27 / 07 / 2022, 13 : 11 AM
|
رقم المشاركة : [12]
|
مشرفة / ماستر أدب عربي. أستادة لغة عربية / مهتمة بالنص الأدبي
|
رد: مذكرات طفولية
ترى كيف تعلمت أن أقرأ؟! أول تعلقي بالكتب حسبما تخبرني ذاكرتي ليس هو مكتبة أبي التي تزخر بوفرة الكتب في بيتنا،لأني كنت طفلة ولا أرى سوى أنها كتلة من الأوراق التي تهندس ديكور الغرفة، حيث لا أحد يأخذ كتابا لقراءته، ولأني ما أزال صبية تلاعب الكتاب كما تلاعب الدمى ، كنت أحيانا أحب أن أقف على ذلك المكتب الخشبي الأصفر الذي لطالما جربت منه القفز على الحواجز فسقطت أرضا في كثير من الأحيان وكنت أخفي ألمي حتى لا تعرف أمي أني قفزت من عل فأنال عقابي، وقبل القفز أتفق مع حالي على تصفح أوراق الكتب واختيار ما يمكن أن أجد به صورا أو على الأقل كتبا تحمل عناوين كتبت بخط بارز ،واضح، كبير جدا، فقط لأتأملها هيهيهيهه ..... فما كنت أجد الصور غالبا إلا في كتب الطبخ وأغلبها عند أبي كانت باللغة الفرنسية، ولأني لست مهتمة بهذا المجال إلى يومنا هذا فإن الكتاب وإن توفر على صور لن أقرأه، تثيرني بعض العناوين وتفزعني أخرى، حتى إن بعض الكتب ظل تأثير ذكريات الطفولة عليها، فكلما أحببت قراءتها تفَحّصت أول صفحة وأرجعتها لمكانها، لدرجة أني كنت أحفظ مكان أغلب كل كتاب ، وما إن أسمع عنوانا سبق أن رأيته بمكتبة أبي ، أسرع إليه، بل إني ما زلت إلى الآن أستطيع تذكر كتاب إن رأيته كان عندنا وأعطاه والدي لشخص ولم يرجعه له، لكني لا أذكر أبدا أني حاولت مرة قراءة كتاب قراءة كاملة ، فأغلب الكتب المتوفرة إما كتب طبخ أو علوم اقتصاد أو كتب فقه وتصوف ... إلى غير ذلك مما لا يمكن أن يجذب طفلة صغيرة مثلي ، بل حتى طفلة كبيرة مثلي الآن أيضا هيهيهيهي...
أمي كانت هي فيض الكرم ونبع المعرفة، أمي منهل الحرف وسَيْل الكلمة، عشق السرد وذكريات الحكي، أول من خلق لدي متعة القفز فرحا بمجموعة قصصية، كانت السلسلة الزرقاء هي القصص الأولى التي أنهيتها سريعا بلهفة وفرحة، وأنا متعلمة صغيرة تعلمت كيف تقرأ جملا طويلة أو نصا قصيرا، بعدها عدد من القصص الفرنسية أذكر منها قصتين لجحا، لكن الشغف الأول كان للحرف العربي وكما يقول مثلنا العامي " الحب الأول عليه تعول" ( ابتسامة)..
القصص كانت من مكتبة " ابا خلافة" ابَّا خلافة الرجل الذي لا يخفى على ناس الحومة "أهل حي الرياض" ، خاصة شارع القدس من سينما الريف إلى حدود باب الخميس...لا بد أن يمر عليه المرء وهو أمام باب مكتبته الصغيرة فتسمع تحيات متبادلة ، ويشدك ذلك الصوت الجوهري بحس مكناسي ، تلتفت فإذا بك ترى بالضرورة تراثا يتحرك بحكمة، لا أذكر أني رأيت " ابا خلافة " يوما يرتدي شيئا غير الجلباب بكل أشكاله، وأقول هنا بكل أشكاله، لأني قد أراه في مثل هذا الوقت من السنة يلبس الجلباب الجبلي أو ما يطلق عليه " الجلباب الوزاني" .. ولعل شدة الحر في الصيف قد تجعله يتخلى أحيانا عن هذا التقليد، وإن كان وقاره لا يفارقه.
