سرد الغربة والوعي بالاختلاف بين الذات والآخر
في قصة "بردى" لرشيد الميموني
يحاول القاص المغربي رشيد الميموني في قصته "بردى" أرشفة تجربة إنسانية ضمن الكتابة السردية، هذه التجربة وجدتها قد تفردت بموضوعة منعشة وحية؛ وهي تعرية غربة الذات في الجغرافيا، ثم والوعي بمآلات العلاقات بين الذات السورية والآخر المغربي المتمثل في شخصية المدرس، لذلك جاءت لتلبي رغبة يمكن أن نكشف عنها بالقول إنها قصة تطمح نحو احتضان الاختلاف، ذلك أن الذات الساردة في القصة وقعت في أزمة الحوار أدب التعامل مع من هو في مقام الضيف، وفي سياق القصة العام نجدها تعري عن الكيفية التي ينظر بها السوري للآخر المغربي؟ وكيف ساهم هذا المغربي في خلق تمثل خاطئ عنه دون أن يدرك؟
تحكي القصة عن مدرس مغربي يجلس منفردا في مقهى بمرتيل، وتجمعه الصدفة بأب سوري يدعى نور الدين وابنته بردى، يشاركانه المائدة بالمقهى بعد أن تعبا من صعود الجبل، بعدها حاور الأبُ المدرسَ وكشف عن أشياء تبدو خصوصية تتعلق به وبابنته بردى، الشيء الذي يجعل المدرس يتساءل، في نفسه، عن سبب البوح اللامنتظر، حتى أن ابنته كانت ممتعضة من ذلك. وبعد أن افترق معهما وجد المدرس رسالة من السوري يعبر له سعادته باللقاء وأشياء أخرى ستكشف القراءة عنها الآن.
ويمكن لقارئ هذه القصة أن يفعل ما أمكن من العلامات المشكلة للنص القصصي قصد الكشف عن المعاني الممكنة فيه. ففي بداية القصة نصادف العنوان: بردى، كلمة تأخذك للشام، نهر بردى، ثم ما يمكن للإنسان الشامي أن يستعير هذا الاسم ليخلعه على أشخاص أو أمكنة تضاهي نهر بردى جمالا وقيمة في نفسية المسمِّي. وتحضر مدينة مرتيل المغربية ضمن استهلال القصة، ليبدو الاختلاف منذ البداية مع اسمين مختلفين؛ 'بردى' و'مرتيل'، بردى نهر في الشام، ومرتيل مدينة مغربية، السارد يفتتح القصة بحدث جلوسه الانفرادي في المقهى طلبا للراحة.
كثيرة هي العبارات التي تنفتح على دلالات الشعور بالوحدة والفراغ والتيه، عبارات في بداية القصة وأخرى في منتصفها، فقد عبر المدرس قبل لقائه بالأب السوري وابنته عن اشتياقه لتلامذته الذين ألفهم: "لا أنكر في هذه اللحظة أتمنى لو كانوا معي رغم شغبهم البريء وحركاتهم الدائمة والمتعبة"، ويمكن أن نزكي دلالة الحالة التي هي عليها المدرس من وحدة واشتياق لأي شيء سيضفي الامتلاء على وقت المدرس بالعبارة التي قالها المدرس في نفسه: "هل آن أوان فراق هذين الشخصين وبكل بساطة أحس كأنهما ملآ علي الدنيا؟".
كثيرة هي الصور التي تنبعث من القصة، أهمها صور السوريين اللاجئين، كيف يمكن للمكان والغربة والتاريخ والحرب أن يغيروا للإنسان نظرته للحياة، والناس، والوجود...؟ كيف أنه ينتظر شفقة الناس على وضعه، وفي الآن نفسه يقتنع بأنه في غنى عن ذلك، ربما كل هذه الانتظارات سببها ضرورات الثقافة العربية، وربما الإنسانية، بمعنى ماذا يمكن أن يفعله الإنسان لأخيه الذي هو في وضعية صعبة كما يعرف الجميع، فأن تجد الآن سوريا وابنته يجوبان المغرب فستفهم أنهما في حاجة للعناية والاهتمام وكل ما تفرضه شمائل العروبة والإسلام والإنسانية.
