الموضوع: الجرح والتعديل
عرض مشاركة واحدة
قديم 01 / 09 / 2021, 08 : 02 AM   رقم المشاركة : [1]
د. منذر أبوشعر
محقق، مؤلف، أديب وقاص

 الصورة الرمزية د. منذر أبوشعر
 





د. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: سوريا

الجرح والتعديل

مقدمة
شاع في أيامنا أن علم الجرح والتعديل كان خاصاً بزمن الرواة، وأننا لسنا بحاجة إليه اليوم لانفجار الثورات المعرفية، وسهولة الوصول إلى ما نريده من العلوم بيسر وسلاسة دون تعقيدات شروط السابقين.
وهذا من المهازل والمضحكات المبكيات، ومن أكبر الضياع، وعدم الفقه في دين الله، فكيف يكون الكلام عن أهل البدع وعلى العلمانيين وعلى تلبيس تمويه زنادقة العصر، دون (آليات) فقه الإسناد وشروطه وطرائقه؟
هل نغفل عن طرائق (الجرح والتعديل) وهو يُذَبُّ به عن دين الله وعن سنة رسول الله، فندحض به الباطل؟
** ** ** **
إنَّ الجرح والتعديل باقٍ إلى يوم القيامة، نفيد منه في تفنيد شرائح المتحدثين بأمور العقيدة والتاريخ، فيقال هذا فاضل، وهذا صوفي قائلٌ بوحدة الوجود، وهذا علماني، وهذا يتستر بالإسلام.. وهكذا. فهو جهاد لا ينقطع، ليس خاصاً بالرواة، فالنقد يكون لبدعته لا لراويته.
والزعم أن باب الجرح أغلق، هو مثل دعوة المذهبيين المتعصبين: إن باب الاجتهاد أغلق منذ القرن الثاني، أو الثالث، وبعضهم يقول الرابع، أي شلّت عقول المسلمين من ذلك الوقت إلى اليوم، وهو حكم جائر، وافتراء على الله تعالى. قال سليمان الندوي (ت: 1373 هـ / 1953 م): ﺍﻟﺮﻭﺍﻳﺔ ﺃﻣﺮ ﺿﺮﻭﺭﻱ، ﻭﻻ ﻣﻨﺪﻭﺣﺔ ﻟﻌﻠﻢ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﻠﻮﻡ ﻭﻻ ﻟﺸﺄﻥ ﻣﻦ شؤون ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ، ﻋﻦ ﺍﻟﻨﻘﻞ ﻭﺍﻟﺮﻭﺍﻳﺔ، ﻷﻧﻪ ﻻ يمكن ﻟﻜﻞ ﺇﻧﺴﺎﻥ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﺣﺎﺿﺮﺍً في ﻛﻞ الحوادث. وﻻ ﻳُﺘﺼﻮَّﺭ ﻋﻠﻢ ﺍﻟﻮﻗﺎﺋﻊ للغائبين ﻋﻨﻬﺎ إلاَّ ﺑﻄﺮﻳﻖ ﺍﻟﺮﻭﺍﻳﺔ شفاهاً ﺃﻭ تحريراً. ﻭﻛﺬﻟﻚ المولودون ﺑﻌﺪ ﺗﻠﻚ الحوادث ﻻ يمكنهم ﺍﻟﻌﻠﻢ بها إلاَّ ﺑﺎﻟﺮﻭﺍﻳﺔ ﻋﻤﻦ ﻗﺒﻠﻬﻢ. فتواريخ الأمم الغابرة والحاضرة، والمذاهب، ﻭﺍﻷﺩﻳﺎﻥ، ﻭﻧﻈﺮﻳﺎﺕ الحكماء ﻭﺍﻟﻔﻼﺳﻔﺔ، وتجارب العلماء واختراعاتهم، ﻫﻞ ﻭﺻﻠﺖ ﺇﻟﻴﻨﺎ إلاَّ ﺑﻄﺮﻳﻖ ﺍﻟﻨﻘﻞ ﻭﺍﻟﺮﻭﺍﻳﺔ؟ بل ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺃﻳﻀﺎً ﻣﻨﻘﻮﻝ ﺑﺎﻟﺮﻭﺍﻳﺔ، ﻟﻜﻦ ﻫﻨﺎﻙ ﻓﺮﻗﺎً ﺑﻴﻨﻪ وبين الحديث، ﻫﻮ ﺃﻥ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﻣﻨﻘﻮﻝ ﺑﺎﻟﺘﻮﺍﺗﺮ، والحديث ﻣﻨﻘﻮﻝ ﺑﺮﻭﺍﻳﺔ ﺭﺟﺎﻝ ﻣﻌﺪﻭﺩﻳﻦ، ﻟﻜﻨﻬﻢ ﻟﻴﺴﻮﺍ مجاهيل ﺑﻞ ﻫﻢ ﻣـﺸﻬﻮﺭﻭﻥ، وأحوالهم ﻣﻌﻠﻮﻣﺔ، ﻭﺃﺳﺎﻧﻴﺪﻫﻢ محفوظة. ﻭﻫﺬﺍ ﺍﻟﻔﺮﻕ ﻳﻘﺘﻀﻲ ﺍﻟﺘﻔﺎﻭﺕ في ﺩﺭﺟﺎﺕ اليقين ﻭﺍﻟﻮﺛﻮﻕ، ﻻ في ﻧﻔﺲ ﺍﻟﻘﺒﻮﻝ ﻭﺍﻻﻋﺘﺒﺎﺭ.
ﻭﻫﺬﺍ ﺍﻟﻔﺮﻕ مُسَلم به ﻋﻨﺪ ﻛﻞ ﻣﺴﻠﻢ، ﻻ ﻳﻘﻮﻝ ﺃﺣﺪ ﻣﻨﻬﻢ بأنهما ﻣﺘﺴﺎﻭﻳﺎﻥ في ﻛﻞ ﺟﻬﺔ، وإلاَّ لما ﻛﺎﻧﺖ ﺍﻷﺣﺎﺩﻳﺚ ﺃﺧﺒﺎﺭﺍً، ﻭﺟﺐ ﺃﻥ ﻧﺴﺘﻌﻤﻞ في نقدها وتمييز ﺍﻟﺼﺤﻴﺢ ﻣﻦ غيره - ﺃﺻﻮﻝ ﺍﻟﻨﻘﺪ التي ﻧﺴﺘﻌﻤﻠﻬﺎ في ﺳﺎﺋﺮ ﺍﻟﺮﻭﺍﻳﺎﺕ ﻭﺍﻷﺧﺒﺎﺭ التي ﺗﺒﻠﻐﻨﺎ: فننظر أولاً في ﺣﺎﻝ ﺍﻟﺮﺍﻭﻱ ﺍﻟﺬﻱ سمعنا ﻣﻨﻪ الخبر، ﻫﻞ ﻫﻮ ممن ﻳﻌﻮﻝ ﻋﻠﻰ ﺭﻭﺍﻳﺘﻪ ﺃﻡ ﻻ. ثم ﻧﻨﻈﺮ في ﺣﺎﻝ ﻣﻦ ﺭﻭﻯ ﻋﻨﻪ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺮﺟﻞ.. ﻭﻫﻜﺬﺍ إلى ﺃﻥ ﺗﻨﺘﻬﻲ ﺍﻟﻮﺳﺎﺋﻂ. ثم ﻧﺘﺤﻘﻖ ﻫﻞ ﺍﻟﺮﺍﻭﻱ ﺍﻷﻋﻠﻰ ﻛﺎﻥ ﺣﺎﺿﺮﺍً ﺍﻟﻮﺍﻗﻌﺔ ﺃﻡ ﻻ، ﻭﻫﻞ ﻛﺎﻥ ﺑﺈﻣﻜﺎﻧﻪ ﻓﻬﻤﻬﺎ ﻭﺣﻔﻈﻬﺎ؟ ثم ﻧﻨﻈﺮ في الخبر المُروى: ﻫﻞ ﻳﻼﺋﻢ ﺃﺣﻮﺍﻝ ﺍﻟﺮﺟﻞ ﺍﻟﺬﻱ ﻧُﺴﺐ ﺇﻟﻴﻪ، ﻭﻫﻞ يمكن ﻭﻗﻮﻋﻪ في ذلك ﺍﻟﻌﺼﺮ والمحيط، ﺃﻡ ﻻ؟ ﻓﻬﺬﻩ ﺍﻟﻘﻮﺍﻋﺪ ﻭﺃﺷﺒﺎﻫﻬﺎ ﺍﺳﺘﻌﻤﻠﻬﺎ المحدثون في ﻧﻘﺪ ﺍﻷﺣﺎﺩﻳﺚ وسموها ﺃﺻﻮﻝ الحديث، ﻭﺑﺬﻟﻚ ﻣﻴﺰﻭا ﺍﻷﺣﺎﺩﻳﺚ ﺍﻟﺼﺤﻴﺤﺔ ﻣﻦ غيرها (تحقيق معنى السنة وبيان الحاجة إليها 9).
