06 / 04 / 2009, 26 : 08 PM
|
رقم المشاركة : [1]
|
أديب وقاص وروائي يكتب القصة القصيرة والمقالة، يهتم بالأدب العالمي والترجمة- عضو هيئة الرابطة العالمية لأدباء نور الأدب وعضو لجنة التحكيم
|
أرواح لا تنام الجزء الأول (التيه)
أرواح لا تنام
خيري حمدان
الإهداء
إلى الشاعر ديمو إيفانوف
(ألا نعاقب الورد حين نحرمه من أشواكه)
لكلّ حكاية ورواية قصّة، ولروايتي قصّة امتدت أحداثها سنين طويلة، وللأسف معظمها حزين ومأساويّ إلى حدّ بعيد.
كان هناك أديبان، أنا والشاعر البلغاري ديمو إيفانوف، هو متمرّد على واقعه الاشتراكي والقمع الفكري ومبدأ حكم الحزب الواحد الأوحد السائد في تلك الأيام في بلغاريا، وأنا فلسطيني الجنسية أجنبي المقام، أمتهن الحياة في البلد الذي احتضنني. هو وسيم، بوهيميّ، متصوّف المشاعر، إنسانيّ المآل، وأنا هادئ مستقرّ معذّب بطريقتي الخاصة. هو يعمل في صبّ الحديد والمعادن، وينفجر وقصائده حين يهرب إلى ربيع الحياة مع إحدى صديقاته الكثيرات، وأنا أقضي معظم وقتي متقلّباً ما بين كتب الأدب والرياضيات.
جاءني يوماً .. وجهه أصفر ممتقع وقال: اليوم ربّما أموت!
ضحكت بملء فمي، وأصيب هو بسكتة قلبية في منزلي كادت تودي بحياته، نام الليل كلّه ولم أدرك خطورة الموقف إلا في اليوم التالي. سألته حانقاً: لماذا لم تخبرني، كان بإمكاني أن أحضر طبيباً؟ فقال مبتسماً: كانوا سيقضون عليّ في المشفى، ألا ترى لعنة الاشتراكية، حتى المرأة باتت مخبرة، وتقدّم التقارير بحق زوجها وأبناءها، والرجل لا يتوانى لحظة عن الإيقاع بأصدقائه وبعض أفراد عائلته، تحوّلنا إلى دولة بوليسية .. اذهب بعيداً عن هذا العالم يا خيري.
بعد يومين أحضر لي وصيته، ضحكت أنا العابث مجدّداً، ورميت بها في عمق أدراجي البالية، وقلت ساخراً: أنت مجنون!
ألعام 1989، انقلاب أبيض على الحكم، وبداية الانتقال إلى اقتصاد السوق، أفواج هائلة من البشر تهاجر هاربة من فقرها وحياتها الرمادية، ديمو سافر إلى نيوزلندا، لماذا هذا البلد تحديداً، ربما من أجل امرأة، هذا ليس مهماً الآن، سنوات قليلة تمضي على عجل، ويخونه القلب ثانية، ولكن هذه المرّة، أصرّ القلب على التوقّف طويلاً طلباً للراحة. وحين بحثوا بين أوراقه وجدوا بعض العناوين، من بينها عنواني واسمي، وكنت قد ابتعدت عن صوفيا آنذاك، محاولاً التماهي مع جذوري العربية. قامت الدولة النيوزلندية بدفنه رسمياً لعدم تواجد أي قريب أو صديق للشاعر الذي مضى وحيداً عن هذه الدنيا. حين علمت بالأمر، تفقدت تلك الوصية التي تركها لي ديمو قبل وفاته بسنوات، لكنها كانت قد اختفت مع جزء كبير من أوراقي وكتبي، فقد كنت دائم التنقل والترحال، وربّما ما زلت كذلك، وكأنّ هناك ما يربطني بفطرة الغجر. عندما أرّقني ضميري وحرمني من الراحة، خاصة وأنني لم أقرأ ما جاء في تلك القصاصة من الورق، قررت أن أكتب حياته بقلمي اعتذاراً لديمو، ولجميع الذين حُرِموا من حرية الكتابة والتعبير من الكتاب والأدباء والشعراء على وجه هذه الخليقة. هذه حياته بجموحها وتألّقها وشرودها بين أيديكم، أكتبها بتصرّف لكي يدرك القارئ المنحى الخطير الذي سلكته الدول الاشتراكية ما بعد مرحلة التحول.
