رد: عن قصيدة أماه للشاعر غالب أحمد الغول
القصيدة: أماه
أماه إنك عزتي ووقاري
بل أنت روحي حيث كان مساري
وكساك ربي الطهر منقوشا على
كفيك رسم القدس والأسوار
وتركت قريتنا بدمعة صابر
لا لن تكون الأرض للكفار
ولقد خسرنا من تراثك زينا
فيض الثياب وباهر الزنار
أماه هاتي ما لديك من الرضا
ليضيء ليلي مثل ضوء نهاري
هل كان غيرك بلسما لمصائبي
أم كان غيرك من يشد إزاري
من كان يحمي غض جسمي من لظى
حر النهار وقرة الإعصار
مدي يديك لكي أقبل عطرها
من عسجد الكفين كان فخاري
ما كنت يا أماه إلا نغمة
تشدو إلي بأحسن الأشعار
أين الطريق لنبع عطفك قد سجا
لأكون عندك أول الأطيار
هل أنت في سفر يطول إلى المدى
ام أنت بين الرمس والأزهار
يا رب إن ترني بشاشة وجهها
أرجو بفضلك أن تكون جواري
أنا بضعة منها وإن حنانها
يلج الفؤاد برقة الأنوار
يارب أكرم دارها ومقرها
واجعل ثراها طاهر الأسرار
يا بسمة في القلب يا أمل اللقا
في الخلد أنت بجنة الأبرار
________________________
المقاربة التحليلية للقصيدة:
الأم؛كلمةفيها من الرقة ما فيها، فهي تهز أوتار القلب بسماعها وتطرب الروح بنطقها، فكيف بترديدها؟!
يتغنى الشعراء بالأم ويكتب الأدباء عنها؛ فتدمع العين حبا بذكرها؛ فإن تم العزم على تلحين قصيدةعن الأم فإن كل الألحان تتناسق وتتناسب مع الكلمات فيطرب القلب لسماعها؛ وتنتشي الروح والنفس،وتشدو كل أعضاءالجسد؛ بل حتى الموسيقى تلين لقصيدة الأم، فكيف إذا كانت كلمات القصيدة لشاعر مائز ينظم عقد ألفاظه باختيار أنيق كشاعرنا " غالب أحمد الغول" الشاعر الفلسطيني الذي تعلق ببلاده الأم فشد الوصل بحبل متين؛ يجعل كل كلامه " فلسطين"، "حيفا"، "القدس"؛ مما يجرنا إلى التفكير في أن أمه قد تكون هي فلسطين أو هي حيفا ...
ترى النص فتجده بعنوان "أماه" منادى استعمله ليثبت به شوقه لها فوظف الألف بدلا من ياء المتكلم معبرا عن ولعه وحسرته التي تجعل منه ينادي أمه بشوق لتأتيه ملبية أينما كانت ..
ويبدو النص وقد وضع بمنتدى نور الأدب كما سبقت الإشارة كقصيدة عمودية ؛ لكن بعد تأمله تتحقق من أنه قصيدة تقليدية اتبع من خلالها شاعرنا نظام الشطرين موحدا القافية "ساري_ وارِ_ فارِ نارِ_..." وهي قافيةمتواترة يجرها الوصل أحيانا بالياء التي تأتي ضمير متكلم يمد الروي ؛ كما يلاحظ أن بالقافية ردف وذلك بوجود ألف مد قبل الروي (الراء)؛ والرائي القصيدة لأول وهلة وهو يعرف صاحبها قد يفكر في من تكون هذه الام المتحدث عنها؛ أهي الأم الإنسان؟ أم هي الأم الأرض؟ وعند قراءة مطلع القصيدة يكبر التساؤل فتقرأ آخرها لتدرك أنها الأم الإنسان؛ الأم التي وضعت وليدا بهذه الدنيا، فأسمته غالب ليغلب الطغاة والمتجبرين وليغلب بكلامه أقرانه الشعراء فيفوقهم..
ويحق لك أيها القارئ أن تجمع صدر مطلع القصيدة بعجز آخرها فتقول:
أماه إنك عزتي ووقاري..... في الخلد أنت بجنة الأبرار.
لتلاحظ تصريعا بديعا بدا في مطلع القصيدة(وقاري/مساري)؛ التي جمعت بمعجمها السهل البسيط بين مجموعة من الثنائيات _ الوجدان/ الطبيعة _ الوجدان/ التراث_ الوجدان/ الفن _ الوجدان/ الأرض ..فأم الشاعر هي حبه الذي يهبه العزة ويضيء حياته ويحميه.. هي الملجأ الذي يلجأ إليه فترتاح نفسه موحية بالطبيعة الجميلة التي أبدع الخالق صنعها، أما جمعه بين الأم والتراث فتلك الأصالة المتجذرة في كل منهما، كما أن أمه هي النغمة الحلوة الجميلة المنعشة لروحه والمجددة لنفَسه، أما الأم الإنسان فقد ربطها بالأم الأرض رباط متين قوي حيث رسمت القدس على كفيها، ودمعت عيناها حبا للأرض التي لا ترضاها أن تكون يوما ما للكفار ..
