رد: نص للنقد
كل الشكر للأستاذ محمد الصالح الذي تقدم بقراءة للنص زادت من معرفتي، ووضعني على الخطوات الهامة في كتابة الرواية أعرض رأيه هنا وبكل ثقة وسرور، وبانتظار أراء آخرين لو تكرمتم مع التحية:
رفقة الأمس..(نصّ للنقد)..أوقعني في حيرة من أمري ! فُتِنتُ بنمط الوصف فيه إلى درجة أنّي حسبتني ، في بعض فقراته كنتٌ أقرأ (خاطرة) أو (شعرا رومانسيا ) ! فالنصّ يأخذ من ملامح القصّة القصيرة وجها ، ومن الرواية ملمحا ، دعني أقول (رفقة الأمس) بقليل من التوسّع في جزئياته هو (مشروع رواية)!
فالأديبة ( عروبة) تسكنها الخاطرة بكلّ زخمها ! هي عاشقة للطبيعة..عاشقة لكل ما هو جميل ! ..و(رفقة الأمس) خلفية صادقة لمخزون (عروبة) العاطفي..وأنا أتتبّع جزئيات النصّ ، وجدتني أتلمّس بوعي أو دون وعي شيئا من ماضي (عروبة) ووميضا من مستقبلها وهالة من حاضرها !
وأنا أقرأ (رفقة الأمس) استقرّ في يقيني أنّ النصّ فاجأ أديبتنا..فرض نفسه دون سابق إنذار ! تسارع الأحداث ، سرعة الانتقال من حال إلى حال..تتابع الأحداث..تداخلها..أكّد لي أنّا كانت تخشى ضياعه منها..سرعة الكتابة دليل على تدفّق الأفكار..لم تكن من قبل جاهزة !
بعد هذه المقدّمة البسيطة، أعود لأتناول (رفقة الأمس) بقليل من الإسهاب...
أوّلا :العنوان (رفقة الأمس) : لا أدري إذا كانت (عروبة) وضعت العنوان في الأخير؟ أم أنها اختارته منذ البداية؟ أو قبل الشروع في كتابة النّصّ؟
أتصوّرها وقد وضعت مجموعة لا بأس بها من العناوين ك( أنا ومانويل)..(مانويل رفيق الأمس)..وأخيرا استقرّت على (رفقة الأمس)..للكاتب الحق كل الحق أن يختار ما يشاء من العناوين..وللقارئ الحق أيضا أن يضع بدل العنوان الأصلي عنوانا يخلص إليه بعد انتهائه من قراءة النّصّ !!؟
شخصية (مانويل) حضورها في النّصّ كان طاغيا .. في مخيّلة البطلة كان حاضرا حضورا طاغيا..أما الطبيعة بمناظرها الخلاّبة ، والفنادق الفخمة ، والصّالات الجميلة ،والموسيقى، وأنواع المأكولات والمشروبات ، والاستراحات العصرية ، وألبسة البطلة الأنيقة ، وأنواع العطور ، والرّوائح الطيّبة..ووو..كلّ ذلك كان ديكورا..أو موسيقى تصويرية تضعنا في أجواء المشاهد التي قادتنا إليها الكاتبة بحرفية كبيرة! بذلك كنتُ أحبّذ لو كان العنوان (مانويل) باختصار..أو (مانويل/الظل) ؟؟
ثانيا: ثنائيات:
1 ـ نمطا السرد والوصف: استحوذ الوصف على مساحة لا بأس بها من النّص ، فكان السيمة الغالية تقريبا .. إذ لا يمكن الفصل بين النّمطين في أيّ عمل قصصي ، الأمر الذي جعل صاحبة (رفقة الأمس) توزّعه على مساحة كبيرة من إبداعها ، حيث جاء خادما ، وبشكل مدهش، للنّص..تفنّنت (عروبة) ، وهذا مجالها دون شك، في اصطحابنا رفقتها أينما ذهبت ، وحيثما اتجهت ، ، ، أشركتنا في رحلتها عبر طبيعة ساحرة ، حيث شعرنا بالراحة والاستمتاع إلى الحد الذي كانت تعيشه..فكان الوصف شفيفا دقيقا عذبا ! وتمثّل ذلك في اللوحات التي قدّمتها من خلال نصّها الأنيق..والأمثلة كثيرة وغنية ومتنوّعة..