الحب في زمن كوفيد19
كانت تسير بخطواتها الوئيدة الثقيلة... تبدو على غير عاداتها فلطالما كان يناديها الأصحاب ومن عرفها : "لبنى السريعة"..
مابالها اليوم على هذي الحال تسير؟ ومابالها اليوم وقد أثقل مشيها التفكير؟ أتخطط لشيء أم في خفاء لأمر تنوي التدبير؟!
عادة حتى وهي تسير بسرعة تتحدث إلى نفسها وترد عليها نفسها، تخاطب أفكارها، فيجيبها فكرها..
ماذا حدث؟!
تمر فجأة بجانب بيت لم تزره إلا مرة واحدة هذا إن تذكرت أنه هو البيت فعلا.. فقد كانت زيارتها الوحيدة له منذ سنين وهي عادة لا تتذكر المكان الذي تزوره مرة واحدة إلا إذا كان فيه ما يثير.. وقفت أمامه وكأنها تقف على طلل.. تتذكر تلك اللحظة التي دخلت فيها هذا البيت مع صديقتها وهما يخطوان نحو الباب ويسألان أهنا بيت...؟
نعم هو ذاك البيت.
تطرق صديقتها الباب، تفتح امرأة بلباسها الأبيض وقد أبانت ملامح وجهها الأسمر أنها تجاوزت الخمسين.. أكيد هي أم...
- السلام عليكم يا خالة عظم الله أجركم نحن صديقتا... أهي موجودة؟
_ نعم؛ فاطمة موجودة.. تفضلا وثبت الله اجركما
وتقدم الفتاة بأسى رهيب فقد فقدت الأب الحبيب.. تجلس معهما قليلا، ثم تدوس ريم قدم زينب معلنة انها تنوي الرحيل وتهمس لها: علينا ان نذهب قد قمنا بالواجب.. توافقها زينب فيغادران المكان..
تخرجان يغلق الباب خلفهما ويخطوان سريعا ولسان زينب لا يكف عن الكلام كالعادة وريم مستمتعة بحديث صديقتها كما ألفت.. نعم هو الباب نفسه الذي تقف أمامه ريم الآن وهي وحدها تتأمل الذكريات.. تمنت لو كان بإمكانها أن تسأل عن فاطمة أو "تفاطم" كما كانت تسميها بأوراقها التي كانت تخطها في كل يوم أو مع كل حدث جديد.. فكثيرا ما كانت ريم ترأف لحال تفاطم وتدافع عنها رغم ما كانت تحتفظ به من استغراب ومن علامات تعجب لما كان يحصل معها.. الآن تذكرت لحظة خروجها مع زينب من بيت تفاطم وهي تسترسل في الكلام.. قالت زينب: مسكينة فاطمة لا ترى والدها إلا مرة كل ستة أشهر.. فهو يعمل بفرنسا، وعمله يفرض عليه ألا يلتقي بأهله إلا شهرا في السنة يقسمه إلا مرتين..
_ مستحيل هذا..! ولم لم يأخذ أهله معه؟
_ ربما لا إمكانية له.
_ لا إمكانية؟! أمر لا يقبله العقل.. أمنذ سنين وهم على هذه الحال؟
_ منذ وعت فاطمة.. تقول إن والدها فضل أن يعيش أبناؤه في وطنهم الأم ويتربون تربية الإسلام...
تقاطعها ريم: تربية الإسلام.. وهل الوطن هو الذي سيربي.. والأب أليس وطنا أيضا حرم أفراد أهله من أن يستقروا معه؟! اليس هو من سيربيهم هنا أم هناك ويعين الأم على تربيتهم بأي مكان عاشوا فيه؟.... على العموم صمتي أفضل من كلامي رحم الله ذلك الإنسان.. اذكروا امواتكم بخير..اللهم ألهم الصبر لفاطمة المسكينة وأهلها...
_ آمين..
لم تكن ريم تنادي فاطمة باسم تفاطم إلا عندما تكلمها بأوراقها.. ولا أحد يعرف ماذا كانت تسجل عنها في تلك الأوراق.. لقد كانت في كل ليلة عوض ان تهتم بحفظ دروسها ومراجعتها.. تدخل الغرفة التي عليها أن تقبع فيها والامتحانات على مشارفها تدق الباب.. وكأنها غير مبالية.. بالنهار غناء وقراءة شعر.. وفي الليل الكتابة عن تفاطم أو عن أي وقع آخر شكل أثرا في قلب ريم..
وقد كانت تفاطم تشغل ريم اكثر لأنها كانت كالولهان تكاد تجن من حب أستاذ لها بالثانوية.. درس ريم قبلها فأحبته كأي حب عفيف طاهر يجمع بين تلميذ وأستاذه.. خاصة إذا كان كالأستاذ عادل...