المرحلة الانتقالية كانت قاتلة وبطيئة لبعض الدول كبلغاريا ورومانيا وأوكرانيا وهنغاريا، ودولٌ أخرى استفادت من تجارب أوروبا الغربية، فتقدمت وازدهرت كبولندا والتشيك. واليوم حين أكتب اسم ديمو على الباحث الالكتروني، لا أجد سوى ذكرى لديوان صغير يحمل ما نجا من قصائده، بعد أن قرر اتّحاد القوى الديمقراطية في بلغاريا إصداره بعد وفاته، والإهداء الذي ابتدأت به روايتي هذه.
الكتاب الأول
التيه
***
أدركت بأنني أصبحت مفلساً تماماً، وكالعادة، ضربت جيبي بأطراف أصابعي، فسمعت صوت ما تبقّى من بعض قطع المال المعدنية ومفتاح .. غريب! ما الذي يفعله هذا المفتاح في جيبي؟ لقد تركته لي تانيا حتّى أتمكّن من فتح باب العمارة الخارجي، لأنّ معظم الأجراس الخارجية لا تعمل. أشفقت عليّ من شدّة البرد في الخارج.
أقمت علاقة عاطفية مع تانيا منذ شهرين، وكانت المسكينة تأمل أن تدوم هذه العلاقة طويلاً. وقد طلبت منّي في الفترة الأخيرة عدم استخدام الواقي أثناء ممارستي الجنس معها، لأنّها حسب قولها غير قادرة على الحمل بسهولة .. أنا بالطبع وافقت على الفور، لأنّني في حقيقة الأمر عقيم. حيواناتي المنوية ضعيفة وغير قادرة على إخصاب بويضة. لهذا، لم يبقَ أمامي سوى العبث واللهو، ومراقبة طموح العزيزة تانيا بالزواج يوماً ما.
قذفت بالمفتاح إلى أقرب حاوية للنفايات "هذا خطأ؟"، دارت في ذهني هذه الخاطرة على عجل – يوماً ما، أو ربّما خلال إحدى الليالي الشتوية الباردة، سأحتاج إلى بعض هذه المفاتيح، ولكن في تلك اللحظة، كنت أسعى إلى الحريّة المطلقة. لا وعود، لا مفاتيح ، لا التزامات ..
هل هذا واضح؟.
كنت جائعاً للغاية، وكانت معدتي تتقلّص وتصدر أصواتاً غريبة. لم أتناول منذ الصباح سوى كعكة مالحة وكوباً من الشاي. وكان هذا كافياً لإيقاظ وحش الجوع والرغبة الجامحة في تناول كميات تجارية من الطعام، خاصة وأن البرد في الخارج، يحتاج إلى سعرات حرارية كبيرة.
دخلت إلى أحد المقاهي، جلست في نهاية الصالة حيث مكاني المحبّب والمألوف، وضعت معطفي وقبّعتي جانباً. كان الجوّ بارداً ذاك النهار، لم تتوقف السماء عن قذف حبيبات الثلج الكثيفة. وبعد لحظات، قَدِمَتْ كاتيا إلى طرفي، نَظَرَتْ إلى عينيّ مباشرة .. ابتسمتُ لها مطوّلاً، لكنّني فضّلت الصمت. وأخيراً جاء صوتها الدافئ وهمست:
- كيف أساعدك يا نيكولاي؟ أنا أيضاً لا أملك المال .. لا أستطيع إعالتك كلّ يوم يا عزيزي.
