في النشاط الوطني:
إن كانت ترجمة سيرته تتسم ببعض الصعوبة لقلّة المعلومات و قلّة الوثائق، فهذا الجانب يبقى الأكثر صعوبة، الجانب الذي كان يمثل قضيته، كان شديد الوطنية مؤمنا كمعظم بني جيله بالقومية والعروبة و القدرة على ترجمة الأحلام إلى واقع، كان صديقاً لمعظم السياسيين في لبنان آنذاك.
و الجانب الذي أودّ التطرق إليه هنا هو الجانب الذي حدثتني عنه والدتي كشاهدة عليه حتّى حفظت منها أسماء، ووقائع و ظروفا وهذا ما أكده لي كذلك عمّي حين سألته وهو كالتالي: كان نـور الدين الخطيب واحداً من أهمّ مؤسسي منظمة التحرير الفلسطينية و من قبل ظهور المرحوم ياسر عرفات في الصورة و بعض الأسماء الأخرى، و كان يعمل ليل نهار لتحقيق هذا الأمر وينتقل من مكان إلى آخر حتّى أنه كثيراً ما كان يصل الليل بالنهار ويبقى أحياناً لمدّة يومين بلا نوم و يجتمع بالسياسيين، كذلك كثرت اجتماعاتهم في منزلنا، في الفترة الأخيرة قبل وفاته بدت عليه مظاهر الإحباط و الاكتئاب الشديد، وكل ما قاله لوالدتي حين سألته: ( تعرضت لخيانة و سرقة)، لا غير، كان شريكه في الاكتئاب و كاتم أسراره صديقه المرحوم عفيف الطيبي و الغريب بالأمر أنّ عفيف الطيبي توفي بالسكتة القلبية وبعده والدي بستّة أيام كذلك بالسكتة القلبية!!!
الشعر و الأدب والخطابة:
لتكتمل زهوة المناسبات كان لا بدّ أن يقف نـور خطيباً مفوهاً عذب الصوت بالغ التأثير، من الجامعة العربية التي كان أحد خريجيها إلى المناسبات القومية و الوطنية.
تميز شعره العاطفي بلغة عذرية روحية كما تميز بالشفافية الشديدة حتّى في شعره الوطني و قدرته الفائقة على الإمساك بزمام اللغة، الجميع أكدوا لي ذكاءه الوقّاد، ذاكرته القوية و سرعة الخاطر و البديهة الحاضرة كما لُقِّّب بالشاعر الارتجالي و أنه كان نوعاً من الشعراء يعشقه المنبر ، كان معروفاً عنه أنه لا يكتب قصائده وخطاباته مسبقاً، وكان يرتجل شعره وهذه كانت إحدى أهم نقاط تميزه في هذا المجال و إن تكن ربما إحدى أسباب ضياع معظم شعره و أدبه يضاف إليها بالتأكيد أسباب أخرى..
كان هول صدمة رحيله المفاجئ على كلّ من حوله مزلزلاً، الأمّ المفجعة و الإخوة المكلومين و الأرملة الثكلى و الطفلتين اليتيمتين، حتّى جدّتي لأمّي وقعت قبل نهاية اليوم الأول لرحيله فاقدة النطق و القدرة على الحركة و لحقت به بعد أقل من شهرين.. كان النجم الذي يدور من حوله في فلكه و الصخرة التي يستندون إليها مطمئنين، كلهم من الصدمة سكارى، و الصحافة في لبنان تنعي واحداً من أركانها، كثرة معارفه و محبيه و أصدقائه الوافدين من كلّ مكان، و كلّ الأماكن مفتوحة للمعزين، منزله و منزل والدته و إخوته و مكتبه نقابة المحررين، الجمعيات التي كان عضواً بها والرابطة الثقافية إلخ..
إلى أن انفضّ المولد و فكرّت والدتي و بحثت! و لم تجد شيئا أي شيء! و لا قصيدة واحدة !! كانت الأدراج و خزانة الأرشيف نظيفة......
من أخذ كل ما كان في المكتب و البيت و أين أصبح الآن و هل ظهر بعد حين تحت اسم آخر أو ربما ما زال ينتظر؟؟؟؟
لا أحد يستغلّ الظروف و تمتدّ يده ليأخذ كل تلك الكنوز الأدبية فقط ليتلفها!!!
و إلى هذا الحد كان هناك من يكرهه و يغار منه حتّى بعد رحيله؟!
و أكملت الحرب اللبنانية على ما تبقى من أمل، أحرقت المباني و ضاع كلّ أرشيف الصحف و المجلاّت.
بعد الحرب و حين كبرت و وعيت بحثت طويلاً وزرت العديد من الصحف و المجلات بلا طائل، و كذلك حاول ابن عمتي الشاعر طلعت سقيرق أن يجمع شيء من شعر خاله بلا طائل، و تفرقت العائلة و الناس، سافر البعض كلّ في اتجاه و مات البعض، عمتي الحبيبة تحفظ بعض الشعر وتقول أنه من شعر شقيقها نـور، لكنّ ابنها طلعت ولأنه شاعر نبيل الأخلاق و يقدّر خاله و يحبه فهو يخاف الاعتماد على الذاكرة فقط، خاصةً أنّ نـور لم يكن الشاعر الأول في العائلة فالأخ الأكبر غير الشقيق بدر الدين الـخطيب كان أيضاً شاعراً.
