اللقاء الأخير
اللقاء الأخير..
قصة قصيرة.....
[align=justify]استيقظتْ قبيل الفجر، كعادتها كلّ يوم... لكنها اليوم، ومنذ أن استيقظتْ، أحسَّتْ حزناً مَلَأَ قلبَها الهرم، حاولت التخفيف من إحساسها به قليلاً عن طريق الصلاة..، فَصَلَّت تهجُّداً ما شاء الله لها من ركعات، ثم صلَّت الفجر، فأحست بتبددِ بعض حزنها المفاجئ، لكن مرارَته ظلت مترسبةً في سويداء قلبها، مبقيةً إياها جالسة على سجادة صلاتها، تدعو الله أن يرفع البلاء عنها وعن أولادها الذين أشفقت من احتمال أن يكون قد أصاب أحدهم مكروه..
إنها لم ترَ ليلةَ البارحة في منامها ما يُزعجُ، كما اعتادت أن يحدث لها في ليال كثيرة خلَت، مذ غدت تعيش وحيدةً، بعد وفاة زوجها وسفر أبنائها الثلاثة، خارج البلد.. بل لم تسمع، منذ فترة طويلة، أيَّ خبر سيء عن أيٍّ منهم، فمن أين يتدفَّقُ كلُّ هذا الحزن الذي يغمر قلبها اليوم، منذ أن استيقظت؟
بالتأكيد ليس الحنينُ إلى الأولاد سببَ هذا الحزن الذي يجتاحك يا حورية..، فأنتِ لم تَكُفِّي يوماً ولا حتى لحظة، عن تذكرهم والحنين إليهم؛ ومع ذلك، لم تشعري مرةً بمثل هذا الكمِّ من الحزن الذي يملأُ قلبكِ الآن.. صحيحٌ أنكِ تبكين كلما مرَّ طيفُ أحدهم ببالِك، أو كلما استبدَّت بكِ ذكرياتُ الأيام التي كانوا فيها وأباهم معك، يؤنسونك بقربهم، ولكن لم تشعري بمثل هذا الكم من الحزن أبداً، حتى وأنتِ في ذروة حنينك إليهم ولأيام ماضيك السعيد بصحبتهم، فما الأمر؟
رسمت خطواتُها المتعثرة، داخلَ البيت، بالغَ حيرتها التي حاولت التخلص منها بالانهماك في أعمال البيت المعتادة.. ولما لم تفلح، بدأت تستعيذ بالله من خواطر السوء التي راحت تراودها، مُحدِّثةً نفسها:
بالتأكيد لن يكسر الله قلبك مرتين، يا حورية.. مرة بفراقهم المر وغيابهم الطويل عن عينيك، ومرة بمكروه قد يتعرض له أحدهم، لا سمح الله.. لا.. بالتأكيد لا.. فالله كريم ولطيف، وأنتِ قد غدوتِ مجرد عجوز حزينة وحيدة ومكسورة الخاطر...
وحيدة؟ وبدأت صور الماضي الجميل الحبيب تتحرك حيةً أمام ناظريها.. تلاشى الزمان والمكان، وهي تُجرجر خطواتها البطيئة مُتجهةً إلى المطبخ.. فعمَّا قريب سيستيقظون.. أبو محمود سيكون مستعجلاً كعادته، سيصلي الفجر بسرعة، ثم يلبس على عجل، قبل أن يُكمل فنجان قهوته، خشية أن يفوته اللحاق بباص المعمل فيتأخرَ عن عمله، ويتعرض للعقوبة بخصم أجرة يوم أو يومين.. إذاً، لتضع ركوة القهوة على النار، قبل كلِّ شيء، ثم لتبدأ بتحضير فطور الأولاد الذين سيصحون بعد قليل، ويملؤون البيت بصياحهم ولغطهم، خصوصاً بعد أن يتأكدوا من خروج أبيهم إلى عمله..