ﻓﻌﻠﻢ ﺃﺻﻮﻝ الحديث ﻋﻠﻢٌ بقوانين ﻳُﻌﺮﻑ به ﺃﺣﻮﺍﻝ ﺍﻟﺴﻨﺪ والمتن ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺍﻟﻘﺒﻮﻝ ﻭﺍﻟﺮﺩ، ﺃﻱ الصحة، ﺃﻭ الحسن، ﺃﻭ الضعف، ﺃﻭ الوضع (تدريب الراوي للسيوطي 1 / 41)، بنوا ذلك على أسس وقواعد من أصول ﻗﺮﺭﻫﺎ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ الكريم ﻭﺍﻟﺴﻨﺔ، التي شكلت المنهج ﺍﻟﻨﻘﺪﻱ الحديثي في ﺍﻟﻘﺒﻮﻝ ﻭﺍﻟﺮﺩ، بغاية ﺣﻔﻆ ﺍﻟﺪﻳﻦ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﺤﺮﻳﻒ ﻭﺍﻟﺘﺒﺪﻳﻞ بحفظ الحديث ﺍﻟﻨﺒﻮﻱ ﻣﻦ الخلط ﻓﻴﻪ، ﺃﻭ ﺍﻟﺪﺱ ﻭﺍﻻﻓﺘﺮﺍﺀ ﻋﻠﻴﻪ.
** ** ** **
علم الجرج وعلم التعديل
علم الجرح والتعديل كانا في البدء متلازمان، ثم انفردا علمان مستقلان: علم الجرح، وهو يرد منهج الموازنات الباطل، وألّف كثيرٌ من الأئمة كتباً مستقلة فيه، خصّصوها لهذا الباب، وهي كثيرة جداً، مثل: كتب الضعفاء للبخاري، والنسائي، والعقيلي، وابن حِبَّان، والجوزجاني، والأزدي، وغيرهم كثيرون ألفوا مؤلفات خاصة بالجرح فقط، باعتباره علماً مستقلاً، وكانوا المرجع والعمدة في هذا الفن. وألف في علم التعديل أئمة كبار مثل الثقات للعجلي، والثقات لابن حبان، وتذكرة الحفاظ للذهبي. وثمة من جمع الثقات والضعفاء معاً، وكتبهم في ذلك كثيرة، غاية من الأهمية، منها: الجرح والتعديل لابن أبي حاتم الرازي، والكمال في أسماء الرجال لعبد الغني المقدسي اقتصر فيه على رجال الكتب الستة، وكان السابق لهذا الاقتصار، وتهذيب الكمال في أسماء الرجال للمِزي، وتهذيب التهذيب، وتقريب التهذيب وكلاهما لابن حجر، وخلاصة تذهيب تهذيب الكمال في أسماء الرجال لأحمد بن عبد الله الخزرجي الأنصاري.
** ** ** **
تعريف الجرح والتعديل
الجرْح لغة: التأثير في البدن بشقٍّ أو قطع، واستعير في المعنويات بمعنى التأثير في الدّين أو الخُلُق بأوصاف يناقضهما (معجم مقاييس اللغة: لابن فارس 196). واصطلاحاً: وصْفُ الراوي بما يقتضي ردَّ روايته، أو تليينه، أو تضعيفه (ضوابط الجرح والتعديل: د عبد العزيز العبد اللطيف 21).
والتعديل لغة: التقويم والتسوية، واستعير في المعنويات بمعنى الثَّناء على الشخص بما يدلُّ على حُسْن طريقته في الدّين والخُلق (معجم مقاييس اللغة: لابن فارس 718، خلاصة الأصيل 6).
واصطلاحاً: وصْف الراوي بما يقتضي قَبولَ روايته.
فعلم الجرح والتعديل هو: علم يبحث في معرفة أحوال الرُّواة من حيثُ القَبولُ والردّ.
وغرضه: الذبُّ عن الشريعة، وصونها وحمايتها، ممَّن يطعن فيها، أو يشوّه سمعتَها. قال عبد الرحمن المعلمي اليماني (ت: 1386 هـ / 1967 م): ﻟﻴﺲ ﻧﻘﺪ ﺍﻟﺮﻭﺍﺓ بالأمر الهين، ﻓﺈﻥﱠ ﺍﻟﻨﺎﻗﺪ ﻻ ﺑﺪ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﻭﺍﺳﻊ ﺍﻻﻃﻼﻉ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﺧﺒﺎﺭ المروية، ﻋﺎﺭﻓﺎً ﺑﺄﺣﻮﺍﻝ ﺍﻟﺮﻭﺍﺓ السابقين، ﻭﻃﺮﻕ ﺍﻟﺮﻭﺍﻳﺔ، خبيراً ﺑﻌﻮﺍﺋﺪ ﺍﻟﺮﻭﺍﺓ ﻭﻣﻘﺎﺻﺪﻫﻢ ﻭﺃﻏﺮﺍﺿﻬﻢ، ﻭﺑﺎﻷﺳﺒﺎﺏ ﺍﻟﺪﺍﻋﻴﺔ إلى ﺍﻟﺘﺴﺎﻫﻞ ﻭﺍﻟﻜﺬﺏ، والمُوقِعة في الخطأ ﻭﺍﻟﻐﻠﻂ، ثم يحتاج إلى ﺃﻥ ﻳﻌﺮﻑ ﺃﺣﻮﺍﻝ ﺍﻟﺮﺍﻭﻱ: متى ﻭُﻟﺪ؟ ﻭﺑﺄﻱ ﺑﻠﺪ؟ ﻭﻛﻴﻒ ﻫﻮ في ﺍﻟﺪﻳﻦ ﻭﺍﻷﻣﺎﻧﺔ ﻭﺍﻟﻌﻘﻞ والمروءة والتحفظ؟ ومتى ﺷﺮﻉ في ﺍﻟﻄﻠﺐ؟ ومتى ﺳﻤﻊ؟ ﻭﻛﻴﻒ ﺳﻤﻊ؟ ﻭﻣﻊ ﻣﻦ ﺳﻤﻊ؟ ﻭﻛﻴﻒ ﻛﺘﺎﺑﻪ؟ ثم ﻳﻌﺮﻑ ﺃﺣﻮﺍﻝ ﺍﻟﺸﻴﻮﺥ ﺍﻟﺬﻳﻦ يحدث ﻋﻨﻬﻢ، ﻭﺑﻠﺪﺍنهم، ﻭﻭﻓﻴﺎتهم، ﻭﺃﻭﻗﺎﺕ تحديثهم، ﻭﻋﺎﺩﺍتهم في ﺍﻟﺘﺤﺪﻳﺚ. ثم ﻳﻌﺮﻑ ﻣﺮﻭﻳﺎﺕ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻋﻨﻬﻢ، ﻭﻳﻌﺮﺽ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻣﺮﻭﻳﺎﺕ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺮﺍﻭﻱ، ويعتبر بها، إلى غير ﺫﻟﻚ مما ﻳﻄﻮﻝ ﺷﺮﺣﻪ. ﻭﻳﻜﻮﻥ ﻣﻊ ﺫﻟﻚ: ﻣﺘﻴﻘﻈﺎً، ﻣﺮﻫﻒ ﺍﻟﻔﻬﻢ، ﺩﻗﻴﻖ ﺍﻟﻔﻄﻨﺔ، ﻣﺎﻟﻜﺎً ﻟﻨﻔﺴﻪ، ﻻ ﻳﺴﺘﻤﻴﻠﻪ الهوى، ﻭﻻ ﻳﺴﺘﻔﺰﻩ ﺍﻟﻐﻀﺐ، ﻭﻻ يستخفه ﺑﺎﺩﺭ ﻇﻦ حتى يستوفي ﺍﻟﻨﻈﺮ، ﻭﻳﺒﻠﻎ المقر، ثم يحسن في ﺣﻜﻤﻪ ﻓﻼ يجاوز ﻭﻻ ﻳﻘﺼﺮ (مقدمة تحقيقه للجرح والتعديل لابن أبي حاتم الرازي 1 / ص).
** ** ** **
نشأة علم الجرح والتعديل وتطوره عبر القرون
يُعتبر أصحاب النبي ﷺ هم أوَّلَ مَن تكلَّم في علوم السُّنة عموماً، وعلم الجرح والتعديل خاصَّة، وإن كان ذلك ليس على (منهج) مكتوب، له أسسه وقواعده، مثل أي علم مستحدث: يبدأ بملاحظات، وبإشارات، ثم يكتمل بصورته المُثلى مع الأيام. فكانوا يتَّخذون الضوابط اللازمة لصيانة حديث رسول الله ﷺ، فيتثبتون فيما يُنقل إليهم، لا يقبلونه إلاَّ بشاهد، وكان أحدُهم يسافر شهراً لسماع حديثه، أو يصْحَبه على مِلْءِ بطنه، حتى يجمعَ ما استطاع من حديثه ﷺ.
