أرواح ورماد
تنطفئ جذوةُ الكلمة، قبل أن تفلق سكونَ الريحِ الكامنة في الذاكرة، فأصمت في زمن الثرثرة
وأرتدي ثياب النوم عند الصباح.
تقولين يا مجنون! أتحاول تقمّص القصيدة؟ والرحيل في زمن العودة، وزيارة مكّة بعد انتهاء الحجيج. أتذبح فلذة كبدك لتثبت كرمك وتميزك؟ .. أنت الشرقي العائد من ساحة المعركة. رأيتك تلوّح بسيفك في وجه طائرة معربدة. توقف قبل أن يجثو الحصان وهناً، عُد إلى خيمتك، وابحث عما تبقى من مياه في بئر العشيرة، فالصحراء تمتدّ أمامك، تكاد لا تنتهي، وشرايين القلب تجفّ بعد فرسخ.
وقفت عند باب بيتك قبل مغيب الشمس بأغنية، حملت باقة ورد، وقلبي الذي ظننته مميز، همس اسمك، لم يكن يجرؤ على ملء جيوبه بحضورك. ما الذي يخشاه فؤادي في زمن العولمة .. فتيات الليل تنزع عن أجسادها البضة ورقة التوت، وتحدّق بغباء في جموع الرجال مرددة كالببغاء: قد أحبك مقابل بضعة رموز فينيقية، مرسومة بماء الذهب.
قبل المغيب بأغنية عابرة، بقيت واقفا بباب بيتك وبين يدي باقة ورد، أنا بقايا زمن الرومانسية، حملت ذكراك فوق رايتي المشرعة، وغبت في جلبة الوجود.
قالت عُدْت مجددا، كأنك لم ترحل يوما بعيداً عن زرقة العين، نضج رأسك وابيضّت المفارق، والتفّت محاجرُ العينين بوشاحٍ متألق من تجاعيد الرجولة.
قالت عُدتَ بعد أن نضب السحاب، ونسيتَ كلماتِ أغنية كتبناها قبل عقد من الزمان، على حافة العشق، عند عتبة الفراق، وقبل أن يقتلني الخجل، سارعت بالبوح وقلت عند محطة القطار "أحبّك!" تلفّت البعض من حولي وهمس أحدهم: هناك من يتعاطَ الحبّ في زمن الهزيمة؟
مضى قطاري يبحث عن سكّة، وهدير البحر ينادي مراكبي، تذكرت على حين غفلة بأنّ البحر يكره الموتى، لا يترك جثّة في أعماقه طويلاً، حتى لا يُفْجَعَ البشر ..
لماذا صمت قلمي حين انفتحت الأوراق أمامي؟ ولماذا رميت ريشتي في مهب الريح؟ خشيت رسمك، خشيت ذكراك، لا تسامحيني، دعيني أدخل المطهر محملاً بعبء ذِكراك. لا تسامحيني، كان بودّي أن أغنّي للطيور المهاجرة نحو الجنوب مبشرة بحلول الربيع، وانفلات الحياة من قفص الاتهام.
دَعوني يوما لإخماد حريق .. كانت النار تفترس مرسم. مضى الفنان يبحث عن ألوان أخرى في حيّ الغجر، نسي قلبه مشتعلاً، وحين أتت النار على آخر لوحة زيتية، انحلّ حِزامُ غجرية، سكبت عصائر ذاتها الأنثوية، قرأت تعويذة عشقها، وملأت الفضاء برجع الناي. لم تعمّد يده بعد اليوم لوحة، شرب من يدها رماد لوحاته الأخيرة، مجبولاً بماء الزهر، ومضى يبحث عن ظلٍّ لوّحته شمس المتوسط.
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|