[align=center][table1="width:100%;background-image:url('http://www.nooreladab.com/vb/mwaextraedit2/backgrounds/43.gif');border:2px groove indigo;"][cell="filter:;"][align=justify]
10 - النفائس العصرية لخليل بيدس
درجت العادة في عالمنا العربي أن يرث الأبناء عن الآباء كل شيء بدءاً بالمهنة. وكان أهل القلم في طليعة المورثين والوارثين. لذلك، تابع الشيخ ابراهيم اليازجي صناعة اللغة والأدب التي كان والده ناصيف من روادها. وعاون سليم البستاني أباه المعلّم بطرس في تحرير مجلة الجنان واعداد دائرة المعارف . وكان سليم فارس (الشدياق) السّاعد الأيمن لوالده أحمد فارس (الشدياق) في ورشة اصدار جريدة الجوائب . ولم يكن إميل وشكري زيدان أقل موهبة من أبيهما جرجي زيدان في ميدان الصحافة، بدليل أن مجلّة الهلال ، بعد رحيل مؤسسّها في العشرينات، أصبح لها شقيقات وأشقّاء كثيرون من مثل المصوّر و الفكاهة و اللّطائف المصورة .
وباعتبار ان لكل قاعدة شذوذها، فإن خليل بيدس الذي احترف الأدب والصحافة في النصف الأول من القرن العشرين، وجّه إبنه يوسف في الخط المعاكس، فدرس الاقتصاد والمال، وكان من انجازاته بنك انترا الشهير. وبيدس الأب، الذي أسّس في غرّة 1909 مجلة النفائس العصرية في عاصمة فلسطين، كان القدوة في عدم توريث الأبناء مهنة الأدب والصحافة، بسبب المتاعب المالية التي واجهته من المشتركين والمعلنين، خصوصاً ان مجلته كانت أدبية في الدرجة الأولي.
ولكن الاستيطان اليهودي قد تضاعف في مدينة القدس وعموم فلسطين منذ اعادة الاعتبار للدستور العثماني في صيف 1908، أي قبل أشهر من ولادة النفائس العصرية . فهل تبقي مجلة خليل بيدس مجموعة لطائف وفكاهات تصدر مرة في الأسبوع في حيفا علي حد وصف مجلة المشرق البيروتية الجزويتية؟ كلا. ولكن التغيير الذي طرأ عليها في بداية حياتها لم يتعدَّ الحجم وعدد الاصدارات، حيث غدت مجلة فكاهيّة أدبية تاريخية تصدر في حيفا مرة في الشهر بنحو تسعين صفحة كما ورد في مجلة الحسناء لمنشئها جرجي نقولا باز المعروف بـ نصير المرأة ! إلا ان التغيير في أواخر العام الأول، تخطي مضاعفة الصفحات وتقليل الاصدارات، فأصبح للاستيطان اليهودي والمسألة الفلسطينية، حضور ملحوظ في المجلة الأدبية. بل ان الباب قد فتح في عدد تشرين الأول (اكتوبر) 1910 بقصيدة لإسعاف النشاشيبي قال فيها تحت عنوان فلسطين والاستعمار الأجنبي :
يا فتاة الحيّ جودي بالدماء
بدل الدمع إذا رمت البكاء
فلقد ولّت فلسطين ولم
يبقَ يا أخت العلي غير ذماء
ان الاستعمار قد جاء المدي
دون ان يعدوه عن سير عداء
انها أوطانكم فاستيقظوا
لا تبيعوها لقوم دخلاء