وكان أبو بكر الصديق أوَّل مَن فتَّش عن الرجال من الصحابة (تذكرة الحفاظ للذهبي 1 / 2، المدخل للحاكم 167)، وقصتُه مع الجَدَّة في طلب ميراثها مشهورة، عندما جاءتِ إليه تسأله ميراثها، فقال لها: ما لكِ في كتابِ الله تعالى شئ، وما عَلِمتُ لك في سُنَّة نبيّ الله ﷺ شيئاً، فارجِعي حتى أَسأَلَ الناسَ، فسأَل الناسَ، فقال المُغيرةُ بنُ شُعبة: حضَرتُ رسولَ الله ﷺ أَعطاها السُّدس، فقال أبو بكر: هل معك غيرُك؟ فقام محمَّدُ بنُ مَسلَمة الأنصاري، فقال مِثلَ ما قال المُغيرة، فأنفذه لها أبو بكر.
والقصة وردتْ من أكثر من عشرين طريقاً، تنتهي إلى التابعي الثقة قبيصة بن ذؤيب الخزاعي (ت: 86 هـ). قال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وصحَّحها ابن حِبان. لكن الصواب: أنَّ هذه القصة ضعيفة؛ لأنَّ قبيصة لم يدرك أبا بكر على الصحيح، فالقصة مرسلة؛ والمرسل قسم من الضعيف، وقد ضعَّف القصة بهذه العلَّة: عبدُ الحق الإشبيلي، وابن القطَّان، وابن حَزْم في المحلَّى، والمِزي، والعلائي، وابن عبد البر (البدر المنير لابن الملقن 7 / 207).
= ثم كان من بعده عمر بن الخطاب، فعلي بن أبي طالب (تذكرة الحفاظ: للذهبي 1/ 6، والمدخل: للحاكم 64) وهلمَّ جرًّاً، ممَّا يدلُّ على أنَّ التوقي في رواية الحديث، والتفتيش عن الرجال بدأ مبكراً.
ولمَّا انتشرتِ الفتن، وظهر أصحاب الأهواء، جَرَح بعضٌ من صغار الصحابة عدداً من الرواة، فكان لعبد الله بن عباس كلامٌ في الرجال. ففي حديث مجاهد بن جبر المكي (ت: 104 هـ)، قال: جاء التابعي الفقيه بشير بن كعب العدوي (ت: 119 هـ) إلى ابن عباس، فجعل يُحدّث، ويقول: قال رسول الله ﷺ قال رسولُ الله ﷺ، فجعل ابن عبَّاس لا يأذن لحديثه، ولا ينظر إليه، فقال بشير: يا ابن عبَّاس، ما لي لا أراك تسمع لحديثي؟ أحدّثك عن رسول الله ﷺ ولا تسمع! فقال ابن عباس: إنَّا كنَّا مرة إذا سمعْنا رجلاً يقول: قال رسول الله ﷺ ابتدرتْه أبصارُنا، وأصغَيْنا إليه بآذاننا، فلمَّا ركب الناس الصعب والذلول؛ لم نأخذْ من الناس إلاَّ ما نعرِف (صحيح مسلم، المقدمة 13)، ولا يأذن: أي لا يستمع ولا يصغي، ومنه سُمّيت الأذن. وأصل الصعب والذلول كلاهما في الإبل، فالصعب: هو العسر المرغوب عنه. والذلول: السهل الطيب المحبوب المرغوب فيه. يعني: سلك الناس كل مسلك مما يحمد ويذم.
قال التابعي الكبير محمد بن سيرين (ت: 110 هـ): لم يكونوا يسألون عن الإسناد،
فلمَّا وقعتِ الفتنة؛ قالوا: سمُّوا لنا رجالكم، فيُنظر إلى أهل السُّنة، فيؤخذ حديثُهم، وينظر إلى أهل البدع، فلا يُؤخذ حديثهم (صحيح مسلم، المقدمة 15).
وقال ابنُ حِبَّان (ت: 354 هـ): ثم أخذ مسلكَهم، واستنَّ بسُنتهم، واهتدى بهديهم فيما استنُّوا من التيقظ من الروايات جماعةٌ من أهل المدينة من سادات التابعين، فجدُّوا في حِفْظ السُّنن، والرحلة فيها، والتفتيش عنها، والتفقُّه فيها، ولَزِموا الدّين، ودعوة المسلمين. ثم أخذ عنهم العِلم أتباع التابعين، أعلاهم همة: الزهري. ثم أَخَذ عنهم أتباع أتباع التابعين، وهم جماعةٌ من أئمة المسلمين، والفقهاء في الدين، ومن أشدهم انتقاء للسنن، وأكثرهم مواظبة عليها، ثلاثة أنفس: مالك، والثوري، وشُعْبة. ثم أخذ عن هؤلاء بعدهم الرسم في الحديث، والتنقير عن الرجال، والتفتيش عن الضعفاء، والبحْث عن أسباب النقل جماعة، منهم: عبد الله بن المبارك، ويحيى بن سعيد القطَّان، ووكيع بن الجرَّاح، وعبد الرحمن بن مهدي، ومحمد بن إدريس المطلبي الشافعي، في جماعة معهم، إلاَّ أنَّ من أكثرهم تنقيراً عن شأن المحدّثين، وأتركهم للضعفاء والمتروكين، حتى جعلوا هذا الشأنَ صناعةً لهم لم يتعدوها إلى غيرها، مع لزوم الدّين والورع الشديد، والتفقه في السُّنن، رجلان: يحيى بن سعيد القطَّان، وعبد الرحمن بن مهدي. ثم أُخِذ عن هؤلاء مسلكُ الحديث والاختبار، وانتقاء الرجال في الآثار، حتى رحلوا في جمْع السنن إلى الأمصار، وفتَّشوا المدن والأقطار، وأطلقوا على المتروكين الجَرْح، وعلى الضعفاء القدْح، وبيَّنوا كيفية أحوال الثقات والمدلّسين، والأئمَّة والمتروكين، حتى صاروا يُقتدَى بهم في الآثار، وأئمَّةً يَسلك مسلكَهم في الأخبار جماعةٌ، منهم: أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن عبد الله المديني، وأبو بكر بن أبي شَيْبة، وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي، وعُبيد الله بن عمر القواريري، وزهير بن حرب، وخيثمة، في جماعة من أقرانهم، إلاَّ أنَّ من أورعِهم في الدّين، وأكثرهم تفتيشاً على المتروكين، وألْزمهم لهذه الصناعة على دائم الأوقات منهم كان أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني. ثم أخذ عن هؤلاء مسلكَ الانتقاد في الأخبار، وانتقاء الرجال في الآثار - جماعةٌ، منهم: محمد بن يحيى الذهلي النيسابوري، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، وأبو زُرْعة عُبَيد الله بن عبد الكريم بن يزيد الرازي، ومحمد بن إسماعيل الجُعْفي البخاري، ومسلم بن الحجَّاج النيسابوري، وأبو داود سليمان بن الأشعث السِّجْستاني في جماعة من أقرانهم، أمعنوا في الحِفْظ، وأكثروا في الكتابة، وأفْرَطوا في الرحلة، وواظبوا على السُّنة والمذاكرة، والتصنيف والمدارسة، حتى أخذ عنهم مَن نشأ بعدَهم من شيوخنا هذا المذهب، وسَلَكوا هذا المسلك، حتى إنَّ أحدهم لو سُئل عن عدد الأحرف في السُّنن لكلّ سُنَّة منها، عدَّها عدًّاً، ولو زِيد فيها ألف راو، لأخرجها طوعاً، ولأظهرها ديانة، ولولاهم لدرستِ الآثار، واضْمَحَلَّت الأخبار، وعلا أهلُ الضلالة والهوى، وارتفع أهلُ البدع والعمى، فهُم لأهل البدع قامعون، بالسُّنن شأنَهم دامغون (المجروحين لابن حبان 1 / 38- 58).
** ** ** **
الطعن في علماء الجرح والتعديل وقواعدهم في نقد الحديث
بعض المغرضين يطعنون في علماء الجرح والتعديل وفي أحكامهم على رواة الحديث النبوي، بدعوى أن قواعدهم في الجرح والتعديل تقوم على اجتهادات وأهواء شخصية، ويستدلون على ذلك بأن هؤلاء العلماء كانوا يطلقون لقب "الصحابي" على أي شخص لمجرد أنه لاقى النبي ﷺ ولو ساعة واحدة، ولو على سبيل الظن، كما أنهم أخرجوا الصحابة من دائرة نقدهم، فلم يطبق عليهم معيار تجريح الرواة لمعرفة مدى عدالتهم وضبطهم، كما أن هؤلاء العلماء قد وقعوا تحت وطأة الخلاف المذهبي الذي ترتب عليه أن من يعدله بعضهم قد يجرحه آخرون والعكس حتى عبر الذهبي عن هذا الاختلاف بقوله: "لم يجتمع اثنان من علماء هذا الشأن على توثيق ضعيف ولا تضعيف ثقة"، ثم إن بعض المحدثين يرفض حديث المبتدع مطلقاً كالخارجي والمعتزلي في حين يقبل بعضهم روايته في الأحاديث التي لا تتصل ببدعته، كما أن سمة التشدد والتزمت التي حكمت منهج بعض نقاد الحديث امتدت حتى رفضت بعض الأحاديث؛ لأن أصحابها أخذ عليهم هنات (بشرية)، فنشأ عن ذلك اختلاف كبير في الحكم على الأشخاص لاسيما المستور منهم. وهذا يؤدي إلى الطعن في الرواة أنفسهم، ويشكك
في منهج إثبات السنة الصحيحة.