- أنا جائع يا كاتيوشا .. أرجوكِ!
- أرجوكَ أن تفهمني .. لا أقدر على السرقة، أنا مهدّدة بالطرد!.
أدركت على الفور بأنّ كاتيا غير قادرة على مساعدتي اليوم، لكنّني كنت على ثقة من قدرتي على تجاوز هذه المحنة.
- أحضري لي فنجان قهوة مع قطعتين من سفائح الجبن وقطعة من الجاتو المحلاّة .. صدّقيني، أنا اليوم أملك ثمن كلّ هذا.
بقيت كاتيا تحدّق في عينيّ غير مصدّقة، أمّا أنا فكنت أنظر إلى عينيها بغباء واضح.
- هل أنت متأكّد؟
- طبعاً متأكّد. ضربت جيبي بأطراف أصابعي لأطمئنها وضَحكتُ بأعلى صوتي. كنت أملك ما يعادل الدولار فقط، وهذا لا يكفي ثمن قطعة الجاتو المحلاّة. وأضفت مبتسماً
- عزيزتي كاتيا .. كاتيوشا الغالية.
هزّت رأسها بأسى وسجّلت طلبي ثم أضافت قائلة:
- نيكولاي .. أنا لا أملك سوى القليل من المال الآن، ولكن عند نهاية ورديتي سأحصل على جزء آخر..
قاطعتها بحدّة وقلت لها بأننّي قادر على دفع هذا الطلب المتواضع. وأخيراً ذهبت كاتيا لتحضّر لي ما طلبت من طعام.
فتحت مسودة الرواية التي كنت أكتب أحداثها في تلك الأثناء. كنت قد أنجزت كتابة ما يقارب المائة وعشرين صفحة، وكنت أجد صعوبة في العودة إليها. كنت أنسى بعض الأحداث وحتّى أسماء بعض الشخصيات المحورية .. كانت الرواية نصّاً مفتوحاً، حيث تتجاذب الأحداث وتختلط في ملاحم لا تنتهي. لا بدّ أنّ الصيغة النهائية للرواية ستكون مبهمة للغاية.
بعد قليل أحضرت كاتيا كلّ ما طلبت. وضعت الصحون وفنجان القهوة بتأنٍ أمامي.
- أنتِ رائعة!
وعندها أفسحت كاتيا المجال لشبح ابتسامة ليرتسم على وجهها. كانت تتمنّى أن أبقى أناديها باسم الدلال "كاتيوشا". لكنّي في تلك اللحظة، كنت أبدو كالعاشق عندما انساب الكلام من فمي:
- يا إلهي .. ما أجمل يديك! .. جسدك، حضورك الأنثويّ.
- أنت شقي يا نيكولاي، لا أحد يقدر على مجاراتك.
- يا للأسف؟ هل هذا رأيك بشخصي المتواضع؟
- شهيتك اليوم قويّة، ما الذي فعلته ليلة البارحة؟ اشرب قهوتك قبل أن تبرد.
فكّرت قليلاً قبل البدء بمهاجمة الطعام أمامي. كنت أفضّل سفائح الجبن، ولهذا، سارعت بتناول الحلوى لكي يبقى الطعم المالح في فمي، عندما انتهي من التهام هذه المأدبة المتواضعة. نظرت إلى الباب الخارجي، وشاهدت صديقي الإيطالي كريستيان يدخل، والى جانبه بالطبع الحسناء اللعينة سيلفيا.
- لقد أتى الفرج أخيراً.
وعندما التقت أعيننا صِحْتُ بأعلى صوتي "كريستيان .. صديقي العزيز". ولم تمتلك كاتيوشا نفسها من الضحك، ثمّ غمزت بطرف عينيها.