سيكون محمود أولهم ارتداءً لملابسه، لكيلا يتأخر عن العمل الذي استلمه، قبل أيام، كمدرس.. يجب أن يكون في الصف قبل تلاميذه، كي يُثبتَ جدارته بعمله من اليوم الأول.. ولذلك، لن يغفر لأمه إذا انتهى من ارتداء ملابسه ولم يجد سفرة الفطور جاهزة، لأنه سيغادر، في هذه الحال، دون فطور، وسيظل على لحم بطنه حتى العصر.. وإذن، يجب أن تُسرعَ بتجهيز الفطور له..
وحنان....؟ آه من هذه البنت الكسولة التي لا تعرف أن تقلي بيضتين حتى الآن.. ستقوم من سريرها متكاسلة، ولن تنتهي من ارتداء ملابسها إلا وجرس المدرسة يرن.. وكعادتها، لن تجلس إلى مائدة الفطور، بل ستلفُّ لها سندويشة تلتهمها على الطريق القريب بين البيت والمدرسة... كيف ستصير هذه الفتاة ستَّ بيت ذات يوم؟
أما مازن الحبيب... ياه.. وحده مَن سينهض قبل الجميع الآن، ليقف إلى جانبها يساعدها في إعداد الفطور.. وهو كلما قام بعمل معها، يقترب منها ويسرق قبلة من رأسها أو خدها أو كتفها، حسبما يتيسر له، وهي في كل قبلة تتلقاها منه تتفتح أمام عينيها مساحات لا حدود لها من الورود والرياحين، من الأنس والمحبة، فتدعو الله له من قلبها، ثم تتدارك فتدعو لأخيه وأخته حالما تتذكرهما، خشية أن يُحاسبها الله على تفضيلها ولداً عن ولد..
وأخيراً، ها قد ذهبوا جميعاً، وخلا البيت منهم.. وها هي الشمس بدأت بالارتفاع، ومع ارتفاعها بدأت رحلة تعبها اليومية المعتادة التي تقوم بها دون تذمُّر، بل بكل حبٍّ وتفان.. فبعد أن تُنهي لَمَّ السُّفرة، وتجلي الصحون، ترتدي ملاءتها اللف، وتذهب إلى سوق الخضار القريب من البيت لتشتري ما ستطبخه لهم..
أحياناً، وخصوصاً عندما تكون متعبة أو مشغولة، كانت تستقرب وتشتري ما تحتاجه من خضار وفواكه من دكان (أبو عبدو) السمان.. صحيح أنه (غَلْوَجِي) لا يخاف الله ولا التموين، أسعاره نار وما في بقلبه رحمة، يقصّ رقبة زبائنه كما يريد، لكنه يفشُّ القلب.. فما من حاجة تخطر على البال إلا ويوجَد في دكانه منها..
وظلت سادرة في خيالاتها وذكرياتها فوق سجادة الصلاة حتى نبهها الخدر والتنميل الشديدين في ساقيها إلى أنها جلست أكثر مما ينبغي.. فنهضت بصعوبة.. طوت سجادة الصلاة بتثاقل ووضعتها جانباً، ثم جرجرت خطواتها نحو المطبخ بتثاقل أيضاً، فقد كان الحزن الذي استبد بها مازال يعتصر قلبها بقسوة ويُثقل كاهلها..
وفي المطبخ الذي غدا شبه مهجور، منذ أن غادرها أحبابها، قبل خمس سنوات، جلست على كرسي قديم اعتادت الجلوس عليه قبالة زوجها قبل وفاته.. وكم كانت دهشتها كبيرة حين رفعت رأسها وشاهدته أمامها بشعره الغزير وشاربه الكبير وجسمه العملاق.. وبدلاً من أن ينتابها الخوف من رؤيته أمامها، استبد بها غضب مفاجئ، فراحت تعاتبه بصوت عالٍ:
لماذا تركتني هكذا وحيدة؟ أيها القاسي القلب.. ألا ترى كم صرت متعبة؟ والله ما عاد بي قوة.. العمر له حقه يا أبا محمود..
