مقـدمـة
تحديد المصطلح «جملة أم أسلوب؟»
قد يكون تحديد عنوان البحث أحد الأسباب التي دفعتني إلى الكتابة فيه، فما زلنا نختلف على تسميته: هل هو أسلوب الشرط، أم جملة الشرط؟ وقد يكون الأسلوب هو الأكثر صحّـةً، أو الأكثر استعمالاً لأن الكثيرين لا يزالون يتبعون تقسيم الجملة إلى قسمين: اسمية وفعلية، ويرفضون أن يكون هناك جملتان أخريان، الظرفية، والشرطية، وقد يكون كثرة الأحكام والآراء هي السبب الثاني، وقد يكون الخلاف بين العلماء في جوانب متعددة من البحث هو السبب الثالث، وما إن بدأتُ الكتابة حتى وجدت أنَّ هذه الأسباب جميعاً وغيرها هي ما دفعني إلى الكتابة في الشرط أسلوباً وجملةً، وحاولت بدايةً أنْ أصل إلى تسمية البحث، فكان عندي رأيان أجدُهما صحيحَيْن، ولا فرق بينهما، وإن كان الأسلوب سيغلب لأنَّ فيه جملتين فعل الشرط وجوابه.
أقول: في توزيع الجمل الجملة الشرطية، وإليك الدليل:
جاء في مغني اللبيب([1]) لابن هشام الجمل: اسمية وفعلية وظرفية، وعرَّف الظرفية بأنها المصدرة بظرف أو جار ومجرور، وأضاف، وزاد الزمخشري وغيره الجملة الشرطية، والصواب أنها من قبيل الفعلية، ثم يقول ومرادنا بصدر الجملة المسند أو المسند إليه فلا عبرة بما تقدَّم عليهما من الحروف؟ فكيف أعدّ الجملة ظرفية مادام لا اعتبار للظرف والحرف ففي قولنا: أعندك زيد، أليست اسمية؟ إذا لم نعتبر الهمزة على رأي ابن هشام نفسه؟ فتعليق شبه الجملة فيما يتمّم معناها هو الذي يحدد الجملة فعليةً أو اسمية، فأستطيع أن ألغي الجملة الظرفية ولا ألغي ـ بالمقابل ـ الجملة الشرطية، تقول:
إنْ تـدرسْ تنجـحْ
فهذه جملة شرطية لأنها تبدأ بحرف شرط، وفيها فعلان ؛ الأول فعل الشرط، والثاني جوابه، فإذا قلت: أنْتَ إِنْ تدرسْ تنجحْ بجزم الفعل (تنجحْ) فماذا سيكون إعراب الجملة كاملة، أي أين خبر (أنت) الفعل الناسخ؟ أليس جملة الشرط كلَّها؟ بلى.
وتقول: أكرمـُك إن زُرتَنـي
فجواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبله، فماذا تعرب جملة (إن زرتني)؟! ويتصل بها قولك:
سأعمل وإنْ لم أكنْ قادراً
أليست جملة (وإن لم أكن قادراً) حالية؟ فممّ تتألف؟ إنها تتألف من أداة الشرط، وجوابها محذوف لدلالة ما قبله عليه، وهذا ليس من الجمل التي نصنعها، بل هي في الشعر المحتج به، قال عدي بن زيد:
وعـدِّ سواهُ القـولَ واعلمْ بأنَّـه متى لا يَبِنْ في اليوم يصرِمْك في الغد([2])
أليست جملة (متى لا يبنَ) مع جوابها في محل رفع خبر أنَّ؟ فممّ تتألف؟ هل اعتبرها ظرفية، أم اسمية أم فعلية؟ فإذا قال أحدنا نعتبرها ظرفية لأنها تبدأ بالظرف (متى)، ولكن متى اسم شرط يدل على الظرفية، وماذا تقول في قول حاتم الطائي:
فنفسَك أكرمْهـا فإنك إنْ تَهُـن
عليك فلن تُلفي لك الدهرَ مكرما([3])
أليست جملة (إن تهن) شرطية وهي خبر (إنَّ).
