| 
				
				رواية معنى الوطن 6
			 
 ( غ )
 آلام المخاض فاجأت زوجتى .
 أمى وجدتى هرعتا إليها .
 بعد دقائق خرجت جدتى . قالت أن الوقت لم يزل مبكراً ، والولادة لن تتم قبل
 الفجر . تبعتها أمى . حذرتنى :
 - إن جاء المولود ذكراً إياك أن تسميه غريب .
 تعجبت . سألتها عن السبب ، لم تجب إلا بالبكاء . أنابت عنها الجدة فى
 الجواب :
 - هذا فأل سيئ .
 لم أفهم . استوضحت فتذكرت الجدة يوم ولادة أخى محمد . حكت أن أبى أراد أن
 يسميه على اسم أبيه " محمد " ، ابنتها وافقت لأن محمد هو أيضاً اسم أبيها .
 جدتى لأبى غضبت مدعية أن محمد المقصود ليس زوجها ، وابنها يرضى زوجته
 وأبيه معا مستغلاً تشابه الأسماء . حتى يحسم جدى لأمى الأمر طلب من أبى
 تغيير اسم المولود ومنحه اسماً أخر . بينما جدى لأبى اكتشف حلاً أيسر . أخرج
 من الصديرى مصحفاً ، فتحه على سورة يس وطلب من أبى أن يقسم بألا يكذب ،
 وأن ينطق باسم سمى المولود . أقسم بأنه اختار اسم أبيه لكن أمه لم تصدقه . وإن
 تظاهرت بغير ذلك ، فبعد شهرين توفى جدى لأمى فقالت جدتى لأبى إن ابنها
 كان كاذباً فلو سمى المولود على اسم جده لأبيه لمات هو وليس الجد الآخر .
 
 جدى لأبى صدق زوجته ، فرح بنجاته من الموت لكنه خاصم ابنه أربعين يوماً
 لأنه كذب عليه .
 
 كانت الحكاية غريبة لكننى عذرت أمى ، ولم أخبر أحداً بأنى وعدت
 زوجتى أن تختار هى اسم المولود أياً كان جنسه .
 
 " حينما حملت زوجتى لأول مرة ، اتفقنا على أن أختار اسمه على أن تتولى هى أمر المولود الثانى .
 قلت أنها ستلد بنتاً وسأسميها آفاق . ضحكت وقالت إنها ستضع ولداً يشبهنى .لكنها وضعت أنثى . أسميتها آفاق . هوجمت بضراوة بسبب الاسم الذى بدا للأهل غريباً . رأوه غير لائق لمجرد إنه غير شائع . لم تحتمل آفاق أن تكون سبباً للسخرية من أبيها فغادرت الدنيا صباح يوم السبوع وبقى الغربال المزركش شاغراً حتى اليوم " .
 
 ( ف )
 
 لم تلد زوجتى عند الفجر حسب توقع جدتى .
 
 أيقظت محمد لنخرج سوياً . عرض أن أبقى لأكون بجوار زوجتى . رفضت .
 لا أستطيع تحمل عذاب الانتظار المزدوج : خروج المولود ورجوع غريب .
 قال محمد إن زملاء غريب يتوقعون وجوده فى أحد ثلاثة أماكن:
 قسم الأزبكيه ، قسم قصر النيل ، مديرية أمن القاهرة.
 أضاف بأن قلبه يحدثه بأن غريب لم يصب بأذى لذا لن نذهب إلى المستشفيات .
 قالت أمى :
 - وإن لم تجدوه فى أحد هذه الأماكن .
 رددت واجماً :
 - عندئذ لا يصبح أمامنا إلا انتظار رحمة ربنا .
 خرجت أدارى دموعى ،وفى أذنى صراخ زوجتى . تذكرت آفاق ، وبكاء غريب . ضم جثمانها قبل أن ندفنها وصرخ فبكيت . نهره محمد وحملها عنه إلى جوف القبر .
 
 ( ق )
 
 ماذا تقول لهم ؟
 سالنى محمد ، اقترحت أن نؤجل الاتصال التليفونى لما بعد صلاة الجمعة .
 غادرنا مديرية أمن القاهرة قاصدين مولانا الحسين . لم أزره منذ رمضان الماضى .
 كان غريب معى فى آخر زيارة لسيد الشهداء . قال ونحن نتناول طعام السحور:
 - شئ غريب .
 - ما هو ؟
 - قدرتنا على خلق البهجة .
 كيف ؟
 - أنظر كيف حولنا الضريح إلى مكان للنزهة والفرح . أعتقد لو كان
 الضريح فى بلد آخر لما أثار غير الحزن والرغبة فى البكاء .
 غريب لم يستقر على هذا الرأى طويلاً ، هو هكذا دائماً لا يعرف الاستقرار على
 شئ أو فى مكان .
 كنا نشرب الشاى فى شرفتى ونسمع فيروز تغنى :
 - إن ما سهرنا فى بيروت نسهر بالشام .
 رددها وقال :
 - سيسهرون فى بيروت أو فى دمشق . وما داموا جماعة ويصرون على
 السهر .
 فهم يصرون على البهجة . هم قوم يعرفون كيف يحيون أما نحن فنعرف
 جيداً كيف نموت .
 فإننا نسهر بمفردنا ، ونسهر لنتألم ونتوجع .
 ( ك )
 