ثم عاد صوتها ولانَ قليلا، وهي تستمر في معاتبته مازجةً عتابها بكثير من الحسرة:
أنت ما أحسست بهذا الاحساس، لأنك انخطفت شاباً يا كبدي.. إيه.. الله يرحم ترابك يا حبيبي.. كنتَ أحنّ علي من أمي وأبي.. كنت دائماً تقعد على هذا الكرسي نفسه، وتحلم أمامي بالمستقبل الحلو.. مستقبلنا معاً ومستقبل الأولاد..
وفجأة انهمرت دموعها بغزارة، وخالط نبرة صوتها الكثير من الرجاء والانكسار والعتب:
إيه يا أبو محمود.. يا حسرة على ما صارت إليه حالي بعدك وبعد الأولاد.. ارفع رأسك دقيقة يا حبيبي وتطلَّع بحورية.. حورية التي كانت أحلى صبية بالحارة.. انظر كيف صارت.. تضرب هذه الدنيا كم هي غدارة.. حورية صارت وحيدة يا أبو محمود.. وحيدة ومسكينة وحالتها تُبكي الحجر..
وبكت في تلك الأثناء.. انفجرت دموعها بغزارة لم تعرف لها مثيلاً من قبل.. بكت كما لم تبكِ أبداً في حياتها.. كأن كل حزن العالم، مذ خلقه الله، قد تجمع في قلبها المكسور وتحوَّل إلى نهر من الدموع راح يتدفق غزيراً من عينيها..
ومع أن الدموع أشعرتها ببعض الراحة، إلا أن الحزن ظل يغمر قلبها.. صلت على النبي في سرها مراراً، وهي تفكر باحثة عن وسيلة تُخرجها من سطوة هذا الحزن على قلبها.. وفجأةً..
لماذا لا أخرج إلى السوق؟ سأتسلى على الطريق، وقد أنسى همي قليلاً حين أرى الناس.. ثم أنا بحاجة فعلاً لشراء بعض الحاجيات للبيت.. لا.. لا.. لن أشتريها من دكان (أبو عبدو)..، بل لن أقف على دكانه، بعد ما نشَّف وجهه بي أول أمس.. اللعين.. ما له صاحب، ولا يرعى خاطر جار أو قريب.. كل همه جمع المصاري.. ما كان يشبع.. العمى..
ارتدت ملاءتها اللفّ التي رفضت استبدالها بالحجاب الشرعي، على الرغم من إلحاح الأهل والجيران.. فهي لا تعرف كيف يمكن أن تخرج إلى الطريق بدونها.. إنها تشعر إذا ما خرجت بدونها أنها بدون ملابس، يا لطيف..! وبعد أن صارت جاهزة لمغادرة البيت، حملت السك القديم الذي اشتراه أبو محمود منذ أكثر من عشرين سنة، وغادرت البيت، وقد خامرها إحساس غامض بأنها قد لا تراه ثانية.. لذلك، وبخشوع المُودِّع وحزنه، راحت تملأ عينيها من أغراض البيت وأثاثه.. من أرضه وسقفه وجدرانه التي عاشت بينها أكثر من ثلاثين عاماً.. ثم بسملت وحوقلت، كعادتها قبل المغادرة.. ثم قررت أن تسخر من خواطرها السوداء التي لزمتها اليوم منذ الفجر، فراحت تُحاكي نفسها:
اطمئني يا حورية.. ستعودين إلى بيتك هذا..، فهو لن يهرب ولن يتحرك من مكانه.. ستظلين فيه حتى تموتي.. فلا تخافي ولا تودعيه..
