قراءة سيميائية لقصيدة: النهر بريء كمشاعرنا
للشاعر محمد حمدي غانم
يسألني صديقي عن كيفية تحليل قصيدة شعرية. أجد نفسي في حرج شديد إزاء هذا السؤال. أعرف أن مقصده يتمحور حول خلطة سحرية تمكنه من الولوج إلى عالم النص. أراوغه، علّي أنجو من المأزق الذي وضعني فيه. لكنني، في الأخير، أصارحه: لا توجد وصفة سحرية جاهزة لتحليل النصوص، كل ما يوجد محاولات لإزالة الصدى والغبش عن وجه القصيدة. قلت عن "وجه القصيدة"، ربما سقطت هذه الكلمة مني سهوا، لكن ماذا لو اعتبرناها جسدا، هل سيكون مجازنا في محله؟ ربما لن نجانب الصواب إذا ما نظرنا إليها هاته النظرة، إذ إن كل قصيدة لها رأس وبطن وأرجل. لكن ماذا عن الأيدي وباقي الأعضاء الأخرى؟ لن نعدمها إذا بحثنا عنها، وربما سنحصل على أشياء لم تكن لتخطر لنا ببال. ولنفترض أن النص الذي نحن بصدده، الآن، جسد، فمن أين سنبدأ التحليل؟ سيقول قائل: لنبدأ من البطن. تروقني الفكرة، وأذهب معه في مسعاه. لكن، ماذا يقتضي البطن؟ للوهلة الأولى يمكن أن نقول: إنه يقتضي الأمعاء. فهل الأمعاء جديرة بالتحليل؟ لست متأكدا بأنها لا تصلح لذلك، غير أن هناك ما هو أهم وأكثر بناء للمعنى. ترى ما هو ؟ سيأتي شخص آخر ويقول: إنها الأرجل، هي التي تحمل القصيدة، وبها تتوجه إلى أي مكان شاءت، بها تعرض نفسها أمام العالمين، وتخترق الحدود. سأجيبه: الأرجل هنا كناية عن آخر القصيدة، كناية عن الشظايا المتطايرة من جسد النص، تلك التي استقرت هناك في الطرف القصي من هذا الكيان، فهل بإمكانها أن تنتج معنى كالذي نرومه؟ بعد هذين القولين سيأتي دوري، باعتباري قارئا فعليا، وأقول: سأبدأ من الرأس، به تستوطن كل الأشياء التي تمكننا من التعرف على الشخص، به الوجه الذي هو أهم عضو ظاهر في الجسد. إذن، فهو المدخل الأساس للولوج إلى عالم النص. ترى أين يتموقع رأس القصيدة؟ إنه في العنوان.
يقال إن أول ما نواجه في النص هو تلك العتبة المتعلقة بالعناوين، وهذا صحيح. ففي قصيدة محمد حمدي غانم" النهر بريء كمشاعرنا" نكون إزاء مركب اسمي فيه المبتدأ والخبر وحرف التشبيه والاسم المجرور. وهذا يعني أن العنوان جملة تامة الدلالة، وهو ما يوحي بأن ما سيأتي بعدها لن يكون سوى تتمة لهذا الاكتمال. هذا من الناحية التركيبية، فماذا عن دلالته؟ تطالعنا المعاجم بمعنى كلمة "نهر"، فتقول: إنها تعني الماء إذا جرى في الأرض وجعل لنفسه مجرى. أما كلمة بريء فتلتصق عادة بالإنسان. ولهذا، نقول: شخص بريء أي خال مما اتهم به، غير مذنب. أما المشاعر فهي العواطف والإحساسات. وعلى هذا الأساس، فإن المعنى المعجمي يصب في مجرى أن النهر بريء مما اتهم به، كبراءة مشاعر من يتحدث الشاعر باسمهم.
يسلمنا المعنى المعجمي إلى متاهة من الفرضيات التي نظن أنها مدار (طوبيك) للقصيدة:
1- القصيدة تتحدث عن حلول كارثة بقوم ما، هذه الكارثة أرجعت إلى النهر.
2- النهر في القصيدة تعبير عن الصفاء الذي تعيشه المشاعر رغم ما يشوبها من شوائب ليست من صميمها.
3- القصيدة حديث عن مشاعر الشاعر تجاه محبوبته وما رافق هذه المشاعر من حب وألم واتهام...