ولكن، اذا كانت القصيدة قد خاطبت العاطفة الوطنية لأبناء فلسطين، فإن التحقيق الموثّق المعنون بعض مزارع يهود فلسطين من سنة 1860 الي سنة 1900 كان بمثابة رسالة عقلانية تتضمن صورة دقيقة حول الاستيطان اليهودي الذي بدأ في فلسطين قبل 37 سنة من مؤتمر بال الصهيوني. استهل قلم تحرير المجلة التحقيق الإحصائي بمقدمة مستفيضة قال فيها ان فلسطين كانت وما زالت محط رحال الاسرائيليين يصعدونها زرافات ووحدانا، أفراداً وأزواجاً، فراراً من مقاومات الغرب والشمال لهم. فهذه الحركة طالما استوقفت أنظار القوم وغدت بحكم الضرورة من المسائل الشاغلة لأفكار أولي الأمر والنهي، ولا غرو إذا شغلت كثيراً من الصحف العربية وغيرها وشحذت قرائح كتبتها. فالأمر جلل، والتقاعد علي استقرائه يحملنا علي الندم، ولات ساعة مندم . لماذا؟ لأن الإسرائيلي أينما حلّ ونزل وأيان سار وقصد، لم يزل طامح البصر الي أراضي الميعاد منازل يعقوب وابراهيم واسحق، فينفق الابريز الخالص في سبيل امتلاكها . تلت المقدمة قائمة بمزارع القدس وضواحيها وحيفا وملحقاتها وصفد وبلاد بشارة، وفي طليعتها مزرعة زمار الواقعة بين القيسارية والكرمل التي أنشأها الثري روتشيلد في العام 1862، وقد بلغت مساحتها 1300 هكتار. وإذا كانت هذه المزرعة أو المستوطنة قد رأت النور قبل عهد السلطان عبدالحميد الذي يحلو لبعض المؤرخين التغني بمقاومته لاستيطان فلسطين، فإن القائمة قد احتوت عشرات المستوطنات التي ولدت في العهد الحميدي ومنها: منزل إسرائيل... ملبّس... عيون قارة... محطة عاقر... قطرا... قسطينة... خربة ديران... ملك راوبين... خضيرة... أبو شوشة... بوش فنا... خربة زيد... جسر الأردن... عين الزيتون... محناييم... وشمر هبردن. وروتشيلد الذي أسّس باكورة المستوطنات زمار ، كان ألحقها بسبع مستوطنات من التي ورد اسمها سابقاً.
وكان خليل بيدس حراً في الوعد الذي قطعه في افتتاحية عدد تشرين الثاني (نوفمبر) 1909 عندما تعهد بالعمل علي خدمة الأمة والوطن الي كل عمل مفيد وقول سديد . فهو كتب في المجلد الخامس عن بيت روتشيلد ص182، وحول أصل الفلسطينيين ص241. وأعلن في المجلد السابع ص192 عن مسابقة بعنوان فلسطين والمهاجرة .
وحين أعلنت الحكومة العثمانية عن المباشرة بمشروع إنارة القدس، نشر تحقيقاً بعنوان الكهربائية في القدس، في المجلد السّادس، 1914، ص202، تناول فيه تفاصيل المشروع ومراحله التاريخية أو التمهيدية. في العام 1911 تقدمت شركة المانية لنيل الامتياز. غير انه لم يحصل اتفاق بينها وبين الحكومة . وبعد عامين تألفت شركة وطنية من بعض المتمولين في القدس وبيت لحم لهذا الغرض فلم يتيسر لها . وأخيراً، جاء الخواجة مفروماتي مندوباً عن أصحاب بنك بيريه في باريس، فنال الامتياز الذي يشمل تنوير القدس بالكهربائية ومدّ الترامواي فيها وجرّ الماء اليها . أما لماذا وافقت الحكومة العثمانية علي منح الامتياز لمفروماتي ورفضت طلب الشركة الوطنية، فلأن البنك الذي يمثّله الخواجة مفروماتي كان أسلف حكومة الاستانة المبلغ الذي كان باقياً عليها من ثم الدارعة السلطان عثمان الأول . ويذكر ان مفروماتي يوناني الأصل، استوطن القدس، وقد تولّي ابنه، في ما بعد، منصباً رفيعاً في البوليس البريطاني في فلسطين علي حد تأكيد المؤرخ الدكتور نقولا زياده.