تفاطم لم تحبه حب التلميذ لمعلمه وكانت تتنافس في حبه مع كل صغيرة جميلة هفا قلبها له وهو لا يبالي ولا يريد إظهار ملاحظاته لذلك حتى مل بعد أن أرهق من تصرفات تفاطم التي كانت تحاول ان تجذبه إليها بشتى الوسائل والطرائق.. لم تكن تهتم باللغة العربية كمادة مدرسة.. فصارت لا تهتم إلا بها.. بل وأصبحت تحاول نظم شعر تتغزل فيه بالعدل والعدالة والمعلم والتعليم وبالقهوة والسكر وبعادل الذي يقبل قراءة نصوصها على أنها إبداعية سيبدي رأيه فيها بصفته أستاذا.. لكن تفاطم لم تخل كتاباتها وأوراقها من اسمه .. لا تكف عن ذكره كلما مر بجانبها وجد اسمه على لسانها، كلما قلبت صفحة من كتاب أو دفتر كان اسمه موجودا..
كيف سيعمل هذا الأستاذ المسكين في جو كهذا؟ والكل يتهامس عن حب تفاطم للأستاذ عادل.. لقد ضجر من هذا الكهرباء الذي صار يصعقه كل مرة فكلما اصبحت تقترب منه صدها وحاول تجنبها في لطف إلى أن فقد أعصابه مرة وذهب عند أستاذة اخرى تعرف تفاطم فقال لها:
من فضلك قولي لفاطمة أن تقلع عن سمائي؟
قولي لفاطمة انها صبية يجب ان تتفوق في دراستها لتحقق ذاتها..
قولي لها ان تنجح بالباكالوريا سريعا فأرتاح وترتاح..
يا سيدتي أخبريها أني إنسان متزوج ولي طفلين فلتقلع عن سمائي ولتحلق بفضاء آخر...
تتذكر ريم تلك الأحداث وكأنها تجري أمامها الآن .. تود لو تطرق هذا الباب لتسأل عن تفاطم عن حالها.. أتزوجت؟ ألها أبناء؟ أتحب زوجها؟ أم أنها ماتزال حبيسة حب الأستاذ عادل؟ لعلها نسته وتذكر تلك الأحداث كأفعال صبيانية من مراهقة...
تغادر ريم وقفتها أمام الباب وتستمر ذكرياتها وهي بنفس الآن تتساءل كيف وجدت نفسها أمام هذه الباب.. الأنها تحس بذاتها اليوم صورة من تفاطم؟!
لا فالوضع مختلف تماما لا يمكن ان تكون صورة لها..
كانت تفاطم تكبر ريم سنا وتكبرها بالمستوى الدراسي أيضا.. ريم درست عند الأستاذ عادل اولا وفي السنة الموالية كانت صديقتها زينب تدرس عنده ومعها تفاطم ولعل هذه الأخيرة لاحظت معاملة الأستاذ عادل اللطيفة مع ريم ونظرته لها التي لا يمكن أن تخلوها مرافقة ابتسامة تبرز ملامح الطهر والنقاء.. لذلك قررت تفاطم أن تجعل من ريم صديقة مقربة مادامت تعرف الحبيب عادل قبلها..
مرت تلك السنة بأجوائها ونجحت تفاطم في الالتحاق بالجامعة لتأتي مع بداية الموسم الدراسي تجرها اللهفة والشوق للقاء الحبيب.. متعللة بانها ستقدم له هدية بمناسبة نجاحها والتحاقها بالجامعة واختيار شعبة تجعلها لاتنساه وتقربها منه..
قدمت تفاطم بعد أن التقت بريم تطلب منها أن تدلها على القاعة التي يتواجد فيها الحبيب.. لا تستطيع ريم الا تدلها فقد كانت تحس في نظراتها بذلك الحزن الذي سببه الحب المستحيل.. فكانت ترأف لحالها وتدافع عنها أمام كل من أراد أن يقذفها بسوء مبينة لهم ان الحرمان من الاب هو الذي جعلها تميل إلى إنسان في عمر والدها يملك طيبة الأب ولطفه ورحمته وعطفه ....
دلت ريم تفاطم على مكان تواجد الأستاذ ولم تشأ أن تدخل معها القاعة كي لا تعكر صفو اللقاء لكن الاستاذ عادل ما إن رأى تفاطم حتى قفز كالكنغر من مكانه ليرى ريم عن بعد فيناديها كمتخبط في البحر يستنجد..
(يتبع)
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|