والألفاظ الدالة على الأم تجاوزت اثنتي عشرة كلمة عدا التكرار( أماه_ عزتي. وقاري. كفيك. الرضا. يديك. عطفك. بشاشة وجهها. حنانها. الفؤاد. القلب. أمل اللقا .....) أما التراث فكان من ألفاظه/ عباراته: تراثك. زينا. فيض الثياب. باهر الزنار..) والطبيعة( قريتنا. ليلي. نهاري. لظى حر النهار. قرة الإعصار. عطرها. الأطيار. الأزهار..) والفن( رسم. نغمة. تشدو. حسن الأشعار....) من خلال هذه الألفاظ والعبارات وغيرها يلاحظ استعمال حقول دالة مختلفة أتحفت النص فوهبته جمالا وإيقاعا متميزا حيث الحركة المتموجة بين أبيات القصيدة؛ هذه الحيوية حركت الإيقاع الداخلي فبدا عند أوله نداء وخطاب وتكرار.... ومن يتأمل أول النص وآخره يجد أن مطلع القصيدة افتتح بنداء حذف منه حرف النداء واختتمت القصيدة ببيت استهل بحرف نداء..
وقد ركب شاعرنا بحر الكامل الذي هو من البحور الطويلة الممكن أن يكون اعتمادها معبرا عن الحب الأبدي للأم، وعن طول الشوق والاشتياق لها؛ والكامل هو من البحور الصافية التي تعتمد تكرار تفعيلة واحدة (متفاعلن)، إلا أن بعض التفاعيل عرفت نوعا من الزحافات كتسكين الثاني المتحرك متَفاعلن تصبح متْفاعلن وهو ما تكرر في النص بكثرة حتى لكأنها قد تبدو أحيانا قصيدة نظمت على بحر الرجز إلا أن شاعرنا أبى إلا أن تكون القصيدة متكاملة تردد كمالا منح القصيدة إيقاعا موسيقيا
متكاملن متكاملن متكاملن ...... متكاملن متكاملن متكاملن.
كما أن بعض التفعيلات أصابها القطع وذلك بحذف السابع وتسكين ما قبله متفاعلْ ؛ وقد يحصل أن يجتمع القطع مع الإضمار (متْفاعلْ)
أماه إنك عزتي ووقاري ..... بل أنت روحي حيث كان مساري
متْفاعلن متَفاعلن متَفاعل.... متْفاعلن متْفاعلن متفاعلْ
يلاحظ هنا أن العروضة مقطوعة والضرب كذلك، بالإضافة إلى التصريع الذي هو من المحسنات اللفظية "وقاري/ مساري".
عروض كل بيت شعري تختلف بين العروض السالمة والمضمرة في حين ضرب الأبيات الشعرية بهذه القصيدة مقطوع تارةوأخرى مضمر مقطوع.
إن تفعيلة الكامل المتكررة التي استخدمها الشاعر جاءت مناسبة لموضوع القصيدة الموحي بكمال جمال الأم وكمال الحب والشوق...
وقد بدا الإيقاع الداخلي أيضا من المطلع حيث تكرر ضمير المخاطبة (إنك.. أنتِ..) ضمير المتكلم المفرد(أماه.. عزي.. وقاري .. روحي .. مساري) الذي يعلن تكرار صوت المد أيضا ليس فقط في مطلع القصيدة بل على امتدادها، وحروف المد تكسب كل كلمة ثقلا إيقاعيا وتراخيا موسيقيا،فضلا عما توحيه الكلمات من معنى عميق، وهذا يعني أن حروف المد هذه جعلت الإيقاع ممتدا ( ليلي.. نهاري .. لأكون .. جسمي .. أنا .. أرجو .. إزاري ....) أما ضمير المخاطبة فكذلك يتكرر (عندك .. هاتي .. تراثك .. أنت .. غيرك .. كساك...)إذن هناك علاقة ترابط توحي بالوصال المتين الجامع بين الأم وابنها رغم قساوة الظروف.