 كان الزحام شديداً .
 أحد المارة اصطدم بى . كدت أقع على الأرض لولا أن أمسكت بمحمد .
 اعتذر الرجل بسرعة وهو يواصل سيره . أنظر فى الوجوه . أحدق فيها . كلها
 مهمومة يعلوها الصدأ . يعثر العكاز فى حصاة .
 أضيق بالزحام . أشعر بالاختناق . أقف مكانى لكن الزحام الشديد يجبرنى على
 مواصلة المسير . فالجثث السائرة تحث الخطا وإن اعترضت مسيرها بالوقوف
 ستدهسنى .
 لازمنى الشعور بالاختناق حتى رأيت الضريح ، فاضت عينى بالدموع . قال
 محمد:
 - لماذا نلوم أمك إذن ؟
 كفكفت الدمع وجلست أسمع الخطيب .
 بعد الصلاة لم أقو على النهوض ، وددت البقاء فى رحاب الشهيد لكن محمد
 رفض فقفلنا راجعين بدون غريب .
 
 ( ل )
 
 قلت لمحمد :
 - إن رزقت بأنثى سأسميها أيضاً آفاق
 قال :
 - لتعاند الموت الذى اختطف أختها يوم السبوع .
 قلت :
 - وربما تكون البشارة .
 
 ( م )
 
 آفاق عاندتنى ولم تجئ . وضعت أمها ذكراً . أسماه أبى " يحيى " فقد أتته البشارة وهو يسمع القرآن :
 - " يا يحيى " خذ الكتاب بقوة .
 أخذت يحيى بين ذراعى . قبلته على جبهته .
 ابتسمت له لكن سرعان ما غاضت الابتسامة . إذ خطرت لى سالومى وهى تطلب
 رأسه .
 
 ( ن )
 
 جاء يوم السبت ولم نجد ما نفعله . كان لابد أن نفعل شيئاً فذهبنا إلى مركز
 الجيزة فلعل خبراً أتاهم عن غريب .
 لم يقم الصول من مكانه إلا بعد أن دس محمد فى يده الخمسة جنيهات . دسها
 فى جيبه ونهض بتثاقل فتح دفتره وراح يقلب الصفحات بسرعة ثم توقف عند
 الصفحة الأخيرة تمتم باسم غريب ثم أشار بإبهامه إلى السطر الأخير :
 - غريب أحمد منصور ، اسمه موجود . جاء صباح اليوم مع الوارد
 الجديد .
 سألته عن المكان الذى صدره فقال :
 - جاء من الوراق .
 تذكرت الضابط الجالس على كرسيه فى مدخل المركز ، يضع ساقاً فوق الأخرى ،
 ويرشف القهوة . رمقنى أنا وعنتر ثم نفى وجود غريب عنده .
 طلبنا من الصول أن يرينا غريب لكنه طلب الحلاوة أولاً . حصل على خمسة
 جنيهات أخرى فسبقنا إلى غرفة الحجز . فتحها فرأينا غريب يجلس القرفصاء
 هم بالخروج إلينا لكن الصول أغلق الباب . سألناه عن تهمة غريب فقال :
 - أخذوه تحر .
 - يعنى لم يوجه له اتهام .
 - وهل قتل قتيلاً ؟
 - نريد أن نأخذه .
 - اذهبا للضابط واضمناه .
 رفض الضابط أن نضمن أخانا .
 قال لى إنه لا يستطيع أن يخرجه قبل عرضه على النيابة المسائية . معنى ذلك أن
 يظل غريب هنا حتى منتصف الليل ، وقد يبيت ليلة أخرى .
 
 سألنا الصول النصيحة ، فنصحنا بأن نقصد المعلم عاشور ، فالضابط لا يرد له كلمة وهو الوحيد القادر على إخراج غريب من الحجز .
 هرعنا إلى المعلم عاشور . سمع الحكاية فطلب من زوجته إحضار مفاتيح السيارة .
 عاتبنا لأننا لم نكن من مؤيديه فى الانتخابات السابقة وحتى لم نهنئه بالنجاح .
 قبل أن يوقف السيارة أكد على عدم " زعله " منا ، نحن على الأقل كنا واضحين
 ولم نخدعه كما فعل البعض . ممن خانوه ، أكلوا طعامه وأخذوا فلوسه ثم انتخبوا
 خصمه .
 غادرنا السيارة ونحن نعلن مبايعتنا المسبقة له . سبقنا داخلاً المركز . رأيناه
 يدخل حجرة المأمور . أوقفنا الشرطى بالخارج . رأينا المأمور يعانقه . ينادى
 الشرطى . يطلب القهوة . ثوان وجاءت القهوة . كان قد سمع الحكاية من المعلم
 عاشور . يأمر الشرطى فيخرج . بعد دقيقتين عاد ساحباً غريب .
 ولما فرغ فنجان القهوة نهض المعلم عاشور . صافح المأمور ثم خرج لنا بغريب الذى
 اغرورقت عيناه بالدموع .
 