- نيكولاي بلحمه وشحمه، إذن أنت ما تزال على قيد الحياة؟
اقتربوا من مائدتي، دعوتهم للانضمام إلي. وبالطبع، جلسوا إلى المائدة دون تردد.
- عزيزتي سيلفيا، هل يُعْقَلُ بأنّك لم تسأمي هذا الشاب بعد؟ أنت تولينه اهتماماً كبيراً على أية حال، بدأت حديثي محاولاً أن أضفي جوّاً من المرح.
- وأنت يا نيكولاي، ألن تتخلى قريباً عن تهريجك هذا؟
- أنا أعشق التهريج كما تعلمين. أخبرني عن أخبارك يا كريستيان؟
- لدي الكثير من العمل في الآونة الأخيرة، أحاول أن أترجم مادّة جافّة ومملّة للغاية، ولكن ليس لدي الكثير من الخيارات.
- السياسة مجدّداً؟ سألته محاولاً تجنّب نظرات سيلفيا.
- نعم .. نعم، لكنهم يدفعون بسخاء.
- ما رأيك يا سيلفيا لو تتناولون معي بعض الفطائر وفنجان من القهوة؟
كانت سيلفيا في تلك اللحظة مكفهرة ومزاجها حادًّ للغاية، كانت تنظر نحوي، وبالأحرى كانت تنظر من خلالي إلى نقطة ما في فراغ المكان، همهمت قائلة بأنها تفضّل شيئاً من الويسكي، في تلك اللحظة، شعرت بالراحة لأنني حققت ما كنت أصبو إليه، لم أكن أملك ثمناً للفطائر التي طلبتها فما بالك بالويسكي!
- أعتذر يا سيلفيا، لا أملك ما يكفي للويسكي يا عزيزتي.
عندها تدخّل كريستيان وقال بما لا يقبل الجدل.
- لا تقلقوا أرجوكم، أتركوا لي حرية التصرّف، أرغب أن أرفع نخبكم جميعاً، انتم ضيوفي وأرجو أن تقبلوا دعوتي.
- ولكن يا كريستيان، حاولت أن أعارض دعوته، لكني سرعان ما لذت بالصمت، تصوّروا لو وافق الرجل، وترك الفاتورة بين يدي، عندها كنت سأفضّل أن تنفتح الأرض على مصراعيها وتبتلعني.
بعد قليل أحضرت كاتيا المشروب، وملأت الكؤوس أمامنا، وضعت بعض المكسّرات، ونظرت إلي طويلاً، كانت تدرك بأنني وجدت ضالتي حين التقيت كريستيان، لكنها كانت تدرك جيداً، بأن جميع حلولي في الفترة الأخيرة مؤقتة. وهذا ما كان يزيدها حزنا .. وجمالاً ذات الوقت.
كان عليّ أن أجد عملاً في أقرب وقتٍ ممكن، من الصعب أن أستمرّ بهذا النمط من الحياة طويلاً. أنا فتىً قويّ ولا أستسلم هكذا بسهولة، المصانع الثقيلة كثيرة في ضواحي صوفيا، وعادة ما أتمكن من الخلاص في اللحظة الأخيرة، لحظات قبل أن يصل النصل إلى أصل العظام، عندها أصبح شريراً، وأنتزع لقمتي من فم الذئب بيدين عاريتين.
- ما هو مصير هذه الرواية يا نيكولاي، ألم تنتهي من كتابتها بعد؟ قال كريستيان والقلق واضحٌ على تقاطيع وجهه.
وقبل أن أجيب كريستيان، نظرت إلي سيلفيا بعينين واجمتين، وسألتني عن أمرٍ لم يكن يعنيني البتّة. تذكرت الآن ما قالته لي ذاك الصباح
- هل ستحضر معنا إلى الحفلة هذا المساء؟
لم أجبها على الفور، كنت أرغب أن أصرخ في وجه كريستيان: لماذا ربطت مصيرك مع هذه الأفعى الجميلة يا رجل؟ سيلفيا قادرة على خلع سقف بيتك، لتبقى وحيداً في فراشك خلال ليالي الشتاء الباردة.