والجواب على ذلك:
أولاً - تعريف علماء الجرح والتعديل للصحابي، والطرق التي وضعوها لإثبات الصحبة:
مصطلح الصحبة في اللغة لا يشترط طول الملازمة، بل يشتمل مطلق الملازمة، طالت أو قصرت.
والصحابة في الاصطلاح: هم كل من جالس النبي ﷺ ولو ساعة، وسمع منه ولو كلمة فما فوقها، أو شاهد منه ﷺ أمراً يعيه، ولم يكن من المنافقين الذين اتصل نفاقهم، واشتهر حتى ماتوا على ذلك (الإحكام في أصول الأحكام 5 / 86). والتعريفات التي وضعها العلماء للصحابة كثيرة، والمختار المعتمد هو ما قرره الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت: 852 هـ) بقوله: وأصح ما وقفت عليه من ذلك أن الصحابي من لقي النبي ﷺ مؤمناً به، ومات على الإسلام، فيدخل فيمن لقيه: من طالت مجالسته له أو قصرت، ومن روى عنه أو لم يرو، ومن غزا معه أو لم يغز، ومن رآه رؤية ولو لم يجالسه، ومن لم يره لعارض كالعمى. ويخرج بقيد الإيمان من لقيه كافراً، ولو أسلم بعد ذلك إذا لم يجتمع به مرة أخرى، ويخرج من لقيه مؤمناً بغيره، كمن لقيه من مؤمني أهل الكتاب قبل البعثة، ومن لقيه مؤمناً به ثم ارتد، ومات على ردته، ووجد من ذلك عدد يسير: كعبيد الله بن جحش الذي كان زوج أم حبيبة، فإنه أسلم معها، وهاجر إلى الحبشة، فتنصر ومات على نصرانيته. ويدخل فيه من ارتد وعاد إلى الإسلام قبل أن يموت، سواء اجتمع به ﷺ مرة أخرى أم لا، وهذا هو الصحيح المعتمد. وهذا التعريف مبني على الأصح المختار عند المحققين كالبخاري وشيخه أحمد بن حنبل ومن تبعهما (الإصابة في تمييز الصحابة 1 / 6). وإلى ذلك ذهب جمهور الأصوليين، كالآمدي في "الإحكام"، وابن عبد الشكور في "فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت"، والزركشي في "البحر المحيط"، والشوكاني في "إرشاد الفحول" وغيرهم. قال السخاوي: والعمل عليه عند المحدثين والأصوليين (فتح المغيث 3 / 85). والغرض من التعميم في تعريف "الصحابي" النظر إلى فضل الصحبة، وشرف منزلة النبي ﷺ، وبركة رؤيته ﷺ.

الطريق إلى معرفة الصحابي:
1 التواتر الذي يقطع به لكثرة الناقلين أن فلاناً من الصحابة؛ كأبي بكر وعمر وبقية العشرة المبشرين بالجنة، وجمع آخر من الصحابة.
2 الاستفاضة والاشتهار أن فلاناً من الصحابة، والاستفاضة أقل من التواتر. 3 شهادة صاحب معلوم الصحبة؛ كأن يقول: فلان له صحبة؛ كما حدث لحممة الدوسي، وقد غزا أصبهان، فمات هناك، فشهد له أبو موسى الأشعري بالصحبة والشهادة، على الرغم من أن حممة هذا لم يُرو عنه شيء من الحديث.
4 أن يشهد له تابعي ثقة بأنه صحابي، ومن هذا الضرب كثير، ويندرج فيهم من لم يرو عنه إلاَّ راو واحد.
5 أن يخبر عن نفسه بأنه صحابي، وقد وضع أهل الحديث لذلك ضوابط أهمها:
- ألاَّ يرد ذلك عليه أحد من الصحابة.
- أن يكون معلوم العدالة، وبه جزم أهل الحديث.
- أن يكون معاصراً للنبي ﷺ، وانتهى معاصروه بمضي مائة وعشر سنين من الهجرة؛ ففي حديث ابن عمر، مرفوعاً، قال: أرأيتكم ليلتكم هذه؟ فإن رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد (صحيح البخاري 116، 601، صحيح مسلم 2537). وفي حديث أبي سعيد الخدري، أن رسول الله ﷺ قال: لا تأتي مائة سنة، وعلى الأرض نفس منفوسة اليوم (صحيح مسلم 2539).
قال الآمدي (ت: 631 هـ): لو قال من عاصره: أنا صحابي مع إسلامه وعدالته فالظاهر صدقه (عمدة القاري 16 / 170).
وقال ابن كثير (ت: 774 هـ): أما لو قال: سمعت رسول الله ﷺ قال كذا، أو رأيته
فعل كذا، أو كنا عند رسول الله ﷺ ونحو هذا، فهذا مقبول لا محالة إذا صح السند إليه، وكان ممن عاصره عليه السلام (الباعث الحثيث 191).
وقيد المعاصرة هذا دعا المحدثين إلى التأليف في آخر الصحابة وفاة حسب الأماكن والبقاع أو بإطلاق، ومن هنا لم يقبلوا دعوى من ادعى الصحبة بعد الغاية التي حددها رسول الله ﷺ مائة وعشراً. وننبه أن القرآن الكريم لم يذكر سوى صحابي واحد باسمه هو زيد بن حارثة، وأضمر بعضاً في مواطن، كقوله تعالى: ﴿ إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا﴾ ـ التوبة ٤٠ـ. أمَّا ماعدا ذلك المذكور في النص القرآني، والمتواتر، والمشهور يجب أن يكون الإسناد الذي يثبت له الصحبة صحيحاً، وإلاَّ فلا يعتد به.
وهذا يعني أن علماء الجرح والتعديل لم يتساهلوا أبداً في إطلاق لقب "الصحابي" على أحد كما يتوهم أولئك المدعون، وكانت قواعدهم شديدة الصرامة في إثبات الصحبة لأحد.
كما لم يطلقوا لقب "الصحابي" على أحد على سبيل الظن، بل كان لهم من الوسائل التي تثبت الصحبة على سبيل القطع الذي لا مرية فيه.
ثانياً: الاتفاق على عدالة جميع الصحابة بشهادة القرآن الكريم والسنة، ولم يخالف في ذلك إلاَّ شذوذ من المبتدعة (الإصابة في تمييز الصحابة 1 / 10)، قال ابن حِبان (ت: 354 هـ): وإنما قبلنا أخبار رسول الله ﷺ وما رووه عن النبي ﷺ وإن لم يبينوا السماع في كل ما رووا، وبيقين نعلم أن أحدهم ربما سمع الخبر من صحابي آخر، ورواه عن النبي ﷺ من غير ذكر ذلك الذي سمعه منه؛ لأنهم - رضي الله عنهم - أجمعين أئمة سادة قادة عدول، نزه الله أقدار أصحاب رسول الله ﷺ أن يزلق بهم الوهن، وفي قوله ﷺ: «ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب» أعظم دليل على أن الصحابة كلهم عدول، ليس فيهم مجروح ولا ضعيف؛ إذ لو كان فيهم مجروح أو ضعيف، أو كان فيهم أحد غير عدل لاستثنى في قوله ﷺ: ألا ليبلغ فلان وفلان منكم الغائب، فلما أجملهم في الذكر بالأمر بالتبليغ من بعدهم دل ذلك على أنهم كلهم عدول، وكفى بمن عدله رسول الله ﷺ شرفاً (مقدمة صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان 1 / 162).
وقال ابن الأنباري (ت: 328 هـ): وليس المراد بعدالتهم ثبوت العصمة لهم، واستحالة المعصية منهم، وإنما المراد قبول رواياتهم من غير تكلف بحث عن أسباب العدالة وطلب التزكية، إلاَّ أن يثبت ارتكاب قادح، ولم يثبت والحمد لله (فتح المغيث شرح ألفية الحديث 3 / 115).
وإذا كان بعض الصحابة - رضي الله عنهم - قد صدرت عنهم سيئات فإنها تغمر في بحار حسناتهم ولا يلتفت إليها؛ لأن تعديل القرآن والسنة لهم يجب ما صدر عنهم من سيئات، وأن الله عز وجل اختار لصحبة نبيه ﷺ أفاضل الناس، ولا يعقل أن يسخر أناساً غير عدول لحمل الرسالة قرآناً وسنة.