إن هذه الشواهد ـ وغيرها كثير ـ يدلل على أنَّ هناك جملة شرطية، وليس القصد من هذا أَنْ نثبت هذا بل لتوضيح المصطلح، ولإعراب هذه الجملة، التي يمكن الاستغناء عنها، واستبدالها بكلمة أسلوب وهي تغني عن هذا، فالأسلوب هو الفنّ كما جاء في تاج العروس، وسيكون الأسلوب هو المعتمد، لأنه الأكثر تعبيراً.
إن كثرة الأحكام في أسلوب الشرط واختلاف العلماء فيها جعلت الطالب يظنّ أنّ هذا الأسلوب من الأساليب الصعبة، وأنه بحث فيه من التعقيد ما يجعله غيرَ قادر على فهمه واستيعابه، ومن ثمة إعرابه بدءاً من حفظه أدوات الشرط بنوعيها الجازمة وغير الجازمة، ثم الفاء الرابطة لجواب الشرط، متى تقترن وجوباً ومتى لا تقترن، ثم محل جواب الشرط من الإعراب، ثم اجتماع الشرط والقسم، وغيرها من الأحكام، علماً بأنّ تحديدها سهلٌ، يعتمد الدلائل الحسّية التي تعين على فهم البحث وإعرابه، يضاف إلى هذا كلّه أنّ مفردات البحث توزعت في كتب الأقدمين في أماكن متفرقة تباعدت أحياناً، فكان ضمّ بعضها إلى بعض واحداً من تسهيل البحث وتقديمه واضحاً، فكان أن جمعت مفرداته من كتب الأقدمين ورتبتها ترتيباً معيناً يعين على تسهيله وتقديمه على هذه الصورة المبوبة.
لم يكن هدف البحث ضمّ مفرداته، ثم تقديمها مبوبة فحسب، فهذا لا يقدم جديداً للبحث، بل إنّ القصد أن يُقدَّم بطريقة نقدية، فثمة أشياء غابت عن كتب القدماء، ربما لأنها معروفة، فأهملوها، وثمة أمورٌلم يتوسعوا فيها فكانت مثار جدل بين المحدثين فلم يستطيعوا ـ بدورهم ـ أن يحلّوا مشكلاتها فظللنا في حيرة من الأمر، فنقصتنا الجرأة في الحكم على ما جاء به القدماء، ومثل هذا ما فعله المحدثون، أنهم ردّدوا عبارات القدماء بلا مناقشة، أو ترجيح قول على قول، وهذا ما لا يجوز فعلينا أن نعيد قراءة نحونا قراءة جديدة معاصرة، قراءة نقدية علمية، لا ننقص منه ولكن نتمم، ولا ننقض لمجرد النقض، بل النقد، والحكم العلمي الصحيح، من هنا كان تجاوز العلماء القدماء إلى آراء المحدثين، للنظر في ما وصلوا إليه، فتكون القراءة معاصرة لواحد من أكثر الأساليب تشعباً وأحكاماً...وحاولت أن أناقش كل مسألة من المسائل التي وجدت أنها بحاجة إلى مناقشة، ووصلت إلى بعض النتائج من خلال الشواهد والأمثلة
وقد عمدت إلى توزيع البحث في عناوين يتصل بعضها ببعض اتصالاً فيه ربطٌ بين الفقرات، فكان البحث على نحو ما يلي:
أولاً: الأدوات:
آ ـ تـوزيعهـا:
عَرَضَ كلُّ من كتب عن أسلوب الشرط إلى الأدوات، قسمها معظمهم إلى أسماء، وحروف وظروف لاشتمال هذا المعنى على جميعها، في حين عدّدها كثيرون مع شواهد عليها([4]) تكررت عند معظمهم وقد قسمها ابن مالك([5]) خمسة أضرب:
اسـم: من - ما - مهما.
اسم يشبه الظرف: أنَّى - كيف.
ظرف زمان: إذا - متى - أيان.
ظرف مكان: حيثما - أين.
ما يستعمل اسماً وظرفاً: أيّ.
والأسماء إنما تتضمن معنى «إن» فتجري مجراه في التعليق، والعمل.
أما ابن هشام([6]) فقد قسمها تقسيماً آخر:
حرف باتفاق وهو (إنْ)
حرف على الأصحّ وهو (إذ ما)
اسم باتفاق وهو (من) و (ما) و (متى) و (أيّ) و(أين) و (أيان) و(أنى) و (حيثما).