حياته:
كان كبيراً و موهوباً إلى حدّ أن تُعرض عليه الجنسية اللبنانية عرضاً و من أرفع مقامٍ، و الذي يعرف لبنان يعرف قدر أن تعرض الجنسية على مسلم فلسطيني ليحمل اسم لبنان! وطنيته الشديدة تجاه فلسطين جعلته يتملص من الأمر بقدر كبير من الحنكة و الدبلوماسية لأنه كان مصراً أن يكبر و هو يحمل اسم فلسطين.
بقدر ما كان نـور الدين محبوباً و بقدر ما كان يصعد بسرعة و تمكّن و يسطع نجمه، بقدر ما اجتمع من حوله الحسّاد و الذين تمنوا له أن يكبو و يسقط في تلك الحفرة، وكثر الذين كانوا يقولون كيف لهذا الفلسطيني أن يتميز علينا في بلدنا و يسرق منّا القلوب و الأضواء و المواقع التي نحن أحق بها و هذا للأسف كان و ما زال موجوداً في مجتمعاتنا.. كثيرون هم الذين يغيظهم النجاح و التميز و الإبداع أحياناً إلى حد الكراهية و الأذى، كان بعضهم يقول: " نـوره من النوع الذي يغشي العيون حتّى يأخذ الساحة وحده و لا يبدو بجانبه أحد، فقد اجتمعت فيه كلّ صفات النجومية و توجتها وسامته الحالمة وطوله و صوته العذب و أسلوبه الراقي في التعامل مع الناس، تهذيبه الأصيل وقدرته الفائقة على حبّ الناس بنبلٍ كان طبعه، و نـور الدين الـخطيب كان شديد التسامح مع هذا النوع، يحاول أن يأخذ بالحب و الاحتواء من لا يعرفون الحب فكانوا كما سمتهم والدتي وكرره أحد الصحفيين المخضرمين حين حدثني عنهم: ( بأصدقائه اللدودين ) و بالرغم منه لو عاش- نـور- بضع سنوات إضافية لبات اسمه مضيئاً و من أكبر الأسماء في شتّى أنحاء الوطن العربي، و قد كان يستحق ليس لأنه أبي بل لأنه أديب و شاعر موهوب و خلوق متميز جداً وطننا و قضيانا تحتاج أمثاله.
إلى أي حد كان الشاعر شاعرياً:
في ذلك الزمن القصير جداً و الساذج الذي عاصرته به، كنت شديدة التعلّق به و الغيرة عليه و الالتصاق به، أرفض الذهاب أو البقاء مع أمّي، و كان ينصاع لهذا التعلق و يفرح به حتّى في المواقف الحرجة، يقف خطيباً أو شاعراً على المنصّة وأظلّ اصرخ و أبكي، حتّى يعتذر لحظة و يتناولني بين ذراعية قائلاً: " ابنتي هـدى لا تطيق البعد عنّي" ثمّ يتابع ما كان قد بدأه و أنا فوق ذراعيه ساكنة مطمئنة، يوقفني فوق الطاولة.. متى تصبحين بهذا الطول و آخذ ذراعك في ذراعي و أعلمك الشعر والحب و تحبّين، ويقول لأمّي الآباء يمنعون بناتهم أمّا أنا فسأعلّم بناتي الحب....
قبل رحيله عن عالمنا بفترة وجيزة كان يتهيأ للسفر و أمّي في إجازة إلى مصر و اتفقا أن يبقياني و أختي عند جدتي، سمعت و غضبت منه ( لا من أمّي) و خاصمته، قلت له: " أنا لا أحبّ نـور لأنه يحب بهية(أمّي) أكثر منّي تريد أن تأخذها في رحلة و تتركني" ( و جاء العلاج شاعرياً )، حملني بين ذراعيه إلى الشرفة و كان القمر بدراً و قال لي: " أنتِ روحي، أنظري هناك إلى القمر، لقد وصل البعض إليه و أنا أودّ أن نذهب معاً إليه لنكون أوّل أب و ابنته يقفان معاً فوق سطح القمر نطلّ منه على العالم ما رأيك؟ موافقة، مع أمك إلى مصر و معك إلى القمر " فرحت! و رحل نـور وحده....
كلّما أصبح القمر بدراً ترتسم عليه صورة وجهه الحبيب و مع الأشعّة تمتدّ يده تدعوني.. و ما زلت أنتظر.... في يومٍ من الأيام حين ترق يدي إلى مثل أشعّة و شفافية يده و.... أطير إليه.. إلى الحب الذي لا يبهت و لا يغيب و يبقى في عالم نفسي و عمري و آفاق روحي الملك الوحيد المتوج دائماً و أبداً....
نــــور .... نــور وهبني النور.............