ولكل ذلك كانوا فوق التجريح، والسبب الرئيس في أن علماء الجرح والتعديل لم ينقدوهم أو يجرحوهم.
** ** ** **
ثانياً - عدالة الرواة وضبطهم
وأهل الحديث عندما تكلَّموا في الرجال؛ بحثوا في صِفتين: العدالة. والضبط. قال يحيى بن معين (ت: 233 هـ): آلة العدالة في الحديث: الصّدْق، والشهرة بالطلب، وترْك البدع، واجتناب الكبائر (الكفاية 101). والقول في هذا مقالة الإمام الذهبي (ت 748 هـ): ما كلُّ أحد فيه بِدعة، أو هفوة، أو ذنب، يُقدح فيه بما يوهن حديثه، وليس من شرْط الثقة أن يكون معصوماً (ميزان الاعتدال 3 / 141)، متابعاً في ذلك سعيد بن المسيب (ت: 94 هـ): ليس من شريف، ولا من عالِم، ولا ذي سلطان إلاَّ وفيه عيْب ولا بدّ، ولكن من الناس لا تُذكر عيوبه، مَن كان فضله أكثرَ من نقصه، وُهِب نقصه لفضله (الكفاية 79)، وقول الإمام الشافعي (ت: 204 هـ): فإذا كان الأغلب الطاعة فهو المُعَدَّل، وإذا كان الأغلب المعصية فهو المُجَرَّح (الكفاية 79). فإذا كان الأئمَّة لم يُسقطوا عدالةَ الراوي بسبب أغلبية حاله على الطاعات، مع علمهم بتقصير كلّ واحد في هذا الجانب، وإقرارهم في الوقوع على بعضِ المعاصي في الجانب الآخر؛ إذ لا معصوم غير الرسول ﷺ، فعدمُ سقوط عدالة مَن وَقَع في المعاصي وهو متأوِّل من باب الأوْلى؛ لأنَّ وقوعه في المحرَّم ليس من قبيل العناد واتباع الشهوات؛ بل بسبب خطئه في الاجتهاد. قال أبو حاتم الرازي (ت: 277 هـ): جاريتُ أحمد بن حنبل (ت: 241 هـ) من شرب النبيذ من محدِّثي الكوفة، وسميت له عدداً منهم، فقال: هذه زلاَّت لهم، ولا تسقط بزلاتهم عدالتهم (الجرح والتعديل 2 / 26).
أما الضبط فهو نوعان: ضبط صدر، وضبط كتاب. وقيَّد ابن حجر (ت: 852 هـ) الضبط بـ "التام" إشارةً إلى الرتبة العُليا من ذلك (نزهة النظر 38).
** ** ** **
شروط المُعَدِّل والجارِح
قال ابن حجر (ت: 852 هـ): وينبغي ألاَّ يُقبل الجرح والتعديل إلاَّ مِن عَدْل متيقّظ، فلا يُقبل جرْح مَن أفرط فيه؛ فجرح بما لا يقتضي ردَّ حديث المحدِّث، كما لا تُقبل تزكيةُ مَن أخذ بمجرَّد الظاهر؛ فأطلق التزكية. وليحذر المتكلّم في هذا الفن من التساهُل في الجرْح والتعديل، فإنَّه إن عدَّل أحداً بغير ثبت، كان كالمُثبت حكماً ليس بثابت، فيُخشى عليه أن يدخل في زُمرة مَن روى حديثاً، وهو يظنُّ أنه كذب، وإنْ جرح بغير تحرُّز، أقدم على الطعْن في مسلم بريء من ذلك، ووسَمه بميسم سوء يبقى عليه عارُه أبداً. والآفة تدخل في هذا تارةً من الهوى والغَرَض الفاسد، وكلام المتقدّمين سالمٌ من هذا غالباً، وتارةً من المخالفة في العقائد، وهو موجودٌ كثيراً قديماً وحديثاً، ولا ينبغي إطلاقُ الجرح بذلك. وقال: إنْ صَدَر الجرح من غير عارِف بأسبابه، لم يُعتبر به (نزهة النظر 113 - 155).
ومن البلايا التي نعيشها في هذا الزمان ما افتتنَ به بعضُ الناس من التكبُّر، والإعجاب بالنفس، والاعتداد بالرأي، وعدم رفْع الرأس لأقوال كِبار العلماء، حتى أدى بهم ذلك إلى العدول عن الطُّرق الشرعية إلى الطرق البِدعية؛ وذلك إمَّا: لجهلٍ، أو عجزٍ، أو غرضٍ فاسد. قال محمد بن صالح العثيمين (ت: 1347 هـ / 2001م): مِن الفِتن ما يَرِد أو ما يعرض لبعض طلبة العلم من الإعجاب بالنفس، والاعتداد بالرأي، واحتقار الآخرين، وعدم رفْع الرأس لأقوالهم، حتى يتصوَّر الإنسان نفسه كأنَّه عالِم الأمة، وجهبذ الأمة، وهذا الداء - أعني: داء العجب - من أشدِّ ما يكون ضرراً على المرء، لا سيَّما طلبة العلم؛ لأنَّ الرجل إذا أُعجب برأيه احتقر الآخرين، ولم يرفعْ لرأيهم رأساً، ولا يرى لمخالفتهم بأساً، وتجده يمشي على الأرْض، فكأنَّه يمشي على الهواء من شدَّة العُجب عنده، حتى إنَّ الرجل ليذهب إلى القوم الذي ليس لهم حَظٌّ من النظر، فيأخذ بهم، ويحتقر الآخرين الذين عندَهم من العلم والنظر ما ليس عندَه؛ لأنَّه اطلع على حديث لم يعلم أنَّ له معارِضاً، لم يعلم أنَّه ضعيف، لم يعلم أنَّ له مخصِّصاً، فيأخذ به، ولَيْتَهُ يأخذ به ويَسلَم الآخرون من شرّه، يأخذ به، ثم تراه يُضَلِّل مَن هو أفضل منه في العِلم والدين. وهذا داءٌ عظيم يوجب لمن اتصف به - أن يَعْمَى عن الحق، يَرى الباطل حقاً، والحق باطلاً. ولقد سمعتُ عن بعض الصغار في العلم أنَّه عورض مرَّة من المرات بقول الإمام أحمد بن حنبل فقيل له: أنت تقول كذا، وأحمد بن حنبل يقول كذا. فقال: ومَن أحمد بن حنبل؟! أحمد بن حنبل رجل، وأنا رجل! فكأنَّ الرجولة عندَه لا تكون إلاَّ بآلة الذَّكَر ولِحْيَةِ الرجل، الرجولة في الدّين تحتاج إلى علم وتقوى، فَلْنفرِض أنك رجل، وأحمد بن حنبل رجل، لكن هل أنت في مصافّ الإمام أحمد في العلم، أو في الزُّهْد، أو في التقوى؟! اتقّ الله يا أخي في نفسك، واعرِفْ قدرَ نفسك، ومَن أُعجب بنفسه سَقَط من أعين الناس، وهذه من الفِتن العظيمة. ولهذا؛ تجد الرجل يتحدَّث معك وهو شامخ مرتفع، لا يلين ولا يتبيَّن لديه الحقّ، وذلك بسبب الإعجاب بالنفس، وهو مِن الفتن التي نسأل الله - عزَّ وجلَّ - أن يجعلنا ممَّن عَرَف قدرَ نفسه، وأنزلها في منزلته.
http://www.djelfa.info/vb/images/icons/b9.gif
وهذا هو المطلوب من المجرح قبل أن يجرح أحداً، فالجرح ليس جزافاً تمليه الأهواء؛ بل هو موضع مشرف لا يعلوه إلاَّ الأماهر، ولا يدركه إلاَّ الأقلون، فنقلة الأخبار كثيرون يعدون بالألوف، أمَّا النقاد الحاذقون فقليلون لا يتعدون أصابع اليد في كل طبقة.
وهؤلاء النقاد قاموا بهذا الواجب حسبة لله تعالى، فلم يحابوا فيه أحداً، ولو كان من
أقربائهم وعشيرتهم، أو من الصالحين ممن لا معرفة لهم بالرواية، لذلك قدحوا من يستحق القدح. قال زيد بن أبي أنيسة: لا تأخذوا عن أخي. يعني: يحيى بن أبي أنيسة (صحيح مسلم بشرح النووي، باب: الإسناد من الدين 1 / 181).
وقال التابعي الكبير أيوب السختياني (ت: 131 هـ): إن لي جاراً - ثم ذكر من فضله - ولو شهد عندي على تمرتين ما رأيت شهادته جائزة (صحيح مسلم بشرح النووي، باب: الإسناد من الدين 1 / 177). فهذا جار له، فضله عليه عظيم، لكن لا يأخذ عنه. وقال أبو داود صاحب السنن: ابني عبد الله كذاب (سير أعلام النبلاء 13 / 228).