اسم على الأصحّ وهو (مهما).
ولم يذكر بينها «كيف».
أما ابن مالك([7]) فعدّد «لو» و«لولا» و«إنْ» و«إذ ما» و«أما» حروفاً، وابن عقيل([8]) عدّها أسماء ما عدا (إنْ) و (إذ ما) فهما حرفان، وأما ابن يعيش([9]) فوقف عند حروف الشرط وقال: هما حرفان (إنْ) و (لو)، وأما السيوطي([10]) فقال: أدوات الشرط كلها أسماء إلا (إنْ) فإنها حرف بالاتفاق، والبواقي متضمنة معناها، فلذا بُنيت إلا (أيّا) وفي (إذما) خلاف.
ولم يخرج هذا التوزيع عند المحدثين فقد عددوها ووقف بعضهم عند (كيفما) قليلاً([11]).
ب ـ التفصيل فيها:
1 – إذ:
لا تُضاف إلاَّ إلى الأفعال، لأنها تُنبىء عن زمان ماض، وأسماء الأزمان تُضاف إلى الأفعال، فإذا أُضيفت إليها كانت معها كالشيء الواحد([12])، وعدّ صاحب رصف المباني([13]) إضافة (ما) إليها عوضاً من إضافتها في أصلها، إذ أصلُها أن تكون ظرفاً للماضي من الزمان مضافةً أبداً إلى الجملة، والتنوين هو المعوض منها، أما صاحب الجنى الداني فأجاز إضافتها إلى الجملتين الاسمية والفعلية،ولا تضاف إلى الجملة الشرطية إلا في ضرورة، ويقبح أن يليها اسم بعده فعل ماض، وذكر أنها لا تقع بمعنى (إذ) عند أكثر المحققين([14])، لكنها وقعت بمعنى (متى) وجاز الجزم بها مجردة من (ما) في الشعر([15]).
قال قيس بن الخطيم:
إذا قَصُرتْ أسْيافنا كانَ وَصْلُها
خُطانـا إلى أعدائنا فنضـاربِ([16])
وقال الفـرزدق:
يرفـعُ لي خِندفٌ واللهُ يرفع لي
نـاراً إذا خمـدت نيرانهم تقدِ([17])
ونقل صاحب الخزانة عن أمالي ابن الشجري أنهم لم يجزموا به في حال السَّعة لأنه خالف (إن) بما تقتضيه من الإبهام([18]).
2– إذ مـا:
هي المؤلفة من (إذ) ولا تكون شرطاً إلا إذا ضُمَّ إليها (ما) فتصير (إذما) بمنـزلة إنَّما، وكأنَّما وليست (ما) فيها بلغو([19])، وهي حرفٌ على ما نقل صاحب الجنى عن سيبويه([20]) تجزم فعلين مثل إن الشرطية، وجعلها ابن يعيش بمنـزلة (متى)([21]) ، وما يلاحظ أن شواهدها قليلة، بل نادرة، فقد استشهدوا ببيت هو قول العباس بن مرداس:
إذا ما دَخَلْتَ على الرسولِ فَقُلْ له
حَقّاً عليك إذا اطمأنَّ المجلسُ([22])
3– إذا:
هي ظرف لما يُستقبل به من الزمان، وتتضمن معنى المجازاة، وهي ظرف يوافق الحال التي أتت فيها ولا يليها إلاّ الفعل الواجب وتختص بالدخول على الجملة الفعلية، ويقبح عند سيبويه ابتداء الاسم بعدها([23]) وجاز الرفع بعدها لأنه يجوز أن تقول: اجلس إذا عبدُ الله جالس، وذكر ابن هشام أنها إذا دخلت على الاسم فهو فاعل بفعل محذوف على شريطة التفسير لا مبتدأ([24]).
وأشـار سيبويه إلى الجزم بها ضرورة تشبيهاً بـ (إنْ)،وقال وهو في الكلام خطأ، أما المبرد فقد منع أن يُجازى بها لأنها مؤقتة وحروف الجزاء مبهمة، ومنع ابن مالك هذا في النثر لعدم وروده، أما جزمها فلأنها تُحمل على (متى) وتُهمل (متى) حملاً على (إذا)([25]).
