عذراء النسر .. قصة .. مهنا أبو سلطان علاونة
النسرٌ يحوم حول القرية بسكون المُنذِر .. بين الحقول .. أمام الكهف القديم الجديد .. بالذّات أمام الكهف القديم الجديد .. وبين ثنايا عيونهم القادحة عنفواناً مزوراً .. أنا كنت مع النسر . واعلم انه " أنثى " .. كان النسر الأنثى بحاجة إلى مِدادٍ مذ جف أمله .. وتجمدت أبجديات القوم قبل آلاف السنين .. في بلادي يخشى الناس النسر كما يخشون الفأر تماماً .. لكنهم قبل أكثر من شتاء .. طعنوا حبّاً عشش في قلوبهم كالحاً .. أسود .. اكثر ظلمةً من الكراهية .. وقالوا : هذا يوم من أيام العرب المشهودة .. غسلوا أيديهم من بقايا الشرف .. وامتدّوا سُفُناً إغريقيةً .. تحت فِراش العفن الأزرق .. في الليل الأخضر والأحمر .. وراحوا يمارسون الجنس مع الأشجار .. وكلما حبلت شجرة قطعوها .. وصارت ليلاً أكثر من ذي قبل .. وبين كل حَجَّيْن يتناول فقراؤهم وجبتين من تمر وحناء .. ويتناول اغنياؤهم فقراءهم والتمر ويلعقون الحناء الأسود .. بلال الحبشي أصبح أبيض البشرة ذا عينين عسليتين من طعم السيلوفان .. ناصع الجسد يسب النسر الأنثى أثناء رفع الأذان وبعد الإقامة .. وقبل ولوج الفجر يتأبط عري الرّمّان .. ويزهو بالنرجس .. ربما بعد صيف .. سيقطع القوم شجرة المؤذّن .. سيغضب ..لا بأس .. ولكن سيحبل ثانية .. حلّقت عذراء النسر فوق الرؤوس هذه المرة دون أجندة ملونة .. فقط كان المنقار أحمر .. بلون نجمة الصبح قبل الصبح .. قبل أن تهاجر .. أكثر من خوف أسال دماءهم .. ولم يشفَ الجرح .. بل إن الجرح سيحبل أيضا ً .. والمتفرجون في الشمال الغربي للمدينة لا يعرفون النسور العذراوات .. لذلك لم يقتلعوا الأشجار .. بل زرعوها وضاجعوها فاثمر الحب لوزاً وبرتقالاً .. صاح النسر العذراء حين اصطف القوم بعد السابعة " ظهراً " .. فانخلعت الأبواب ودخلت في الشبابيك العتيقة .. ونام القوم ولم يحلموا لقرنين متتاليين .. وفي صباح القرن الثالث .. بدا أنهم سيحلمون بالآتي .. والآتي لا ياتي بل هو حلم على الورق .. كل منهم يحمل في داخله ضدَّه .. حتى انقسمت القبيلة بين مُؤَيِّدٍ ومُؤَيِّد .. وثارت الثورة على من ثار بصمتٍ أجوف .. وارتج المكان في المكان .. ليلاً .. فالقبيلة لا تتحاور في وضح النهار وعلى شفا المستنقع الشرقي .. همس لصاحبه وهو لا يحاوره : " أمي عاشقة " .. لم يبكِ الآخر .. بل أَفْهمهُ أن العشق حلال على شاطيء الجريمة .. ضحكا .. وانفلقا .. شطرين في خطين متوازيين .. ينحني أحدهما " أحياناً " للآخر كي لا يلتقيا .. أو يشيع عنهما لقاء في الغروب .. الأول لم يكن أُنثى .. بينما كان الثاني ذكراً .. والنسر تراقبهما وتحزن ثم تضج بالضحك بُكاءً .. صارت النسر لؤلؤاً قرمزياً من كثرة الموت .. وشدة التداخل للألوان ... عنتر بن شداد لم يكن عبداً أسود كما كذب الراوي .. بل كان باللونين الأبيض والأسود .. ويحب ابنة عمه بالأبيض والأسود .. من أجل ذلك كان فارس القبيلة .. ومن أجل ذلك تزوجت عبلة من فارس آخر لا يفهم .. والنسر تحوم حائرة بين الجيف .. أيها سيكون الوجبة الأولى .. ؟؟!! فالقبيلة ملأى بالجيف .. وكلها في مرمى مخلب .. ولكن هل ستجرؤ تلك النسر .. على تناول الوجبة قبل أن يأتِ الشيخ ؟؟!! .. هنا تنحنح الزمن ودقَّ الجرس الأخير .. ثم تلاشى بين الرموز .. فهناك يسكن .. ومعها يلعب لعبة الخلود .. عذراء النسر تثاءبت .. استنلقت على ريش الذكرى .. فنحن لا نشفى من الذاكرة .. واحتارت كيف ستنقضُّ على الخوابي ولفائف البامية المجففة .. ثم ما لبث القوم في آخر الليل ان سمعوا صراخاً مدوياً .. مدوياً جداً .. ليس له صدى .. فالقبيلة بدون جدران .. نهضوا من تحت نسائهم .. عُراة .. عراةٌ جداً .. كوجه التاريخ .. صرخة عذراء النسر .. : " أنا بحاجة لكاتب " ..
نسيت أن أقول لكم ان عذراء النسر ميّتة ..
جنين 21/05/2009