حين اشترت لي أمي المجموعة القصصية قالت لي إن "ابّا خلافة " وعدها أني إن أنهيت القصص سيحضر لي مجموعة أخرى، قصصي تلك أذكر شكلها، وإن غابت عني معظم أحداثها وعناوينها ، لكني لا أنسى أبدا قصة "الأسد في السوق"، _ ربما لأني أعشق الأسد_ الأسد الذي قرر أن يقيم وليمة يدعو إليها حيوانات الغابة ، فكان عليه أن يذهب للسوق ليبتاع كل ما يمكن أن يحتاجه، وعندما التقى القنفذ نبهه أنه اشترى كل شيء إلا أنه نسي أهم ما قد يخفف عليه ثقله وهو سلة وكان ذلك بطريقة تشبه اللغز.
أنا على يقين إن رأيت قصة من تلك المجموعة سأعرفها، وسأذكرها، وإن كانت قد أتلفت، ومع هذا من مجموعات أخرى أحتفظ إلى الآن بقصص أخرى ك " في البادية" ،أو الحداد والشمس..
هنا أريد أن أقول ل " ابا خلافة " : شكرا؛ لأن هذا الرجل، لاحظ ربما أني أحببت القصص، فأعطاني مجلة ماجد أو العربي الصغير وقال لي أن أقرأها وأردها له مع خمسين سنتيما فيعطيني مجلة أخرى، وهكذا سهل علي أن أحصل على متعة قراءة المجلات دون الحاجة لأن أطلب من أبي أو أمي كل مرة ثمنها، يكفي أن آخذ سنتيمات من السنتيمات أو الدراهم التي يمنحها لي جدي أحمد أو أبي بين الفينة والأخرى، وإن أعطيت " ابا خلافة" عشرين سنتيما فإني أحصل على قصة لا مجلة..
ربما هو بهذه الطريقة زرع بداخلي تلك اللهفة وسرعة قراءة ما أحب لقراءة شيء آخر، وحتى أشعر أن لهذه القراءة ثمن كان علي أن أؤدي ثمن كرائي للمجلة أو القصة،شرط طبعا أن أحافظ عليها ، وأحيانا كنت في خجل أرد القصة وأنا لا أملك حتى تلك العشرين سنتيما، مدعية أني هذه المرة لا أريد قراءة شيء، وأعتذر أحيانا عن تأخري في إرجاعها، ويستقبلني " ابا خلافة " بابتسامته وحركته الرصينة الثقيلة، ويقول لي :" مع ذلك ؛ اختاري قصة أو مجلة، يكفي أن تحافظي عليها، اقرئيها بسرعة، وأرجعيها" ولا يأخذ مني أي سنتيم. لم يدم هذا الأمر طويلا، لا أذكر لماذا، لكن ربما يعود السبب إلى أني كنت أستحي أن أكتفي كل مرة بالكراء ، أو أن أبي علم بالأمر فمنعني لأنه سيقول : " باركا ما تْبْسْلي على الراجل، وأنت كل مرة غاديا تأخذي كتاب فابور" يفعلها أبي مع أني لا أذكر.. هو بابا وأنا أعرفه ( ابتسامة) ..
ومن الأدوات المدرسية التي أذكر أني اقتنيتها من مكتبة ابا خلافة كان كرز (Pocahontas ) _ شخصية كرتونية_ ؛ كنت أدرس حينها بالثالث ابتدائي وبقي معي الكرز إلى الإعدادية ، ظل جميلا أنيقا لسنوات ..
كان ابا خلافة يلومني إذا انتبه إلى أني كنت بمستوصف الحي وعدت إلى بيتنا ثم أتيته لأؤدي له ثمن دفتر طلبته الطبيبة مني ، يلومني لأني لم أطلب منه الدفتر دون أن أذهب إلى البيت لأحضر ثمنه، يقول إني هكذا سأتأخر عن دوري ، وأني مريضة لا حاجة لأن أتعب أكثر ، ويلومني لأنه يرى أني هكذا أحسب أنه لن يقبل إعطائي الدفتر حتى أعود له بثمنه في أي وقت، وليس الدفتر الصحي فقط...
