رد: دموع نكبة جدتي تحرق خدي ( رواية أدباء نور الأدب في ذكرى النكبة)
ولأن دموع الجدة هي أغلى من كنوز الدنيا، نشارك العزاء في يوم النكبة.. وتستمر الحكاية..
ـ تبدأ مساءاتها بعد مغيب الشمس بدقائق معدودات، بطقوس إعداد الشاي لجانب نافذتها المعتقة بروائح الياسمين، على أصوات الدوري وصدح البلابل كانت تبدأ حكاياتها عن حيفا وأسوار عكا جدتي كانت ذاكرة فلسطين. .
ـ كما كل مساءٍ، كنت أنتظر الإنضمام لمجلسها الدافئ، وموقدها الذي ينتظر أناملها الغضة لتشعله وتتحفنا بنكهات الشاي لتبدأ بتقليب الذاكرة في صفحات فلسطين، لكنها تأخرت طرق قلبي خوفاً، توجهت إلى غرفتها كانت ترقد في سريرها، ذابلة المُحيا، وإلى جانبها بضع صورٍ تحكي عن صباها في فلسطين ذلك الوطن الذي عرفتني عليه من خلال الصور، وتلك الذاكرة التي خضبتني إيماناً بعشق هذا الوطن..
ـ قبلت يدها الدافئة لتسقط من عيني دمعةً بحجم ذاك الحنين المشتعل لهباً بين ضلوعي، جدتي غابةً من أشواقٍ ملتهبة، وحقول ذكريات استوطنت روابي فلسطين! كانت تهطل علنيا بكلماتها كل مساءٍ عن الخليل والقدس وبيت لحم.
عن بيارةٍ، ذات أصيل اخترق أساها سهامٍ حارقة، ألهبت السماء ونجومها، وغيرت معالم الكون، لتلفح بريحها وديان الضفة وسهول بيسان، وتغتال ابتسامات الاطفال بين أروقة يافا! خلف برتقالها وليمونها، وتحت قمر ينتحب طالباً الصفح لسيدة المعابد وآلهة المدائن.
ـ لم ادر كيف تسللت البرودة إلى يد جدتي التي بدأت تتسلل البرودة بين أناملها على غفلةٍ من دمعي، وكيف بدأت ستائر غرفتها بالإنسدال رويداً رويداً فوق نوافذ ياسمينها الذي بدأ يفتقد حكاياتها على مر الأيام!
ـ بدأت الاجيال التي تربت على عريشات حكايات جدتي بالتوافد إلى ساحة الدار، لوداع جثمانها الذي افتقد فلسطين عقود وعقود وبدأت أطواق الياسمين بالهطول فوق نعشها الذي حملته أيدي أحفادها بالارتفاع شيئاً فشيئاً، كانت الحياة برفقة جدتي مواسم حكايات فلسطينية، كبرنا معها، وكبرت بنا..
ـ مرت الأيام وتلتها السنوات، وحلم جدتي بالطيران إلى أرض كنعان يتجدد على الدوام، يكبر بين ضلوعي، يمتد لميلاد طفلي يتشبث بذاكرة الأجيال، يستوطن نبض الضفة والقطاع، يقبع في حناجر مآذنها، وأجراس كنائسها!
ـ مرت الأيام وتلتها السنوات، وحكايات جدتي تنسل مع جذور السنديان لتشارك عريشات الياسمين جدران ساحة دارها.يفوح شذاها في الأروقة العتيقة، يسافر في المدى، يشارك الأجيال حلم الطيران إلى هناك، إلى حلم الطفولة إلى أرض كنعان.
|