماءِ، ويشعرُ بوحدةٍ لاتوصف،،اِبنهاالوحيد
هَديةُ القدر إليها، أو ربما لعنةُ القدر!
ـ هو لعنةٌ مِن لعنات القدر، طعنةٌ مِن طعناتِ الحياةِ، هكذا كان يَجِدُ نَفسهُ.. بينما كانت تجدهُ كل جميلٍ في حياتِها..
ـ أوائلُ الثمانينات في بيروت، كُل شيء تهدم، الأحلام اِغتيلت في مهدها، صبرا وشاتيلا غرِقتا في بحيراتٍ داميةٍ، أَضَاعَ الطِفلُ الفلسطينيّ بَصَماتَهُ فوق الأرصفة الحمراء.. وتعثر بشوارعٍ تحترِقُ، سَكَن مُخيمات الشتات، وفيها بنى ميلادهُ من جديد. رمم جِراحهُ المفتوحة قدر المُستطاع، تَرعَرعَ بين الأزقةِ الضيقةِ، وحَمَلَ بِطَاقَة لاجئ.. تعلم حِرفاً كثيرة، ورسم بالسيف والقلم حكاياتهُ..كبر الطفلُ الفلسطينيّ وتَخَطى حدود المخيماتِ. فتحت الحدود المُجاورةُ ذراعيها حضنتهُ، وهناك داخِل المُدن الفسيحة، صار الفتى الفلسطينيُّ رجلاً، صاحِب قضية، لهُ مواقِفهُ الثابتة، ولن يُساوم على حرية دياره، وِسام فقد اليوم جزءاً هاماً مِن حياتهِ، رحلت والدتهُ، إثر مرضٍ عُضال.. شعر برحيل الحياة معها، بِتوقف نبضها توقف شريانه عن ضخ الأمل لكيانهِ، وضاعت برفقتها أحلامهُ بالبقاء داخل أسوار المُدن..
كان الصباح مُشمساً بعض الشيء، لكن السُحب مازالت تعد بالوفير من الأمطار، يوم أمس كان عاصِفاً ماطِراً، وكانت غُرفتها رطبة، كئيبة، داكِنة الملامح..لن تعود إليها ثانية، ولم يعد بمقدور الطفل الرجل أن يدخلها بمفرده، تبدلت الأشياءُ برحيلها..
كان المرض يدنو منها، لِيغتال الراحة في قلب ابنها الذي يحيا على الدوام في حالة انتظارٍ وكانت باستمرار تُهَدِأُ من قلقهِ..وتعدهُ بالشفاء! الأمل بالشفاء، الذي اِنتصر عليه اليأسُ بالموت!!
توقف بسيارتهِ بانتظار اللون الأخضر للعبور، ماسحاً دمع الرجولة بكبرياءٍ، مُتسائلاً كيف ستكون حياتهُ بعدها. أنهى إجراءات التصريح بالدفنِ، ودعها، وأودعها التُراب.. لا يعلم كيف مضى يومهُ سريعاً كئيباً.. في مِثل هذا اليوم مِن الساعةِ العاصفةِ غادرا بيروت التي كانت تشتعل.. وبعد عقدين ونصف تُغادر الحياة والدتهُ التي عشقت بيروت!
ضاقت الحياةُ بوسام، الذي فقد الصدر الحنون، وبدأت مِساحات الفراغ تتسع بحياتهِ
ـ الحياة هُنا مُملة بدونها، وفي بيروت بقايا هياكلٍ تُخلدِ ذكرى مذبحة صبرا وشاتيلا..
وهُناك في وطنه الذي لزِمَ دقات قلبه، اِنتشلوا النبض، وأباحوا نقل أوراقِهم إليها زهرةُ المدائن.. المدينة التي اِنتسب إليها.. وانتمى لِجذورها..
ـأدار أُغنيتها التي كانت تُرددها بِرفقته سيد الحبايب ياضناي إنت
وكل أملي ومُنايا إنت)... فاضت عينيهِ بالدمعِ وبالتذكارِ مراتٍ عديدة..لاح شبحُ عجوزٍ ظنها هي، عادت إلى الحياة، اِبتسم نهارهُ رغم الغيوم المُلبدة في السماءِ، اِقترب مِنهُ الشبح، خفق قلبهُ كما مِطرقةٍ، نظر إليها لِيتلاشى الاِبتسامُ، وتصخب السماءُ فترسِلُ برقها ورعدها..
ـ لقد رحلت كما الأشياءُ الجميلة،التي لن تتكرر في حياتنا.. مدينتهُ عاصمةُ المدائن ووجهُ أمه.. أجمل ما وهبهُ الله .. وبعدهما الحياة أنفاسٌ..زفيرٌ وشهيق..وألحانٌ حزينة..
فتحت إشارات المرور اللون الأخضر إيذاناُ بالعبور، لِينطلق بسيارتهِ وسط الإزدحام..مُطلِقاً صدى أُغنيتها يُداعِب الديمات الماطرة:
سيد الحبايب يا ضناي إنت
وكل أملي ومُنايا إنت...
بألمي:عروبة..
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|