[align=center][table1="width:95%;background-color:orange;border:8px double darkred;"][cell="filter:;"][align=center]
( صور .. باللون الأحمر )
" المجموعة الثانية "
بقلم / سليم عوض علاونه
غـــــــــزة الصمــــــــود
+++++++++++++++++
" المجموعة الثانية "
=========
( الصورة الأولى )
ذهبنا لتعزيته باستشهاد ثلاثة من أبنائه .. لم ندر كيف نواسيه .. أو نخفف عنه لفقدانهم بالجملة .. استحضرنا كل عبارات التعزية المتعارف عليها .. استعرضنا كل جمل المواساة للتخفيف من المصاب الجلل .
وقفنا في الطابور الطويل الذي اصطف به الرجال .. الشباب ..الأطفال .. والشيوخ .. الجميع جاءوا ليقدموا واجب العزاء لوالد الشهداء وعائلتهم وذويهم .
بعد وقت طويل وصلنا حيث يقف الأب بشموخ وكبرياء وأنفة وعزة . عندما قمت بمصافحته وعناقه .. لم يسعفني لساني بأية عبارة أو كلمة مما جهزته لمواساة الرجل .. هالني أمر الرجل المفاجئ .. انخرط بالبكاء والأنين فجأة .. لم يلبث أن أسعفني لساني ببعض الكلمات أخيراً .. نطقت بها فكانت كلمات وحروف متداخلة مبتورة .. همهم الرجل .. زمجر .. بصوت متحشرج خاطبني من بين الدموع الغزيرة ..
- لا .. لا يا بني .. لا تظن بأني أبكي أبنائي الشهداء .. مطلقاً .. الأمر ليس كذلك .. ولكني أبكي لأن أبنائي الثلاثة الباقين .. هؤلاء الذين يقفون إلى جانبي الآن .. لم يلحقوا بأشقائهم الشهداء .
+++++++++++++++
( الصورة الثانية )
قمنا بتأدية واجب دفن مجموعة من الشهداء من أبناء الحيّ .. في مقبرة الحي الكبيرة .. وقفنا إلى جانب إمام المسجد وخطيبه نقرأ الفاتحة على أرواح الشهداء ..
ما كدنا ننهي الأمر ونبتعد عن المقبرة بعض الشيء .. حتى كان الزلزال المخيف يضرب المكان بعنف ورهبة .. قنبلة حمقاء تزن طن ألقتها على المكان طائرة حمقاء مجنونة .. .
بعد أن انقشع الغبار .. الدخان .. وتطايرت الأشياء .. أحجار القبور .. والأشلاء . هرولنا عائدين من جديد نحو المقبرة .. راعنا أن قبور الشهداء الذين قمنا بدفنهم قبل قليل .. وقبور الشهداء الآخرين الذين سبقوهم قد تناثرت في كل مكان .. وتطايرت أشلاء الشهداء متناثرة هنا وهناك في كل الأرجاء ..
رحنا نعمل بهمة ونشاط لجمع الأشلاء المتناثرة في المكان الفسيح .. لم يكن بنا حاجة لحفر القبور من جديد ..فثمة حفرة واسعة عميقة خلفتها القنبلة الرعناء .. وضعنا بها الأشلاء التي تمكنا من العثور عليها ..أشلاء الشهداء التي اختلط بعضها ببعض .. قمنا بردم الحفرة بعد أن غطينا الأشلاء بقطع كبيرة متباينة من الأخشاب .. الألواح .. الأحجار .. وما تمكنا على عجل من الحصول عليه من أشياء أخرى .
ووقفنا إلى جانب الإمام نقرأ الفاتحة على أرواح الشهداء من جديد ..
ما إن ابتعدنا قليلاً عن المكان .. حتى كان القصف العاصف من الطائرات الهوجاء يقصف المقبرة .. القبور .. الشهداء .. مرة أخرى من جديد ... تطايرت القبور وأشلاء الشهداء مرة أخرى .. تناثرت في كل مكان ... هتف الشيخ الإمام بصوت متحشرج :
- أولياء الله يستشهدون أكثر من مرة ؟؟!!
+++++++++++++++++++
( الصورة الثالثة )
كان يحلو لي دائماً مرافقة جارنا العجوز .. أتعلم منه الحكمة .. المعاني السامية .. الأخلاق الفاضلة ..
كنا لحظتها نعود من المسجد بعد صلاة الجماعة .. عندما كان يحدثني عن الصبر .. مفاهيمه .. معانيه .. وأهميته في وقت الشدة .. خاصة في مثل هذا الوقت الذي نمر به منذ أيام وأيام ..
