رواية رجل من الماضي على حلقات
الحلقة الاولى من رواية رجل من الماضي
رجل من الماضي
حدثتْ هذه الروايةُ في عددٍ من مدنِ ولايةِ نيوجيرسي الأمريكيةِ وخاصَّةً في مقاطعةِ هدسون من الولايةِ.
قد تكونُ هذه الروايةُ غريبةً وغير مسبوقةٍ عربياً، المدن والأماكنُ موجودةٌ وحقيقيةٌ تمامًا، الأحداثُ والأسماءُ والعاداتُ والتقاليدُ أمريكيةٌ.
الروايةُ خياليَّةٌ جُملةً وتفصيلاً، ويمكن أنْ تندرجَ تحت الخيالِ العلمي؛ فهي اجتماعية بوليسية ورومانسية أيضًا.
لمحة
كان يرتعد خائفا كعصفور بين يدي هرة جائعة، عندما ألقي القبض عليه في حديقة صغيرة وسط المدينة، كان يعتقد أن ثمة أشراراً احتلوا قريته الصغيرة التي تركها قبل شهور، عندما ذهب في رحلة طويلة للعمل مع المزارع ذي الحصان الأسود برفقة تسعة عشر رجلا من أصدقائه ثم اختفى بصورة غريبة وعندما عاد إليها وحيداً لم يجد أثراً لقريته لم يجد أحداً من أصدقائه ولم يجد أحدا من أفراد عائلته.
وجد مدينة كبيرة خيالية تجوبها السيارات وفي أجوائها تحوم الطائرات، في حين اختفت الخيول والعربات التي كانت الوسيلة الوحيدة للتنقل.
ما اسمك؟ سأله المحقق.
جو مارتن ويلسون
عمرُك؟ -سأله المحقق-.
لم يُجب الرجلُ، وبقيَ صامتًا.
ألم تسمعْ السؤالَ؟ كم عمرُك؟
نظر الرجل للمحقق نظرةً عدائيَّةً مشوبةً بالخوف والحذر.--
خمسةٌ وأربعون عاماً.
لا يبدو عليك ذلك، لماذا تكذب؟
إنها الحقيقةُ يا سيدي، وُلِدْتُ عام 1815.
-نظر الرجل إلى التقويمِ الذي أمامه على المكتبِ وعندما قرأه 15/6/1985م انتابه شعورٌ بالدهشةِ المشوبةِ بالضيقِ، واعتقد أنَّ الرجل الذي أمامه مجنونٌ، أو ربَّما يكون صيداً ثميناً.
من أين أنتَ؟ أين مكانُ إقامتك الحالي؟
احتار الرجلُ لا يعرفُ بماذا يجيب؛ فقريتُه التي غادرها قبل شهورٍ قليلةٍ - كما يعتقدُ- لم يعدْ لها وجودٌ......
مدينة جيرسي 1985
كان السيد روبرت، كعادته كلَّ صباحٍ وفي تمام الساعة السابعةِ يفتح أبواب مقهاه الذي يُشرِفُ على الشارع الرئيسي -شارع فرانكلين- في وسط المدينة، كان المقهى في الدور الأرضي من بنايةٍ مؤلَّفةٍ من خمسةَ عشرَ طابقًا، والمقهى يرتفعُ عن الشارع ما يقاربُ المتر أو يزيد قليلاً، أمامه صالةٌ مكشوفةٌ، فيها أربعُ طاولاتٍ، يحيطُ بكلِّ طاولةٍ أربعةُ كراسٍ من المعدن مُنجَّدةٍ بالقماش المخملي أرجواني اللون، وتتزين الطاولاتُ بقماشٍ أبيض، يُطوِّقُ الصالة الأماميةَ قضبانٌ من الحديد الأسود المُزركش برسوماتٍ جميلةٍ تُوحي بالأبَّهةِ والرقي، والصالةُ تتصلُ بالشارعِ بستِّ درجاتٍ من الرخامِ الإيطالي الأسود (البازلت) فيما يغلق الصالة بابٌ من الحديدِ ذاته.
