13 / 01 / 2008, 02 : 09 PM
|
رقم المشاركة : [1]
|
مديرة الموقع المؤسس - إجازة في الأدب ودراسات عليا في التاريخ - القصة والمقالة والنثر، والبحث ومختلف أصناف الأدب - مهتمة بتنقيح التاريخ - ناشطة في مجال حقوق الإنسان
|
طرابلس الذاكرة و التاريخ
(1)
نغيب أحياناً عن خبايا تنطوي بين جوانحنا و قراءة ذواتنا و ملامح نفوسنا.... بين هجرتي إلى كندا و زيارتي الأولى كنت لا أستطيع حتى إغماض عينيّ إلا إن تخيلت أنني هناك في طرابلس
في زيارتي الأولى و بعد غياب ثلاث سنوات و طوال الرحلة كنت أرتعش و حين حلقت الطائرة و رأيت بيروت حاولت أن أكتم انفعالي خجلاً من ركاب الطائرة حولي، لكن و لعلها أول مرة أخرج فيها عن السيطرة الذاتية و الرعشة باتت اهتزازاً عنيفاً و الدموع الصامتة تحولت إلى نحيب لم أستطع إيقافه و بالطبع تسلطت عليّ الأضواء على غير ما تمنيت البعض حاول مساعدتي بالماء و الترويح مع المضيفة غير مكترث بربط الحزام و البعض الآخر ممن جاءوا أيضا بعد غياب طويل أصابتهم عدوى البكاء و حتى النحيب بل و أتذكر تلك السيدة التي كانت قادمة أيضاً من كندا كمعظم الركاب كنا نبكي و هي تزغرد بطريقة أيضاً انفعالية و فيما أظن أنها كانت أيضاً خارجة عن سيطرتها.
حين غادرنا الطائرة ووطئنا أرض المطار رأيت في طريقي من ركعوا و قبلوا الأرض و هذا المشهد رأيته مراراً فيما بعد في رحلات أخرى.
لن أكمل في سرد انفعالاتي لرؤية من كانوا ينتظرونني هناك و لا الرحلة من بيروت و حتى طرابلس بين وجوه الأحبة و الأهل و مشاهد البلد الساحلي الجبلي الحبيب من نافذة السيارة و رؤيتي البحر و الملاحات على طول الطريق تقطعه أنفاق داخل الجبال أو الهضاب المتصلة بالبحر و وصول طرابلس في " ساحة الله " و اللوحة التي تستقبل كل من يدخل المدينة: " أهلاً بكم في طرابلس قلعة المسلمين " وهضبة أبي سمراء حتى باب البيت إلخ..
بقي يلازمني الانفعال كلما ارتادت خطواتي مجدداً أي جزء من المدينة و إن تحت السيطرة و بستر من نظارات الشمس السوداء ...
و اكتشفت معالم المدينة من جديد، الأسواق الشعبية الأثرية المسقوفة و بقناطرها من سوق الصاغة و خان الصابون إلى العطارين و المسجد المنصوري الكبير، الحمامات ووصولا إلى الملاحة و كل المساجد الأثرية القديمة على ضفتي نهر أبوعلي و التي تحتاج أن نفرد لها مساحة طويلة لذكرها فطرابلس مدينة فينيقية قديمة مملوكية الطراز غنية بآثار كل ما مر بها من حضارات، و من باب الحديد و حتى باب الرمل حيث يرقد والدي في مدفن طرابلس و قريباً من مسجد طينال الأثري، وحين أجتاز الأسواق صعوداً إلى هضبة أبي سمراء مرتع طفولتي و صباي و سكني، نمرّ بالمولوية التي تشرف على النهر حيث كان يجتمع المتصوفون على الطريقة المولوية، و نمر بقلعتها الصليبية الكبيرة بمسارحها و آثارها و حتى بغنى الأساطير حولها من الثعبان الذي عمره آلاف السنين و يحرس الكنز المرصود و يدّعي بعض البسطاء رؤيته يمدّ رأسه من أحد النوافذ منزلقاً من فوق الهضبة ليشرب من نهر أبو علي في الأسفل على طول المسافة و يبقى أكثر من نصف جسده داخل القلعة إلى الحفلات الليلية التي كان يقيمها الجان في القلعة و بالطبع لا يسمعها غير البسطاء ممن يؤمنون بالأساطير.