4- إذا ما:
ذكرها ابن يعيش، وعلَّق فقال: لم يذكرها سيبويه في الحروف، والقياس أن تكون حرفاً كـ (إذ ما) ونقل صاحب الخزانة عن بعضهم أنهم جازوا بها، فيجزم الشرط والجزاء كقول الشاعر:
وكان إذا ما يَسْلُلِ السَّيْفَ يضربِ([26] )
وأضاف أن الرواية (متى) ما، فعندئذٍ لا شاهد فيه.
5– أمّـا:
فيها معنى الجزاء عند سيبويه، وبمعنى «مهما» عند صاحب الرصف لكنها لا تعمل عملها، ويكون فيها معنى التفصيل زائداً لذلك، ولا يلزم تكرارها([27])، لأنها بمعنى «مهما يكن من شيء» فهي قائمة مقام أداة الشرط وفعل الشرط ولذلك تُجاب بالفاء([28])، ويفصل بينهما واحد من ستة أمور، المبتدأ، الخبر، جملة الشرط، اسم منصوب لفظاً أو محلاً بالجواب، اسم معمول لمحذوف يفسره ما بعد الفاء، ظرف معمول (أما)([29])، وقد تليها (إن) فيغني جواب (أمَّا) عن جوابها([30])، وهي بهذا أحقّ من وجهين:
أحدهما: أن جوابها إذا انفردت لا يُحذف أصلاً، وجواب غيرها إذا انفرد يحذف كثيراً لدليل، وحذف ما عهد حذفه أولى من حذف ما لم يعهد حذفه.
الثاني: أن (أمَّا) قد التزم معها حذف فعل الشرط، فقامت هي مقامه، فلو حذف جوابها لكان ذلك إجحافاً، و (إن) ليست كذلك.
6– إن([31]):
هي أم باب الجزاء، قال سيبويه «زعم الخليل أنّ (إنْ) هي أم حروف الجزاء فسألته: لـمَ قلتَ ذلك؟ قال: من قِبَل أني أرى حروف الجزاء قد يتصرفن فيكنّ استفهاماً، ومنها ما يفارقه (ما) فلا يكون فيه الجزاء، وهذه على حال واحدة أبداً لا تفارق المجازاة([32])».
ولأنها أم الباب تميزت من غيرها، فجاز تقديم الاسم كقولك: إنْ زيداً تره تضرب لأنّ الأصل أن يليها الفعل، ولا يرتفع الاسم بعدها إلا بفعل([33])لأنها من الحروف التي يُبنى عليها الفعل، وعند الكوفيين يرتفع بما عاد إليه الفعل من غير تقدير فعل، أما البصريون فيرفعون الاسم بفعل مقدّر لأن حرف الشرط يقتضي الفعل، ويختص به دون غيره، ولهذا كان عاملاً فيه([34]).
ومن ميزاتها أيضاً جواز حذف فعل الشرط وجوابه في الشعر خاصةً، قال الشاعر:
قالتْ بناتُ العمِّ يا سلمى وإن
كان فقيراً مُعْدَمَاً قالت: وإنْ([35])
وإذا لحقتها (ما) فهي زائدة لتوكيد الشرط([36])، وقد تقترن بها (لا) النافية فيظنّ من لا معرفة لـه أنها (إلاّ) الاستئنافية([37]).
وإنْ حرف للشرط يجزم فعلين مضارعين، وهذا هو الأصل في أدوات الشرط وهو الكثير([38])، وحقّ الفعل الذي يكون بعد الاسم الذي يلي (إن) وما تضمن معناها من الأسماء أن يكون ماضياً سواء كان ذلك الاسم مرفوعاً أو منصوباً،وإنما ضعف مجيء المضارع لحصول الفصل بين الجازم مع صفته، وبين معموله فإذا كان الاسم مرفوعاً فهو عند الجمهور مرفوع لامتناع «إنْ زيد لقيته»، إلا ما حكى الكوفيّون في الشاذ:
لا تجزَعـي إنْ مُنْفِسٌ أَهْلَكْتِـه
فإذا هَلكْتِ فعند ذلك فاجْزَعي
وهو أيضاً عندهم ليس مبتدأ، بل هو مرفوع بمقدر يفسره الفعل الناصب إن هَلَك وأُهْلك([39])».
