تناولت أطراف الحديث مع حارسي الشخصي، أخبرته بصعوبة الموقف .
أخبرته بخطورة الموقف.
الجنرال قادر على الكرّ والفرّ، تمنّيت عليه فكّ أسري لمعالجة الأمور على عجل.أصابته الحيرة طويلا!
- ما اسمك يا عزيزي؟
- رستم قال بعد تردّد.
- ستخسرون المزيد من الثمار والأطفال يا رستم.
أنتم لا تعرفون طبيعة بني البشر!
خلال حديثنا المتقطّع،
عادت مجموعة أبي سنونو وحورية مقيّدة اليدين.
- يا إلهي! ألم يجدوا غيرك يا حورية!؟
كنت ألتهم جزءًا من تلك الثمرة، أحضرها لي فارس، كان ينوي مصالحتي،لكنّ حيوانات أبي سنونو انقضّت علي فجأة.
أظنّ بأنّ الأمر يتعلّق بالثمرة إيّاها.
- هذا النوع من الثمار هي في الواقع أجنّتهم.
نحن نأكل أطفالهم يا حورية، طِوال هذه الفترة ودون أن نشعر.
وجدوا بين يديك ابن عمدتهم.
كنت تلتهمينه بشهيّة غير مسبوقة يا عزيزتي!
صاحت حورية والدمع ينهمر من عينيها:
- قدّمها فارس في محاولة لمصالحتي،ل ماذا لم يخبرونا بذلك يا قبطان؟
- لقد حاولوا لأكثر من مرّة، لكنّنا غارقون في عالمنا الماديّ يا حورية!
والآن، ما العمل؟
طلبوا العمدة وكان حزينًا للغاية وقال:
- أريد أن تغادروا هذه الجنّة، لقد صبغتموها بالحزن والإثم، يا قتلة!
سأبقي حورية رهينة عندي عشر سنوات ممّا تعدّون.
عشر سنوات تنقضي ثمّ يمرّ قاربكم في جزيرتي لالتقاطها.
- يا عمدة، يا صاحب القلب الجريح، يا كبير القوم!
جرحك كبير لأنّك عظيم الشأن هنا، أترك لنا خيارات حتّى نتدبّر أمرنا،
سنغادر هذه الجزيرة المضيافة، لكنّ حورية كسيرة القلب يا عمدة.
صدّقني، لم تمدّ يدها لثمرتك ومهجة قلبك، إنّها ضحية كباقي الضعاف في هذي الدنيا.
صمت العمدة لحظة من الزمن، ثمّ رفع سبّابته وقال:
- أقبل بغيرها ضحية ورهينة.
لن تغادروا جميعكم جزيرتي يا قبطان.
ستعمل الرهينة في خدمة شعبي طِوال السنوات العشر المقبلة.
هذه ضريبة عليك أن تحقّقها من أجل أبي سنونو.
- دَعْني أجتمع يا عمدة مع جماعتي
- لك ذلك. تذكّر بأنّكم تحت الحراسة المشدّدة.
سنقتل كلّ من يحاول الهرب من جزيرتي.
رجالي الآن متواجدون على سطح المركب، سأغرقه دون مهادنة إذا حاولتم الغدر أو الهرب.
تلك ليلة لا تُنْسى.
أدرك الجميع بأنّ الأمور وصلت إلى مرحلة حرجة.
لا يمكن العودة إلى الوراء لإصلاح الأمر يا رفاقي.
صاح الجنرال:
- لقد أخطأنا بحقّهم، لكن حورية لن تبقى فوق هذه الجزيرة رهينة.
أنا على استعداد لمواجهتهم، أنا على استعداد للقتال من أجل استرداد حورية.
- على مهلك يا جنرال، لقد تحدّثت مع رستم بعض الوقت، إنّهم أقوياء .. ونحن غير مرئيين.
- ماذا تقصد بهذا؟
- الجزيرة تصبح غير مرئية ما دام هناك غرباء على سطحها!
- وكيف نجدها بعد عشر سنوات إذا كان يسكنها غرباء آخرون.
- قلبي دليلي يا جنرالي العزيز، هذه ليست مشكلة.
لا بدّ لأحدكم أن يضحّي من أجل حورية.
عندها تقدّم فارِس مطأطئًا رأسه وقال:
- حان الوقت للتكفير عن خيانتي.
سأبقى فداءً لحبيبة القلب يا قبطان.
-6-
بكت حورية طويلا وقد حانت لحظة الوداع.