وأغلقت الباب خلفها بلطف، لكن الحزن والقلق أَبَيَا إلا ملازمة خطواتها، ثم راحَا يعصفان بكل كيانها.. ثمة حبٌّ جارف يجتاح كلَّ ذرة فيها لكل ذرة في هذا البيت، ولذلك راحت تتلفت نحوه كلما مشت بضع خطوات مبتعدة عنه.. وبحالة هي أقرب إلى الاحساس بالاختناق، هتفت في سرها:
آه.. يا إلهي.. ما الذي يجري لي اليوم؟ لماذا كل شيء يبدو لي غريباً وحزيناً ومنطفئاً؟
أخرجت الهواء من فمها بزفرة طويلة حارَّة، ثم مدَّت يدها إلى جيبها لتتأكد من وجود النقود فيها، قبل الوصول إلى موقف الباص الذي سيُقلُّها إلى السوق، وجلست على مقعد الموقف تنتظره.. ولم يطُلِ انتظارها، فقد جاء وأوصلها إلى السوق سريعاً..
جالت في السوق قليلاً كعادتها، قبل أن تشتري ما تحتاجه، حسبما يسمح به دخلها القليل.. فهي منذ سنوات تعيش على المبلغ الضئيل الذي تأخذه كأجرة شهرية للدكان التي ورثتها من زوجها بعد وفاته، والقليل الذي يرسله لها أولادها الثلاثة، بين الحين والآخر.. صحيح أنهم سافروا ليعملوا في الخارج، وصحيح أنهم عملوا ولكن لم يغتنوا كما كانوا يتخيلون قبل السفر، ولذلك لم يستطيعوا أن يرسلوا لها سوى مبالغ زهيدة جداً، لا تُسمن ولا تُغني من جوع، على قول المثل..
فمحمود ابنها البكر مصروفه كبير المسكين، ليس بسبب أسرته الكبيرة بعد أن تزوج وصار أباً لأربعة أولاد صغار، كلما كبروا كبر مصروفهم معهم، ولكن بسبب جنونه في الدخول بمشاريع فاشلة يخسر فيها كل ما يجمعه بين الخسارة والخسارة.. وكذلك بسبب زوجته التي لا تعرف كيف توفر من مال زوجها للأيام السود..
أما حنان الطيبة والرقيقة والكريمة، فزوجها ليس بخيلاً فقط، بل طماع أيضاً يستولي على معظم راتبها فور عودتها به إلى البيت، ولا يعطيها منه إلا من الجمل أذنه.. ومن القليل الذي تستطيع أن تأخذه من راتبها تُرسل لها مبالغ صغيرة كل عدة أشهر، ودون علم زوجها..
وأما مازن الحنون الطيب، فحظه عاثر مثل أمه، ولذلك لم يُرسل لها، بعد سنة من سفره، سوى مبلغ صغير وفَّره من أجره كبحار على باخرة أجنبية، واعداً إياها بمثله كل شهر، لكنه بعد مرور سنة على إرساله ذلك المبلغ، كتب إليها رسالة يعتذر فيها عن تقصيره، ويذكر لها أنه تعرَّض لسرقة المبلغ الذي ادخره لنفسه ولها.. وبعد سنة أخرى، وصلتها رسالة ثانية منه يخبرها فيها أنه تزوج من زميلة له أجنبية تعمل معه على نفس الباخرة، وأن زواجه منها امتص كل مدخراته، واضطره إلى الاستدانة أيضاً ليتمم تكاليف الزواج، لكنه وعدها في ختام رسالته هذه بأن يرسل لها مبلغاً محترماً في القريب العاجل..