خذ مثلا قولها في الفصل الأول: (عاد ليطارحني الأمل، فتحت باب المنزل وعطر رجولته الذي راح ينسكب من البطاقة يتسلل من بين أصابعي مالئاً أرجاء الصالة..) ..ومن الفصل الثاني الفقرة الأولى: (وتبدأ شمس الصباح بالتسلل من خلف زجاج النوافذ باعثة الأمل في البشرية، تدعوهم للاستيقاظ ومعانقة الطبيعة في الحياة مايستحق العمل والجد والنشاط..)..ومن الفصل الثالث : (وتغيب وسط زحمة الشوارع، بعيداً وراء السحب المسافرة كما وسائد قطنية توحي بالمطر في فصول فوضوية الترتيب، تروي عطش الأرض، إن عاد سيكون كل شيء على مايرام، وإن بالغ في صده فهو في غياهب"الأرض المفقودة" التي يفتش عنها وأبداً لن يتحول السراب إلى واقع يتمناه! )..وفي الفصل الرابع: (كانت الطيور تستعد لهجر أوكارها، تشد انتباه نزلاء الفندق وكانت الشمس باهتة ترسل بعض من أشعتها بتوهج فاتر للغاية، سحبٌ داكٍنة، زخات متفرقة من المطر..)..وفي الفصل الخامس: (كانت أجواء خريفية بامتياز، تمتزج الموسيقى بحفيف أوراق الشجر، كلما اهتزت أغصان الأشجار تطايرت أوراقها يمنة ويسرةً، فوق صفحة الماء لتضفي المزيد من السحر والبانورامية على المكان..)..وفي الفصل السادس: (كم هو غجري ليل أيلول، التنزه فيه يثير المشاعر بفوضوية، يلقي بنسائمه الحيرة والدهشة، تتوسد أوراقه الصفراء صفحات الماء الرقيقة، فوق البحيرات والأنهار، تنجلي الأتربة عن الأسطح القرميدية، تغسلها زخات ماطرة تهيئها لغيم تشرين السارح الذي يرطب الخواطر الحزينة، يغسلها ينقي الوجدان من الحقد، والنفوس من الدنس، والصدور من الوسواس الخناس.)..وفي الفصل الأخير : (كان طريق العودة رطباً، تغسل قطرات المطر زجاج سيارتي الأمامي بكل انسيابية، وفوقي السماء رمادية داكنة، غيمة ماطرة وأخرى سابحة..) ..فالأوصاف التي أوردتها كانت غاية في الرّقة وبشاعرية بليغة ! الأمر الذي أضفى على السياقات والأنساق لمسات فنية ساحرة !
أما السرد فجاء بحسب حاجة الأحداث..رغم بساطة لغته ، كان قويا..فتتابع الأفعال الماضية خاصة (والماضي هنا له أثره البيّن) لأنّ ظروف الحكي تقتضي ذلك..فالأفعال (كان ، كنت ، جلست ، تناولت ، نظرت ، صعدت...) جاءت لتحفر الأحداث حفرا..فالذاكرة (عند عروبة) لها خصوصية وحساسية..جسد النّص ملتصق أكثر بالماضي..تعيش الكاتبة وللحظات حاضرها ولكنه يتكئ وبقوة على الماضي..تريد السفر إلى الآتي ولكنها سرعان ما تزجّ بنا في عمق الماضي !! وسأكتفي في هذا الباب بذكر أمثلة على عجالة ، حتى لا أُرهق القارئ (ابتسامة)..تقول: (كم كانت حقائبنا المدرسية تشبه تلك الحقيبة التي كان يحملها بيده ذاك الشخص طويل القامة، الذي دخل المبنى من لحظات قليلة، كانت تلقى كل إعجاب واهتمام من تلامذة مدرستنا الابتدائية..)..( آه كم أشعر بأنني أمام رجل يبحث عن أمل يحيا به عن شيء ما، عن وميضٍ يمنحه بارقة أمل بغد أفضل لكنه لن يأتي! الحياة لن تعود إلى تلك المساحات التي اغتالتها عصاباتهم، والزمان محال أن ينسى حناجر الغدر، تسأل العودة وعودتهم هي الأولى، هي القِبلة الأولى، وهي الحكاية التي على الأجيال القادمة خط آخر سطور فيها.).