احتار العمدة ومستشاره رستم في أمر فارس وحورية.
لم يكن هناك بدًا من شرح الأمور لأبناء سنونو.
قالت حورية لعمدتهم:
- دعني أبقى وفارس على جزيرتكم.
أصيب رستم بالعجب وقال:
- أنتم محكومون بالأشغال الشاقة، بقاءكم هنا سيكون رحلة عذاب طويلة يا حورية.
- لقد أثبت حبّه ووفاءه، أريد البقاء بمعيته.
أدرك رستم بأنّ العاشقين لا محالة باقيَيْن على الجزيرة.
همس بأذن العمدة وبعد لحظات قال العمدة:
- يرغب رستم بمرافقتكم طِوال فترة العقاب.
رستم سيعمل على تسهيل عودتكم إلى الجزيرة بعد عشر سنوات.
رستم يرغب بالتعرّف على جنس البشر عن قرب، وهو قادر على المساعدة، وهو قويّ البنية يا قبطان.
- أهلا وسهلا يا رستم، لا أظنّ احدًا يعارض حضوره فوق المركب.
كنت أجهل السبب وراء هذه المقايضة.
حورية وفارس كانا مرغمين على البقاء، بينما طلب رستم مرافقتنا بمحض إرادته.
سألت رستم عن أهله وعائلته فأجاب:
- أكلوا جميعًا، لم تنجُ ثمرة واحدة،
أنتم لستم أوّل من نزل الجزيرة.
طلبت البقاء مع حورية وفارس بعض الوقت،ضممتهما الى صدري.
كانا مقرّبين لفؤادي.
قالت حورية:
- ليلى فرّقتنا وجمعتنا في الوقت نفسه.
أنا لا أشعر اتّجاهها بكراهية تُذْكَرْ، سامحونا يا قبطان إذا أخطأنا بحقّ المركب.
إنّها إرادة القدر، أفضّل البقاء مع فارس لعلّنا نجد ضالتنا.
اقتربت منّي حورية، طلبت معرفة اسمي؟
قالت بأنّ ابنها سيحمل اسمي.
شعرت ببعض الحرج، دنوت إلى أذنها وأخبرتها بأنّ اسمي..
- كلّ هذا اسمك يا قبطان؟
نعم، الوداع يا أحبّتي.
ارتفعت الأشرعة وكانت الرياح في تلك اللحظة مواتية، وكان الله راضيًا عنّا في تلك اللحظة، وكانت الرحلة الأولى لرستم، وكان بكاء ووداع لم ينتهِ، وكان البحر الأزرق في انتظارنا، وكانت نورا تنتظرني في أحلامي.
آه يا نورا، كم يتوق القلب لرؤيتك!
كانت نورا في تلك اللحظة تراوح ما بين الموت والحياة.
-1-
- هذه معركتي ولن أشرك فيها أحدًا.
نظر إليّ رفاقي وأصدقائي، باتت وجوههم مألوفة، أسماء تتردّد على كلّ لسان.
ضحك الجنرال ساخرًا وقال:
- علينا أن نتجاوز قراصنة البحر أولا يا قبطان.
أمسكت المنظار وسلّطته نحو الأفق.
كان قاربهم سريعًا والأسلحة مشرعة تجاهنا.
صعد رستم إلى أعلى الساري ونظر إلى الأفق، ثمّ نزل بسرعة فائقة.
- هؤلاء الملاعين قتلوا أبنائي.
حان وقت الحساب وأنا لهم بالمرصاد.
كنت أدرك قوّة رستم التدميرية.
وأخذ الجنرال يعدّ العدّة.
مدافع صغيرة، أسلحة خفيفة وخناجر، وإرادة مجنونة للإنتصار.
وحيدٌ أنا في هذه الدوامة، أبحث عن روح ضاعت في زحمة الذكريات، كلّ نساء الدنيا نورا.
يفصلني عنك تفاصيل معركة ضارية، يفصلني عنك محيطٌ مليءٌ بالأسرار، كيف لي الوصول إلى روحك المعذّبة؟
كلّ يومٍ أعلن عليك حبّي وغرامي بلا نهاية، ما زال في الوقت بقيّة يا نورا.
شبق القتال لا يرتوي!
شبق القتال لا يرتوي!
قراصنة يبتغون ربحًا عاجلا.
وجّهوا مدافعهم نحو مركبي وأطلقوا قذيفتهم الأولى، فالثانية والثالثة.