كل هذه الفرضيات القرائية وغيرها يمكن أن تتحملها القصيدة، غير أن ما يؤكد مركزية واحدة على حساب أخرى هو تلك المؤشرات النصية. ولهذا، فإن القراءة المتأنية للنص ترجح كفة الفرضية الثالثة وذلك انطلاقا من الأشطر التالية:
_قلبي قيثارة ولهان لم يبدأ عزفه.
_إني طفل يبحث عن أحد يمسك كفه.
_هل تدرين معاناة الشاعر حين يلملم من أزهارك حرفه؟
وهكذا، فالقصيدة في مجملها، تسير وفق ما رسم في الفرضية الأولى. لكننا في هذه الفرضيات القرائية اقتصرنا على ما
جاد به علينا المعجم، فماذا ستهبنا الموسوعة؟ لنأخذ كلمة "النهر " التي سبق وأن عرفناها معجميا، ولننظر أول ما تطالعنا به مكتبة المكتبات، بتعبير أمبيرتو إيكو. يقال إن هناك نهرين مؤمنان ونهرين كافران، فالمؤمنان النيل والفرات، والكافران دجلة ونهر البلخ. وعلى هذا الأساس، فإن هناك من الأنهار المؤمن، وهناك أيضا الكافر، فهل يا ترى نهر القصيدة مؤمن أم كافر؟
يقتضي الكفر البطش والطغيان، فالنهر الكافر هو ذاك الذي يأكل الأخضر واليابس، يشرد الأسر، ويحمل من كل ألوان الشر طرفا. فهل هذه الصفات متوفرة في هذا النهر؟ بما أن أهل الدار هم الأدرى بما فيها، فإننا سنحتكم إلى الشاعر، إذ يقول:
"ما النهر سيفصل عصفورين
النهر بريء كمشاعرنا
لم يعزل كلا في ضفة"
تنبني هذه الأشطر على مجموعة من القيم الإيجابية من قبيل: عدم فصل الآخر عن الآخر، البراءة، وهناك أيضا نفي العزل والتهميش... كل هذه القيم تتضافر لترسم صورة عن نهر القصيدة، إنه نهر إيجابي. فبما أنه لم يفصل، ولم يعزل، ولم يشرد، فإنه لا يأتي إلا بالخير . وهنا، نجد أن مثل هذه الأنهار قامت حولها العديد من الحضارات، كالحضارة الفرعونية والحضارة الصينية القديمة، وهذا ما يعطي نظرة عن مكانة الأنهار في تاريخ الحضارات.
لعل "نهر" القصيدة من الأنهار المباركة، تلك التي لا تحجب النعيم عن الآخرين، بل تجلبه لهم، حاملة إليهم كل البشارات، ولذلك فهو بريء. حين يجعل الشاعر النهر بريئا كمشاعره هو ومحبوبته، فإنه قد جعله بمثابة إنسان، إذ إن النهر يمر من ثلاث مراحل هي مرحلة الشباب ومرحلة النضج ومرحلة الشيخوخة، وهذا هو حال الإنسان، مع اختلاف طفيف بينهما. إن جعل النهر بريئا كالمشاعر، يرسم في ذهنية القارئ شيئا من التأنسن بالنسبة للنهر، وشيئا من النهرية بالنسبة للمشاعر. وهنا، نجد أن السمات الممغنطة في النهر هي: زائد ماء، زائد منساب، زائد خرير بسيط، زائد خير، زائد متعة... أما السمات الممغنطة في المشاعر فهي: زائد إحساس، زائد رقيقة، زائد بريئة، زائد إنسانية... وعلى هذا الأساس، فإن ما يشتركان فيه هو الخير والبراءة، إضافة إلى سمات تستشف من القصيدة، من قبيل: الحياة والإنسيابية والتجدد الدائم...
إن قصيدة "النهر بريء كمشاعرنا" تعبير صادق عن قيم الحب والجمال داخل الذات الإنسانية. هذا الحب لا يخلو من عراقيل وعوائق، وهي عوائق لا يمكن النظر إليها في صورتها السلبية، إذ هي ما يؤجج لهيب الشوق ويزيد الحب اتقادا. إن هذا الحب قادر على تخطي كل ما يواجهه، فهو حب كل ما يقال عنه إنه يزيد بتزايد البعد والفراق..
***
رابط القصيدة:
http://www.nooreladab.com/vb/showthread.php?t=31990&highlight=%C7%E1%E4%E5%D1+% C8%D1%ED%C1+%DF%E3%D4%C7%DA%D1%E4%C7