أما على مستوى التكرار المعجمي فنجد ترديد بعض الألفاظ ( أماه، كان ،أنت ،نهار..) الاشتقاق( يضيء/ ضوء) الترادف (دارها/ مقرها_ القلب/ الفؤاد_ يديك/ الكفين..) والتكرار توكيد إيقاعي ممتلئ حيوية كما أنه هنا يحمل من الدلالات ما يجعلنا نعيش الحب اللامتناهي الأبدي؛ وهو في القصيدة حقق جرسا لفظيا مفعما بالانسجام والاتساق،والتكرار شأن بلاغي، وظاهرة أسلوبية،تعتبر ميزة جوهرية في الشعر إذ يبعث الروح في القصيدة من خلال إضفائه الحس الموسيقي ويوحي بالرقة والهدوء، وهنا حدث توافق بين الدلالة والإيقاع، وهذا راجع إلى قدرة الشاعر على انتقاء وتوظيف ألفاظه، فالكلمات في بنية النص يحملها الشاعر أصواتا مختارة بعناية ودقة لتكون لحمة قوية تجعل المتلقي ينتقل من حالة مجرد قارئ إلى قارئ يقظ متشوق لما سيؤول إليه النص بتعايشه معه.. وبخصوص الصورة الفنية فالقصيدة تزيت بزيها فهي تبتدئ بمقدمة روحية تعكس الحب والولع بالأم الطاهرة طهر القدس وأسوارها الوقور وقارا لا حدود له، وتصور نداء لهذا القريب البعيد، ويمكن تقسيم هذه القصيدة إلى أربع وحدات شعرية يستهل كل مقطع منها بنداء مما يزيد لموسيقى النص نغمة وعذوبة إضافة إلى نداءات أخرى ليصل هذا الأسلوب إلى أكثر من خمسة نداءات ( أماه، يا أماه ،يارب يا بسمة، يا أمل اللقا) كما استعمل أسلوب الأمر (هاتي، مدي، أكرم_ اجعل_ أمر طلبي_ ... ) يستعمل أسلوب الأمر طالبا لا آمرا فهو يطلب أمه كي تمنحه الرضى حيث إن ليله لا يضيئه إلا رضى أمه عليه. وكي تمد يديها له حتى يقبلها فالأمر هنا دال على الشوق؛ شوق لتقبيل يد الأم ولاستنشاق عطرها بالتقبيل، ثم يطلب من الله أن يكرم مثواها ويجعل ثراها طاهرا ووظف الرجاء أيضا ( أرجو) إذ يرجو الله أن تكون أمه جواره ،أسلوب الاستفهام ( البيت السادس، العاشر والحادي عشر ) يتساءل من خلاله شاعرنا أسئلة إنكارية يدرك جوابها جيدا، إلا أنه يؤكد الجواب حيث يستثني كل البشر مما تمتاز به أمه ، فلم يكن احد يستطيع أن يخفف مصائبه وأن يكون بلسما لها إلا هي ولا أحد غيرها أيضا كان سندا له إلا هي....وسؤاله عن من كان بالفعل الماضي يدل على أن من كان لم يعد موجودا.. هذه الأم التي تحمي وتقي وتشجع هي وحدها من تستطيع القيام بكل هذه الأمور دون غيرها، كما أنه يتساءل عن أي طريق يمكن أن توصله لعطفها، إذ سكنت وفترت كل الطرق المؤدية إلى نبع عطفها، فلم يعد يجد لهذا النبع سبيلا وهو الذي يريد أن يكون أول طير يصل إليها مشبها نفسه بالطائر لأن الطائر هو الذي يستطيع أن يسرع في الوصول للمكان الذي يريده مرفرفا بجناحيه، ويتساءل في البيت الحادي عشر موجها سؤاله لأمه الغائبة الحاضرة، يسألها إن كان سفرها طويلا لا عودة منه، أم أنها في قبرها تحيط بها الأزهار، لكن وجودها بعيدة يجعله يرجو من الله أن يريه وجهها الباش فتكون أمه بجواره لأنه بضعة منها وحنانها يدخل قلبه برقة وليونة، ثم يدعو لها أخيرا بعد أن أدرك أنه لن يتمكن من رؤيتها إدراكا تمنى لو أنه لم يكن ؛ بأن يكرم الله مقرها حيث هي، ويجعل ثراها طاهرا سنيا ، ليثبت أنه مازال يأمل في لقاء أمه ولو بجنة الخلد، فالأم هي البسمة التي ظلت في قلبه لا تفارقه.
وجمالية الصورة الفنية يمكن ملاحظتها في عجز البيت الخامس بالطباق ( ليلي/ نهاري) والتشبيه إذ يشبه الليل وقد أضيء برضى أمه بضوء النهار الرباني، إضافة إلى ظاهرة التوازي بالبيت السادس (هل كان غيرك بلسما لمصائبي/أم كان غيرك من يشد إزاري) والتقديم والتأخير بتقديم الجار والمجرور على الفعل في قوله: من عسجد الكفين كان فخاري...
القصيدة يطول ما يمكن أن يقال عنها وقد أطلت رغم التقصير..
لن أثقل أكثر ولكن القصيدة وموضوعها يستحقان النبش أكثر
|