خربشات على جدار الصمت..
الخربشة الأولى..
[align=justify]لأول مرة في حياتي، أشعر بأنني أعيش اللحظة كاملة، من بدايتها إلى نهايتها.. ولأول مرة في حياتي أشعر أنها، على الرغم من عمرها القصير جداً، كوحدة زمنية، قد صارت طويلة إلى درجة مذهلة..
نعم.. لقد أحسست بها كاملة من بدايتها إلى نهايتها.. لم تمر مروراً عابراً كغيرها من ملايين اللحظات التي عشتها قبلها، خلال سني عمري الخمس والستين.. إنها لحظة فريدة بالفعل، لحظة أطول من عمري كله، إذا ما قيست بكمِّ الأحداث والتغيرات التي تقلبَتْ عليَّ خلالها..
في تلك اللحظة النادرة التي حدث فيها ما حدث، كنت مستلقياً في الغرفة وحدي أفكر فيك... وفجأة توقفت سيالة التفكير، وتوقف الزمن عن الجريان، ودخلتُ ملكوتاً لم أعرفه من قبل.. لا زمان فيه ولا مكان.. مجرد فضاء.. فضاء فقط.. فضاء بلا أي حدود مرئية أو محسوسة.. فضاء أزرق بلون سماء صافية في يوم مشرق.. ليس ثمة شمس، بل نور قوي يملأ الأرجاء ويضفي عليها هدوءاً مريحاً شاعريَ الانتشار..
فكرت في البداية أنني نائم، وأنني أرى ما يراه النائم في الحلم، لكن سرعان ما نبهني صوتكِ المبركن بشحنة هائلة من العواطف القوية إلى أنني في حال يقظة، وأن ما أراه حقيقة لا وهماً.. فأخذتُ، وأنا بكامل يقظتي، أَرْقُبُ ما يجري، وأنا أرتجف بشدة، إلى درجة أنني لم أعد أستطيع السيطرة على عضلاتي، وأحمد الله حينها، على أنني كنت مستلقياً لا واقفاً، وإلا لكنت سقطت أرضاً..
في البداية، وجدتني، وعلى حين غرة، أقف على مشارفِ شاهقٍ من اللحظات المتراكمة التي يتشكَّل من مجموعها عمري الذي عشته حتى الآن، أنظر باستغراب إلى امتداد لا نهائي من العفوية والدهشة.. استغرقني الهدوء المخيم تماماً، فتركتُ لروحي حرية التحليق في فضاءاته بجناحين من سكينة تامة انتشرت في قلبي.. وفجأةً، حدث ما قلبَ كلَّ شيء رأساً على عقب.. فقد كان ما حدث لا متوقَّعاً، بل غريباً وجنونياً إلى درجة لا تُصدَّق. لقد انفتحت بوابة عالمي الداخلي على مصراعيها تماماً، ورأيت انفتاحها عياناً لا تخيلاً.. ثم رأيت كيف راح ينطلق منها كل المخبوء خلفها قسراً: الذكريات القديمة والأمنيات التي طالما راودتني وتقت إلى تحقيقها، لكنني كَبَتُّها.. عذاباتي ومسراتي، أفراحي وأحزاني، خيالاتي المجنونة وتهيؤاتي، هذياني وأفكاري، حبي وكراهيتي، خوفي وطمأنينتي، سلبياتي وإيجابياتي، وكل المكونات الأخرى التي صنعَتْ ماضيَّ وتلك التي ما تزال غيباً في رحم مستقبلي، كلها خرجت سوية، وفي آنٍ معاً..
كم كان مثيراً مرأى تلك المكونات على اختلافها وتنوعها وتناقضها، وهي تتدافع على نحو رهيب، يُزاحم بعضها بعضاً، كلٌّ يريد الخروج والانعتاق من سجنه الطويل خلف تلك البوابة الجبارة.. ولعل الأكثر إدهاشاً أن أرى وجهكِ، في كل تلك المكونات الصغيرة التي كانت تنطلق ثم تنتشر حولي عشوائياً، بسرعة خارقة، وهو يمازجها جميعاً ويفرض عليها ملامحه..
لم يَطُلْ عمر الذكريات كثيراً في ذلك المشهد الفريد.. فقد كانت تنبعث من الماضي وتتلاشى بسرعة في الفضاء الأثيري الأزرق مُخلِّفةً بقاياها على بساط من رمادٍ انفعاليٍّ ساخن.. وكذلك كل الأمنيات التي لم تتحقق، واضطرَّتْ للانزواء في منطقة النسيان قبل أن تتحول إلى مجرد رصيد إضافي من ذكريات تخصُّ زمناً مضى، بعدما عجزَت إرادتي عن تحويلها إلى واقع، في أي لحظة مضت.. بل ظلت مجرد أمنيات..
الثابت الوحيد في ذلك المشهد، كان أنتِ.. وبحركة مفاجئة جداً، وعلى نحو غرائبي للغاية، رأيتكِ تمدين كفيك إلى ذلك الكم الهائل من بقايا الذكريات والأمنيات التي تراكمت على البساط الرمادي، وتمزجينها ببعضها، ثم تسلين من مزيجها خيوطاً رفيعة، ما لبثتِ أن بدأت تجدلينها حبلاً غليظاً، مددتِه إلي في نهاية تلك اللحظة الفارقة، وطلبتِ مني أن أمسكه بقوة، ففعلت، فسحبتِني به من ذهولي وإغماء مفاجأتي، وحين صرتُ قبالتك، ضممتني بقوة إلى صدرك، فإذا بكياني يتلاشى في كيانك لنصير واحداً..
وما إن انتهت عملية الصيرورة تلك، حتى انتبهتُ من مشاهدتي.. نظرت فإذا بنا نرتجف سوية.. كانت تهزنا مشاعر واحدة، وينبض قلبانا نفس النبضات، ونستنشق نفس نسمات الهواء.. عندها فقط، أدركت أنني صرت مسكوناً بك، وأنك لم تعودي مرآتي بل صرت ذاتي التي بين جنبي.. وبقدر ما أفرحني ميلاد ذاتي الجديدة التي اكتست ملامحك، بقدر ما أحزنتني خسارة أنايَ الأصلية التي كنتُها..
أنتِ.. هل عرفتِ من أنتِ؟ مؤكَّدٌ أنك تعرفين، ولكن الآخرين لا.. وليتني أستطيع البوح لهم باسمك لأرتاح من ثقل الاحتفاظ به سراً، لكنني لا أستطيع.. لأنكِ أنذرتِني جادَّةً، بأنني لحظة أبوح به، ولو سهواً، ستكون لحظة خسارتي إياك إلى الأبد..[/align]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|