| 
				
				رواية معنى الوطن 2
			 
 ( ج )
 أخبرني محمد بأن جميع زملاء غريب توقعوا أن تكون الشرطة قبضت عليه ،
 فالشرطة أيضاً تقصد الأسواق ، وكثيراً ما تقبض على الباعة الجائلين . تركت محمد قاصداً
 هانى . كان صديقى قبل أن يصبح وكيلاً للنائب العام . أخر مرة زارنى فيها مر عليها
 عامان - بعد زواجى بشهر - يومها ظننته جاء مهنئاً لكنه جاء لغرض أخر . عرض على
 صفقة ( هذه كلمته ) تلاها بالتأكيد على أن الشاب العصامى - مثلى - الذى لم يرث ، ولم
 يهاجر ، ولم ينحرف لابد له أن يستدين ليتم زواجه . أخبرنى بمعرفته بأنى استدنت
 من أكثر من صديق لأستطيع إكمال زواجى .
 لامنى لأنى لم ألجأ له ، وفى النهاية أعاد إلى أذنى كلمة " صفقة " قبل أن يعرض مشروعه
 ( وهذه أيضاً كلمته ) ذكرنى بأنى معاق وبأن الدولة ترعى أمثالى وتعفيهم من جمارك
 السيارات المجهزة ، قبل أن يفصل مشروعه ثم قال :
 - ستشترى سيارة مجهزة وأدفع أنا ثمنها ، ولا تنس أننى أستطيع إنهاء كافة
 الإجراءات بسرعة ، وبمجرد أن تتسلم السيارة تتنازل لى عنها مقابل ألف
 جنيه مكسب . ألم أقل لك إنها صفقة ، لكن لا تغضب منى ستوقع أولاً على
 إيصال أمانة بثمن السيارة .
 رفضت الصفقة فألح . ضاعف المبلغ . لم أتراجع . غادرنى غاضباً ومن يومها لم يزرنى .
 ***
 أبدى هانى تعاطفه . وعد بأن يفعل شيئاً من أجل غريب . طالبنى بأن لا أتعب نفسى ،
 وهو سيعمل اللازم .
 
 ***
 
 حكيت لمحمد فلم يصدقه ، قال إنه كان يستطيع إنهاء المشكلة قبل أن أغادره ولن يكلفه
 ذلك غير مكالمة تليفونية .
 اتفقنا على أن نصبر حتى الفجر ، وإن لم يعد غريب نخرج نحن للبحث عنه ، يبحث
 محمد فى أسواق الوجه القبلى . بينما أقصد أنا أسواق الوجه البحرى .
 وافق الأب على الاقتراح وطالبنا أنا ومحمد أن نتصل كل ساعة لنعلمه بنتائج البحث لكن
 الأم لم توافق . صرخت :
 - ألن تفعلوا شيئاً حتى الصباح ؟
 
 ( ح )
 
 لم ينم أحد .
 كانت زوجتى تبكى وتتمتم بالدعاء . بينما تشاغلت بإعادة رص الكتب فى المكتبة .
 أخرجت " الدرب الأخر " ذكرنى به أستاذ الاقتصاد الذى أغلقنا التليفزيون بسببه .
 وجدت ورقة مثنية ( هل ذكرتنى بأخى غريب حينما قرأتها لأول مرة ؟ ) فردت الورقة
 ، وقرأتها لزوجتى :
 " مع امتلاء المدينة بالناس ، والاستيلاء تدريجياً على المساحات الفضاء فيها
 لأغراض الإسكان غير الرسمى ، بدأت أنشطة اقتصادية بأخذ مساراً مماثلاً
 فى تطورها . وكانت التجارة هى أحد هذه الأنشطة " .
 حكيت لزوجتى عن الكتاب ، فسألتنى عن مؤلفه وهل هو مصرى فقلت إن اسمه هرناندو
 دى سوتو ، وهو من بيرو ولم يسمع بأبى النمرس وشبابها ، وواصلت القراءة :
 " وكان هذا إيذاناً بميلاد التجارة غير الرسمية ، التى تجرى أساساً فى الشوارع
 حيث تعرف بالبيع المتجول . ( ... )
 " ومن ناحية أخرى بدأت الأسواق غير الرسمية عندما سعى الباعة العاملون فى
 الشوارع إلى وضع حد لحالة عدم الأمان التى يعملون فيها " .
 حاولت زوجتى أن تحول دون استمرارى فى القراءة،ذكرتنى بأنى لم أتناول دواء الضغط .
 ابتلعت قرصاً ليخفض ضغط دمى المرتفع ، وواصلت القراءة .
 " إن الوضع غير الرسمى ليس هو أفضل العوالم الممكنة ، إنه يتضمن تكاليف هائلة ، وإن الناس يحاولون تعويض هذه التكاليف بكل أنواع الطرق المبتكرة وإن كانت قاصرة . وإن خرق القانون ليس أمراً مستحباً فى نهاية المطاف ، وإن كل ما نراه من فوضى وإهدار للموارد وعمليات للتصدى ، و أعمال يومية تتسم بالجرأة ماهى إلا محاولات يائسة ومغامرة من أصحاب الوضع غير الرسمى لوضع نظام بديل لذلك الذى ينكر عليهم حمايته ".
 