2 ـ الطبيعة والأمكنة (الخلفية والموسيقى التصويرية): شكّلت الطبيعة خلفية للنصّ بامنياز ! فكان وصفها كلّما تغيّرت الأمكنة هو هو..جميل أنيق ساحر..تتبدّل الأمكنة والطبيعة واحدة ! فكانت كموسيقى تصويرية ترافق الشخوص والأحداث..الطبيعة بمناظرها..الأماكن وعبق العطور..كلّ ذلك شكّل جوّا رائعا غمرنا برومانسية رقيقة ، جعلنا نلتهم القَصَّ التهاما ! دون شعور بالملل..ومثلما أشرتُ في التوطئة ، فالكاتبة تعتبر الطبيعة جزءا منها ، أو هي جزء من الطبيعة ! فافتنان الكاتبة بجمال الطبيعة غير خفي..فالإسهاب في وصفها دليل على ذلك ، ودليل قوي ! أنسنة أركان الطبيعة واضح جلي..فالوديان والدروب والجبال والنسيم وحفيف الأوراق..الكل يتفاعل مع البطلة، يشاركها أحاسيسها..شعورها بالراحة..أو شعورها بالانقباض! حتى (صديقة مانويل النحيفة) ألصقتها بشيء من الطبيعة..ألصقتها بالثلج..فراحت تدعوها بـــ (فتاة الثلج).
ثالثا: الحوار: طغى على النّص الحوار (الدّاخلي) ، فما وجدنا شخوص الحكي تتكلّم أو تتحاور علنا..لم تكن أصواتها مسموعة ! فالصخب أُلغي على المستوى الخارجي..والصراع كان داخليا..في ذات البطلة..أرغمت الكاتبة شخوصها على (الحوار الصامت)..هي التي كانت تتكلّم..فضمير المتكلّم كان طاغيا..وكنّا نحبّذ سماع الحوارات ، والنقاشات بصوت أصحابها..لأنّ الحوار يُفصح عن مستوى المتحاوين ، الاجتماعي والثقافي والفكري، ويغنينا عن السرد أو الوصف ..لم يبدُ لنا (مانويل) صاحب أفكار جنونية ، مثلا ، أو عنادي الطبع ، أو مزاجي الميول ..عرفنا هذا من خلال البطلة..لم ندركه من خلال تصرفّاته أو نقاشاته..ويُعاب على الكاتبة هذا الجانب..فلو تركت الحرية لشخوصها في التحاور لأعطت للحكي قيمته وفائدته..فللحوار الخارجي كما الداخلي دلالاته وقيمته ، الأدبية أو الفنية أو الجمالية..
رابعا: الشخصيات: عدا شخصية البطلة ، ومانويل ، فالشبان الثلاثة وفتاة الثلج ، لم نتبيّن بوضوح دورهم في القصّ..لم يكونوا فاعلين أو متفاعلين ..هي شخصيات ثانوية طبعا ، ولكن لم نفهم سبب إقحامهم في بعض مشاهد النص..ختى أنّ الكاتبة تساءلت عن تواجدهم رفقة مانويل ؟ كانت مجرّد تخمينات وتأويلات منها..؟؟
صفوة القول: رفقة الأمس عمل قصصي لا يُستهان به إبداعيا ، أو كتجربة من قبل صاحبته ! ويبقى ككلّ البدايات، عمل فيه ما فيه من نقائص وله ما له من تميّز في بعض محطاته..غير أنّ الملفت في هذا العمل، وضوح ملامح الكاتبة وأسلوبها ولون قلمها..حققتْ من خلال (رفقة الأمس) شخصيتها ككاتبة..بمحاسنها وعيوبها..لذلك أُكبِر في الأستاذة عروبة جرأتها على عرض نصّها للقراءة والنقد ، كما أُجِلّ فيها قدرتها على خوض تجارب مختلفة في عالم الكتابة ، وأهيب بعشقها للتعلّم قصد التمكّن من أجناس الكتابة وضروب الإبداع..فالأديبة عروبة قلم مستقبلي واعد له بصمته وشخصيته المتميّزة..وما نحن سوى مجرّد قرّاء ، نصدر أحكاما انطباعية أكثر ، بعيدة عن التنظير والتقعير والأكاديمية في النقد والملاحظة..ولا أظنني أعطيت العمل حقّه من الإضاءة والتنوير..ولا أزعم أنني ناقد..فأنا مجرّد قارئ مستمتع ولكن بوعي وموضوعية..فهل أضفتُ إلى هذا العمل الجميل شيئا ؟ الحكم يبقى لصاحبته أولا ولأحبّتي في نور الأدب
|