اقتربوا، ظنّوا بأنّ المركب قد استسلم.
كان الجنرال قد رفع العلم الأبيض، وكان أن رموا الحبال نحونا، وكانت المفاجئة فاجعة الموت المحتّم.
انقضّ رستم والجنرال وبعض الرجال إلى قارب القراصنة.
كان رستم ينحر رقابهم بسرعة فائقة.
سال خيطٌ من الدمّ عبر قارب القراصنة
وأشبع الجنرال رغبته بالقتل والقتال.
أصيب طاقم القراصنة بالهلع، وسرعان ما أحضروا زعيمهم موثوق اليدين.
رموه أمامي.
ذليلا، عاريًا من كبريائه ونفاقه.
- أين شجاعتك، أين جبروت البحر المغدور في عينيك؟
- دعوني وحدي مع هذا الكريه.
نظر إليّ الجنرال ورستم، شاهدوا عزمًا لا يقبل النقاش في ناظريّ.
- تحدّث أيّها الهجين، أين تقطن سيّدة المحيطات؟
- هل جننت؟ لا أحد يسأل عنها، الجميع يبتعد عن طريقها.
إنّها متقلّبة الأهواء، عصبية، دموية.
الأفضل لك أن تقتلني قبل ذلك!
- سأفعل يا ابن العاهرة، تحدّث أين سيّدة المحيطات وإلا!
- حسنًا، حسنًا.
ليست بعيدة عنّا الآن، لقد هربتُ من شباكها قبل يومين.
عليك أن تتوجّه إلى اليمين نصف درجة، هل تسمح لي بمغادرة المركب قبل مواجهتها؟
أنا أخشاها وهي تعرف عنّي الكثير!
- لا تخشى ذلك، هذا أمرٌ يخصّني وحدي وإيّاها.
- أنت مجنون!
- لقد أصَبْت، والويل لك إن كنت تكذب.
-2-
كان القرصان صادقًا في حديثه، أخذ يرتجف خوفًا عندما اقتربنا من المكان المحدّد.
سمحت له أن يختبئ في باطن المركب، وطلبت حراسته طِوال الوقت.
آن الوقت يا أصدقائي.
أنا ذاهب لمواجهة عنّابة، إذا شعرتم بالخطر، انطلقوا. ابتعدوا عن المكان على عجل.
لدي مهمّة عليّ أداءها حتّى الثمالة، حتّى القطرة الأخيرة من كأس العلقم الذي كان في انتظاري.
- لا تقترب؟
قاربي الصغير يقترب من قلب العاصفة، كلماتها شجّعتني للاقتراب منها.
صرخت في وجهها:
- قادمٌ من طرف جُمانة، اقتليني إذا شئت، أو دعيني أواجه مصيري.
- لم يقترب أحدٌ قبلكَ الى هذا الحدّ، ماذا تريد؟
- أبحث عن إجابات.
- كلّنا يبحث عن إجابات!
منذ لحظة بعثِنا لهذه الدنيا!
ولادتنا مرهونة بأسئلة لا تنتهي.
- أبحث عن الروح سيّدتي،
أبحث عن الخلاص سيّدتي.
- لكنّ الروح هنا تصبح أسيرة السماء، لا خلاص للروح من قبضة القدر، كيف تجرؤ على السؤال يا كافر؟
هذا وحقّ السماء تجديف!
- أنا العاشق، لن أتراجع لحظة عن مطلبي.
اقتليني ربّما كان الموت دائي ودوائي!
- اقتربْ من عين العاصفة.
- لكنّ دوّامة عين العاصفة مخيفة!
- ألا تبحث عن خلاص الروح؟
- بلا، أبحث عن سبيل الروح سيّدتي!
- إذاً تقدّم إلى عين العاصفة، لا تخشى هذا المصير.
كان قاربي الصغير كالريشة في مهبّ الرياحٍ والتيارات المائية العاتية.
فقدت السيطرة على نفسي وحَواسي.
كنت على وشك الإغماء، ابتلعتني الأمواج وغبت في لجّة المياه الباطنيّة.
أخذت أغوص إلى الأعماق، وسرعان ما أحاط بي هدوء غامض ومُريب.
كنت أخشى الغرق وعدم القدرة على التنفّس.
كنت أخشى النسيان، صدري كنز يوشك على الهلاك.
حطّ بي الوهم في واحة تحت ثقل ملايين الأطنان من المياه المالحة.
