أين امي؟
في حصة دراسية اخترت أن يكون موضوعها نص شعري.. اتيت تلامذتي بقصيدة أمي يا ملاكي للشاعر اللبناني سعيد عقل.. قضينا وقتا مرحا ونحن ندرس القصيدة، ندرس الوصف الجميل الذي وصف به الشاعر امه وهو يناديها ياملاكي.. ياحبي الباقي إلى الأبد.. وأذكر لهم ان القصيدة غنتها الرائعة فيروز ، وبسرعة استطاع البعض ان يحفظ بعض كلمات الشاعر ويرددها.. حاولنا مقارنة القصيدة برسالة نزار قباني لأمه وهو يقول لها يا قديستي الحلوة..
اخيرا شرعنا في دراسة جمالية الإيقاع وتلك الأساليب التي وظفها الشاعر والتي وهبها ذكر الأم موسيقى رنانة تطبع في القلوب الطمأنينة والحب .. ووصل اخيرا وقت نهاية الحصة والتي غالبا ما تكون كتركيب لما درسناه.. لكني لم أطلب من صغاري ذلك بل قلت لهم:
صفوا امهاتكم.. نادوهم اجمل نداء وحدثوهم.. قولوا لنا شيئا جميلا عن الأم.. انتم الشعراء الآن..
وبدأت أنادي بعض الأسماء منهم من رفع أصبعه ومنهم من فاجأته بالنداء كإكرام التي لم تحرك ساكنا في هذه الحصة وهي عادة تحاول المشاركة بكل ما تملك من طاقة رغم معرفتها بأن أجوبتها غالبا ما تكون خاطئة.. تفعل ذلك لأنها متيقنة من أني سأشجعها على أن تخطئ اكثر حتى تتعلم أكثر.. فمع كل خطإ تصويب للخطإ وتقويم له...
فمابها إكرام اليوم؟
تأففت واستغربت لذلك.. بدت مترددة للقيام والوقوف مكاني حتى أجلس أنا مكانها أو في الخلف أو في أي مكان آخر... ومع ذلك قدمت ووقفت بجانبي ونظرت إلي نظرة عميقة كان يجب أن أفهمها.. نظرة ألم وقالت: أتريدينني أن أتحدث عن إنسانة لا أعرفها؟!
مفاجاة صعقتني.. ما كان علي أن أعين أنا من يتحدث فالأم أقوى رابط إذا فقد فقد حبل النجاة من أشواك الحياة.. لماذا ناديتها؟ لماذا بعدما وقفت ألححت عليها مرددة: هيا إكرام أكرمينا بحديثك عن أمك..
رأيت الدهشة في أعين زملائها جميعا.. وسمعت البعض يتهامس متسائلا كيف تقول ذلك وهي تعيش مع أمها .. استغربت..
عادت لمكانها وكأنها تتغلب على دموع لا تريد أن تسكبها على الأم..
لذت بالصمت أنا ولم أستطع مناداة شخص آخر بعدها .. لكن علامات الاستفهام والاستغراب التي رأيتها بادية على ملامح زملائها جعلتني من جديد أسألها: أفقدتها؟ صمتت.
ألم تريها قط؟ *أنا لا أعرفها..
عم الهدوء الفصل.. جلست كرسيي الذي غالبا ما أهجره طيلة الحصص.. وبقيت أنظر إلى الأرض.. إلى المكتب.. إلى الأوراق.. لماذا تسببت لإكرام في الحزن؟ ليتني لم أدرسهم هذه القصيدة أصلا.. لكن الحصة الأولى للقصيدة كانت إكرام مستمتعة، بل حفظت أول القصيدة
أمي يا ملاكي
يا حبي الباقي إلى الأبد
ولا تزال يداك أرجوحتي
ولا أزال ولد.....
وإذ أقول أمي أفتن بي....