 طالبتنى زوجتى بأن أغلق الكتاب لأستريح قليلاً ، لكننى واصلت القراءة :
 " وترجع أزمة مؤسساتنا القانونية جزئياً إلى إنها فقدت تدريجياً مصداقيتها ".
 ( .... )
 " فقد كفت هذه المؤسسات عن أن توفر الوسائل اللازمة لحكم المجتمع
 والحياة فيه "
 
 ( خ )
 
 عقب صلاة الفجر أيقظت " عنتر " أطل من النافذة وهو شبه نائم . قلت :
 - أريدك فى سفر .
 رد وهو يتثاءب :
 - بعد نصف ساعة تجدنى أمام بيتك .
 وفى انتظاره راح الأب يذكرنى بأسماء الأماكن التى تشهد أسواقاً يوم الأربعاء . وعند
 ذكر كل بلد يتوقف قليلاً ، يحكى عن صديق ، أغلبهم اُستشهدوا فى الحروب العديدة .
 تطوع أبى فى الجيش عام 1955 وخرج منه عام 1977 . خاض كل الحروب وامتلأت
 ذاكرته بأسماء الشهداء .
 منعه عنتر من الاسترسال . توقف أمام البيت ، ولم يرفع يده
 عن " الكلاكس " إلا بعد أن خرجت له .
 
 ( د )
 
 توقفنا أولاً عند قسم الجيزة . كان الملازم يشرب شاياً بالحليب . قبل أن أكمل
 كلامى قال :
 - بعد 24 ساعة تقدموا بلاغ باختفائه .
 قلت :
 أنا لا أبلغ عن اختفائه ، فقط أريد التأكد إن كان محتجزاً هنا أم لا ؟
 سألنى ثانية عن الاسم . أجبت :
 - غريب أحمد منصور .
 - لم يرد علىَ أحد بهذا الاسم .
 رجوته :
 - إن كان لديك بيان بأسماء المحتجزين أرجو أن تراجعه .
 - قلت لك ليس هنا .
 قالها بلهجة تجمع بين الغضب والتحذير ، فغادرته عائداً إلى التاكسى . عند
 مديرية أمن الجيزة توقف عنتر . نهره الجندى وهو يشير بأن نبتعد .
 - اطلع يا أجرة .
 أشار عنتر بأن ينزلنى ثم يبتعد ، لكن الجندى لم يمنحنى الفرصة :
 - قلت لك اطلع يا أجرة أحسن لك .
 
 ***
 عدت المائة متر التى إبتعدها التاكسى مغتاظاً وأنا أضرب وجه الأسفلت بعكازى .
 رمقت الجندى بغضب . تبدلت لهجته الآمرة :
 - أسف يا أستاذ . إن رأى الباشا التاكسى أمام باب المديرية لن يرحمنى
 سألت الجندى عن الحجز فسألنى عن الحكاية . لما سمعها قال :
 - شباب هذه الأيام غاوى يطفش .
 - هو لم يطفش .
 تجاوز عن لهجتى الغضبى ، وأسدى لى معروفاً :
 - لن يجيبك الضابط عن شئ . اذهب إلى عم خلف . هو رجل طيب
 وحينما يراك بالعكاز سيخدمك .
 وصف لى الطريق إلى خلف ، ولما سمع خلف حكايتى قادنى إلى غرفة الحجز
 وهتف منادياً :
 غريب أحمد منصور .. غريب أحمد منصور .
 لكن غريب لم يرد ، فنصحنى خلف بالبحث فى المستشفيات .
 
 ( ذ )
 
 وقفت طويلاً فى انتظار عنتر . تصفحت الجرائد بسرعة ثم طويتها . أعدت فرد
 إحداها على الرصيف وجلست .
 لما جاء عنتر اعتذر . فقد ذهب إلى محل عمله القريب ليوقع فى دفتر الحضور .
 ضحك وهو يقول :
 - المدير ابن الكلب استغل الظروف . كل يوم أفطره فول وطعمية لكنه
 اليوم طلب قشطه وجبنه رومى . أحضرتهم مع باكو شاى فقال إنه
 سيوقع لى فى دفتر الانصراف .
 |