- أعمل جاهداً لإنهاء هذا العمل الروائي، ولكني لا أدري لماذا تعقّدت الأمور إلى هذا الحدّ، أشعر بأنّي غريب عن روايتي، أنسى أبطالي، والأحداث التي أحبكها تبدو غريبة عني، كلّما أردت الشروع بالكتابة أجد نفسي مضطراً لقراءة ما كتبت قبل ذلك. يبدو أنّ روايتي كتاباً مفتوحاً يا كريستيان
- هل لديك أبطال محبوبون في هذه الرواية؟ هل تكره أحدهم بالرغم من أنّهم من صنع يديك.
- لا أبداً، أحياناً أجد نفسي مضطراً لقتل أحد أبطال روايتي، حين يصبح مزعجاً وغير مريح للنصّ، ولكن هذه الإجراءات تأتي دون تخطيط مسبق، تأتي عفوية
- هذا المساء ألكسندر يقيم حفلاً صاخباً في نزله .. صدّقني، حفلات ساشو* لا تفوّت. ما رأيك أن تشاركنا. قاطعتنا سيلفيا دون أن تشعر بأيّ حرج.
شخصية هذه المرأة فريدة من نوعها، وهي عنيدة حتى الغثيان، لا تملّ ولا تسأم، وتدرك بأنّي أحتقرها ولا أطيق حضورها، ولهذا تفرض حضورها وتقاطعني في كلّ مناسبة ممكنة.
- أنت يا سيلفيا مغرمة بالحفلات، ولا يمرّ يومٌ دون أن تسلّطي الأضواء عليك، وما دمت تصّرين على حضوري فسأكون أوّل المدعوّين.
استمرّت سيلفيا تنظر من خلالي، وكانت ردّة الفعل الوحيدة التي أظهرتها سكبها لما تبقّى من كأس الويسكي في جوفها، وسرعان ما ملأت الكأس مجدّداً، كنت على ثقة من أنّها على وشك الانهيار، طبعها الحادّ سيبطل لقاءنا في أيّ لحظة قادمة.
- حاذري ألا تثملي يا حبيبتي الصغيرة. قال كريستيان بصوته الدافئ، لكنها أجابت بحدّة
- وماذا لو سَكِرْتً يا كريستيان .. أنا في نهاية المطاف إنسان، والسكر ليس حِكْراً على الرجال.
في تلك اللحظة، كانت رغبتي بصفعها كبيرة، لكنّي أمسكت، كنت أشعر بالشفقة على الرجل ذو القلب الكبير الذي كان يجلس قبالتي. كيف استطاع أن يحتملها طِوالَ هذه السنين، الحبّ يعمي القلب والعقل في كثيرٍ من الأحيان.
- سيلفيا أنت غير قادرة على احتمال وطأة الكحول، وتبدين شرسة وقبيحة حين تثملين، لهذا من الأفضل أن تتوقفي عن جرع الويسكي وكأنّه ماء حميم. كنت حادّاً في ملاحظتي، بل كنت في الواقع أحاول أن أتحدّاها وليتني لم أفعل.
نظرت إلي والشرر يتقادح من عينيها، كانت مصرّة على تنفيذ ما عزمت القيام به، جرعت كأسين آخرين من الويسكي، أشعلت سيجارة، أركنت مرفقها على الطاولة أمامها، وقالت:
- إلى متى ستمارس حياتك على حساب كريستيان الخاصّ؟
كانت الإهانة كبيرة للغاية، لم أكن قادراً على الصمت من ناحية، وكنت محتاراً في كيفية الردّ عليها، خاصّة وأن كريستيان شعر هو الآخر بالحرج.
- اللعنة يا سيلفيا .. هذا يكفي، أرجوك. انفجر كريستيان في وجهها صائحاً.