صحيفة الاتحاد الحيفاوية وصحيفة لسان العرب المقدسية
11 - صحيفة الاتحاد الحيفاوية الاسبوعية الجامعة لصاحبها اميل توما
تفيد ترويسة العدد الأول من صحيفة الاتحاد الاسبوعية الصادرة صباح كل أحد انها لسان حال العمال العرب في فلسطين . ولكن الاطار المجاور للعنوان يتضمن العبارة الآتية: صاحبها ومحررها المسؤول إميل توما . وإذا كانت العبارة تلك توحي وكأن اميل توما أصدر الاتحاد كرمي عيون العمال وحقوقهم، ربما لأنه كان مسؤولاً نقابياً، فإن افتتاحية العدد الأول الصادر في 14 أيار (أيار / أيار / مايو) 1944 الموقعة باسم الاتحاد تصرّح بأن اتحاد العمال هو الذي أصدر الدورية لتكون أول جريدة تنطق بلسان العمال العرب في فلسطين . ويعود سر اعلان ملكيتها لشخص معين، الي القوانين التي لا تسمح بتسجيلها باسم النقابة، وهو أمر ينطبق علي كل الدوريات التابعة للنقابات والأحزاب. كذلك تدعو الافتتاحية الي الاستنتاج أن الاتحاد العمالي في فلسطين قد يكون احدي مؤسسات الحزب الشيوعي أو النقابة التي يقودها شيوعيون وتلقي تأييداً من حزب الطبقة العاملة . ومن الأدلة علي ذلك العبارة الآتية التي كانت تعجّ بمثلها مطبوعات الحزب الشيوعي في لبنان خلال الحرب العالمية الثانية: إن لظهور جريدتنا في مرحلة نضال الشعوب المحبة للحرية ضد الاستعمار النازي، أثراً قوياً علي طبقتنا العاملة وعلي حركتنا القومية العربية، فسوف تحمل رسالة الروح الجديدة، روح الحرية الشاملة التي تعمّ العالم بأسره نتيجة لنضال الشعوب المظفر ضد أعداء الحرية . وفي الوقت الذي لم تأت الافتتاحية علي ذكر الحركة الصهيونية التي كانت قاب قوسين من إعلان دولتها في فلسطين، يؤكد كاتبها ان الصحيفة خير ردّ علي اقتراحات اللجنة التنفيذية لحزب العمال البريطاني، وستسهم حركتنا العمالية العربية بواسطة هذه الجريدة وبواسطة الوفد المزمع ارساله الي لندن في تفسير ما خفي علي اخواننا عمال بريطانيا. وفي هذا ما فيه من خدمة لوطننا العربي فلسطين ولقضيتنا الوطنية عامة . يلمّح الكاتب هنا الي موقف حزب العمال البريطاني المؤيد للاستيطان اليهودي في فلسطين، وما سيقوم به حزب العمال الفلسطيني من تعديل في ذلك الموقف.
ان افتتاحية العدد الثاني المعنونة مؤتمر البلديات وموقف الأعضاء اليهود تعزز القول إن خلو العدد الأول من ذكر الاستيطان اليهودي بقيادة الحركة الصهيونية كان نهجاً تكتيكياً، كي لا يبادر المفوض السامي البريطاني الي سحب رخصة الجريدة. فقد ردّ توما علي الأعضاء اليهود في بلدية القدس الذين احتجوا علي اشتراك رئيس البلدية الخالدي في المؤتمر، فأكد أن منطقهم ليس سوي منطق الصهيونية في فلسطين التي تحاول ان توهم الجماهير اليهودية ان صالحهم في عداء الحركة الوطنية العربية التحريرية، وتظهر لهم ان سعي العرب في سبيل حكم ديموقراطي مستقل يضرّ بمصالحهم . وأضاف في افتتاحية العدد الصادر في 21 أيار 1944 ان الذي بيننا وبين اليهود في فلسطين هو الصهيونية، والذي بين اليهود ومصالحهم الحقيقية هو الصهيونية . وختم أن سعي الحركة الوطنية في سبيل ايقاف الهجرة ومنع انتقال الأراضي هو في مصلحة العرب واليهود معاً .