إنه ابا خلافة ... إنه الرجل الإنسان .
ومع أننا صرنا نشتري أكثر الأدوات والكتب المدرسية وغيرها من مكتبة أخرى ، إلا أني كلما مررت بجانب تلك المكتبة الصغيرة ، أشعر بانتشاء وأنا أتفحصها وأختلس إطلالة على ابا خلافة داخلها إن لم يكن يقف ببابها، كأني أحب أن أطمئن على أن هذا الرجل دائما بخير، كأني بابتسامتي التي غالبا لا يراها أقول له : " شكرا جزيلا سيدي؛ شكرا جزيلا ابا خلافة" ، ومع ذلك ، و أنا أشتري القصص من المكتبة الأخرى التي سأتحدث عنها أيضا لاحقا إن شاء الله تعالى، كنت أناوب فآخذ مرة من هنا، ومرة من هناك...
وأثناء تفحصي للمكتبة الصغيرة وأنا أمر بها مرة قبل امتحان الأولى باك الجهوي سنة 2005، نادتني رواية معلقة على ذلك الإطار الحديدي الذي توضع عليه بعض الجرائد و المجلات غالبا، وكنت سألت عن الرواية من قبل في أكثر من مكتبة ولم أجدها، ذلك أن أستاذ اللغة العربية بجذع مشترك كان قد تحدث لنا عنها مرة،وعن صيتها الذي ذاع فجأة، فترجمت إلى لغات عدة، ثم بعد أستاذي العزيز، يفاجئني بالحديث عنها أستاذي الذي درسني الاسبانية بالأولى باك، فعزمت على قراءتها مهما يكن، وها هي أخيرا تبتسم لي بمكتبة ابا خلافة.
_ ياه! إنها هي! أقسم أنها هي .. وأخيرا ( و أنا أحدث نفسي )
التفت إلى با خلافة وسألته بعد السلام عن ثمنها.. أجابني، وعلمت بعدها أنه لا يملك غير نسخة واحدة منها، طلبت منه أن يحتفظ لي بها وأخبرته أن فترة الامتحانات لا تسمح لي بأن أختلي بنفسي لقراءة ما أحب. لكنه قال: " بادري وإلا إن طلبها شخص آخر سأبيعها له" ؛ يا إلهي ! أيكون ابا خلافة قد نسيني فما عرف أني أريدها حقا، أ يظن أنه مجرد سؤال عابر مني؟!... مع ذلك رجوته وانصرفت ، كان الشيء الوحيد الذي أنا متأكدة منه هو أني إن حصلت عليها لن أراجع حرفا أو رقما من مواد الامتحان خاصة التربية الإسلامية والفرنسية أما علوم الحياة والأرض والسيد رياضيات فحدث ولا حرج.. ويا ليتني كنت قد اشتريتها حينها ، لأني لم أكن قد حصلت على نقطة جيدة في الفرنسية التي ضحيت بالرواية لأجلها ولعيون ( Antigone , La gloire de mon père , et Eugénie Grandet) ، كنت كل مرة أخرج فيها من البيت لقضاء شيء أهرول إلى ابا خلافة لأؤكد عليه أني ما زلت أريد الرواية، وأخبره أني سآخذها مباشرة بعد إنهائي للامتحانات، وأحيانا لا أجد الرواية معلقة فأطل عليه وهو جالس على كرسيه؛ أسأله في خجل : " ابا خلافة واش بعت الرواية؟" فيرد علي أن لا، ويريني إياها فأبتسم متنفسة الصعداء، و ما إن أنهيت الامتحان حتى كان أول مكان أذهب إليه بعد أن سلمت على أمي من باب البيت دون أن أدخله " مكتبة ابا خلافة" ...
أخيرا اشتريت منه الرواية وعدت إلى البيت وقد بدأت قراءتها من أمام مكتبة ابا خلافة، فقد كانت العبارات الأولى مشوقة والكاتب يقول:
"صباح الخير أيها الليليون،
صباح الخير أيها النهاريون،
صباح الخير يا طنجة المنغرسة في زمن زئبقي "
شكرا ابا خلافة
|
|
|
|