وعدّها الكوفيون بمعنى (إذ) أما البصريون فلا، واحتجاجهم أنّ الأصل في (إن) أن تكون شرطاً والأصل في (إذ) أن تكون ظرفاً،والأصل في كل حرف أن يكون دالاً على ما وُضع له في الأصل، وشذّ إهمالها حملاً على (لو)([40]).
6– أنـّى:
عدّها سيبويه من أدوات الشرط، وقال في موضعٍ آخر: وتكون بمعنى كيف وأين([41])، أمّا ابن مالك فقال: ليست ظرفاً لأنه لا زمان ولا مكان ولكن تشبه الظرف لأنّها بمعنى على أي حال، وقد تأتي بمعنى (متى) و (أين) وتكون استفهاماً وشرطاً،وإذا كانت شرطاً جزمت([42])، وعلّق صاحب الخزانة على قول الشاعر:
فأصبحت أنى تأتيها تلتبسْ بها
كلا مركبَيْها تحت رجليكِ شاجر
فقال: على أنَّ (أنّى) فيه شرطية مجرورة بـ (من) مضمرةً أي من أنّى تأتها، ونقل عن الأعلم أن الشاهد فيه جزم تأتها بـ (أنّى) لأنَّ معناها (أين ومتى) وكلاهما للجزاء، وكان قد استشهد بقول الشاعر:
لأجعلنْ لابنـة عثم فنّا
من أين عشرون لها من أنّى
على (أنّى) تُجرّ بـ (من) ظاهرة([43]).
8- أيّ:
ذكرها سيبويه([44])في ثلاثة مواضع، عندما تكلم على (إن) وعدّها من أدوات الشرط، وقال: وترفع الجواب حين يذهب الجزم من الأول في اللفظ، نحو قولهم: أيّهم يأتِكَ تضربْ، ثم قال: فإن قلت: أيُّهم جاءك فاضرب، رفعت لأنه جعل جاءك في موضع الخبر، وذلك لأنّ قوله فاضرب في موضع الجواب، وأيّ من حروف المجازاة.
9– أيـّان:
قال سيبويه «للسؤال عن الزمان بمعنى (متى)([45])» فلم يذكرها من حروف المجازاة.
10– أين:
ذكرها سيبويه([46])في خلال حديثه عن (مهما) وشبهها بـ متى (ما) و(إن ما) و (أين ما) مستشهداً بقوله تعالى: )أينما تكونوا يدرككم الموت( النساء/78، فكأنه اشترط لعملها دخول (ما) عليها، وأمّا المبرد فقال لا تكون إلا للمكان، واستشهد بقوله تعالى «وأينما» وقول الشاعر:
أين تضربْ بنـا العُداة تجدْنا
نصرفُ العيسُ نحوَها للتلاقي([47])
وجاز دخولها على الاسم كقول الشاعر:
صعـدة نابتـة في حائـر
أينمـا الريـحُ تميلها تمـلِ([48])
11– حيثما([49]):
أصلها حيث وهي اسم من أسماء المكان مبهم يفسره ما يضاف إليه، فلما وصلتها (ما) امتنعت عن الإضافة فصارت كـ (إذ) إذا وصلتها (ما) ولا يكون الجزاء في (حيث) حتى يُضمّ إليها (ما) فتصير كلمة واحدة بمنـزلة (إنما) و (كأنما) وليست (ما) فيها بلغو([50])، وعدم دخول (ما) عليها يجعلها تدخل على الاسم،وإذا دخلت على فعلين جزمتهما قال الشاعر:
حيثما تَسْتقم يقدّر لك اللّـ
ـه نجاحاً في غابر الأزمان([51])
وعدّها ابن هشام هنا للزمان، قال: وهذا البيت دليل عندي على مجيئها للزمان.
12– كلما:
ذكرها سيبويه([52]) مؤلفة من (كل) الظرفية و (ما) المصدرية، ومثِّل لذلك بقولك: كلما تأتيني آتيك، فالإتيان صلة لـ (ما) كأنه قال كلّ إتيانك آتيك، وتشبه في هذا إذا ما.