شارك عدد من النقابيين والكتّاب اميل توما في تحرير الاتحاد ، فاحتل رأس اللائحة الأديب اليساري المعروف اميل حبيبي الذي اتخذ لزاويته الدائمة عنوان يسألونك عن . في العدد الصادر بتاريخ أول تشرين الأول (اكتوبر) 1944 كتب حبيبي عن موقف الاتحاد السوفياتي من الصهيونية ، متناولاً الموضوع بمناسبة سعي عصبة النصر اليهودية في فلسطين لإقناع الاتحاد السوفياتي بأن ينظر بعين العطف الي انشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين. وختم الكاتب، بأسلوبه الساخر، ان الاتحاد السوفياتي لم ينظر بعين العطف الي انشاء الوطن إياه، وقد يكون ينظر اليه بالعين الأخري. وعلي ما يظهر أيضاً، ان الاتحاد السوفياتي لن يقتنع . وحبيبي هنا كان يجهل أو يتجاهل العين الثالثة ذات العلاقة بالمصلحة لا العقيدة، وهي التي دفعت الاتحاد السوفياتي، بعد ثلاث سنوات من ظهور المقال، الي التسابق مع الولايات المتحدة، للاعتراف بالدولة الصهيونية.
في ذلك العام (1944) زارت هدي شعراوي لبنان بدعوة من اتحاد الأحزاب اللبنانية . وخلال الزيارة، أقيمت للضيفة المصرية ندوة في دار الكتب الوطنية، خطب فيها الأديب اليساري رئيف خوري باسم عصبة مكافحة النازية والفاشستية . والخطيب هنا كرّر ما سبق وشدّد عليه رفيقه حبيبي وهو ان الاتحاد السوفياتي يستنكر الصهيونية استنكاراً صريحاً لا ملاينة فيه . ومما ورد في سياق الخطاب ان انهيار النازية في الحرب يعني انقطاع شريان من الشرايين الغزيرة الخبيثة المغذية للصهيونية . ( الاتحاد 15 تشرين الأول 1944) ولكن السنوات التي تلت سقوط النازية، وهي تربو علي نصف قرن، أكدت عكس الاستشراف إذ ان انهيار الحكم النازي كان ولا يزال أبرز الشرايين التي تتغذي منها الحركة الصهيونية مالياً واعلامياً وسياسياً.
يبقي ان السلطة البريطانية في فلسطين عطّلت الاتحاد في أواسط شباط (شباط / شباط / فبراير) 1948 لأنها أعلنت بكل صراحة ان الاستعمار البريطاني بجيوشه وبوليسه وأجهزته لم يقف علي الحياد أبداً، ولكنه لم يكن مع العرب ولم يكن مع اليهود، بل كان ضد الجماهير العربية وضد الجماهير اليهودية . والطريف ان الكلمات الآنفة وردت في افتتاحية العدد الأول لمرحلة ما بعد التعطيل الصادر في 18 تشرين الأول 1948، أي في ظلّ السلطة الاسرائيلية.
ولم يقتصر الكلام الايجابي الموجه لليهود، علي الافتتاحية. بل هو شمل معظم أخبار الصفحة الأولي وخصوصاً الخبر الرئيس المتوج بالمانشيتات الثلاث الآتية: نصر كبير تحققه الطبقة العاملة العربية واليهودية وضربة تنزلها بمشاريع الاستعمار في الشرق الأوسط... إعادة تأليف حزب شيوعي أممي موحد في كل من الدولتين... نص القرارين اللذين اتخذتهما اللجنتان المركزيتان لعصبة التحرر الوطني والحزب الشيوعي . ولكن تفصيل الخبر الذي يعزز صحة العنوانين الأول والثالث، يدعو الي تعديل العنوان الثاني ليصبح هكذا: إعادة تأليف حزب شيوعي أممي موحد في كل من الدولة الاسرائيلية الراهنة والدولة الفلسطينية العتيدة! فقد ورد في مقدمة الخبر ان اللجنة المركزية لعصبة التحرر الوطني في فلسطين اتخذت قراراً تاريخياً اقترحت فيه علي الحزب الشيوعي الاسرائيلي العمل المشترك علي إعادة انشاء حزب شيوعي أممي واحد في دولة اسرائيل وحزب شيوعي أممي واحد في الدولة العربية الفلسطينية المزمع انشاؤها . تري هل كانت اللجنة المركزية لعصبة التحرر الوطني قدّمت اقتراحها الغريب لو علمت ان الدولة الفلسطينية لم ترَ النور علي رغم مرور 52 سنة علي تاريخ الاقتراح؟
