رد: مذكرات طفولية
لم أكن أعرف غير مكتبة ابا خلافة، ومكتبتين صغيرتين أيضا سريعا سدتا أبوابهما ، كنت اشتريت من واحدة منهما وأنا بالخامس ابتدائي " منجد الطلاب" وأدوات أخرى، لا أذكر إن كان لهذه المكتبة اسما معينا أم أنها مكتبة بلا عنوان. كان صاحبها قوي النظرات مرعبها، شديد اللهجة مخيفها، تشعر به أو كنت أشعر به وأنا طفلة حينها كأنه يطرد زبناءه بطريقة كلامه ونظراته المخيفة، و ربما هذا ما كان يبدو لصبية مثلي تهوى الابتسامات.. أو على الأقل لباقة الكلمات.
أما مكتبة المعرض الدائم للكتاب فهي مكتبة خاصة ببيع الكتب واللوازم الدراسية ولكنها كانت خاصة بي أيضا وأنا لا علم حينها بوجود مكتبات عمومية.
لا أعرف كيف سكنتني مكتبة المعرض الدائم للكتاب أو سكنتها أو ربما دللني با خلافة حتى صرت أطمع في قراءة كتب من مكتبات أخرى.
مكتبة عمي موسى كما كنا نسميها أخواتي وأنا في أحايين كثيرة؛ غالبا لأن موسى هو أحد أصحاب المعرض الدائم للكتاب وقد كان ولا يزال بمثابة صديق لأبي.. ولهذا السبب أيضا كانت البداية التي لا أذكرها، ما أجد الآن أمامي من الذكريات هو أنه كلما طُلب منا موضوع إنشائي ما وأحيانا مجرد بحث صغير عبارة عن تمرين مثلا ، أفكر في كتابة شيء مميز، مختلف بعباراته وتعابيره، أجد نفسي أمام عمي موسى وأحيانا " اسي سعيد" أخوه الذي كنت أخشى أن أعلمه بحاجتي ،حيث كان يتملكني شعور أنه غير راض عن وجودي بالمكتبة؛ نظراته تجعل عيني لا تفارقان سطور الكتاب إلا إذا اتجهتا مباشرة صوب العناوين المتراصة بالرفوف ، ومع ذلك الإحساس الذي كان ينتابني إلا أني كنت أعود مرة أخرى، فأقول لمن أجده أمامي غيره طبعا :
" إني أريد كتابا يتحدث عن كذا وكذا " فيطلب عمي موسى من أحد العاملين معه مرافقتي لاختيار كتاب من بين عناوين انتقاها هو، وأحيانا يشير إلى عنوان واحد فقط، فآخذ منه ما أراه يهمني، وكنت أطيل المكوث بالمكتبة، أحيانا أقرأ عناوين الكتب، وأحيانا يثيرني كتاب فأفتحه لقراءة فهرسه، أو صفحة من صفحاته، وأنا كما قلت قبلا ، لم أقرأ كتابا ضخما كاملا من قبل ،ولكني آخذه لتفحصه وقراءة بعض أسطره أو صفحاته إن تعلق بي الكتاب ( ابتسامة).
كنت وأنا ألامس الكتب أسترق النظرات لأرى إن كان أحدهم يراقبني، فلا أرى أحيانا غير العم سعيد وقد سكنت الكتب بعينيه كأنه يخشى عليها مني ، لطالما كنت أتأخر هناك إلى الوقت الذي تكاد تغلق المكتبة فيه أبوابها،فيقول لي عمي موسى:
" خذي الكتاب معك ، لكن أرجعيه نهار الغد إن شاء الله" وتداعبني بسمة انتصار فأعانق الكتاب والسعادة تغمرني، وفي أوقات كثيرة أصل إلى بيتنا قفزا، هذا طبعا إن لم يكن أبي قد لحق بي إلى المكتبة ، أو ترسل أمي أحدا ليتفقدني ...
عندما حسبت أن الجميع حتى عمي سعيد قد صار يألف وجودي بينهم، صرت أكتفي بالتحية، وإخبارهم أني سأذهب إلى الكتب مباشرة، وهذا يعني أني لن أشتري وإنما فقط سأقرأ، وطبعا من رآني دخلت أحمل قلما وأوراقا أو دفترا يفهم أني جئت للسكن مجددا بالمكتبة ، ويا لحماقتي حين يستفزني كتاب بعنوانه، ويكون الكتاب عاليا جدا، فأطلب من أحدهم أن يمدني به فقط رغبة في تصفح وريقاته والاطلاع على فهرسه ، والكارثة هي حين لا يقبلني الكتاب ولا أقبله بعد أول تصافح بيننا، أرجعه لهم مباشرة كي يأتوا بالسلم مرة أخرى فيعتلوه ليعيدوا الكتاب إلى ركنه...
أيام الابتدائي لم أشتر غير القصص وكتاب " من كنوز السنة" وكتاب أناشيد مرفقا بكاسيط بعنوان أركان الإيمان إضافة إلى كتاب علمي (موسوعة جسم الإنسان) ، كتاب من جزئين لتراجم الشعراء والأدباء والمفكرين،و عناوين أخرى قليلة
كنت أتوق دائما لشراء القصص ، لكني لم أكن أجد غير قصص الأطفال ، ما إن التحقت بالإعدادية حتى وجدتني مللت قصص الأطفال وأريد قصصا للكبار ، من كان بسني من أبناء العائلة الذين كنت أتبادل معهم أحيانا القصص، أو إن كنت ببيتهم آخذ لي ركنا عندهم لقراءة قصة أو مجلة ، ليس لأي منهم قصص لغير الأطفال .. بالمعرض الدائم للكتاب لا أجد غير قصص الأطفال ، حتى أدركت أني حرمت هذه المتعة، طيلة سنوات الإعدادي الثلاث لم أقرأ قصة إلا إذا كانت بالكتاب المدرسي...
لا أذكر من ذاك الذي كان قد قال لي ( أنت كبرت على قراءة القصص، اقرئي شيئا آخر، القصص للأطفال فقط) ، وكنت أشعر بانقباض حينها ، ولما لا أجد شيئا أفعله، أو إذا أردت البحث عن موضوع ما ألجأ إلى مكتبة المعرض الدائم للكتاب ، فلا أراني إلا قد عوضت نسبيا فقدان القصص بتأمل كتب من نوع آخر.. صرت فيما بعد أتفهم نظرات اسي سعيد لي خوفا على كتبه .. إن المكتبة بيته الأول، يقضي فيها حياة لا يعيشها بين أسرته، يرعى الكتب كأنها هي أبناؤه... بعد فترة صار اسي سعيد يألفني ... بل وييسر لي اقتطاف بعض الكتب وشرائها.. إلى أن وجدت أخيرا بعض الروايات أو المجموعات القصصية بالمكتبة بعد أن كنت اعتدت شراءها من أماكن أخرى ، ولعل أول رواية أخذتها من المعرض الدائم للكتاب هي نزيف القناديل لمحمد غلمي، وأول مجموعة قصصية كانت هي مؤنس العليل لمحمد أنقار...
شكرا أهل المعرض الدائم للكتاب
أما ما يمكن تسميته بالمرحلة الثالثة فلعل المكتبات لم يكن لها فيه دور وقد تأتي مرحلة من المراحل أذكرها سببت ابتعادا عن كل قراءة ...
24 أبريل 2022
|