23 / 04 / 2009, 28 : 06 PM
|
رقم المشاركة : [1]
|
أديب وقاص وروائي يكتب القصة القصيرة والمقالة، يهتم بالأدب العالمي والترجمة- عضو هيئة الرابطة العالمية لأدباء نور الأدب وعضو لجنة التحكيم
|
تأملات في مهب الريح (2)
لا يعرف الصغير معنى الألم، يشعر به فقط، وتحذف الذاكرة كلّ أثرٍ له بعد أن يكتمل الخلق. أصبت بغيبوبة أثناء الرحيل، وكأنّ الذاكرة تآمرت لمسح وجع الهجرة، لا شيء سوى تلك الومضات العابرة نحو الشاطئ الآخر. فكيف لا أكون شاكراً لنعمة النسيان؟ بيد أن قطرات المطر تطرقُ سقف الزينكو بعنف، في أوّل مستقرٍ لي في مدينة الزرقاء. ولا شيء سوى قرقرة الماء يغلي في إبريق الشاي، والسيجارة تشتعل الواحدة بعد الأخرى، وصوت أمّ كلثوم يدوّي ويمتزج مع صوت المؤذن القادم من الجامع القريب عند أوّل الشارع. لوحةٌ شرقيةٌ امتدت أوشاجها ما بعد قطار العمر. مهلاً، ربّما ما زال هناك بضعة عقودٍ من الزمن. تكفي لرسم لوحة أخرى، ألوانُها تماهي قوس قزح، محنية الظهر، تنظر نحو الأرض المتشققة من شدّة الشوق.
هل تمكن الجسد من الانسلاخ مرة واحدة من خضرة المكان المعشوشب في وطني الأم، وباتت صحراءُ الزرقاء أفقي منذ تلك اللحظة، صفراء كالحة، تحمل حبّات الرمل كلّ مساء مهما حاولت إغلاق الأبواب والشبابيك دون فائدة، أجدها قادرة على اختراق بؤبؤ العين قبل أن تهدأ الرياح مع حلول العصر. لا أمانع من الاستماع للموسيقار محمد عبد الوهاب، ساعات طويلة يدندن في حمّى اللقاء والوداع، ولم أكن آنذاك أملك خياراً سوى الاستماع. وفي الخارج، أخذ المطر يهطل بقسوة غريبة، حتى توقّفت عربتي، وصل منسوبُ المياه إلى أعلى العجلات، وبدأ رذاذُ الثلج يتساقط بصمت، أدرت تعويذة المذياع لأستمع لنغمة شاردة في لجّة الحدث. انسابت أنغامُ الجاز دافئة. ومنذ تلك الليلة، أصبحت رفيقتي كلّما شعرت بالبرد يشقّ الطريق إلى جسدي. كيف اختلطت الأمور عليّ الآن؟ أين أنا من زرقائي؟ ربّما انتقلت في وهلة من الزمن، بعيداً عن عينيّ أمّي، هارباً إلى قارة المياه المتدفقة من حرقة السماء.
كيف أصنع سيرة حياتي؟ بالقلم المغامر المهاجر دوماً إلى الجنوب، ألحق بأسراب السنونو، أصنع طائرة ورقية وأبقى أرقبها بُعيدَ العصر، كلّما هبّت ريحٌ تائهة من قبضةِ الفضاء. من أنا في صيرورة التاريخ؟ مجرّد فقاعة، ترفض أن تنفجر، دون أن تحرق قلب عذراء. عُدْنا مجدّداً إلى النساء اللواتي لا نتوانى لحظة واحدة عن تقديمهنّ قرباناً في مجتمعنا الذكوريّ، أحبّك .. قلتها بلغاتٍ عديدة، ولا أدري أين سكن قلبي أخيراً!
ما الفائدة من غسل البيت بالماء كلّ يومٍ والغبارُ الغبارُ يجدُ طريقهُ إلى روحي، كلّما توجّه قرصُ الشمسِ مغرّباً. سيرة ُ حياة شعب امتطى السحاب، ومضى يبحث عن حلولٍ لمغتصبه. أحْضرَ البلسم وقال للشعب اليهودي خذوا نصف الوطن، واتركوا لنا خمس ما تبقى من النصف الآخر، فما كان من الآخر إلا أن وضع السماعة على أذنه، فضّل الاستماع لفاغنر قبل أن يطلق الرصاص في وجهي. أدركت بأنّني تحدّثت بلغة مُبْهَمَة، لغةٌ تراقصت في مهبّ الريح. فكادت أن تنتحي وربما فعلت!
يبدو كالأفعى، عملاقُ في مجراه، هادئ في مسيرته التي لا تنقطع ليل نهار. نهرُ الأردن، ونسمّيه نحن الفلسطينيّون الشريعة، بتسكين حرف الشين. لماذا؟ لا بدّ أن أسأل أحد أجدادي الذين أصبحت عظامهم مكاحل. ببساطة لا أجد تفسيراً لهذه التسمية. غابت الأجساد محمّلة ببقايا المتاع عند شاطئه الغربي، ومضت تجدّف نحو الشاطئ الآخر. البعض تعب من وهيج الشمس، فرمى بنفسه إلى لجّة الماء، لعلّه يقرأ أبجدية النشوء من رحم الماء مجدّداً، ساد الصمت بعد أن أدركنا بأن الوطن أصبح بعيداً خلف السحاب، بل أضحى سراباً في عداد الماضي. وجوهٌ كالحة، يصعب أن تقرأ الفرح على وجهِ شرقيّ، لكنّك قادرٌ على قراءة خارطة الوطن هناك محفورة بالملح.
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|
|
|
|