فهم لم يحابوا أحداً، ولم يظلموا أحداً، ولذلك لم يكن علم الجرح والتعديل مضطرباً؛ لأنه ما قام على اجتهادات شخصية، وإنما كانت اجتهاداتهم علماً مجرداً واسعاً، واطلاعاً كبيراً دون محاباة أو مجاملة. وهم يستعملون سائر شروط النقد، لكنهم يتفاوتون في تطبيقها بين متشدد، ومعتدل متوسط، ومتساهل، قال الإمام الذهبي (ت: 748 هـ): اعلم هداك الله: أن الذين قبل الناس قولهم في الجرح والتعديل على ثلاثة أقسام:
1. قسم منهم متعنت في الجرح، متثبت في التعديل، يغمز الراوي بالغلطتين والثلاث، ويلين بذلك حديثه، فهذا إذا وثق شخصاً فعض على قوله بناجذيك، وتمسك بتوثيقه، وإذا ضعف رجلاً فانظر هل وافقه غيره على تضعيفه، فإن وافقه ولم يوثق ذاك أحد من الحذاق فهو ضعيف، وإن وثقه أحد فهذا الذي قالوا فيه: لا يقبل تجريحه إلاَّ مفسراً، يعني: لا يكفي أن يقول فيه ابن معين مثلاً: هو ضعيف، ولم يوضح سبب ضعفه وغيره قد وثقه، فمثل هذا يتوقف في تصحيح حديثه، وهو إلى الحسن أقرب، ومن ذلك: أبو حاتم والجوزجاني.
2. قسم في مقابلة هؤلاء، كأبي عيسى الترمذي، وأبي عبد الله الحاكم، وأبي بكر البيهقي، وهم متساهلون.
3. قسم معتدل منصف؛ كالبخاري، وأحمد بن حنبل، وأبي زرعة، وابن عدي.
وكل هذا لا يؤدي إلى تعذر الحكم على الرجال. فهم، إن اختلفوا في بعض الأسباب،
فقد اتفقوا في كثير منها، ولا يؤديان إلاَّ إلى التحوط البالغ في الرواية، وهو أمر لا يضر (أربع رسائل في علوم الحديث، ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل للإمام الذهبي 171).
هذا إذا كان الخلاف المذهبي بين أهل السنة أنفسهم، أمَّا إذا كان بين أهل السنة وغيرهم فالاختلاف المذهبي العقائدي لم يكن حائلاً دون قبول رواية الراوي متى تحقق صدقه وكفايته للرواية. قال الحاكم النيسابوري (ت: 405 هـ): وأصحاب الأهواء فإن رواياتهم عند أكثر أهل الحديث مقبولة إذا كانوا فيها صادقين، فلا يرد كل مكفر ببدعته؛ لأن كل طائفة تدعي أن مخالفيها مبتدعة، وقد تبالغ فتكفر مخالفيها، فلو أخذ ذلك على الإطلاق لاستلزم تكفير جميع الطوائف. فالمعتمد أن الذي ترد روايته من أنكر أمراً متواتراً من الشرع، معلوماً من الدين بالضرورة، وكذا من اعتقد عكسه، فأمَّا من لم يكن بهذه الصفة، وانضم إلى ذلك ضبطه لما يرويه، مع ورعه وتقواه فلا مانع من قبوله (المدخل إلى معرفة كتاب الإكليل 119، الوسيط في علوم ومصطلح الحديث: محمد أبو شهبة 94).
ومن هذا يظهر أن أهل السنة قد حملتهم الأمانة العلمية على توثيق من يستحق، وعلى تضعيف من يستحق، حتى ولو كان مخالفاً أو موافقا لمذهبهم.
وأما ما قاله الذهبي وهو "لم يجتمع اثنان من علماء هذا الشأن على توثيق ضعيف، ولا تضعيف ثقة". فهو استدلال في غير موضعه، وفهم على غير مراده، فإن الذهبي بعد أن تكلم عن مسائل في الجرح والتعديل، واختلاف الأنظار في ذلك قال: " ولكن هذا الدين مؤيد محفوظ من الله تعالى، لم يجتمع علماؤه على ضلالة لا عمداً ولا خطأ، فلا يجتمع اثنان على توثيق ضعيف ولا على تضعيف ثقة، وإنما يقع اختلافهم في مراتب القوة، أو مراتب الضعف، والحاكم منهم يتكلم بحسب اجتهاده وقوة معارفه، فإن ندر خطؤه في نقده، فله أجر واحد، والله الموفق (المتكلمون في الرجال: السخاوي 131).
فمراده أن أئمة النقد يحتاطون، لم يقع منهم اختلاف في توثيق رجل اشتهر حاله بالضعف والسقوط، ولا في قدح رجل عرف أمره بالصدق والتثبت، وإنما يختلفون فيمن لم يكن مشهوراً بالضعف أو التثبت، فلا يذكرون الرجل إلاَّ بما عُلم من حاله وواقعه الظاهر والمعروف عند من عاصره وشاهده.
فلا يختلف اثنان على توثيق راوي ثقة معروف بذلك، ولا يختلف اثنان في جرح من هو معروف بذلك، وإنما الاختلاف وقع فيمن هو متوسط الحال. فالخلاف المذهبي لا علاقة له بنقد الرواة.
فهم نصوا على أسباب الجرح في مؤلفاتهم، فنستطيع الحكم بناء عليها، واشترطوا معرفة الجارح بمدلولات الألفاظ لاسيما الألفاظ العرفية التي تختلف باختلاف الناس، وتكون في بعض الأزمنة مدحاً وفي بعضها ذماً (قاعدة في الجرح والتعديل: السبكي 46)، وهم لم يردوا حديثاً لأن راويه مزح مزحة كما ادعى هؤلاء، وإنما يردون الحديث لما يستحق أن يرد من أجله فقط. فأسقطوا كل وسيلة غير معتبرة أو قرينة غير قادحة، واعتبروا ذلك من الأمور المردودة في قواعدهم، فإذا كان العلماء قد أسقطوا كل علة غير قادحة واعتبروها مردودة، فهل يقبلون المزاح باعتباره علة قادحة في الراوي يرد حديثه بسببها؟! إنَّ هذا مما لا يقبله العقل السليم والفطرة الجيدة. قال ابن دقيق العيد (ت: 702 هـ): أعراض المسلمين حفرة من حفر النار وقف على شفيرها طائفتان: المحدثون والحكام (الاقتراح: ابن دقيق العيد 330).
وهذه القاعدة وجدت سبيلها في الواقع العملي؛ فلم يكن العلماء يعتمدون جرحاً لا يستند على أصول شرعية، بل يردونه على قائله كائناً من كان، وأوصدوا الباب أمام كل جرح غير قادح واعتبروه مردوداً، وهذا دليل على قوة منهجهم وسلامة مسلكهم في التجريح.
** ** ** **
تلازم الإسناد والمتن
ادَّعى البعض ﺃﻥﱠ ﺍﻟﻌﻮﺍﻣﻞ ﺍﻟﺸﻜﻠﻴﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﺍﻟﻌﺍﻣﻞ الحاسم ﻟﻠﺤﻜﻢ ﻋﻠﻰ ﺻﺤﺔ الحديث، وأنَّها تُختبر بحسب ﺷﻜﻠﻬﺎ الخارجي ﻓﻘﻂ، وبالتالي فالحكم ﺍﻟﺬﻱ يمس ﻗﻴﻤﺔ مضمونها - ﺃﻱ متونها - ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﺎﻟﻘﺮﺍﺭ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻌﻄﻴﻪ نقاد الحديث ﺣﻮﻝ ﺗﺼﺤﻴﺢ ﺳﻠﺴﻠﺔ ﺍﻟﺮﻭﺍﺓ، ﻭﻣﻦ ثمَّ ﻓﺈﻧﻪ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﻨﺘﺼﺮ ﺇﺳﻨﺎﺩٌ في ﺍﻣﺘﺤﺎﻥ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻨﻘﺪ ﺍﻟﺸﻜﻠﻲ، ﻓﺈﻥَّ الحديث يعتبر ﺻﺤﻴﺤﺎً حتى ﻭﺇﻥْ ﻛﺎﻥ المتن ﺗﻀﻤﻦ ﺍﺳﺘﺤﺎﻟﺔ ﻣﻨﻄﻘﻴﺔ ﺃﻭ تاريخية؛ وﻻ ﻳﺴﺘﻨﺪ ﻋﻠﻰ ﺩﻟﻴﻞ ﻋﻠﻤﻲ ﺃﻭ ﺣﺠﺔ ﻣﻨﻄﻘﻴﺔ ﺃﻭ ﻭﺍﻗﻊ تاريخي ﻭﺛﻴﻖ.