وفعلاً، برَّ بوعده هذه المرة، وأرسل لها مبلغاً كبيراً نصحها الجيران والأهل بأن تضعه في البنك لتصرف منه على نفسها بالتقسيط كي لا تبذره بسرعة وتعود خالية اليدين من المال، فأخذت بنصيحتهم، وبذلك طال عمُر ذلك المبلغ سنة كاملة، عادت بعد نفاده صفر اليدين إلا من أجرة الدكان التي ورثتها عن زوجها.. فمازن لم يرسل لها بعده أي نقود، ولا حتى رسالة اعتذار كعادته.. لكنها بدلاً من أن تغضب لانقطاع رسائله عنها ومعونته، قلقت عليه، وراحت تلتمس له الأعذار مؤكدة لنفسها وللأهل والجيران الذين كانوا يسألونها عن أخباره بأنه لو كان قادراً لما بخل عليها أبداً، فهو الحنون الطيب.. وتزيد:
المسكين.. لاشك أنه تعرض للسرقة مرة جديدة، فأولاد الحرام كثيرون، كما أن زوجته الأجنبية أكيد تمتص كل نقوده، فهي كافرة ولا تخاف الله.. الله يصلحه ويسامحه لماذا تزوج أجنبية وبنات بلده موجودات وكل واحدة أحلى من الثانية؟ لو طلب مني أن أزوجه لكنت زوجته أحلى بنت بالحارة فهو شاب مثل القمر وقوي يكسب الكثير.. لكن لا بأس، هكذا هي الدنيا، والزواج قسمة ونصيب، وما أحد يأخذ نصيب أحد..
حين صحت من خيالاتها وأفكارها، وجدت نفسها عند موقف الباص، وكأن قدميها قد حَفِظَتا الطريق فسارتا عليه دون وعي من السوق إلى الموقف، الأمر الذي جعلها تسأل نفسها متعجبة:
يا إلهي كيف وصلت إلى هنا؟!
ولم تُتعب نفسها كثيراً بالبحث عن إجابة، بل سارعت تجلس على الكرسي الخشبي الموجود في موقف الباص، وقد داهمها تعب شديد.. جلست تنتظر الباص الذي ستستقله عائدة به إلى بيتها، آملة ألا يطول انتظارها لقدومه..
وفي غضون انتظارها، وبفعل الملل ونفاد الصبر، أخرجت أجرة الباص من محفظتها الصغيرة التي تُخبئها في جيب معطفها العتيق البالي، وحضرتها في يدها اليمنى كي تدفعها للسائق فور صعودها إلى الباص.. ومرت الدقائق تلو الدقائق، وأصابع يمناها قابضة على تلك النقود القليلة، بينما أصابع يسراها قابضة على يد السك المملوء بالقليل من الأغراض التي اشترتها من السوق.. وظلت كذلك جالسة تُكابد الإحساس بالملل والضيق حتى لاحَ لها فجأة، أنها ترى ما لم يكن بحسبانها أبداً.. ولكن، أيُعقلُ هذا؟! أيمكن أن تكون قد حدثت المفاجأة التي طالما انتظرتها منذ سفر أولادها الثلاثة؟!..
يا إلهي.. هل أنا في حلم أم في علم؟
وفركت عينيها بظاهر كفها اليمنى التي مازالت تقبض أصابعها على أجرة الباص، تريد أن تتأكد أن ما تراه حقيقة وليس حلماً..
نعم.. نعم.. إنه هو .. هو والله.. إنه مازن.. حبيبي الصغير الطيب.. لقد عاد.. وها هو يقترب مني.. لقد رآني.. لا شك أنه رآني..
وراحت تراقبه وهو يقترب منها، بينما راح قلبها يرقص فرحاً، وهي ترى على شفتيه ابتسامته العريضة الحنون ذاتها..
يا إلهي.. أي يوم رائع هذا! أي نعمة عظيمة أرسلتَها لي يا رب!
وبسرعة البرق، أحست أن كل تعبها الذي أجبرها على الجلوس فوق كرسي الموقف قد زال، وأن الحزن الثقيل الذي داهمها منذ أن استيقظت في الفجر قد تبخر، بل لم يعد له أثرٌ في قلبها.. وأن سعادة غامرة لم تذق مثلها من قبل قد حلت محله.. سعادة رسمت على شفتيها ابتسامة أعادتها إلى صباها في العشرين.. سعادة أنهضتها من مقعدها على ذلك المقعد البائس، وأعانتها على فتح ذراعيها تريد أن تعانقه بهما عناقاً يخبره بكل شوقها إليه طيلة السنوات الخمس الماضية، وبكل ما فعله انتظارها المر له، وهي تعيش وحدها بعيدة عنه وعن أخيه وأخته في بيتهم القديم المتداعي..