و حين أصل أبي سمراء وهي إحدى هضبتين مشرفتين على المدينة كانتا مغروستين بأشجار الزيتون ممتداً إلى الكورة التي يشتهر به شمال لبنان .. واحدة شرقية باسم قبة النصر مشرفة على المدينة القديمة فيها كليات الجامعة اللبنانية و المستشفى الحكومي و ثكنات الجيش و تمر فيها الطريق المؤدية إلى سلسلة جبال الضنيّة ( الظنيين) المتصل شرقها الجنوبي بجبال الهرمل حيث مصايف بخعون و عاصون و سير و بقاع صفرين و غربية باسم أبي سمراء مشرفة على البحر و المنتجعات الساحلية و حيث تمر الطريق التي تربط بين طرابلس و بيروت مروراً ببلدة القلمون و عدد من البلدات و المدن الصغيرة أشهرها مدينة جبيل التاريخية (بيبلوس) و تشرف من الجهة الأخرى على النهر و المدينة القديمة.
و أبي سمراء منطقة سكنية كانت تعتبر منطقة سكن عائلات طرابلس العريقة و الطريق منها تتصل بالكورة وزغرتا البلدة ( المدينة الآن) المارونية وصولاً إلى جبال مصايف إهدن من جهة ومن الجهة الأخرى مصايف الحدث و حصرون و بشَرّي ( قرية جبران خليل جبران) وصولاً إلى الأرز ( أهم مركز للتزلج على الثلج و شعار لبنان) بينما تمتد سهول و سلسلة جبال عكّار إلى أقصى الشمال بعد المرور ببلدة البداوي على ساحل البحر و مركز شركة النفط العراقية(!!) و على هضبتها مخيم البداوي للفلسطينيين و قريباً من بلدة المنية ( المنيَّة، حيث كان بربر آغا يقيم المشانق) تبدأ سهول و جبال عكّار البديعة و إلى الشمال مخيم نهر البارد.
تتوسط المدينة منطقة التل والبولفار ( وسط المدينة التجارية) إلى الزاهرية شرقاً و إلى الغرب منها المناطق العمرانية الحديثة شارع عزمي و المئتين و أحدثها شارع المعرض حيث أقيم معرض طرابلس الدولي و الذي أقيمت بجواره المساكن الحديثة المرتفعة الأثمان، كأسوأ تخطيط و ما أعتبره شخصياً جريمة، سلب من المدينة أهم مميزاتها التي اشتهرت بها مقتطعاً كل أشجار الليمون والتي بسببها كانت تلقّب طرابلس بالفيحاء والذي كان يمدها بأريج عطر وربيع شديد التميّز بزهر النارنج، وصولاً إلى البلدة التاريخية الشهيرة الميناء بآثارها و مرفئها و جزرها الصغيرة و فيها يمتزج تماماً القديم بالجديد.و حين أتحدث عن طرابلس الذاكرة كان أول ما صدمني بعد غياب تغيّر المناخ و هذا التصحّر الذي حل بها من جراء اقتلاع أشجار الزيتون و الليمون و تحويل الأرض لمبان ٍ سكنية، حتى شجر الياسمين الذي كان يملؤها و يضفي عبقه الجميل على أجوائها ككل بلاد الشام لم يسلم فقد استعيض عنه وعن البيوت الأرضية التي كانت تزرعه في وحدة متناغمة بالمحلات التجارية. و إن تحدثت عن طرابلس-لبنان أو طرابلس الشام أو طرابلس الفيحاء و طرابلس أم الفقير و كلها أسماء عرفت بها فلا بدّ أن أتحدث عن طرابلس التاريخ العريق و طرابلس الذاكرة.. طرابلس التي في وجداني و التي حين عدت إليها بعد غياب وجدت الكثير من مميزاتها قد اختفى في زمن العولمة و الاسمنت و التجارة وقتل الجمال، فهل تسمحون لي مجدداً أن أحدثكم عن طرابلس الذاكرة و التاريخ؟؟...
lebanon_tripoli[1].jpg
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|
|
|
|