وهذه الدعوى تولى كبرها عدد من المستشرقين، فقال نيكولاس أغنائدسNicolas P. Aghnides (ت: 1979 م): إن المحدثين تجاهلوا تماماً المحتوى، وأصبح جلُّ اهتمامهم باتصال السند إلى الرسول [ﷺ]، فالحديث الذي سنده متصل يُعتبر صحيحاً (النظريات المحمدية الاقتصادية، وانظر: اهتمام المحدثين بنقد الحديث سنداً ومتناً: د. محمد لقمان السلفي 470)، ﻭﻋﻠﱠﻞ ﺑﻌﻀﻬﻢ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮﺓ المزعومة بما ﻧُﺴﺐ إلى ﺍﻟﻌﻘﻞ العربي ﺃﻭ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﺍﻟﺴﺎﻣﻲ ﻣﻦ ﻭﻗﻮﻑ ﻋﻨﺪ ﺍﻷﺷﻜﺎﻝ ﻭﻋﺪﻡ ﺍﻟﺘﻌﻤﻖ في ﻓﻬﻢ الموضوع (الفكر المنهجي عند المحدثين: د. همام سعيد 106). وتلك مغالطة كبيرة، فعلم الجرح التعديل قام على أصول ثلاثة:
ﺍﻷﺻﻞ ﺍﻷﻭﻝ: ﺍﻋﺘﻤﺎﺩ ﻋﻠﻤﺎﺀ الحديث ﻃﺮﻳﻘﺔ ﻧﻘﺪ المتن في دراستهم ﻟﺮﺟﺎﻝ ﺍﻷﺳﺎﻧﻴﺪ لأن ﺍﻟﻨﻘﺪ الخارجي ﻟﻸﺣﺎﺩﻳﺚ، ﺃﻱ ﻧﻘﺪ ﺍﻷﺳﺎﻧﻴﺪ، ﺍﻟﺬﻱ ﻋﺎﺑﻪ ﺍﻟﻌﺎﺋﺒﻮﻥ وسموه ﺷﻜﻠﻴﺎً، ﻳﺘﺼﻞ اتصالاً وثيقاً ﺑﺎﻟﻨﻘﺪ ﺍﻟﺪﺍﺧﻠﻲ، ﺃﻱ ﻧﻘﺪ المتون. فإثبات ﺛﻘﺔ ﺍﻟﺮﻭﺍﺓ وأمانتهم؛ ﻻ تثبت لمجرد ﻋﺪﺍﻟﺘﻬﻢ ﻭﺻﺪﻗﻬﻢ، ﺑﻞ ﻻ ﺑﺪ ﻣﻦ ﺍﺧﺘﺒﺎﺭ مروياتهم ﺑﻌﺮﺿﻬﺎ ﻋﻠﻰ ﺭﻭﺍﻳﺎﺕ ﺍﻟﺜﻘﺎﺕ المعروفين ﺑﺎﻟﻀﺒﻂ ﻭﺍﻹﺗﻘﺎﻥ، ﻭﻋﻠﻰ ﺃﺻﻮﻝ ﺍﻟﺪﻳﻦ ﻭﻗﻮﺍﻋﺪﻩ ﻭﻣﻘﺎﺻﺪﻩ، ﻭﻋﻠﻰ ﺻﺮﻳﺢ ﺍﻟﻌﻘﻞ، ﻭﺛﺎﺑﺖ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ، ﻓﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﻣﻮﺍﻓﻘﺎً قبلوه، ﻭﻣﺎ ﻛﺎﻥ مخالفاً ﺭﺩوه. ﻭﻣﻦ ثم كانت المرويات في ﻛﺘﺐ الجرح ﻭﺍﻟﺘﻌﺪﻳﻞ، تندرج في أقسام ثلاثة:
1 ﻧﻔﻲ ﺗﻀﻌﻴﻒ ﺍﻟﺮﻭﺍﺓ ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﻣﺮﻭﻳﺎتهم.
2 ﺗﻀﻌﻴﻒ كثير ﻣﻦ ﺍﻟﺮﻭﺍﺓ ﻣﻦ ﺃﺟﻞ ﻣﺮﻭﻳاتهم.
3 اتهام كثير ﻣﻦ ﺍﻟﺮﻭﺍﺓ ﺑﺎﻟﻮﺿﻊ ﻭﺍﻻﺧﺘﻼﻕ ﻣﻦ ﺃﺟﻞ مروياتهم.
ﻭﻫﺬﺍ ﻳﺆﻛﺪ ﺍﺭﺗﺒﺎﻁ ﻧﻘﺪ ﺍﻟﺴﻨﺪ بالمتن، ﻭﻋﻼﻗﺘﻪ بمرويات ﺍﻟﺮﻭﺍﺓ. فاعتناء المحدثين بالإسناد لم ﻳﻜﻦ ﻟﺬﺍﺗﻪ، ﺑﻞ لمصلحة المتن. قال الإمام ﺍﻟﺸﺎﻓﻌﻲ (ت: 204 هـ): لا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أموراً: أن ﻳﻜﻮﻥ ﻣﻦ ﺣﺪَّﺙ ﺑﻪ ﺛﻘﺔ في ﺩﻳﻨﻪ، ﻣﻌﺮﻭﻓﺎً ﺑﺎﻟﺼﺪﻕ في حديثه، عاقلاً لما يُحدّث به، عالماً بما يُحيل الحديث ﻣﻦ ﺍﻟﻠﻔﻆ، ﻭﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ممن ﻳﺆﺩﻱ الحديث بحروفه ﻛﻤﺎ سمع، ﻻ يحدث ﺑﻪ ﻋﻠﻰ المعنى، ﻷﻧﻪ ﺇﺫﺍ ﺣﺪﺙ ﺑﻪ ﻋﻠﻰ المعنى ﻭﻫﻮ غير عالم بما يُحيل ﻣﻌﻨﺎﻩ لم ﻳﺪﺭ، لعله ﻳﺤﻴﻞﹸ الحلال إلى الحرام، ﻭﺇﺫﺍ ﺃﺩﺍﻩ بحروفه ﻓﻠﻢ يَبْقَ وَجْهٌ يُخاف فيه إحالتُه الحديث. ﺣﺎﻓﻈﺎً ﺇﻥ ﺣﺪَّﺙ ﺑﻪ ﻣﻦ ﺣﻔﻈﻪ، ﺣﺎﻓﻈﺎً ﻟﻜﺘﺎﺑﻪ ﺇﻥ ﺣﺪَّﺙ ﻣﻦ ﻛﺘﺎﺑﻪ، ﺇﺫﺍ ﺷَﺮِﻙ ﺃﻫﻞَ الحفظ في الحديث ﻭﺍﻓﻖ ﺣﺪﻳﺜﻬﻢ، بريَّاً ﻣﻦ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﻣﺪﻟﱢﺴﺎً: يُحَدّث عمن لقي ما لم يسمع منه، ويُحدّث عن النبي ﷺ ما يُحدّث الثقات خلافه عن النبي ﷺ. ويكون هكذا مَنْ فوقه ممن حدَّثه، ومثبَتٌ على مَنْ حدَّث عنه (الرسالة 370)، وقال: من كَثر غلطه من المحدّثين، ولم يكن له أصلُ كتاب صحيح، لم نقبل حديثه (الرسالة 382)، وقال الشاطبي (ت: 790 هـ): قولهم: الإسناد من الدين، لا يعنون به قول المحدّث: حدَّثني فلانٌ عن فلان مجرَّداً، بل يريدون بذلك ما تضمَّنه من معرفة الرجال الذين يُحدّث عنهم، حتى لا يُسْند عن مجهول ولا مُجَرَّح ولا عن مُتَّهَم، ولا عمَّن لا تحصلُ الثقة بروايته، لأنَّ رُوح المسألة أن يغلب على الظن من غير ريبة: أنَّ ﺫﻟﻚ الحديث ﻗﺪ ﻗﺎﻟﻪ النبي ﷺ، ليُعتمَد عليه في الشريعة، وتُسنَد إليه الأحكام (الاعتصام 2 / 15).
