مادلين إسبر ودالية الحرف الجميل
مقدمة بقلم الشاعر : طلعت سقيرق
[align=justify]
رغم أنني أكتب القصيدة بثوبيها العمودي والتفعيلة ، فلستُ ممن يبخس الجمال حقـّهُ بأيّ ثوب جاء .. ولستُ ممن يصادر حقَّ الآخرين في التعبير عن ذواتهم بالشكل الذي يرغبون .. فأن أحبَّ أو أميل إلى شيء ما ، لا يعني أن أكون جلادا لمن يسيرون في طريق مغاير ، يشمل هذا سبل الحياة عامة والفن خاصة .. وإذا كانت قصيدة النثر ، كما القصة القصيرة جدا ، قد شجعت كثيرين على استسهال الكتابة وخوض غمارها دون التسلح بالموهبة وتوقد الروح وعلوّ فتنة الجمال ، فهذا لا يعني أن نصادر المصطلح والتسمية وندّعي عدم وجود هذا أو ذاك .. علينا أن نحاكم النصّ المنجز وليس الجنس أو النوع الأدبي برمته، لأنّ هناك من يكتب ويسكب روحه وورد عمره في نصوص أدبية أيا كان الشكل أو الثوب ، لتكون أدبا رائعا شامخا جميلا عالي العطاء ..
فأين تقف ما دلين إسبر من كلّ ذلك ؟؟..
أستطيع القول ، والنص حكم ناطق عادل ، أنّ الشاعرة مادلين إسبر قد غمست أصابعها العشرة في مياه الشعر المقدسة لتقدم لنا قصيدة مشغولة بعناية وتركيز ، مأخوذة في فصولها وفضائها ووقعها وأنفاسها من موهبة عالية ، مطرزة في امتداد صورها بكل ما هو جميل فتـّان .. ولستُ هنا في وارد الشكل أو الثوب أو الكأس الذي صبـّت فيه القصيدة ، بل غايتي مناقشة الكمّ الشعري في القصائد ، والنظر إلى القدرة على أخذ القارئ أو المتلقي عموما لما يدهش ويفتن ويغني ويفيد ويمتع ويفتح فضاءات لا تحد .. وهذا الكمّ الشعري هو برأيي الذي يعطي الحق في أن أقول هذا شعر أو انه لا يمت إلى الشعر بصلة .. والحكم هنا ينطبق على العمودي والتفعيلة والنثر .. فالجمال جمال .. والشعر شعر .. وكم من قصيدة عمودية سقطت لأنها كانت نظما لا شعرا ..
تقول الشاعرة مادلين إسبر :
أنفاسي مسكونة بالسحر
الحاني منسوجة
بأوتار الروح
تنهداتي ...
دفوفي القلبية .. "..
أدّعي أنّ قصيدة النثر تخلتْ عن الوزن وأشعلت فتيل الجمال أكثر وأكثر لتعوض عن غياب الوزن الذي ألفته الأذن العربية وتعودته واستساغته خلال عقود وعقود .. وفي المقطع الذي أوردت للشاعرة مادلين جماليات كثيرة ، ووقع داخلي ، وصور أخاذة ، وصوت يشدك إلى انسيابية ذات فضاء منسوج من إحساس داخلي عميق صادق مسكون بالجمال .. هل عليّ أن أفكر هنا بالوزن وأن ألغي هذا المقطع أو سواه لأن الوزن قد غاب ؟؟!!.. ألا يعتبر هذا – إن كان – في قياس النقد ظلما وتجنيا غير مبررين؟؟.. الشاعرة تسير بخطوات رشيقة لتشق طريقها بثقة ، فما المانع ؟؟.. ظني أنّ الشعر حالة طاغية محلقة مرتفعة بعيدا عن الشكل كحكم قيمي لكل القصيدة!!.. ولا يظن أنني أعترض على أي شكل ، بل على العكس تماما أنا مع أي شكل على أن يحمل كما عاليا من الشعر وكفى .. لكن هل الميل إلى قصيدة النثر يعني ميلا إلى الجنس أو النوع ككل؟؟.. وهل ننادي كما نادى أصحاب قصيدة النثر بأنها البديل عن العمودي والتفعيلة ؟؟..