ولكن، لا.. إن ساقَيها تأبيان أن تحملاها لتقفَ وتُعانقه..
رباه!
وسألت نفسها: أيكون ارتخاء ساقيها بسبب شدة الفرح المفاجئ الذي اثاره ظهور حبيبها مازن فجأة؟..
ممكن.. يقولون إن الفرح المفاجئ يشلُّ الساقين كالحزن المفاجئ.. لكن، لا.. لابد من أن أنهض وأعانقه.. مهما كان السبب، لابد أن أعانقه.. فأنا مشتاقة إليه كثيراً يا رب... مشتاقة يا إلهي..
واستجمعت كل ما أبقته لها شيخوختها من قوة، ووقفت.. لكن وقوفها لم يدم سوى ثوانٍ، إذ شعرت بنفسها وكأنها تهوي فجأة في وادٍ لا قعر له، أو كأن قوة جبارة خسفت الأرض تحت قدميها فجأة.. فقد داهمها دوار لم تعرف له مثيلاً من قبل.. دوار راح يلف رأسها بسرعة رهيبة، ومع دورانه برأسها راحت ترى كل ما حولها يدور بسرعة خاطفة أيضاً، وأنها على وشك أن تهوي ساقطةً على الأرض..
لكن.. لا بأس.. لا بأس.. إنها لم تسقط.. فقد أدركها الحبيب مازن قبل سقوطها.. أسرع إليها وقد رآها تتمايل وتدور على نفسها، وأمسك بها قبل أن تقع، فاحتضنها محاولاً إنهاضها وهو يقول لها بلهفة:
ما بك يا أمي؟.. خير إن شاء الله.. خير.. لا تخافي أنا أُمسك بك.. لا تخافي....
وعلى الرغم من شدة دوارها، شعرت، ولأول مرة منذ خمس سنوات، بمتعة لا مثيل لها.. إنها متعة ملامسة كفيه لجسدها المتداعي.. إنه يحتضنها تماماً كما حلمت بذلك مئات المرات.. يحتضنها ويضمها إلى صدره بحنان ورفق ومحبة.. وفيما كانت تستشعر دفء صدره العريض الذي أراحت رأسها عليه، استغربت أنه لم يُقبلها حتى الآن، وهو الذي كان لا يترك فرصة لتقبيلها إلا واغتنمها، تارة من كتفيها وتارة من رأسها، أو يُقبل كفيها وأحياناً كان يُغافلها ويُقبل قدميها اللتين كانت تسحبهما بسرعة وهي تشعر بالخجل ممزوجاً بحنان ومحبة لا حدود لهما..
لكن لا.. نعم.. لا يمكنه أن يقبلني أمام الناس.. إنه ابني وأنا أعرفه.. إنه خجول، وعيب أن يقبلني أمام كل هؤلاء الناس.. ماذا سيقولون عنه؟ إنهم لا يعرفون أنني أمه وأنه ابني.. وهذا يعني أنهم سيسيئون فهمه.. إن مازن عاقل جداً.. إنه أكثر وعياً مني أنا التي أعمتني عاطفتي، بينما هو ظل عقله صاحياً.. سيقبلني كثيراً وأُقبله حين نصير في البيت.. أما الآن، فلا بأس بمعانقتي فقط.. يا إلهي ما أحلاه من إحساس هذا الذي أشعر به وأنا بين ذراعيه.. رباه، ماذا عليّ لو متُّ الآن؟ نعم.. اتسعي أيتها الابتسامة.. اتسع أيها القلب العجوز لكل هذا الفرح المفاجئ.. اتسع ولا تقل إنه لم يعد فيك مكان للفرح وأن الحزن قد ملأ كل جوانبك.. فلا مكان اليوم للحزن أبداً... أبداً.. اليوم يوم فرح فقط.. فافرح أيها القلب... افرح، فها هو محمود يعود أيضاً ومعه أولاده.. يا الله ما أحلاهم... إنهم يتحلقون حولي بلهفة يريدون أن يتعرفوا علي.. أن يتعرفوا على جدتهم التي يرونها لأول مرة في حياتهم، فقد ولدوا في الغربة.. اللعنة على الغربة التي حرمتني من أولادي وأحفادي.. آه.. ما هذا؟ أرجوك يا ربي ارفق بي ولا تقتلني فرحاً.. أحقاً ما أرى؟ أهذه حنان هي القادمة من هناك تبكي؟ ولماذا تبكي؟ إنها تركض نحوي وتأخذني من بين ذراعي حبيبي مازن وتعانقني.. لماذا يا حنان؟ كنت مسرورة بين ذراعيه يا ابنتي؟ لكن معك حق، أنت ابنتي أيضاً كما أنه ابني.. لا فرق بينكما وبين محمود أيضاً.. وحده محمود لم يعانقني إلى الآن.. إنه مشغول بأولاده يخشى أن يغافله أحدهم ويجري إلى الشارع فيحصل له مكروه لا سمح الله.. معه حق.. سأعانقه وأقبله هو الآخر حين نصل إلى البيت.. صحيح.. لماذا لا نذهب إلى البيت بسرعة؟ ولماذا كل هؤلاء الناس تجمعوا حولنا؟ من هم هؤلاء؟ لماذا ينظرون إلينا هكذا وكأننا أعجوبة من أعاجيب الدهر؟ ما العجيب في أولاد اجتمعوا بأمهم بعد غياب خمس سنوات، وكلهم ينادونها (أمي.. أمي..)؟! آه ما أحلى هذا النداء.. وما أعظم فرحتي بعودتكم يا أولاد.. الحمد لله أنني ذهبت اليوم إلى السوق واشتريت هذه الأغراض.. صحيح أنها لن تكفي لعمل غداء محترم تشبعون به جميعاً، ولكن لا بأس.. سيذهب محمود ومازن ويشتريان المزيد.. لا.. ليذهب واحد فقط، لا أطيق ابتعادكما معاً مرة ثانية.. بل لن أترك أي واحد منكما يذهب للسوق، اشتروا ما ينقصنا من عند أبو عبدو الغلوجي هذه المرة وأمرنا لله، فأنا أريدكم بقربي جميعاً، ولن أدعكم تبتعدون عني مرة أخرى.. والأكل ليس مهماً..
وفي غمرة سعادتها، أحست بحنان تبتعد عنها وكأنها تُفسح المجال لأخيها محمود كي يعانقها بدوره.. من حقه أن يعانق أمه هو أيضاً.. وشعرت بنفس القدر الهائل من السعادة وهي تشعر برأسها يرتاح هذه المرة على ساعد محمود الذي انحنى فوقها يساعدها على الجلوس فوق المقعد الموجود في موقف الباص..
