| 
				
				رواية معنى الوطن 4
			 
 ( ص )
 كانت ساحة سوق الباجور موحلة .
 ركن " عنتر " السيارة إلى جوار مقهى .
 جلست بينما ذهب هو ليشترى سندوتشات . لم أستطع ابتلاع لقمة واحدة ، فقط
 شربت الشاى والاسبرين لأقاوم الصداع والبرد .
 اقترب منا صاحب المقهى . أدرك إننا غرباء فجاء يسأل عن مقصدنا . سألناه
 فقال:
 - بالأمس كنت فى مصر ، الولد مرعى كان هو الموجود .
 - ليتك تناده .
 - هو ليس موجوداً الآن سيعود خلال ساعة .
 
 جلسنا ننتظر عودة مرعى ، فتذكرت مرعى آخر كان زميلى فى الجامعة .
 
 " كان يسكن الحجرة المجاورة لحجرتى فى المدينة الجامعية . دخلت حجرته فرأيت صورة جيفارا . سألنى إن كنت أسمع الشيخ إمام فأجبت بأنه ابن قريتى وطلبت أن يسمعنى جيفارا مات "
 " نقر بأصابعه على المكتب عازفاً اللحن الجنائزى . بدا متأثراً وكأن جيفارا مات لتوه ".
 ولما انتهت الأغنية عاد لحالته الطبيعية . سالنى :
 هل قرأت هذا الكتاب ؟
 كان يمسك بمائة عام من العزلة . أجبت بالنفى فنصحنى أن أقرأه . مددت يدى لآخذ الكتاب فرفض . طلب كتاباً مقابله حتى يضمن أن أرد له كتابه . غادرته لدقيقتين وعدت وفى يدى " الدون الهادئ " .
 
 اعتدنا تبادل الكتب والشرائط . قرأنا معاً بابلو نيرودا وأمل دنقل وناظم حكمت .
 سمعنا معاً فيروز ومارسيل خليفة وعبدالحليم حافظ وأم كلثوم وسيد درويش . عشقه لأمل دنقل جعله يُقلع عن كتابة الشعر . يقينه أن كل ما سيكتبه لن يساوى حرفا من شعر أمل .
 وحينما شاركنا فتحى رضوان فى التظاهر احتجاجاً على اغتيال سليمان
 خاطر جأر مرعى بقصيدة لا تصالح ،وأيها الواقفون على حافة المذبحة . هذه القصيدة كانت شعاره . يغنيها فى كل المواقف . حينما نقصد مطعم المدينة الجامعية ونجده مغلقاً كان ينشدها ضاحكاً .
 يهتف :
 المنازل أضرحة والزنازن أضرحة والمدن أضرحة .
 ثم يرفع ملعقته قبل أن يكمل :
 فارفعوا الأسلحة و اتبعونى .
 
 وبعدما يفرغ من الطعام ينقر على الصينية الفارغة ويغنى لسيد درويش
 " دنجى .. دنجى " ثم يغسل الملعقة ويعيدها إلى جيبه .
 فى الطريق لحجرتينا يحدثنى عن حلمه بأن يكون مغنياً .
 
 تخرج قبل منى بعام . زارنى أكثر من مرة فى العام الذى بقيته بعده فى الجامعة .
 حينما أراه كنت أحن لسنوات ثلاثة قضيتها معه ومرت سريعاً .
 
 كان يأتى لى ليبوح بعذاباته ويغنى .
 
 ينتقل من " حبيتك بالصيف " إلى " بين ريتا و عيونى بندقية " .
 يحكى عن " دنيا " التى لم تصن عهد الهوى ، وعن أخيه الذى عاد من العراق قتيلاً ، وعن شهور التجنيد التى لا تنتهى ويختم حديثه بلازمة
 أبدية :
 " مرت أزمنة الجد والفرح ، ولم يبق إلا التعاسة والشقاء . "
 يرددها كثيراً قبل أن ينخرط فى الغناء أو الصمت المطبق "
 أشعر بالحنين إليه ، أتذكر صوته العذب الشجى ، قهقهته وهو يحكى كثيراً عن
 "مائة عام من العزلة " والفتاة التى طارت بواسطة ملاءات السرير ، يتمنى لو
 يفعلها هو ودنيا . يطيران .
 