ثم تردد بعض ما ذكر نزار فرحة:
فكيف فكيف يا أمي غدوت أبا ولم اكبر؟
نعم كانت قد بدأت في حفظ القصيدة وكانت تضحك أيضا.. بدا لي وقت دق جرس الخروج بعيدا جدا.. ما إن دق حتى حل الفرج.. وكأن شيئا ما كان يخنقني.. ناديتها: إكرام من فضلك أريدك، جاءت وقفت إلى جانبي بلطف وانتظرنا خروج باقي التلاميذ، ذهبت لإغلاق الباب ثم عدت إليها، ارتمت علي تعانقني باكية وهي تعتذر على الطريقة التي تحدثت بها فقلت لها أن ليس هذا ما أريد.. ربما أنا من يجب علي الاعتذار وطلبت منها أن تخبرني عن سبب انفعالها.. حينها سمحت لدموعها بالانسياب وهي تقول : أتعرفين أنك انت أمي؟ أنت التي أحس بصدق حنانها ولطفها .. ضممتها إلي محاولة التغلب على دموعي التي أجدها قريبة في كل اللحظات.. تساندني في القوة والضعف.. لماذا إكرام؟ لماذا تتحدثين هكذا؟ أتعرفين أني أول أمس فقط يعني مساءالخميس عرفت أن أمي وأبي وإخوتي الذين قضيت معهم عمري ليسوا أهلي؟ حياتي كلها كذبة أستاذة..
* من قال ذلك إكرام؟ انت أجمل حقيقة في بيتك وبالقسم هنا والمدرسة وفي الحياة كلها..
* لا بل كذبة أنا لست إكرام أنا لست انا
* ومن أخبرك بما تقولين لي الآن؟
* أبي؛ عفوا أقصد من كان أبي، بل من كنت أحسبه أبي..
* كيف ذلك؟ أحصل شيء؟ هكذا جاء بعد كل هذه السنين وقال لك ما قاله.
* أراد شخص خطبتي، ولما عرفت أنه يريدني أن أتابع دراستي وافقت على الخطوبة على أساس أن يتم الزواج بعد ذلك، ليأتي ذلك الشخص الذي كنت أناديه بابا ويقول لي: يجب أن أخبرك بحقيقة.. وبكل برودة قاسية قال: نحن استلمناك من امك بمستشفى المدينة بعدما وضعتك.. فربيناك والآن وقد وافقت على أن تبني أسرة جديدة يجب أن تعرفي هذه الحقيقة..
أستاذة أمي رمتني..
لا تقولي هذا إكرام
أنا لست إكرام.. أنا لا أعرف من انا.
غالبت دموعي فتغلبت علي.. طلبت منها ان تهدأ ، سألتها إن كان ذلك الشخص الذي رباها قال لها شيئا عن امها، لكنها قالت إنها ظلت تتوسل إليه أن يخبرها فقال إنه لا يعرف عنها شيئا فقط كان بالمستشفى وجدها تريد أن تعطي ابنتها لحضن دافئ فكانت أسرته ذلك الحضن.. لكن هذا الحضن سرعان ما صار جليدا..
حاولت أن أفهمها أن أمها الحقيقية قد تكون لها ظروف فرضت عليها ما وقع وأنها ربما تسأل عنها أو لعلها قريبة جدا منها تطمئن عليها في كل حين لكن إكرام لا تعرفها..
احتد غضب إكرام وهي تردد: أقسم اني لن أسامحها يوما.. لن ابحث عنها لا أريد معرفتها وتلك الحياة التي وهبتني بمنحي لهذه الأسرة ساتخلص منها.. لا أريد شيئا من تلك المرأة.. أنا لا أعرفها..
أكرهها أكرهها..
حضنت إكرام عانقتها.. قبلتها همست لها بكلمات هدأتها بعض الشيء.. ثم وعدتني بأنها ستعيش ما قدر الله لها أن تعيش، وستحاول ان تسعد بحياتها لكنها لن تسامح أمها..
بعد يوم زارتني إكرام بالقسم ولم تكن لديها حصة.. أخبرتني أنها ارتاحات بعض الشيء بعد ما جرى بيننا امس.. فتذكرت القصيدة وقلت لعل في دراستها خيرا..
تحدثنا أيضا مدة لتعدني أخيرا بأنها ستحاول أن تعرف أمها وستسامحها مادامت امها وقد وهبتها الحياة لتكون اجمل وأكرم إكرام..
تغيبت بعد ذلك ولم أكن أعرف لها عنوانا.. تغيبت حصة وحصتين وأخرى... ظللت أسأل عنها ولا أجد ما يشفي غليلي.. حتى وصلتني رسالة منها وقد مدتها لي تلميذة لا تدرس معها..
على كل اطمأننت على أنها بخير رغم عدم قدرتها على متابعة الدراسة بعد أن أصبحت الأصابع والاعين لا تتجه إلا صوبها..
إنها ابنة ... لا تعرف أهلها.. فما عادوا أولئك بأهلها، وقد تغيرت تصرفاتهم معها بعد إلحاحها على السؤال: من أمي؟ أين أمي؟ .. وستظل تسأل: أين امي؟
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|