6-
قراءة في قصة" عصافير الوطن الصغير"
تعد القصة القصيرة من بين الأجناس الأدبية الحديثة الظهور، من حيث شكلها كفنّ أدبي له قوامه و خصوصياته المميزة له عن غيره من الأجناس الأخرى. لكن خضوره، كنشاط لغوي، له امتداده عبر التاريخ البشري القديم.
عصافير الوطن الصغير. قصة قصيرة لصاحبها طلعت سقيرق. هو شاعر فلسطيني ولد في لبنان في 18 من آذار عام 1953، ونشأ في دمشق حيث تلقى بها تعليمه الجامعي.
تستهل القصة التي بين أيدينا حديثها بتصوير حالة الحكي أو السرد في الثقافة العربية القديمة، القائمة أولا على السرد الليلي كألف ليلة وليلة، أو كما يسميها كيليطو بكتاب الليالي، إلى جانب هذا اقتصار فعل السرد على الكبار دون الصغار وعلى الأنثى دون الذكر، نموذج شهرزاد في كتاب الليالي، ونموذج الجدة في الثقافة الشعبية العربية القديمة والحديثة. لأجل ذلك، اقتصر فعل الحكي على شخصية الجدة، لم الجدة بالذات؟ يحضر هذا النوع من الشخصيات داخل الكتابة السردية وفي طياته جملة من الدلالات التي تشكل زاوية نظر للقارئ، لعل من بين ما تتركه شخصية الجدة، من دلالات مكن الإشارة إلى الذاكرة الشفهية، أي ذلك الرصيد الحكائي والنفس القصصي اللذان يحضران بالأساس في شخصية الجدة والمستمر أيضا تقول القصة قيد التحليل:" عودتنا الجدة قبل أن ننام على سرد واحدة من حكاياتها الجميلة والآسرة".. يمكن أن نتساءل هنا عن علاقة النوم بالسرد؟ ببساطة نحن نتحدث عن الحاجة إلى السرد. فالثقافة العربية عرفت ذلك التحول من الهيمنة الشعرية إلى السيطرة السردية، التي تدخل القارئ وسط عوالم ممكنة بلغة إيكو.
إن الحكي لا يتم من فراغ، كما أن تلقي الحكي لا يتم من فراغ، جاء على لسان الجدة باعتبارها باثة للخطاب، والموجَه إلى متلقي (الأطفال الصغار): "اسمعوا يا أولادي وانتبهوا فهذه القصة تحمل الكثير.. لا تنظروا إلى ظاهرها فقط، بل فكروا بما تحمل".
يقتضي هذا الملفوظ السردي مجموعة من القراءات، من بينها أن القصص الماضية لم تكن تحمل الكثير، وأن هذا الأخير يقتضي السماع المرفق بالانتباه، إضافة إلى أن الجدة لم تكن تدعوهم إلى التفكير في ما وراء السطور، الأمر الذي يبيّن ضرورة التحول في طريقة التعامل ما يحكى. هذا ما سنحاول القيام به مع ما تبقى.
لم تعد الشخصيات السردية، سواء في مجال الرواية أو القصة، تقتصر على أداء الأحداث فقط، وإنما أصبحت تسخر وفي عمقها دلالات ورموز تفتح القارئ على أكثر من قراءة.
تبدأ شخصية الجدة حكايتها بالبسملة والصلاة على النبي. إنه استهلال سردي ذو طابع ديني، لتدخل الجدة عوالم السرد، وتدخل معها الأطفال الصغار بل ونحن القراء أيضا: " كان يا ما كان في مدينتنا حيفا شجرة قريبة من البيت" ، تكتسي الجملة الأولى من كل نص سردي أهمية بالغة، بحيث إنها تعتبر موجها أساسيا في فعل القراءة، مفهوم الشجرة في هذا البيت باعتباره قوى فاعلة داخل القصة يحضر كرمز للوطن أو الأرض، هذا الثابت في المكان والمتغير عبر الزمن.
تدافع القصة عن فكرة أساسية مفادها أنه لا ينبغي أن نستغني عن أشيائنا التي صارت ضعيفة، وألا نفقد الأمل في نمائها من جديد، فالوطن كالشجرة الكبيرة التي يبدو لنا أنها لم تعد صالحة، ويمكننا الاستغناء عنها، لكن الأمر غير كذلك: الأوطان لا تتقدم إلا بأهلها وتموت عندما نفكر في البديل.