رد: رفقة الأمس
3
صباح اليوم التالي، توجهت كما كل يوم إلى عملي، نشيطة مرتدية ملابسي التي ابتعتها يوم أمس، دخلت المكتب بنشاط وحيوية لمحها زملائي، سرعان ما تبدد تفاؤلي بشمس تموز، رؤية "مانويل" وهو يخرج من مكتب أحد زملائي وعلامات الغضب بادية عليه، إنني لم أره سابقاً كما رايته هذا اليوم، قرأت في ملامحه عبارات تمرد وتعصب، حتى أنه لم يلق علي تحية الصباح، ولم يعرن أي اهتمام.
حاولت التقصي ومعرفة ما الذي أثار غضب جار الطفولة، بالرجوع إلى أوراقه لم يكن هناك أي شيء جديد، لم يستجد أي أمر لِم الغضب ياترى، وسرعان ما أفهمني زميلي برغبة"مانويل" تصفية أعماله وسحب أوراقه من المكتب، قلقت من سرد زميلي، هل سيحقق مبتغاه بالهجرة إلى هناك؟!
لم أُطلع أحداً على مااستجد معي يوم أمس إثر زيارة"مانويل" لي في منزلي، انتظرت إلى أن انتهى الدوام، وغادرت المكتب مسرعة إلى المنزل، وكلي أمل بأن يعاود تواصله معي، لكنه لم يفعل وتغيب وسط زحمة الشوارع، بعيداً وراء السحب المسافرة كما وسائد قطنية توحي بالمطر في فصول فوضوية الترتيب، تروي عطش الأرض، إن عاد سيكون كل شيء على مايرام، وإن بالغ في صده فهو في غياهب"الأرض المفقودة" التي يفتش عنها وأبداً لن يتحول السراب إلى واقع يتمناه!
كانت نشرات الأخبار توالي اهتمامها بأحداث الشرق الفوضوية، وكانت حكايات التشرد واللجوء بتزايد، تعصف بقوارب المسافرين عبثاً فوق مياه البحار والمحيطات، وبين الدروب الصيفية المقفهرة، وعلى جوانب التلال الشتوية عواصف تجتاح مخيمات اللجوء، ورياح تقتلع الجذور، جميع حكايات الوطن دامية، لابقعة ضوء وردية في أفق المساءات الداكنة، لا منقذ يمنح البشرية جواز عبور للسلام.
تأهبات وحشود، أرتال ومجنزرات، وكسل مختل التوازن بين حركات الجيوش وعدسات التصوير الإعلامية، التي وعدت بنقل الحدث كما هو، لاكما يجب أن يكون.
فاجأني تواصل زميل لي في العمل بعد عصر اليوم العاصف أحداثاً ليطلعني على رغبة "مانويل" في تأسيس شركة للإنتاج والتصوير الإعلامي، وقد بدأ المكتب المجاور فعلاً في إعداد دراسة جدوى، وعن نيته في فتح فروعٍ لها، هي محاولة عبثية من جاري، لاشك وأن في نيته فتح فرع له في تلك الديار المفقودة، قطعت الاتصال وأنا أسترجع ذكرياتي في حينا وأجواء حياة جارنا المعيشية، لم يكن في نيتي إثارة الماضي بعد مضي عقدين من الزمن لكنني وجدت نفسي صريعة ماض علي العودة إليه من آن لآخر.
تفقدت نفسي أمام المرآة، وجدت انعكاساً لرسمه يذكرني بهدمهم الأرصفة القديمة في أعلى الشارع الممتد حتى مركز مدينتنا، وكيف سرقوا روائح الياسمين وضحكات الدوالي، وأصوات الأطفال، وألوان الفجر ووشوات النهر، المعايشة فن من التواصل مع فئة تحب لنفسها ما تكره لغيرها، لا أن تحب لنفسها ما تحبه للغير، وفق هذا الطراز كانت حياتنا ومضت حتى غادرت مدينتي منذ أكثر من أحد عشر عاماً.
أخذتني دفاتر المحاسبة وانشغلت بعملي، تصاعدت وتيرة العنف في وطني، ومعها تصاعدت وتيرة القلق بداخلي، مرثية
العودة توقد في البال عشرات التساؤلات، كلانا لديه رغبة في العودة إلى حيث يريد، وكلاالعودتين مقلق للغاية.
امتدت موجة الحر حتى أوائل شهر أيلول، وامتدت معها أمنياتنا بالسفر لكسر رتابة الوقت، لكن الأمور لاتتحمل العطلة والسفر وارتداء ملابس السباحة والاصطياف، علينا إنهاء أعمالنا المحاسبية في المكتب، ياإلهي كم تذكرني الأعمال هذه بالواجبات المدرسية التي علنيا إنهاؤها قبل أن ننام، وإلا تعرضنا للعقوبة والتوبيخ وهذا حق على المعلم أن يرى ثمرة تعبه لأجل تلامذته.