* ساشو: اسم التحبب لألكسندر
أحياناً يفقد كريستيان القدرة على التركيز وتبدو اللثغة واضحة في حديثه، وهو الأجنبي والغريب عن هذه اللغة السلافية، لكن الكلمات خرجت من فمه واضحة، وكأنّه كان حريصاً على عقابها بطريقته الخاصّة، لم تتمالك سيلفيا أعصابها، انزاح مرفقها عن الطاولة، فسقط الجزء العلويّ من جسدها فوق المائدة، ورطم رأسها الصحن أمامها. رفعت برأسها غاضبة، وقالت هامسة
- ذاهبة إلى المرافق
لم تُزِدْ عمّا قالته كلمة واحدة ..
- حاولي أن تستيقظي يا سيلفيا، اغسلي وجهك بالماء البارد.
حين وقفت على قدميها، ضربت بطرف يدها كأس الويسكي أمامها، فوقع على الأرض، ملأ صوت الانكسار فضاء المكان، وفجّر معه الهدوء والانسجام الذي كان يسيطر على المقهى في ذلك الصباح الباكر. كلّ هذا لم يثنِها عن عزمها، ومضت بكلّ هدوء إلى المرافق الصحيّة دون أن تعتذر.
بعد قليل حضرت كاتيا وبدأت بجمع كِسَرِ الزجاج في المكان.
- مقرف.
كانت تلك الكلمة الوحيدة التي تفوّهت بها كاتيا، ولم تُضِفْ على ذلك شيئاً. صحيح بأنّ تصرّفات سيلفيا كانت عدائية، ولكنها تعودّت على مثل هذه التصرّفات، خاصّة في المقاهي والحانات الرخيصة التي تقدّم الكحول.
- أرجوك، أريد أن أدفع ثمن هذه الفوضى التي لحقت بالمقهى. قال كريستيان خَجِلاً.
عندها لم أمتلك نفسي، وصرخت في وجهه:
- لماذا تصرّ على اقتناء هذه الحثالة في بيتك يا صديقي؟
نظر إليّ كريستيان فَزِعاً وقال:
- لقد تحدّثنا بهذا الشأن قبل ذلك يا نيكولاي، أنا أحبّ هذه المرأة، بدون حدود، وبدون تكلّف. أحبّها بدون تصنّع .. أعشق جنونها، وحدّة طباعها. أنا غير قادر على الوجود دون حضورها الدائم في حياتي كلّ يوم .. كلّ لحظة.
- أنت حالة ميئوس منها يا صديقي .. اللعنة!
- نعم .. هذه عبارتك المفضّلة .. أخبرني على أية حال، كيف تسير أمورك الحياتية؟ حسناً .. وبكلّ صراحة، كيف تسير أمورك المالية.
- ألا ترى بأن نهاري يبدو غريباً بعض الشيء؟ وسأقول لك السبب الذي يدعوني للتفكير بهذه الطريقة. جميع الذين التقيتهم اليوم مهتمون بأحوالي المالية! جميعكم تريدون أن تعرفوا حجم الأوراق المالية الموجودة في محفظتي يا كريستيان!
- حسناً يا صديقي، اتّصل بأنطونيو، يقوم هذه الأيام بتصوير دراما سينمائية، من الممكن أن تحصل على أحد الأدوار الصغيرة، ميزانية الفيلم جيدة، وأعتقد بأنّك ستحصل على مردود جيد.
- لا أدري كيف أردّ لك الجميل يا كريستيان .. أشكرك .. أنا مدين لك.
بعد قليل حضرت سيلفيا، كانت قد غسلت وجهها بالماء البارد، وكان من الواضح بأنّ الأمور قد أخذت تعود إلى طبيعتها، وكان لقاؤنا العابر في هذا المقهى الصغير قد وصل إلى نهايته.
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|
التعديل الأخير تم بواسطة رشيد الميموني ; 08 / 04 / 2009 الساعة 57 : 08 PM.
|
|
|