لطالما أرحتَ رأسكَ على ساعدي ونمتَ وأنت صغير، هل تذكر يا ولد؟ ولكن لماذا هذه الدموع في عينيك وعيون أخوتك يا ابني؟ قاتلَ الله الدموع يا أولادي، اللهم إلا إذا كانت دموع فرح.. نعم.. لقد جمع الله شملنا أخيراً، وعلى غير ميعاد.. فاشكروه وافرحوا.. نعم الآن عرفت إنها دموع الفرح.. ما أرحمك يا ربي.. لا بأس يا أولاد.. لا تبكوا.. لا أريد أن أرى الدموع في عيونكم حتى لو كانت دموع فرح.. آه.. لكن ما هذا؟ لماذا بدأت عيناي تغيمان هكذا؟ هل سأبكي أنا فرحاً مثلكم؟ لا.. ليس هذا إحساس الرغبة بالبكاء.. أنا أشعر بنعاس.. قاتلَ الله النعاس.. هل سأنام في الطريق؟ لا.. لماذا لا نذهب معاً إلى البيت؟ فأنا صاحية منذ منتصف الليل أدعو الله.. ربما لهذا نعست الآن.. لكن لا.. لن أحرجكم بالنوم في الطريق.. سأقف.. يجب أن أقف، وأن نذهب معاً إلى بيتنا.. لقد تركت كل شيء فيه على حاله أثناء غيابكم لتعودوا وتجدوه كما تركتموه.. لنعيش كما كنا ولو لأيام فقط.. فهيا ساعدني يا محمود على النهوض الله يرضى عليك.. وأنت يا مازن.. هيا يا أمي، خذ بيدي وساعد محمود لنمشي.. حنان أوقفي تاكسياً ليأخذنا إلى البيت.. اللعنة على الباص الذي لم يأتِ إلى الآن.. لا.. لا.. يا محمود.. لا يا ابني يا مازن، عيب أن تحتضناني هكذا أمام الناس.. ولكن لا بأس، معذوران.. إنه الشوق لأمكم الحبيبة.. عانقاني ولا تخجلا من أحد.. وأنتِ أيضا يا حنان.. ما فيها خجل، أمّ تعانق أولادها ويعانقونها بعد غيبة خمس سنوات.. هيا..
ثم...
تناهى إلى سمع المحتشدين حولها صوت صفير سيارة الاسعاف، بعدما اتصل أحدهم بمشفى قريب مستنجداً:
امرأة كبيرة بالسن فقدت وعيها عند موقف الباص، ولم تعد تتحرك..
وقفت السيارة البيضاء، ونزل منها شاب نحيل بثياب بيضاء أنيقة ونظارة مذهبة على عينيه وسماعة طبية تتدلى من رقبته.. أبعد الناس عن المرأة المسجاة على مقعد موقف الباص.. فكَّ الملاءة اللف من طرف الرقبة، مُلقياً الدبوس الذي كان يُثبتها على الأرض، ثم أدخل يده بالسماعة إلى جهة القلب، ثم أخرج يده والسماعة معاً، وفتح عيني المرأة، ثم جس نبضها عند الساعد.. ثم نهض وهو يقول:
لا حول ولا قوة إلا بالله.. الختيارة الله يرحمها..
بكى بعض الواقفين ممن شهدوا احتضارها، وقرأ آخرون الفاتحة على روحها، فيما تقدم شاب آخر يجر نقالة على أربع عجلات، وقال للطبيب:
ساعدني دكتور لأضعها على النقالة..
وكم كانت دهشة الطبيب والممرض حين تقدم منها الشابان اللذان احتضناها وهي في حالة الاحتضار، وحملاها معاً وهما يبكيان.. وحين سألهما الطبيب إن كانا يعرفانها، أجاباه أن لا، ولكن أخبراه بما كانت تحدثهما به وهي تحتضر ظانةً أنهما ولداها الغائبَين..
دقائق قليلة، وارتفع صفير سيارة الاسعاف ثانية وقد صارت أم محمود بداخلها ملقاة على ظهرها، وابتسامة الفرح العريضة ما تزال متلألئة على شفتيها اللتين ابيضتا قليلاً بعد مفارقتها الروح.. لقد التقت بكل أولادها الغائبين قبل أن يُغمض الموتُ عينيها..
ومع تلاشي صوت سيارة الاسعاف تدريجياً، بدأ المتجمهرون الذين شهدوا وفاة أم محمود يتفرقون ببطء، وقد أثقل الحزن خطوات بعضهم وأحنى رؤوس آخرين لبرهة عادت بعدها رؤوسهم إلى الارتفاع وعيونهم تبحث عن صوت بكاء عال سرعان ما اكتشفوا أن مصدره تلك المرأة التي ظنتها المتوفاةُ ابنتَها حنان، بعدما صدمَها مرأى السك القديم المملوء بالأغراض التي اشترتها أم محمود، وهو مُلقى على الأرض وبجانبه القطعة النقدية الصغيرة التي كانت تمسكها بيمناها لتدفع أجرة الباص الذي لم يأتِ...[/align]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|