أنهيت ما طُلب مني بكل تفاني وأمانة، وقررت التوجه شمالاً لقضاء عدة أيام بين أحضان الطبيعة التي استقبلت فصل الخريف، تم حجز غرفة لي في أحد المنتجعات الريفية ذات الطراز الخشبي العالي الجودة، وحزمت حقائبي واستقليت سيارتي باتجاه الشمال، بمحاذاة الأنهار وبين المنعطفات والدروب التي كانت تعربد فيها أوراق الحور والصفصاف بكل حرية، كانت الطريق مفروشة أوراقاً ملونة خضراء وصفراء وقرمزية.
يهطل المطر حيناً ليغسل الطرقات، ثم يتوقف لتهب عاصفة تثير سكون الورق المسافر فيعرقل تأملاتي واسترسالي كانت الاستراحات تكتظ بمحبي العطل في فصل الخريف، صادفت العديد منها كانت مزدحمة، أثار انتباهي استراحة نائية على أطراف واد يضج بأوراق الشجر المتساقط، توقفت لشرب الشاي الساخن، كانت الطبيعة ساحرة جداً التلال بدأت تغطيها الثلوج، والمنحدرات تهدر بها أصوات الشلالات والينابيع الحارة، الطقس يميل إلى البرودة.
تناولت معطفي الصوفي، كان قرمزي اللون مخملي الملمس فاجأتني يد تساعدني على ارتدائه التفت إليه إنه "مانويل" نظراتك تغضبني ياجاري العزيز! صافحني ودعاني لنجلس عند حافة النهر إلى أن يأتوا لنا بالعشاء، ابتسمت بحذر وتوجهت برفقته إلى طاولة أنيقة تم وضع غطاء من الساتان فوقها بلباقة، مع وردتين باسمتين وعلبة مناديل، مع بضعة أوراق نسيتها الريح غير عابئة فوق طاولتنا التي جمعتنا من جديد في أواخر أيلول.
جلسنا متقابلين، سرى بين أوصالي شيئاً من الدفء، وسرت في عينيه حكايات الماضي، التي عليه تذكرها ليعدل عن كل مافكر به، بادر بالحديث بصوت خافت لتبدأ نبراته تعلو تدريجياً وتبدأ معها أوجاع الأمس الحزين، ما إن انتهى من سرد مايريد حول مشاريعه حتى وصل العشاء، كان وجبة من السمك الطازج الذي أعشقه ومقبلات وبعض من الخبز ومشروبات غازية دعاني لتناول الطعام قبل أن يبرد وهكذا بدأنا سوية بتشريح السمك وتناول السلطات مستمتعين بالأجواء الخريفية.
مر المساء منعشاً ذاكرتنا، موقظاً في البال أُمسياتنا الجبلية، وحفلات السمر قطعت تأملاتي، سائلة إياه، كيف عرفت بنيتي في التوجه إلى الشمال، أجابني على الفور سيارتك، وإجازتك التي تقدمت بطلبها نهار يوم أمس، إذاً أنت تراقبني يامانويل؟
ـ أبداً عزيزتي، أنا مهتم بك، وأعلم بأنك تحبين الطبيعة ودائماً لك اكتشافاتك، إنني سعيد بلقائك وتسرني جداً مرافقتك إلى أحضان الطبيعة.
ـ تأملت عينيه اللتين لمعتا لمعة حزن، أشعر بأنك تعاني مثلي ياصديقي، أشعر بأن الأيام أتعبتك!
لزم كلانا الصمت، أنهينا شرب الشاي، وتوجه كل منا إلى سيارته يتبع كلانا الآخر في رحلة نستكشف فيها كنوز الطبيعة في الريف أقاصي الجبال التي بدأت درحات الحرارة تنخفض فيها، وصلنا إلى الفندق مع حلول الليل، كانت قوافل من السيارات تضج بالمكان من محبي العطل في فصل الخريف.
توجهت إلى الفندق، كانت الغرفة بانتظاري كل شيء على مايرام، يالفخامة المكان تفاجأت بحوض سباحة في أقصى الغرفة مياهه دافئة، أجواء تشجع على الاستلقاء في المياه وإعادة تجديد الحيوية وهذا ما حصل، ما إن أنهيت ترتيب ملابسي التي اصطحبتها حتى ألقيت بنفسي في حوض السباحة واستسلمت للنوم فيه بضع دقائق!سرني اختياري كثيراً لكنني متخوفة من تتبع جاري لي الذي يخفي العديد من النوايا وراء عودته لمساحات يومياتي مجدداً.
أنهيت حمامي الدافئ، واندسست في الفراش فوق الملاية والوسائد الناعمة، ونبرات مانويل في مسمعي أٌعيد ترتيبها وما بين شك ويقين تسلل النوم إلى جفوني فاستسلمت له تاركةً أفكاري وهواجسي تتبخر في فضاءات الغرفة التي غرقت بروائح اللافندر والصندل وزهر البابونج.
يتبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع
|