طبعا لا .. من واجبنا أن نكون ضد نفي نوع أو جنس أو لون فني ليحل محله آخر .. الساحة تتسع لكل جميل .. فما المانع أن تسير كل الأنواع والأجناس جنبا إلى جنب رافدة لبعضها بانية مساعدة على التقدم لا نافية ملغية .. ليكتب الشاعر بالشكل الذي يريد ، وليكتب القاص والروائي وغيرهما بأي شكل .. المهم أن نقنع المتلقي بجمال وتميز وعلوّ قامة ما نقدم له من فن .. ولا جدوى أو فائدة في أن نلوي عنق الأشياء لنقول بغير ذلك ..
أعود إلى شاعرتنا مادلين إسبر ، والظن أنني ما خرجت من عالمها ولا ابتعدت عنه.. فكل ما سبق أثارته قصيدتها وحركته لغتها الفاتنة المعطاء .. ولنا أن نسمع قولها :
موجة من الجدران
تأخذني
بقوانين جائرة
ترميني
وهذا العصفور في صدري
يحلم بالسماء
بالتقاط حبّات النور
بأنشودة
تبث روح الجمال
في قلوب البشر .. "..
أيمكن أن أغالي في الحكم وأخرج هذا المقطع من عالم الشعر ؟؟!!.. لماذا أفعل ذلك إن فعلت وعلى أي أساس ؟؟.. مادلين إسبر هنا مفاجئة مدهشة في تصويرها وحركتها وموسيقاها ووقع مفرداتها وامتداد معانيها وروعة تحليقها والكمّ الشعري العالي عندها ، هذا إلى جانب ما توصله إلى النفس المتلقية من حلاوة وشعور بالراحة والتوازن والانسجام .. هي شاعرة تضع المفردة النابعة من ضوء الأحاسيس والمشاعر في مكانها المناسب تماما .. كأنها تفرد ذاك البريق من حب الآخرين والذي تكنزه كنور ساحر في عينيها ، تفرده على الورق مبعدة كل الحواجز والحدود والسدود لتكون مع المتلقي وفي فضائه .. شاعرة متميزة تستطيع أن تكون من خلال حبها مع المتلقي تماما .. مع البشر كلهم .. مع الكون .. شاعرة تملك حبا وشعرا كثيفين مركزين مدهشين ، لذلك تعطي الناس من هذا الحب والشعر الكثير .. إنه الحب العالي الذي يتجاوز
المفاهيم الضيقة ليكون حبا لكل الناس والبشرية .. اسمع قولها :
فرحي المهاجر
إلى الشطآن
حيث اللّجة تعانق اللجة
نسيت معزوفة الحلم
كنت أبدا.....
على موعد مع الصبح
أنام....وأغفو بأعماقك
وأشيد لك الرؤى زرقة
موشاة بماء العين والهدب .."..
هو الشعر إذن ، ساعة تدقّ على جدار ٍوشـّته النداءات بروعة العطاء فأبى إلا أن تكون الدقائق مشغولة بهذا الإعجاب الرائع الذاهب أبدا نحو الفرح والبناء .. هل كانت الشاعرة مادلين إسبر تمرر كفها ببطء شديد على جبين وعنق وكتف الحرف كي يورق جمالا ؟؟.. تقول :
متّرعة بالحزن يا أولادي
كورق الخريف
مترعة بالصمت
بالشوك كالّصّبار
مترعة بالدمع
بالأمطار
كأنني الأحلام في حدائق الصغار
مترعة بالدفء كالصباح
سفينة أنا
قد مزّقت شراعها الرياح
وتكسّرت أخشابها
لكنها تواصل الإبحار
في الجراح... "..
يا الله .. ما أجمل الشعر حين يكون دافئا إلى هذا الحد .. قارن بين سحبة ونغمة الناي في هدوء الليل وهذه المفردات الناعسة حينا الدامعة حينا الصارخة حينا آخر وهي تواصل الإبحار في الجراح .. هناك بريق من الشعر يلفّ كل حرف ويكاد يغسل بالضوء وإن حزنا كل الدروب .. هو الشعر وليس هناك غير الشعر .. ما أجمل أن تسحبك المفردات إليها وتأخذك دفعة واحدة إلى عالمها الدافئ السحريّ الرائع .. اسمع قول مادلين :
لا تتركني وحيدة
قصيدة على مفرق طريق
حزينة كالورق الأصفر في تشرين
سأهطل عشقا على قلبك
وأوقظ الحب النائم فيك
لا ترحل عني .....
وان رحلت أعطني بعضا منك
فأنت أمير الليل
وأنا جنية أحن إليك
هكذا تكتب الشاعرة مادلين إسبر بكل حياتها شعرا عاليا جميلا .. فما أروع ضوء الشعر وما أجمل وما أحلى ...
طلعت سقيرق
دمشق 25/12/2006
[/align]
****