أمَّا المقهى من الداخل فهو عبارةٌ عن صالةٍ واسعةٍ، تناثرَ فيها عددٌ كبيرٌ من الطاولات بنظامٍ يُوحي بالخصوصيةِ العائلية، والصالةُ الداخليةُ مُكيَّفةٌ بنظامٍ حديثٍ يعمل تلقائياً بحيث يُشعرُك بجوٍّ من الرطوبةِ المحببةِ صيفاً والدفءِ المشوبِ برائحةِ المشروباتِ والدخانِ المنبعث من سجائر الروَّاد وأنفاسهم، إضافةً إلى الصخب الذي يتردَّدُ دائماً فيخفت تارةً ويتصاعدُ أخرى.
كان يؤمُّ الصالةَ الداخليَّةَ ما هبَّ ودبَّ من الرجال والنساءِ، الهاربين من المشاكلِ الزوجيَّةِ وضنك العمل، فيما يؤمُّ الصالةَ الخارجيَّةَ الشبابُ.
بعدما أوقفَ مستر روبرت سيارتَهُ -من نوع (فورد) موديل 80 - السوداء في مكانِها المعتاد بناصيةِ الشارع ألقى نظرةً خاطفةً نحو مدخل المقهى، أحسَّ بقشعريرةٍ تسري في جسده؛ شاهد كيساً أسود كبيراً مُمَدَّداً أمام المقهى.
تَسَمَّرَ السيد روبرت مكانه كأنَّه صنمٌ، ولم يأتِ بأيِّ حركةٍ لبعض الوقت، تذكَّرَ أنَّه شاهد ما يُشبه ذلك الكيس في الأخبار كثيراً- إنَّه كيسُ حفظ الجُثَثِ والأموات بلا شك- تمتمَ روبرت، واعتقدَ أنَّ أحدهم قتل شخصاً ما، ووضعه في كيس، وألقاهُ أمام المقهى ليُوقع بهِ، لكنْ ليس لي أعداءٌ إطلاقًا- قال روبرت، لا بُدَّ من الاتصالِ بالشرطة.-
السيد روبرت رجلٌ ذو قامةٍ قصيرةٍ بعض الشيء مكتنزُ الجسمِ، حليقُ الذقن والشارب، طويلُ السالفين، أصلعُ الرأس، وجهُه مستديرٌ ناعم يُشبه وجهَ امرأةٍ، ذو أنفٍ أفطسَ دقيقٍ، بعينين صغيرتين خائفتين.
بدا عليه الرعبُ، ولم يتمالكْ نفسَه ليخرجَ من السيارةِ؛ ليُلقي نظرةً على ذلك الكيس، على الفور أخرجَ هاتفه النقَّالَ واتَّصلَ بالشرطة.
خمسُ دقائقَ مرَّتْ ثقيلةً وطويلةً ومستر روبرت يحبسُ نفسَه بالسيارةِ، وهو يراقب ذلك الكيس ريثما حضرتْ الشرطةُ، خرج من السيارةِ ووقف بجانبها واجماً، لم يتقدَّمْ قيدَ أُنملةٍ للحظاتٍ، وأصبحتْ باحةُ الشارع أمام المقهى تعجُّ بالشرطةِ والأطبَّاءِ الشرعيين وخبراء رفع البصماتِ والتقاط الدلائل والمصورين، وتمَّ إغلاقُ الشارع، طلبتْ الشرطةُ من السيد روبرت فتحَ باب المقهى، تقدَّمَ النقيبُ جاك وانهالَ عليه بالأسئلةِ.
المحقق: متى أغلقتَ المقهى ليلةَ أمس؟
روبرت: حوالي الواحدة بعد مُنتصفِ الليل.
المحقق: هل رأيتَ شيئاً مشبوهاً أو غير طبيعيٍّ في المقهى أو خارجه كشجار بين الزبائن مثلاً أو غيرَ ذلك؟
روبرت: لا سيدي، كلُّ شيءٍ كان طبيعيًّا.
المحقق: متى وصلتَ صباحاً إلى هنا؟
روبرت: السابعة تماماً كالعادة.
