ذكريات معاشية
[align=justify]
عندما صرت واعياً وعارفا لمعنى الأخذ والعطاء ، كان مرتب والدي مقنعاً ومصدر اطمئنان لكافة أفراد الأسرة ، مع أنه يعتبر في ذلك الحين من الرواتب المتوسطة للموظفين الحكوميين ؛ وكان والدي ولا يزال ، يردد على مسامعنا ، وفي كل المناسبات ، أنه عندما طلب الاقتران بوالدتي ، قال لها : إنه يتقاضى نصف المبلغ الحقيقي في ذلك الحين ، وحذرها مما يمكن أن تلاقيه معه في المستقبل من ضيق، وضنك ، ومعاناة ، وذلك تحسباً من تقلبات الزمن ، ودرءاً لاحتمالات ( النق ، والهت ، والنكد ) ولكن والدتي أصرت على ترديد الأسطورة المعروفة بأن المهم الرجل ، والمال يذهب ويأتي ، وهذه سنة الحياة … ومع ذلك فقد كان هذا – المعاش – ينعكس على والدي وعلينا هيبة ووقاراً ممن حولنا ، وكان هذا الوضع يمنحنا الشعور بالأمان والبهجة ، فكثيراً ما كنا ننتظر ما يحمله والدي لنا من مفاجآت ، بعد عودته من العمل المسائي خارج نطاق الوظيفة ، وغالباً ما يكون ذلك طبقاً من الهريسة ، أو الكنافة النابلسية ، أو العوامة ، وأحياناً نفاجأ بأنه يحمل (حبة جوز هند كبيرة ) كانت هذه الجوزة تذكرنا بأفلام – طرزان و شيتا – فنلتف حوله في السهرة نترقبه وهو يكسر قشرتها الصلبة ، لنتدافع بعدها على اقتسام الماء الذكي الذي بداخلها ، أما ( سطل القشدة ) فغالباً ما يتوافق حضوره مع يوم الخميس ، بحيث نمضي سهرة عامرة لا تخلو من الضيوف ، نتوجها ( بصينية المدلوقة ) التي اشتهرت بها عائلتنا بين الجوار ، فأخذوا يتبادلون معنا عملية السكبة أملاً بأن تعاد صحونهم بقطع منها .
_ وعندما فقد والدي عمله المسائي وأخذ راتبه الأصلي يفقد خواصه الفيزيائية والكيميائية ، أخذنا بادئ الأمر نستعين بمدخرات الماضي و خيراته ، نعلل النفس على أنها فترات عابرة، وغيوم دكناء لا بد لها أن تنقشع وتعود الإشراقة من جديد، ولكن كل مالا ينبع ينضب فسرعان ما نفدت هذه المدخرات ووجد هذا الراتب نفسه وحيداً يئن ، ويلهث ، ويجري بالاتجاه المعاكس لمتطلبات الحياة ، ما كان منها معروفاً وما استجد ، ففي كل يوم تنهض ( شلعةٌ ) من الحاجيات التي كانت في عداد الكماليات وتمتد بأعناقها ثم تقفز لتجلس وتتصدر في سدة الحاضر وضرورياته ، وفي كل فترة من الزمن تصدر قائمة ثورية بإلغاء تقاليد بالية (كإجراء الولادة في المنزل عن طريق القابلة ) كما حصل لكاتب هذه السطور المتواضعة ، وكالعلاجات الشعبية التلقائية، كالحقنة والبابونج وزيت النانرج والخشخاش الذي لا أزال أشعر بخشة في رأسي من تأثيراته الضارة … وهذه القرارات الثورية المتمردة على مخلفات الماضي لا بد منها في واقع الأمر بعد أن غدت المشافي أكثر أمناً عند الولادة ، وبعد أن أخذ طبيب العائلة دوره المطلوب ، وبقي الذنب العظيم على الراتب وحده الذي بقي محاصراً من جميع الجهات .
خلال هذا التاريخ الحافل بالطفرات والاستطالات والتهجينات في المتطلبات والنفقات التي رافقت إحالة والدي على المعاش ، أخذت حياتنا المعاشية تتبدل شيئاً فشيئاً ، فكان أول ما فعله هو الكف عن ارتياد المطاعم والمقاهي فاستبدلنا ذلك بالنزهات في الهواء الطلق عبر حقولٍ كانت قريبة منا ( قبل أن يمتد عالم الأسمنت المسلح إليها) فوجدنا فيها لوناً جديداً وعزاءً مقبولاً ، فكنا نصطحب معنا الكرة ، والريشة ، والمضارب ، ثم نعود إلى المنزل متعبين لنجد أنفسنا جميعاً مستغرقين في نوم لا يعتريه أرق ولا قلق ، وكان والدي لا ينفك عن إبداء سروره بهذه النزهات مظهراً بأنه قد استبدلها من تلقاء نفسه ، في محاولة منه للاحتفاظ بتوازنه المعهود أمامنا ، ثم اختصرنا في تبادل الدعوات على أضيق نطاق وقل احتكاكنا بالآخرين فلم يكن ما لدينا من أثاث منزلي وستائر وغيرها مما يشجع على استقبال ضيوف ، وبدأت الإبرة بيد والدتي تفعل فعلها في إصلاح ما يمكن إصلاحه من ثياب وأغطية وستائر وغير ذلك .
- ذات صباح ، أفقت على حوار شجي حزين جرى بين والدي ووالدتي تناول حاجة المنزل لأشياء عديدة، وحاجة الأولاد إلى ألبسة جديدة خاصة وقد قرب حلول العيد الذي لم يعد سعيداً في نظر والدتي … انتظرت خروج والدي ، وتوجهت نحو أمي فإذا بها تمسح دمعة كانت تترقرق على خدها فقلت لها مواسياً ومداعباً : نحن يا أماه بألف خير وعافية … غداً سأشتري لك من راتبي وجوهاً جديدة ( لدواوين غرفة الجلوس) وإنك لتعلمين يا أماه ما كان يبذله والدي من أجلنا جميعاً ، وتعرفين حالته الصحية الحالية … لم يكن لدينا في السابق منزلٌ ولا سيارة كما هو الآن ، وكنا سعداء للغاية فما بالنا اليوم ، كل هذه الأمور المادية بسيطة يا أماه ، تذهب وتعود ، ولكن : كما كنت تقولين لوالدي ( المهم الرجل.. يا أماه )
[/align]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|