ارتفع الصراخ المدوي المجلجل في شتى الأرجاء وسائر الأركان .. دوى في المكان صوت كقصف الرعد أو أشد هديراً .. يصم الآذان .. وتطاير كل شيء من حولنا .
ارتفع الدخان والغبار ليملآ الجو رهبة .. ومن خلال الظلام الرهيب للدخان الكثيف والغبار المتطاير والأشياء المتناثرة .. وبصعوبة استطعنا أن نحدد مكان القصف .. كان منزل جارنا العجوز .. هرولنا إلى المكان لاستطلاع الأمر .. ومحاولة المساعدة في الإنقاذ والإسعاف ... كان العجوز هو الأسرع إلى المكان .
بعد لحظات كان يعود .. اقترب مني شبح العجوز يحمل بين يديه شيئاً لم أتبينه إلا بصعوبة بالغة .. مد كلتا يديه نحوي .. رأيت الدموع في عينيه لأول مرة .. بينما كان يقدم لي الأشياء التي يحملها .. يبكي بحرقة .. يئن بألم .. هتف من بين الدموع بصوت متحشرج :
- سيدي .. انظر .. لقد ماتت الحمائم .. لقد قتلوها .. هدموا البيت وقتلوها .. يبدو أنها لم تغادر المنزل ، لقد آثرت البقاء لتموت فيه كما عاشت فيه ؟! .. خذ يا سيدي .. خذ هذه الحمائم الصغيرة ، لا تخش شيئاً .. فهي ميتة .. مقتولة .. مقتولة
سيدي .. " لماذا يقتلون الحمائم ؟؟!! " .
++++++++++++++++++
( الصورة الرابعة )
زوجة الدكتور روسية الأصل … لعلها من روسيا البيضاء .. أو بلاروسيا . أو من الإتحاد السوفيتي سابقا .. تزوجها أثناء دراسته الجامعية هناك .. حصل على شهادة الدكتوراه وهي كذلك .. عادا إلى أرض الوطن .. عملا سوية طوال أكثر من عشر سنوات .. أنجبا فيها من الذكور ثلاثة .. ومن الإناث مثل ذلك .. كانا مثالاً للألفة والمحبة ومثلاً للحياة الزوجية .
اشتد القصف .. القتل والتدمير .. انتشر الموت في كل مكان نتيجة للقصف الهمجي من الجو والبر والبحر .. سمح لكل الأجانب بمغادرة غزة الملتهبة بالموت .. طلب منها زوجها الطبيب أن تغادر غزة برفقة الأطفال … ليبعدها والأطفال عن خطر الموت المحدق بالجميع .. خاصة وأن له رسالة إنسانية كطبيب تحتم عليه البقاء في غزة .
رفضت المرأة المغادرة .. قررت أن تبقى إلى جوار زوجها وأولادها .. اعتبرت بأن غزة هي بلدها ... هي وطنها .. وصرحت له بأن مجرد التفكير بالمغادرة يعتبر خيانة .. خيانة عظمى .. وهي طبيبة مثله .. والواجب يحتم عليها ضرورة البقاء إلى جانب زوجها لعلاج الجرحى والمصابين.
أنهي نوبة العمل الشاق في مستشفى المدينة .. توجه لمنزله لأخذ قسط من الراحة .. وليحل محل زوجته في رعاية الأطفال في المنزل .. سمع القصف المدوي الصاخب يجلجل في المكان .. هيئ له أنه يعاني كابوساً مخيفا .. حلما مزعجا .. أخذ يعدو ناحية المنزل .. وجده أثراً بعد عين .. رجال الإسعاف والدفاع المدني يحاولون إخراج الجثث من المنزل المتهدم … راح يعدو هنا وهناك كالمجنون .. ينادي زوجته .. أطفاله .. استطاعت فرق الإنقاذ بعد جهد جهيد .. إخراج جثث الأطفال .. كانوا قد فارقوا الحياة جميعاً .. حاول لهم الدكتور شيئاً فلم يستطع .. أخرجوا جثة المرأة الروسية ... زوجة الدكتور … كان بها بقايا حياة .. بقايا دقات قلب … سارع الدكتور لعمل الإسعافات الأولية .. وضع فمه على فمها ليدخل بعض الهواء إلى رئتيها في محاولة لإعادتها للحياة فيما يتعارف عليه بـ " قبلة الحياة " .. أخذ يكرر العملية عدة مرات بسرعة .. وبسرعة أكبر كانت قذيفة جديدة من طائرة تعصف بالمكان وتقتل كل المتواجدين … وتجعل " قبلة الحياة " بين الزوجين الطبيبين .. قبلة أبدية ..