 أتذكر أنى لم أكتب له رسالة واحدة طيلة السنوات التى مضت على تخرجى فى
 الجامعة . هو أيضاً لم يرسل لى . كل الذين أحببتهم لم أزرهم ولم أراسلهم . هم
 أيضاً لم يفعلوا بالرغم من تبادلنا للعناوين . فهل كنا حقاً أصدقاء ؟
 
 سألت صاحب المقهى عن مرعى الآخر . كان يعرفه . أجاب :
 - عمله ليس بعيداً عن هنا .
 وصف لى مكان عمله فتركت عنتر يدخن الشيشة وذهبت إليه . تذكرنى فور
 رؤيته لى . تعانقنا وبكينا . سألته عن " الكرش " الذى تضخم بشدة ، فقال :
 - " معلق أنا على مشانق الصباح وجبهتى للمائدة محنية .
 - مازلت تحفظ شعر أمل .
 - المائدة من عندى .
 ضحكنا . انتحى بى مكاناً قصياً فأدركت أنه بحاجة للبوح . استمعت إليه
 فوجدت صوته فاقداً العذوبة التى كانت له . حكى عن أرملة أخيه رضوان . أصر
 الأب أن يزوجه بها ليربى أولاد أخيه . وافق ليرضى الأب ويداوى شروخاً فى
 القلب أحدثتها " دنيا " . لكن الشروخ اتسعت ، وتهاوى القلب فتسربت الروح .
 
 ودع الأحلام القديمة . لم يبق منها إلا ذكريات باهتة . وحتى لا يستعيدها سألنى
 عن سر الزيارة الغريبة . أجبته فرافقنى حتى المقهى . علمت من عنتر أن صبى
 المقهى حضر . سألته عن أحداث الأمس ، فأخبرنى عن معركة شهدها السوق .
 
 ( ض )
 
 فى المستشفى أفاد الطبيب بأن ثلاثة من مصابى المعركة عولجوا وخرجوا فى نفس
 اليوم . لم يكن أحدهم يحمل اسم غريب أما الرابع فهو رجل فى الخمسين
 جبسوا ساقه اليسرى المكسورة ، وأبقوه بالمستشفى . وبغلظة أخبر عن الخامس :
 - اذهبوا لعم بدوى فى المشرحة ربما يكون القتيل هو من تبحثون عنه .
 عند المشرحة بادرنا بدوى بالسؤال :
 - رجل أم امرأة ؟
 أجاب عنتر :
 - شاب فى الثلاثين .
 - أوصافه ؟
 سألنى عنتر :
 ماذا كان يلبس ؟
 أجبت بانقباض :
 - بنطلون جينز أزرق وسويتر جلد أسود ، وعلى الرأس والكتفين شال
 أبيض .
 أضاف عنتر :
 - اسمه غريب أحمد منصور
 قال بدوى :
 - هذه الأوصاف تنطبق على جثة وردت بالأمس . لكن يبدو أن حافظة
 نقوده سرقت فلم أعرف اسمه لكنه جاء بدون الشال الأبيض .
 جزعت . غزتنى رغبة فى القىء .
 أحسست وكأن روحى تتسرب مغادرة جسدى المنهك الذى تجمد مكانه . ولما أرانا
 بدوى الجثة المنكفئة على وجهها قال عنتر :
 - هو .. هو غريب .
 
 صرخت ملتاعاً . قفزت معانقاً الجثة . انكفأت عليها . واصلت الصراخ . صرختي
 كأنها حُملت بكل عذابات غريب و إحباطاته ، فخرجت وكأنها شوك ينزع من
 أحشائى . ولما حاولت تقبيل الوجه شعرت بالشارب الكث . انتبهت . غريب لم
 يكن ذا شارب . أدرت الوجه . لم يكن هو . وحينما ارتطمت بأرض المستشفى
 سمعت صوتى يهتف :
 - ليس هو .. ليس هو .
 