المحقق: ماذا شاهدتَ عندما وصلتَ إلى هنا؟
هل كان هناك أشخاصٌ أو سياراتٌ تقفُ بالشارع؟
روبرت: كلا يا سيدي، عندما أوقفتُ السيارة التفتْتُ إلى باب المقهى؛ فشاهدت كيساً أسودَ مُمدّداً أمام المقهى، اتَّصلتُ بكم على الفور؛ لأنَّه وقع الرعبُ في قلبي وتصلَّبتْ قدماي، ولم أستطعْ الخروجَ من السيارةِ.
المحقق: حسناً، سيتمُّ إغلاقُ المقهى لبعضِ الوقتِ.
روبرت: كم من الوقت سيُغلقُ يا سيدي؟ إنَّه مصدرُ رزقي الوحيدُ.
المحقق: لا تخفْ، لن يطولَ الأمرُ.
روبرت: أتودُّ تناوُلَ كأسٍ من الويسكي؟
المحقق: لا، شكراً لك، أنا لا أشربُها.
روبرت: على حسابي يا سيدي.
المحقق: لا أشربُها البتَّةَ.
روبرت: إنَّها لذيذةٌ ومنعشةٌ في الصباح سيدي.
المحقق: إنَّها تجعلُ منك حيواناً.
روبرت: عفواً سيدي!
المحقق: الفرقُ بين الإنسان والحيوانِ هو العقلُ، وإذا شربتُ الخمرةَ فإنَّها تُذهبُ عقلي وأصبحُ كالحيوان تماماً بلا عقلٍ؛ لذا أنا لا أشربُها أبداً؛ لقد شاهدتُ زملائي عندما يثملون في حالةٍ مزريةٍ جدّاً.
روبرت: كما تُريدُ يا سيدي.
المحقق: عليك المغادرةَ، سنُخلي سبيلَك بضمانِ عنوانك، أين تسكُنُ سيد روبرت؟
روبرت: تفضَّلْ سيدي، هذه كلُّ المعلوماتِ عني. -وأعطاه بطاقة تعريفٍ خاصَّةً به.-
كانتْ الشرطةُ تقومُ بعملها؛ إذ يقوم شرطيٌّ بفحص الكيس بجهازٍ أشبه بمصباح يدويٍّ كبيرٍ، فيما كانتْ الكلاب البوليسيَّةُ تشمُّ هنا وهناك حول مكان الكيس الأسود، فتح الشرطيُّ الكيسَ بحذرٍ شديدٍ، تفاجأتْ الشرطة عندما شاهدتْ الجثَّةَ، كان رجلا متوسط العمر كأنَّهُ نائمٌ بجسده العاري تماماً بلونٍ شاحبٍ، وفي بطنِه جرحٌ تماثلَ للشفاء، لا توجدُ آثارٌ للدماء أو الجروحِ أو القتلِ أو حتَّى رائحةُ الموتِ، كانتْ تنبعثُ من الجثةِ رائحةُ الزعفران أو ما شابهَ ذلك.
تمَّ التقاطُ الصورِ وجمعُ الدلائلِ، ونُقلتْ الجثةُ للتشريح.
لم يتعرَّفْ أحدٌ إلى الجثة، ولم يسألْ عنها أحدٌ أيضاً، وتبيَّنَ بالتشريح أن الجثةَ محنطةٌ بحنوطٍ غريبٍ لا يُوجدُ مثلُه في البلاد، احتفظَ الحنوط بالجثةِ سليمةً؛ ما جعل الجثَّةَ تبدو كأنَّها لرجلٍ نائمٍ وبشرتُهُ طريٌّة، وملمسُها ناعمٌ، رائحتُها غير نتنةٍ أشبه ما تكون برائحةِ الزعفران، أكَّدَ الطبيبُ الشرعيُّ بأنَّ صاحبَها أُجريتْ له عِدَّةُ عملياتٍ جراحيةٍ في القلبِ والعيون، وأنَّ ثَمَّةَ شكًّا كبيرًا في تاريخ الوفاة، لكنْ من المؤكَّدِ أنَّ الرجلَ ماتَ منذُ مُدَّةٍ طويلةٍ.
طلب النقيبُ جاك من المشفى الاحتفاظ بالجثةِ حتى انتهاء التحقيق ومعرفةِ صاحبها أو أقاربِه.
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|