+++++++++++++++
( الصورة الخامسة )
قرر أن يقوم بمحاولة إنقاذ المحتويات في " المحددة " التي يملكها قبل أن يطالها القصف كما طال العديد من " ورش الحدادة" المجاورة .. والتي طالها القصف والتدمير كما طال العديد من المنازل والمؤسسات والمقار .
استنجد بشباب الحيّ من الجيران لمساعدته في المهمة .. سارعت مجموعة منهم بالتطوع للمساعدة ..من بينهم كان أحد الجيران من الشباب اليافعين ، والذي لم يمض على زواجه سوى بضعة أسابيع .. غادر المنزل بعد أن طلب من عروسه أن تجهز طعام الغداء ريثما يعود بعد نصف ساعة أو ساعة على أكثر تقدير ..
صعد العريس الشاب إلى السيارة برفقة أصدقائه من الشباب الذين تحمسوا لمساعدة جارهم صاحب " ورشة الحدادة " .. قاد صاحب الورشة سيارته " نصف نقل " مغادراً الحيّ متوجهاً إلى مكان ورشته في وسط المدينة .
وصل الركب إلى الورشة .. قاموا بنقل بعض موجودات الورشة من أجهزة لحام .. عدد وآلات .. مواسير مختلفة .. قاموا بنقلها من داخل الورشة إلى السيارة .. عملوا بجد واجتهاد وبقوة الشباب حتى تم لهم الأمر بسرعة .. صعد الجميع إلى السيارة التي انطلقت بهم مغادرة المكان .
بعد أن سارت السيارة في الطريق بعض الشيء ..شعر السائق ( صاحب الورشة ) بأن حمولته الثقيلة قد مالت بعض الشيء إلى أحد جوانب السيارة .. فتمايلت .. وكاد أن يفقد السيطرة على المقود .. وكادت أن تقع على الأرض أو لعلها كذلك .. توقف عن السير .. طلب من الشباب الترجل من السيارة لمساعدته في إعادة المحتويات إلى السيارة بشكل سليم .. ترجل الشباب .. وراحوا يعملون بهمة ونشاط وبسرعة .. وانهمكوا في تأدية المهمة .
فجأة أحاطت بهم حمم الجحيم من كل جانب .. فأحالت المكان إلى نار جهنم .. فقد أحرقت السيارة قذيفة الطائرة الغاشمة.. وقتلت جميع الشباب .
بعد لحظات قليلة .. كانت المصادر الإسرائيلية تعلن عن رصد مجموعة من رجال المقاومة وهم يستعدون لإطلاق صواريخ جديدة من طراز حديث ومتطور على المدن المحيطة بقطاع غزة ؟؟؟!!! .
وما زالت العروس تعد الطعام في انتظار عريسها الذي تأخر عن الحضور في موعده ؟؟!!
+++++++++++++++++++++++
( الصورة السادسة )
رأيته يبكي بكاءً مراً أليماً .. كمن أصابته نوائب الزمن مجتمعة .. رحت أطيب خاطره وأهدئ من روعه وأخفف تشنجه .. عملت على تحقيق ذلك بكل الوسائل .. حتى تم لي ذلك وبشكل نسبي ..
أخبرني بأن صديقه العزيز قد استشهد قبل ساعة فقط .. واسيته بالمصاب الجلل .. عرفت سبب بكائه المر .. سارع بتوضيح الأمر .. اخبرني أن الأمر ليس كما فهمت .. فهو لا يبكي صديقه الشهيد .. بل يبكي لأنه سبقه إلى الشهادة ؟؟!! .. ولأنه كان من المقرر أن يكون هو الشهيد لا صديقه .. وأن ينال شرف الشهادة .. فهو قد تعود ؛ ومنذ بدء العدوان على غزة .. وتغلغل بعض قوات العدو إلى أطراف المدينة .. تعود أن يقوم بقنص جنديين من جنود العدو في كل يوم ، وعلى مدار الوقت .. ولكنه اليوم أصيب بوعكة صحية طارئة منعته من متابعة العمل .
في اليوم التالي .. كان يعود لمزاولة مهمته في قنص جنود العدو كالعادة .. أتم المهمة بعد ساعات .. فلقد تمكن من قنص جنديين .. وهي الوجبة اليومية المقررة له .. لكنه لم ينسحب من المكان.. قرر أن يعوض ما فاته بالأمس من صيد ..
قنص الجندي الثالث ... ابتسم ابتسامة عريضة .. ولما كان يحاول قنص الجندي الرابع .. كانت طائرة استكشاف لعينة قد اكتشفت مكانه .. فتقذفه بقنبلة من العيار الثقيل .. فتردي به شهيداً ليلحق بصديقه .. في نفس اللحظة التي كانت رصاصته تنطلق من بندقيته .. فتصيب الجندي الرابع إصابة قاتلة .
[/align][/cell][/table1][/align]