 ( ط )
 
 مرعى وعنتر حملانى إلى التاكسى .
 أصر مرعى على مرافقتنا حتى سوق أشمون .
 أخبرنى عنتر عن اتصاله بأبى النمرس . قالوا له أن محمد اتصل مرتين من العياط
 ومن الصف ولم يأت بخبر ، لم يبق له إلا أطفيح بينما بقيت لى أشمون .
 طوال الطريق وعنتر يجتر ذكريات عن " أشمون جريس " ويصفها بأنها بلد
 الخير .
 - والله يا أستاذ مرعى أشمون جريس بلد كلها خير . وأهلها كرام .
 وكل مرة تكون هذه الجملة افتتاحية لحكاية يسردها ، وكل حكاياته مرتبطة
 بالمرحوم زوج خالته الذى كان يعمل بالجمعية الزراعية بأشمون .
 كان عنتر طفلاً ، واعتادت أمه أن تصحبه كل صيف لزيارة شقيقتها .
 - تصدق بايه يا أستاذ مرعى ؟
 - بالله .
 - والله ، الأرز المعمر الذى أكلته فى أشمون جريس رائحته لم تغادر
 أنفى حتى الآن . يا سلام على رائحته . يا سلام على السمن البلدى " العايم على وش الطاجن " .
 - خالتك كانت طباخة هائلة .
 - لم تكن هى . كان الجيران ما أن يستشعروا وجودنا حتى يطرقوا باب
 خالتى . واحدة تحمل حلة لبن ، وأخرى تأتى بالقشطة و الجبن
 الحلوب وغيرها بالبيض وغيرها بالأرز المعمر . كانوا يعرفون أن
 خالتى غريبة ، ويريدون عدم إشعارها بالغربة خاصة أثناء زيارتنا
 لها .
 ***
 
 فى مركز أشمون أشعل مرعى سيجارة لمساعد الشرطة . سحب الرجل نفساً ثم نفث
 الدخان وقال :
 - جاءنا بالأمس شابين قضيا ليلتهما بالحجز ، واليوم تم ترحيلهما
 واحد إلى طنطا والآخر إلى بنها .
 إذن لم يكن غريب أحدهما ، قصدنا المستشفى ولم نجد غريبا فعدنا نقطع الطريق
 فى عكس الاتجاه .
 
 ( ظ )
 
 عند مدخل أبو النمرس استوقفنا رجال الشرطة فتشونا واطلعوا على ما
 يثبت هويتنا قبل أن يسمحوا لنا بالدخول .
 عاودتنى الرغبة فى القئ لكننى حرصت على متابعة العداد كان الرقم ( 4800 ).
 إذن كان عنتر يكذب حينما أعاد العداد إلى رقم البداية قبل ان نصل إلى بنها .
 غلبنى القئ فغادرت التاكسى . أسندت رأسى إلى السور المحيط بترعة المنصورية
 وأفرغت جوفى . ولما عدت وجدت العداد ثانية عند نقطة البداية جادلت عنتر
 فأكد أننى لم أر جيداً لكونى متعب . أصر على أن العداد وصل إلى 60 جنيه .
 فأعاده إلى البداية حتى لا يحترق .
 
 كنت على يقين من كذبه لكنى استسلمت . عددت مائة وعشرين جنيهاً . مددت
 يدى بالنقود فسألنى :
 - كم ؟
 - 120
 - حسابى 150
 - كيف ؟
 - 120 العداد للبنزين والتاكسى أما تعبى فربعهم يعنى 30 جنيه زيادة.
 
 بلغ استسلامى منتهاه . أضفت الثلاثين جنيهاً إلى ما فى يدى ، رفض عنتر أن
 يلمسها . أقسم ألا تدخل جيبه قبل رجوع غريب .
 |