 ( هـ )
 
 فى السيارة بكى غريب ولامنا لأننا لم نفعل له شيئاً طيلة هذه المدة . لامنا المعلم
 عاشور لأننا لم نلجأ له منذ اليوم الأول . قال إنه كان يستطيع إنهاء المشكلة
 بالتليفون . وعده محمد بأن نفعل ذلك فى المرة القادمة .
 توقفت السيارة أمام بابنا . قفز غريب . علت الزغاريد . تجمع الجيران مهنئين .
 حياهم المعلم عاشور قبل أن ينطلق بسيارته .
 
 ( و )
 
 تحلقنا حول غريب . أمى ضمته إلى صدرها وعاودت البكاء . طالبتنا بأن ننتخب
 المعلم عاشور . قال أبى إنه لا يعلم سر الثراء المفاجئ للرجل الذى كان معدماً منذ
 عشر سنوات قلت لعل بغلة العرش زارته ،ذكرتنا أمى بالمعروف الذى أسداه لنا
 الرجل . وسألت غريب عم حدث ؟ سمعناه جميعاً :
 - يوم الأربعاء نفدت البضاعة مبكراً . غادرت السوق قبل آذان الظهر .
 عند محطة الأتوبيس توقف الضابط ليملأ سيارته .
 - ألم تكن معك بطاقتك ؟
 - كلنا كانت معنا البطاقات .
 أبرزناها له لكنه أصر على القبض علينا ، ولم يسجل أسمائنا فى دفتر
 الأحوال ولم يعرضنا على النيابة .
 خلعت أمى طرحتها . رفعت يديها للسماء ثم تضرعت :
 - ربنا يحرق قلب أمه عليه .
 ضحك غريب وهو يحكى عن رجل عجوز . ارتابوا فى الكيس البلاستيكى الأسود
 الذى يحمله . فتشه المخبرون فوجدوا به عدة لفات قمر الدين . أخذوها فثار وطالب الضابط أن يفرج عنه أو يرد له قمر الدين .
 ظل يطالب بذلك حتى جاءته نوبة الربو مساء الجمعة . خشى الضابط أن يموت
 العجوز فى الحجز فأخرج عنه ، ورحل الباقين صباح السبت .
 
 ( ى )
 
 كان المساء مناسباً للاحتفال بغريب ويحيى معاً .
 
 ذبحت أمى ذكر البط المزغط الذى ادخرته لإفطار أول يوم من رمضان .
 تسميه يوم الرفرافة . يضحك غريب ويسألها عن سر التسمية . تقول أن كل
 المسلمين يذبحون البط المزغط فى اليوم الأول لرمضان . والبط المذبوح يرفرف فى
 كل البيوت . ضحكنا وقال أبى :
 - ما فرقتش كتير أول إفطار مثل أول سحور .
 جلسنا فى انتظار اكتمال نضج ذكر البط .
 كان غريب يحمل يحيى ، يهدهده ، يعيد حكاية الرجل العجوز الذى سلبه
 المخبرون قمر الدين .
 طالبه محمد بأن يبحث عن وظيفة بدل من العمل الذى يعرضه لمضايقات الشرطة
 وكأنه قاتل أو لص .
 أعلن غريب عن قراره بالسفر إلى أى مكان .
 نصحته ألا تكون قراراته ردود أفعال ، ونصحنا أبى أن نصمت . استعجل الطعام
 وقال لمحمد :
 - افتح التليفزيون .
 بكى يحيى فحمله غريب إلى أمه . رصت زوجة أخى الأطباق على الطبلية فتحلقنا
 حولها أوليت ظهرى للفيلم . شاهدته فى السينما وكان غريب معى . يومها خرج
 من السينما وهو يردد مع المطرب :
 هلفوت ومالكش لزمة
 وماحدش دارى بيكا .
 
 جلست أمى بجوار غريب . وضعت أمامه ذكر البط . وهى تقسم بأن يأكله بأكمله
 . ضحكنا . تذكر محمد أن يسال غريب عن مصير قمر الدين . هل استرده صاحبه
 أم تركه للمخبرين ؟ . نهرته أمى :
 - ما تفكرهوش وسيبه يأكل .
 عدنا نضحك لكن ضحكتى غارت لما انطلق صوت المغنى فى الفيلم يسألنى :
 - يعنى إيه كلمة وطن ؟
 يعنى أرض
 حدود
 مكان
 ولا حالة م الشجن
 
 تمت
 |