رد: منقولات أدبية
يقول العباس:
دخلتُ ذات يومٍ مجلس أمير المؤمنين المأمون ببغداد، فرأيت بين يديه رجلًا مكبلًا بالحديد، قد أنهكته الضربات حتى غابت ملامح وجهه.
فلما وقعت عينه عليّ، ناداني قائلًا: "يا عباس!"
فأجبته: "لبيك يا أمير المؤمنين."
فقال: "خذ هذا الرجل إليك، استوثق منه أشد التوثق، واحتفظ به ولا تغفل عنه، واحضره صباح الغد لأقطع رأسه!"
فاستدعيت الشرطة لحمله، لكنه كان بالكاد يستطيع الحركة. فقلت في نفسي: "وصية المأمون شديدة، ولا أطمئن إلا إن كان الرجل في داري."
فأمرت الشرطة بنقله إلى منزلي، ومكثت مع المأمون إلى أن انصرفت لبيتي استعدادًا للنوم.
لكن الفضول غلبني، فذهبت إلى الرجل وسألته:
"من تكون أيها الرجل؟"
فأجاب بصوتٍ ضعيف: "أنا من الشام، وأهل الشام كرام."
فقلت: "أتعرف فلان بن فلان؟"
فقال: "ومن أين لك به؟"
قلت: "لي معه قصة..."
قال: "لن أخبرك عنه حتى تقص علي قصتك."
فقلت:
كنتُ في الشام قائدًا للشرطة، فاندلعت فتنة عظيمة، قُتل فيها الوالي، وهربت بنفسي من القصر. وبينما أنا في أزقة المدينة، لاحقني رجال الثورة، فركضت حتى أعياني الركض. وبينما أنا كذلك، رأيت رجلًا جالسًا على باب داره، فصرخت: "أغثني، أغاثك الله!"
فقال: "لا بأس، ادخل."
فأدخلني داره، وقال لزوجته: "أدخليه تلك المقصورة."
وما هي إلا لحظات، حتى دخل المطاردون بيته قائلين: "هو عندك!"
فقال: "فتشوا الدار."
وفتشوها، حتى وصلوا المقصورة التي فيها امرأته، فصاحت فيهم ونهرَتهم، فانصرفوا.
ثم جاءني الرجل وقال: "لا تخف، فقد صرف الله عنك شرهم."
ومكثت في داره أربعة أشهر في خير ورغد حتى هدأت الفتنة.
وحين عزمت على العودة للعراق، جهّزني بأفضل ما يكون: أعطاني سيفًا و500 دينار وفرسًا وبغلاً يحمل نفائس الشام، وخادمًا لخدمتي، واعتذر مع زوجته عن أي تقصير!
فقلت في نفسي: "هذه مكرمة لا تُنسى، ولن أهدأ حتى أكافئه."
فقال الرجل المجهول:
"أنا هو ذلك الرجل."
فنظرت في وجهه، وإذا به هو، لكن الضرب غير ملامحه. فما تمالكت نفسي حتى قمت وقبّلت رأسه، وأمرت الحداد بكسر قيوده، وأدخلته الحمام، ثم ألبسته من ثيابي، وأعطيته ألف دينار وفرسي، وقلت له: "اذهب، ونجّ بنفسك، ودعني أواجه المأمون!"
فقال: "والله لا أفعل! فإن ذنبي عند المأمون عظيم، وإن ذهبت، قُتلتَ مكاني، فلا والله لا أكون سببًا في ذلك."
فقلت: "ابقَ هنا، وسأذهب بنفسي ألتمس العفو له، فإن أجاب، فبها، وإلا أرسلت إليك ليُقطع رأسك."
قال: "رضيت."
في الصباح، اشتريت كفنًا، وصليت الفجر، ثم ذهبت إلى المأمون ومعي الكفن.
فلما رآني، قال: "أين الرجل؟"
فقلت: "اسمع مني، فإن رأيتني كاذبًا، فاضرب عنقي."
فقال: "قل!"
فقصصت عليه القصة كاملة.
فبكى المأمون وقال:
"والله ما أدري أيكما أكرم: أهو الذي آواك دون معرفة؟ أم أنت الذي أردت أن تفتديه بنفسك بعد المعرفة؟ والله لا أكون ألأمكما، قد عفوت عنه، فأحضره!"
فقلت: "يا أمير المؤمنين، هو لم يبرح مكاني، ينتظر سلامتي، فإن شئت حضر."
فقال: "وهذه أعظم من الأولى. اذهب إليه، وبشره، وطمئنه، وائتني به."
فأتيته، فلما سمع بالخبر، حمد الله وسجد شكرًا، ثم صلى ركعتين، وركب معي.
فلما مثل بين يدي المأمون، أقبل عليه وأدناه من مجلسه، وأكرمه، وأكل معه، وعرض عليه ولاية دمشق، فاستعفى.
فأمر له المأمون بعشرة أفراس بأسرجتها، وعشرة أبغال بآلاتها، وعشرة آلاف دينار، وعشرة مماليك، وكتب إلى عامله بدمشق أن يكرمه، وجعل الرجل كاتب الخليفة في دمشق، فصارت كتبه تصل إلى المأمون، وكلما وصله كتابه، قال لي: "يا عباس، هذا كتاب صديقك!"
فأين نحن اليوم من هذه المروءة والوفاء؟!
|