12 - صحيفة لسان العرب المقدسية للنجار
تحت عنوان أقلام وضمائر للبيع استهل ابراهيم سليم النجار افتتاحيـة العدد 61 الــصادر في 8 ايلول (سبتمبر) 1921 بالقول إن في فلسطين حركة إفساد حديثة العهد يبرأ منها العقلاء الي ربهم، يجب أن تقطع عروقها، يقوم بها أناس استأجرهم الطامع الغاضب لإضرام نار الفتنة بين أبناء الوطن الواحد واللغة الواحـدة وخــدمة لأغراض أجنبية ومطامع ذاتية، نود اليوم أن توجه اليها الأنظار، وان نكـشف الســتر عن خــفاياها لــيقف العقلاء علي سرّها ويعلم أهل هذه البلاد الي أين يُساقون . من هو الطامع؟ وما هي الأغراض الأجنبية؟ أجاب الكابت في سياق الافتتاحية ان الأمة العربية كانت تؤلف كتلة واحدة في عهد الدولـة العثمانية تمتد من خليج العجم الي عريش مصر، وان فلسطين كانت وما برحت قطعة من سـورية تربطها بها روابط لا تتجزأ. فلما وضعت الحرب أوزارها وعلمت الحكومة الفرنسية ان لا سبيل لتأييد نفوذها في سورية إلا بتجزئة البلاد السورية، قسمتها الي الأقسام التي يــعرفــها الـــقراء، ثم وضعت الكمامة علي أفواه الصحف السورية الحرة إسكاتاً لها. غير ان هذا العمل الذي يراد به محاربة الحركة العربية والسـياسة الانكــليزية بصــفة خاصة، يحتاج الي لباقة كبيرة ومهارة في ادخاله علي عقول البسطاء من الناس. فبأي ستر يتسترون وبأي صورة يظهرون للــبلوغ من الســـياسة الانكــليزية أولاً وبالتالي من أصــدقائها؟ لا يحتاج المرء الي ذكاء نادر للجواب عن هذا الـسؤال. فقد وجدوا القضية الصهيونية حـاضرة فتستروا بسترها ليرموا من ورائـها خــصوم مستأجريهم بكل فرية وكل تهــمة . وبالــطبع لم تنج لسان العرب من الاتهام. فاتـهموها بأنها لسـان حـال الحــكومة، وانها أنشئت بأموالها. فضاقت حليتهم في مقاتلة جريدة عربية وطنية مقاوِمة للصهيونية ولكنها غير سبّابة وغير نهّاشة للأعراض. وكل ذلك لأننا أنــشأنا في هذه المدينة جريدة يومية وطنية النزعة جميلة الأحرف نظيفة الطبع حسنة الورق صادقة المبدأ عربــية الروح جــيدة اللغة تحسن اختيار مواضيعها. وقد كانوا يودون، بل يدفعون، علي فقرهم، مئة ليرة لو أصدرناها صهيونية رديئة الطبع سيئة اللغة .
قبل الانتقال الي افتتاحية أخري في صحيفة لسان العرب التي صدر عددها الأول في مدينة القدس في 24 حزيران (حزيران / حزيران / يونيو) 1921، لا بأس من مناقشة صاحبها اللبناني ابراهيم النجار الذي أصدر صحف عدة في القاهرة منذ مطلع القرن العشرين، اضافة الي اللواء البيروتية و لسان العرب المقدسية.
قبيل انتقاله من القاهرة الي القدس، كتب النجار مقالاً في المقطّم بتاريخ 28 حزيران 1919 تبنّي فيه ما ردده دعاة الصهيونية بالحرف وهو ان الاسرائيليين مثل السوريين والأرمن والتشيكوسلوفاك وغيرهم من الشعوب، يلزمهم أيضاً أن يرجع اليهم وطنهم فلسطين القديم الذي له تـاريخ خصوصي منفصل عن سورية، كما ان لـسورية تاريخاً خصوصياً منفصلاً عن فلسطين . صحيح انه لم ينشر في صحيفته المقدسية كلاماً مباشراً يؤيد فيه المشروع الصهيوني كالذي نشره في المقــطم قبل عامين، ولكن متهميه الذين لم ينسوا كتاباته في الجريدة القاهرية الشهيرة الواسعة الانتشار، انطلقوا في اتهامهم من معطي آخر وهو موالاته للانكليز الذين وعدوا اليهود بوطن قومي لهم في فلسطين خلال الحرب العالمية الأولي، وبدأوا يساعدونهم في تنفيذ ذلك الوعد منذ اليوم الأول الذي احتلت جيوشهم فلسطين في نهاية الحرب.