نور الدين يقضي وقته في المغرب في لحظة لجوئه إلى المغرب، الذي يجده فضاء خارجيا بالنسبة إليه، ولو أنه يوجد فيه، الغربة تخيم عليه بسبب فقدانه للوطن. فالفضاء الداخلي هو سوريا، التي يحملها معه، ولو تغير المكان فلن يتغير الوطن، منذ استيقاظه صباحا يدرك نفسه سوريا وليس مغربيا، يبحث عن ذاته الضائعة والمتشظية، إنه يقول متخيلا: أنا هنا، أنا هناك، في انتظار العودة إلى الوطن. حتى وهو في غربته لا زالت عزة النفس بادية على الوجه وساكنة عروق الذات، يقول نور الدين في رسالته بعد كلمات الشكر: "قد تستغرب من شيء سيدي، وهو أنني أنحني لك إجلالا وإكبارا على عدم استضافتك لنا ولا عن تلميحك لرغبتك في بردى، رغم أن كل شيء كان يصيح بذلك في عينيك" بعد هذا الاستنكار من السوري تجاه المغربي يمكن القول إن المدرس المغربي بمقام المضيف، كما أنه قد أعرب في نفسه عن لهفته الشديدة لاستضافة الرجل وابنته، لولا شعورا ما جعله يعزف عن ذلك، ترى ما هو هذا الشعور؟ أما نور الدين السوري فهو بمقام الضيف يعبر عن استنكاره في رسالته للمدرس عن عدم استضافة هذا الأخير له، رغم أن الرغبة كانت بادية على في عينيه.
يشترك المدرس ونور الدين في رغبة وهي الاستضافة، الأول يمكن أن نبني الجواب عن السبب في عدم التعبير عن رغبته في استضافتهما بسؤال ممكن؛ هل الخوف من الغرباء هو السبب؟ ترى هل دعوة السوري للمغربي لمائدة أكل جاءت صدفة أم أنه فعل ذلك ليذكره بدرس حول خلق الكرم؟ فالمدرس قد أبان عن شعوره المليء بالدهشة والخجل. يقول:"وهو يدعوني لتناول الشوارما عند أحد مواطنيه"، فكيف يعقل أن يُكرِم من هو بمقام الضيف (نور الدين) الذي هو بمقام المضيف (المدرس)؟
حينما أعرب عن اسم ابنته بقوله بردى، قال له المدرس المغربي: "اسم جميل يحمل من سميه الكثير من البهاء" ثم رد عليه نور الدين بجملة واحدة: "رحمة الله على ذلك البهاء". هذه العبارة الأخيرة تلخص كل دلالات الفقد والضياع، لم يعد لكل شيء معنى، إلا معنى الغياب، إنها عبارة تعكس رغبتي الحنين والنسيان. ثم يرد نور الدين بسؤال "شو بتشتغل حضرتك" كان يريد أن يقطع خيط بوح سيفتح ذكريات جرح لم يبرأ بعد. بعدها أجاب المدرس بقوله: "مدرس". أردف عليه نور الدين بالحديث عن أشياء مختلفة رغبة في تقويض شعوره بالفرق بينه وبين المغربي، إذ فتح ذاكرته المخبأ فيها بعض أحلامه وأحلام زوجته والمسار الدراسي المتميز لبردى. فأن يرى نور الدين دلالات الحضور والامتلاء في غربته، فإنه مجبور على أن يتذكر ما يعلق به من غياب وفراغ قاتم كان قد بدأ ويستمر معه. ويمكن لكل قارئ لهذه القصة أن يتساءل منذ متى لم يتحدث هذا السوري مع شخص ما؟ حتى قدر له أن يلتقي بالمدرس ليفرغ ما في جعبته من خبر عنه وعن ابنته. فالمدرس شعر بثقة زائدة عند نور الدين، فكيف لهذا الأخير أن يحدث الغرباء عن نفسه؟
فعل القراءة لهذه القصة يثير سؤالا آخر يتعلق بالكيفية التي ترجم بها محتوى الرسالة من الورقة إلى القصة؟ هل بالفعل كتبت كما استقبلت أم تم تضمينها بالشكل المرغوب من الكاتب؟ ثم إن قصة بردى لا تبين عن تفاصيلها الخفية إلا بعد الحدث الأخير من القصة وهو استقبال الرسالة التي تركها نور الدين للمعلم. رسالة مليئة بالتناقضات، حيث يفتتح بالشكر ومن ثم الاستنكار بطريقة تشبه الطبخ على النار الباردة؟ زد على ذلك بعد أن ينتهي القارئ من هذه القصة ترى هل تساءل عن التاريخ الذي يحدد وقوع الأحداث ويعطيه بعدا مرجعيا؟ فهل يعني وجود أب وابنته بالمغرب أنهما لاجئان، أم أنه على القارئ أن يربط السابق باللاحق، والظاهر بالمضمر من القصة.