الطريق إلى غازي عنتاب
[align=justify]الطريق إلى غازي عنتاب
نشرة الأخبار . يبدو المذيع في أبهى أناقته وهو يسرد الأحداث وعلى شفتيه ارتسمت ابتسامة خفيفة . تأملته قليلا ثم امتدت يدي لا إراديا نحو أداة التحكم وغيرت القناة . كنت أعلم مسبقا محتوى النشرة . فقد سبقها شريط الأحداث في أسفل الشاشة ، وكأنه يحكم الحصار لتتخيل العين ، إن لم تر ، مشاهد الدماء وأشلاء القتلى وحرائق هنا وهناك . ثم تلك الابتسامة البلهاء على شفاه المتحكمين في الأمور وهم يعقدون الصفقات ويغيرون من تحالفاتهم حسب ما تمليه عليهم المصالح .
بدت نجاة الصغيرة أنيقة وصوتها يصدح مترنما " وأن من أشعل النيران يطفيها" . ابتسمت متمتما :"هل يعقل أن مجرما سيفكر في إطفاء النيران بعد إشعالها ؟" .. بيد أن لهفتي كانت كبيرة في تتبع أخبار الشام . شيء ما يشدني إلى هناك . إلى حلب وحمص ودمشق . إلى اللاذقية وأنطاكية . بل يتعداها خيالي إلى لواء الأسكندرون . شغفي بالتاريخ والجغرافيا يجعلني دائم التجول عبر خريطة كوكل المتحركة لأجد نفسي أحلق هناك على البقعة الممتدة من النقب جنوبا إلى الأناضول شمالا ، فترجع بي ذاكرة التاريخ إلى فترة الحكم العثماني وزوال الخلافة .. عبد الحميد الثاني .. جمعية الاتحاد والترقي .. مصطفى كمال .. الحرب العالمية الأولى ..
يخفق قلبي كلما اتجهت إلى شمال الشام متخطيا الحدود لأتوقف في غازي عنتاب حيث يحدثني إحساس خفي بنزوح بردى من الشام واستقرارها هناك بعد انقطاع أخبارها عني منذ توصلي برسالتها الأخيرة .
أقرب المكان حتى تبدو لي الدور واضحة ، بل والسيارات أيضا وهي متوقفة على قارعة الطرقات أو منطلقة كما أتخيلها . تشملني رعشة ويغمر نفسي انتشاء وكأني وقعت على صيد ثمين كنت أبحث عنه ، أو كأن طريدة وقعت في شباكي بعد طول مطاردة وحصار .
حط خيالي هناك ، ووجدت نفسي أذرع الطرقات متسائلا في همس :"أين تكون ؟ّ" ، ثم ما لبث الحنين أن دفعني إلى أن أسأل أحد المارة "عفوا .. هل تعرف أين تسكن بردى ؟" .. نظر إلي الرجل متوجسا رغم ما أبداه من اهتمام بسؤالي وهو يفتل طرف شاربه العريض . كان الرجل تركيا ويبدو عليه جهله بالعربية ، لكن اسم بردى أثار استغرابه . ربما حسبني أسأل عن النهر .
أتأمل شوارع غازي عنتاب فيخيل إلي أني أسمع همسا هو أشبه ما يكون بالأنين . ألا زالت بردى تشعر بالألم . ألم تنته أوجاعها ؟ أيكون ذلك نابعا مما يحصل في بلدها ؟ أم هي غربتها رغم القرب من الحدود ؟ أم هما معا ؟ .. كم كنت أود لو تعلم بردى بمشاطرتي آلامها وآمالها الدفينة في أن ترى السلم والأمن يعمان ربوع الشام وتعود إلى بلدتها لتعانق أشياءها التي غادرتها مرغمة والحزن يمزق قلبها . صرت أحس وكأنني جزء من هذا الشام الفسيح رغم ما تفصلني عنه من مسافات . لكن يكفيني هذا المتوسط الأزرق الناصع صلة وصل بيني وبين بردى .
أحيانا أشعر بلهيب الحرائق يطوقني .. الرقة والموصل .. ومن بعيد تتأجج صنعاء وعدن كما سيرت ومصراته ، ناهيك عن حصار غزة الأزلي ، وما يطبخ في أرض الحرمين . هل سيلتهم اللهيب كل شيء فيذر الأرض قاعا صفصفا . أم هو فقط مقدمة للانفجار الكبير؟ وبردى ؟ ..هل تحس بما أحس به الآن ؟ ..علي أن أجدها قبل الانفجار وأحملها بعيدا . لكن إلى أين ؟.. حتما إلى أقصى غرب المتوسط . ربما لن تشعر بالغربة وهي معي .
ينصب اهتمامي من جديد على درعا وحلب والغوطة وحماة ، وأشعر باندفاعي مع النازحين إلى الشمال لأتخطى الحدود وأتوجه لا إراديا إلى غازي عنتاب .. وسرعان ما ينتفي عني الشعور بالغربة والخوف المرتسم على وجوه من حولي ، فقط لأني أحس بقربي الافتراضي من بردى .. كنت أوغل في الطرقات والشوارع المقفرة تارة والمزدحمة تارة أخرى . وأتفحص الوجوه فتكاد تبدو لي كل الإناث بردى . وأتأمل إحداهن فيخفق قلبي بعنف وأكاد أشهق ذهولا . هي بعينها . نفس العينين ونفس النظرة التأملية التي تلازمهما . لم تتغير . هي بردى التي جالستني في بوعنان على مشارف تطوان يوما ما رفقة والدها .. هي بردى التي تختزل العروبة في أبهى تجلياتها وهي التي أحببتها من أول نظرة وعزفت عن الاهتمام بأية أنثى من أجلها .. هي الحلبية التي جعلتني أنصهر في عروبتها وأتفيأ ظلالها .. هل أتبعها ؟.. ثم ماذا بعد ؟.. أليس في هذا مخاطرة ؟ .. ماذا لو تكون برفقة أحد أقاربها فأصير ضحية الدفاع عن الشرف ؟
تلتفت الفتاة نحوي ثم تعرج على زقاق ضيق . وقبل أن تغيب فيه تعاود الالتفات .. هل هي نظرة استنكار أم دعوة للالتحاق بها ؟ . تميد الأرض بي لكني أتمالك نفسي خشية السقوط . ثم تلفني ظلمة حالكة قبل أن أغيب عن الوعي .
حين أستيقظ من غيبوبتي ، أجد نفسي جالسا على حافة سريري واضعا حاسوبي على فخذي ويدي ممسكة بالفارة . وعلى الشاشة بدت غازي عنتاب زاهية تعج بالحركة والنشاط .
ابتسمت متنهدا قبل أن أستلقي مسترخيا وأنا أتمتم :
"ما أعذبك يا بردى .. حتى في الحلم ."[/align]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|