ولعل أغرب ما ورد في دفاع النجار اتهامه الفرنسيين وحدهم في تجزئة سورية أو بلاد الشام واحتلالها. والحقيقة ان قرار التجزئة السرّي اتخذ من قبل باريس ولندن وموسكو قبيل الثورة البلشفية. وفي حين انسحبت روسيا الشيوعية من الاتفاق الثلاثي، استمرت فرنسا وبريطانــيا العــظمي تتشبثان به علي رغم معارضة الولايات المتحدة في عهد الرئيس ولسن. وهو ما أصـبح يُعرف بـ اتفاقية سايكس بيكو .
لم يتراجع النجاح عن نهجه التطبيعي في صحيفته علي رغم ضراوة حملات خصومه الذين رفضوا الاستيطان اليهودي برمته. وها هو في افتتاحية 11 آذار (آذار / آذار / مارس) 1922 يثني علي المشروع التطبيعي المتمثل في مسودة الدستور الذي وضعه المنتدِب البريطاني ووافق عليه الوفد الفلسطيني . يقول النجار في القسم الأول من الافتتاحية التي احتلت كامل الصفحة الأولي: يذكر قراء اللسان ان هذه الجريدة (الصهيونية) تفردت دون أخـواتها كلها، من الساعة الأولي، بتأييد الوفد وتحبيذ صنعه . يضيف ان الدفاع عن الحقوق لا يقوم بالشغب أو بإحداث المشاغب والتشويق عليها، بل بمثل عمل أعضائنا في لندن. فلقد أحـسنوا الي اليـوم الصنع في بيان خطتهم السلمية الودية ورغبتهم في التوفيق بين أبناء جميع العناصر في فلسطين . والطريف ان النجار، وهو الصحافي البارع، لا يتردد في تبني صفة الصهيونية لجريدته التي أطلقها خصومه، ولكنه يضعها بين هلالين، مما يعني أنها ليست بريئة وحسب، بل هي وطــنية، ولكن بعيداً من التطرف.
وإذا كان صاحب لسان العرب ورئيـس تحـريرها حذرا في التعبير عن نهجه التطبيعي كأن يستعمل عبارة جميع العناصر في فلــسطين بدلاً من تسمية تلك العناصر ومنها بيت القصيد أي اليهود، فإنه غير متحفظ أبداً في موالاته للانكليز. ولنأخذ عدد 4 شباط (شباط / شباط / فبراير) 1922 علي سبيل المثال. احتل مكان الافتتاحية التي تستــغرق الصـفحة الأولي خبران انكليزيان تُوّجا بالعنوانين الآتيين: اللورد نورثكليف ضيف القدس و زيارة جريدة الدايلي مايل في لندن . ولنختم هذه العجالة بما ورد في الخبر الأول أو بالأحري التعليق عليه: الأمم الضعيفة تحيا بقوة معنوياتها فوق حياتها بقوتها المادية الضئيلة التي لا تملكها حرّة مطلقة. وهذه القوة المعنوية انما تتم بمصادقة دولة كبيرة كإنكـلترا والإخلاص لها. فالأمة الانكليزية هي صديقة العرب، والصحافة الانكليزية هي مرشدة شقيقتها العبرية، عنها تأخذ وفي سبيلها تسير. فالبلاد العربية التي اشتركت مع الحلفاء في هذه الحرب لبلوغ استقلالها وحريتها، تأمل بمساعدة إنكلترا أخيراً .
يبقي أن النجار الذي رحل قــبل أن يشــهد كيف ان الصهاينة الذين ظهروا في العشرينات دعاة تطبيع وسلام في فلسطين رفضوا السلام والتطبيع في ما بعد... وشهد قبل عشر سنوات من رحــيله كيف ان انكلترا صديقة العرب حــرصــت عــلي توفير كل الشروط التي تحقق وعد وزير خارجيتها اللورد بلفور، قبل ان تطوي صفحة الانتداب في فلسطين.
[/align][/cell][/table1][/align]