وجدت نفسي في حديقة صغيرة ومن حولي أسماك لا تحصى!
بينها الصغير والكبير.
شاهدت وحش البحر يفتح فمه العملاق ويترك تيار الماء ينزلق إلى جوفه، حاملا قدرًا كبيرًا من السمك الصغير والكبير على حدّ سواء.
شاهدت زعانف ملوّنة جميلة، وكنت أشعربأمان فجأة سمعت صوت باخرة تطلق صفاراتها وزواميرها، كأنّ السماء انفتحت لتصبّ أبواق البعث في آذاننا.
كان رأس الباخرة قد عرق في باطن المياه الباردة،
ومن حولها زوارق مطّاطيّة تحمل الناجين في اللحظات الأخيرة.
كلّ هذا يحدث أمام عينيّ الآن، في أي زمن وقعت في هذه اللحظة؟
ظهور الباخرة ليس عابرًا.
حدّقت في الوجوه التي كانت بانتظار الموت.
كانت نورا هناك بين الجماهير المجتمعة عند سطح الباخرة.
نورا وقد أكل الزمن عليها وشرب .
ما الذي تفعليه هناك يا نورا؟
لماذا شِختِ بهذه السرعة؟
عندها تذكرت ما قالته لي نورا يومًا، جدّتها هربت برفقة حبيب القلب الذي حُرِمَت منه طِوال شبابها.
انقطعت أخبارها بعد بضعة أشهر فقط، وانقطعت أخبارها.
ها هي جدّتك يا نورا تغرق مع آلاف المسافرين على ظهر باخرة.
حدّقت في وجهها الشرقيّ الحزين،كان الشوق والألم يملأ صفحات وجهها.
كانت جدّتك قد استسلمت تمامًا للموت، كانت تحتضن في تلك اللحظة ذراع حبيبها.
شاءت الأقدار أن يغرقا معًا بعيدًا في أعماق المحيط.
للحظة، بانت لمسات من الفرح على تضاريس وجهها.
سرعان ما أخذت الباخرة بالغرق.
ومن بعيد، كان صوت المهندس يصرخ:
(حتى الخالق لا يقدر على إغراق هذه الباخرة
حتى الخالق لا يقدر على إغراق عملاق الحديد هذا!)
غرقت الباخرة مخلّفة من حولها دوّامة هائلة من المياه.
انتحرت الأحلام في تلك البقعة من المحيط،
وحلّ الصمت على عجل.
شعرت ببردٍ لا يُطاق،
- أين أنت يا عِنّابة؟ أين أنت يا سيّدة المحيط؟
وجاء صوتها عابثًا:
- لمَ العجلة يا قبطان؟
ثمّ جاء صوت القطّة سميّة تموء:
- ما الذي حدث للقاضي، كان مريضًا على ما يبدو.
اختلطت عليّ الأمور، لم أكن أعرف في أيّ زمن أتواجد!
مرّت غوّاصة تعبّ المياه بصمت، أطلقت طوربيداً شقّ المياه بسرعة فائقة، وانفجر في مكانٍ ما في البعيد.
كانوا يتحدّثوا اللغة الألمانية.
ثمّ صاح أحدهم "فضيلة السلطان أطال الله عمره"
شاهدت رجالا يلبسون عباءاتٍ ملوّنة ومزيّنة بخيوط من الذهب،
يركعون في حضرة السلطان.
وبعد ذلك بلحظات،شاهدته يركض ويكاد ينجو من قتلته.
كان ثوبه قد اتّسخ بأتربة الصحراء، وكان وجهه كالحًا وقد بدا عليه العطش.
صاح فيه الفارس متهكّمًا "أتهرب الآن يا جبان؟"
توقّف عن الركض وحدّق في وجوههم بتحدّ ماجن، وأضاف الفارس وقد سلّ سيفه:
- ألست القائل: الخيل والليل..
عندها صرخت بكلّ ما أوتيت بفوّة:
- أهرب يا متنبّي، لعلّك تكتب عن المجد الغابر!
لعلك تكتب أحجية النصر وأيقونة البقاء.
نظر إليّ المتنبّي وقال:
- وكيف أكون متنبّيًا إذا هربت يا قبطان؟
عاد المتنبّي أدراجه إلى دائرة الموت ليتلّقى تلك الطعنة القاتلة.
مضى المتنبّي وبقينا نلعق أثر كلماته التي تاهت عبر خريف الدهر العربي الماطر.