ﺍﻷﺻﻞ الثاني: ﻋﺪﻡ ﺍﻟﺘﻼﺯﻡ بين ﺻﺤﺔ ﺍﻟﺴﻨﺪ ﻭﺻﺤﺔ المتن، وﻻ ﺗﻼﺯﻡ بين ﺿﻌﻒ ﺍﻟﺴﻨﺪ ﻭﺿﻌﻒ المتن. ﻓﻘﺪ ﻳﺼﺢ ﺍﻹﺳﻨﺎﺩ ﻭﻻ ﻳﺼﺢ المتن، ﻭﻗﺪ ﻻ ﻳﺼﺢ ﺍﻹﺳﻨﺎﺩ ﻭﻳﺼﺢ المتن ﻣﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺃﺧﺮﻯ. قال ابن كثير (ت: 774 هـ): الحكم بالصحة أو الحسن ﻋﻠﻰ ﺍﻹﺳﻨﺎﺩ ﻻ ﻳﻠﺰﻡ ﻣﻨﻪ الحكم ﺑﺬﻟﻚ ﻋﻠﻰ المتن، ﺇﺫ ﻗﺪ ﻳﻜﻮﻥ ﺷﺎﺫﺍً ﺃﻭ معللاً (اختصار علوم الحديث 41)، وقال ابن الجوزي (ت: 597 هـ): ﻭﻗﺪ ﻳﻜﻮﻥ ﺍﻹﺳﻨﺎﺩ ﻛﻠﻪ ﺛﻘﺎﺕ، ﻭﻳﻜﻮﻥ الحديث ﻣﻮﺿﻮﻋﺎً، ﺃﻭ ﻣﻘﻠﻮﺑﺎً، ﺃﻭ ﻗﺪ ﺟﺮﻯ ﻓﻴﻪ ﺗﺪﻟﻴﺲ؛ ﻭﻫﺬﺍ ﺃﺻﻌﺐ ﺍﻷﺣﻮﺍﻝ، ﻭﻻ ﻳﻌﺮﻑ ﺫﻟﻚ إلاَّ النقاد (الموضوعات 1 / 99).
ﺍﻷﺻﻞ ﺍﻟﺜﺎﻟﺚ: تعلُّق ﺍﻟﻨﻘﺪ ﺍﻟﺪﺍﺧﻠﻲ والخارجي ﺑﻜﻠﻴﺘﻪ بعلم الجرح ﻭﺍﻟﺘﻌﺪﻳﻞ، وعلم ﺍﻟﻌﻠﻞ. ولهذا قال علي بن المديني (ت: 234 هـ): التفقه في معاني الحديث نصف العلم، ومعرفة الرجال نصف العلم (المحدث الفاصل 320).
وﺍﻷﻣﺮ الثاني: ﺣﻘﻖ علم الجرح والتعديل ﺍﻟﺘﻮﺍﺻﻞ بين المذاهب ﺍﻹﺳﻼﻣﻴﺔ المختلفة، مما ﻛﺎﻥ ﻟﻪ كبير أثر في ﺗﺸﻜﻴﻞ ﺍﻟﻌﻘﻞ المسلم، إذ ﻛﺎﻥ بين ﺭﻭﺍﺓ الحديث ﻭﺭﺟﺎﻟﻪ، ﻣﻦ ﺟﻨﺢ ﺑﻪ الهوى، ﺃﻭ تلبس ﺑﺒﺪﻋﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﺒﺪﻉ مما يخالف ﺍﻟﺜﺎﺑﺖ والمحكم ﻣﻦ ﻧﺼﻮﺹ ﺍﻟﺪﻳﻦ ﻭﻗﻮﺍﻋﺪﻩ ﺍﻟﻜﻠﻴﺔ، فنبَّه ﻋﻠﻤﺎﺀ الجرح ﻭﺍﻟﺘﻌﺪﻳﻞ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﺗﻠﺒﺴﻮﺍ ﺑﻪ، وتحملوا ﻋﻨﻬﻢ الحديث ﻭﺍﻟﺮﻭﺍﻳﺔ إذا ﻣﺎ توفرت ﻓﻴﻬﻢ ﺍﻟﻌﺪﺍﻟﺔ والحفظ والضبط والإتقان. ﻓﻜﺎﻧﻮﺍ بذلك ﻋﻠﻰ ﻏﺎﻳﺔ النصفة – وأشرنا إلى ذلك في جواز الرواية عن المبتدع - (انظر: التواصل بين المذاهب الإسلامية: د. فاروق حمادة 15 ـ 100).
فعلم ﻋﻠﻞ الحديث، ﻴﺒﺤﺚ ﻋﻦ ﻛﻴﻔﻴﺎﺕ ﺍﻟﺮﻭﺍﻳﺔ وأحوالها وموافقاتها ومخالفاتها، وعن الحديث المعلول الذي ظاهره السلامة فاطُّلع ﻓﻴﻪ ﺑﻌﺪ ﺍﻟﺘﻔﺘﻴﺶ ﻋﻠﻰ ﻗﺎﺩﺡ (فتح المغيث للسخاوي 2 / 50)، أي هو علم ﻳﺘﺠﻪ في جملته إلى ﺍﻟﻨﻘﺪ ﺍﻟﺪﺍﺧﻠﻲ، أي إلى المتن. فالراوي ﺍﻟﺜﻘﺔ، ﻗﺪ يقع ﻣﻨﻪ الخطأ ﻭﺍﻟﻮﻫﻢ، ﻓﻴﺪﺭﺝ في متن الحديث ﻣﺎ ﻟﻴﺲ ﻣﻨﻪ، ﺃﻭ ﻳﻘﻠﺐ في ﻣﺘﻮﻥ ﺑﻌﺾ ﺍﻷﺣﺎﺩﻳﺚ ﻭﺃﺳﺎﻧﻴﺪﻫﺎ، ﻭﻗﺪ ﻳﻨﺴﻰ، ﻭﻗﺪ ﻳﻘﻊ ﻣﻨﻪ تخليط في ﺷﻴﺨﻮﺧﺘﻪ ﻭﺑﺪﺍﻳﺔ ﻫﺮﻣﻪ، ﻭﻗﺪ ﻳﻜﻮﻥ حافظاً ﻣﺘﻘﻨﺎً ﻷﺣﺎﺩﻳﺚ ﺷﻴﻮﺧﻪ إلاَّ ﻭﺍﺣﺪﺍً ﻣﻨﻬﻢ لم ﻳﺘﻤﻜﻦ ﻣﻦ ﺇﺗﻘﺎﻧﻪ، ﻭﻗﺪ ﻳﺬﻫﺐ ﺍﻟﺮﺍﻭﻱ في ﺳﻨﺪ ﻭﻫﻮ ﻳﺮﻳﺪ غيره، ﻭﻗﺪ ﻳﺮﻭﻱ بالمعنى ﻓﻴﺨﺘﺼﺮ الحديث فيغير ﺣﻘﺎﺋﻘﻪ ﻭﻫﻮ ﻻ ﻳﺸﻌﺮ.
ﻓﻤﻦ ﻛﺎﻥ ﻛﺬﻟﻚ، ﻳﺘﻮﻗﻰ ﻣﻦ ﺣﺪﻳﺜﻪ ﻣﺎ ﻭﻗﻊ ﻓﻴﻪ الخطأ ﻭﺍﻟﻮﻫﻢ، ﻭﻳﺒﻘﻰ ﻋﻠﻰ ﺃﺻﻞ ﺍﻟﺜﻘﺔ ما لم ﻳﻜﺜﺮ خطؤه ووهمه.
والمتأمل ﻻﺳﺘﺪﺭﺍﻛﺎﺕ ﺍﻟﺼﺤﺎﺑﺔ على بعضهم، يجد ﺃﻥ ﻣﻘﺎﻳﻴﺲ المعارضة والنقد ﻋﻨﺪﻫﻢ ﻫﻲ ﻣﻘﺎﻳﻴﺲ ﺛﻼﺛﺔ:
ﺍﻷﻭﻝ: ﻋﺮﺽ الحديث ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ الكريم.
الثاني: ﻋﺮﺽ ﺍﻟﺴﻨﺔ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﻋﻠﻰ ﺑﻌﺾ.
ﺍﻟﺜﺎﻟﺚ: ﺍﻟﻨﻈﺮ ﺍﻟﻌﻘﻠﻲ.
الحقيقة ﺍﻟﺜﺎﻟﺜﺔ
ﺇﻥ ﺑﻨﺎﺀ ﻋﻠﻢ ﺃﺻﻮﻝ الحديث ﻛﺎﻥ ﺑﻨﺎﺀً ﻋﻘﻠﻴﺎً، وﺍﺑﺘﺪﺍﺅﻩ ﻣﻦ ﺗﻠﻚ ﺍﻷﺻﻮﻝ ﺍﻟﻌﻘﻠﻴﺔ المنهجية التي ﻗﺮﺭﻫﺎ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ الكريم ﻭﺍﻟﺴﻨﺔ المطهرة في ﺷﺄﻥ ﺍﻟﺮﺍﻭﻱ والمروي، التي ﺇﻟﻴﻬﺎ ﻳﻌﻮﺩ ﻋﻠﻢ ﺃﺻﻮﻝ الحديث ﻛﻤﺎ ﺳﺒﻖ ﺑﻴﺎﻧﻪ. وﻳﺘﺠﻠﻰ ذلك في مراعاة المحدثين العقل في قبول الحديث وتصحيحه في أربعة ﻣﻮﺍﻃﻦ: ﻋﻨﺪ ﺍﻟﺴﻤﺎﻉ، وعند التحديث، وعند الحكم على الرواة، وعند الحكم على الأحاديث (الأنوار الكاشفة: عبد الرحمن المعلمي اليماني 14).

نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
توقيع د. منذر أبوشعر
 تفضل بزيارتي على موقعي الشخصي

http://drmonther.com
د. منذر أبوشعر غير متصل   رد مع اقتباس