13 – كيف:
ثمة خلاف في اعتبار (كيف) أداةً من أدوات الشرط بدءاً من سيبويه الذي ذكر أنه سأل الخليل عن قولـه «كيف تصنعْ أصنعْ» فقال هي مستكرهة، وليست من حروف الجزاء، لأنّ معناها «على أي حال تكن أكن»([53])، ففي هذا القول تصريح أنها ليست من حروف الجزاء وأكثر ما تكون استفهاماً على ما جاء عن ابن مالك في شرح التسهيل([54])، وهي اسم لتعميم الأحوال وتسمّى ظرفاً لتأولّها بـ «على أي حال» والدليل على اسميتها جواز الاكتفاء بها مع صحة دخولها على الأفعال، وأضاف ابن مالك: وقد ترد شرطاً في المعنى فحسب، فتقع بين جملتين،ولا تعمل شيئاً حملاً على الاستفهامية لأنها أصل، وقد عقد ابن الأنباري مسألة في كتابه الإنصاف عنوانها «هل يُجازى بكيف([55])» وعرض فيها لرأي الكوفيين الذين أجازوا الجزاء بها، لأنها أشبهت كلمات المجازاة في الاستفهام، أما البصريون فلا ؛ لأنها نقصت عن سائر أخواتها، وعرض لحججهم مؤيدين ما تقدّم من أنها بمعنى (أيّ) وأيّ تغني عنها، وصرّح ابن مالك بعدم اعتدادها من أدوات الشرط وقال: وهو المذهب الصحيح([56]).
فليس ثمة من يذكرها من أسماء الشرط وإن كان بعض المحدثين كما سيأتي قد عدّها من أسماء الشرط بشرطين: اتصال (ما) بها فتصبح (كيفما) وأن يكون فعلها وجوابها بلفظ واحد،كيفما تصنعْ أصنعْ، ولكن عدم ورود شواهد في القرآن الكريم، والشعر المحتج به، والحديث النبوي الشريف وأساليب العربية والخلاف البيّن بين النحويين يجعلنا نتحرج في اعتبارها اسم شرط!!.
14 – لمّـا:
عدّها سيبويه([57])(57) بمنـزلة (لو) لأنها لابتداء وجواب، وتحقيق تقابلها عند صاحب الجنى أنك تقول: لو قام زيدٌ قام عمرو، ولكنه لمّا لم يقم لم يقم، ونقل ابن مالك عن سيبويه أنها حرف، وعند أبي علي أنها ظرف، وقال والصحيح قول سيبويه.
أما جوابها فهو فعل ماض مثبت([58]) أو منفي بـ (ما)، أو مضارع منفي بـ (لم)([59])، أو جملة اسمية مقرونة بـ (إذا) الفجائية، أو مقرونة بالفاء، أو يكون ماضياً مقروناً بالفاء، وقد يكون مضارعاً، ويجوز حذف جوابها([60]) للدلالة عليه كقوله تعالى: )فلما ذهبوا به وأجمعوا( يوسف 12/15، وتزاد (أن) بعـدها([61]).
15– لـو:
كثر ورود (لو) حتى إنها قُرنت بـ (إن) الشرطية فكان فيها عددٌ من الأحكام التي تميّزت بها:
هي مثل (إن) الشرطية في الاختصاص بالفعل، فلا يليها إلا فعل أو معمول فعل مضمر يفسره ظاهر بعده، أو اسم منصوب كذلك أو خبر لكان المحذوفـة أو اسم هو في الظاهر مبتدأ وما بعده خبر([62]).
انفردت (لو) بمباشرة (أنّ) كثيراً وموضعها عند الجميع الرفع، وقد اختلف النحويون في موضع الرفع([63])، وفي شرح الكافية الشافية في موضع رفع بالابتداء وإن كانت لا تدخل على مبتدأ غيره([64]) على أنه قد ولي (لو) اسم صريح مرفوع بالابتداء في قول عدي بن زيد:
لو بغيـر الـماء حَلقي شَرِقٌ
كنتُ كالغصانِ بالماء اعتصاري([65])
ولذلك وجه من النظر، ونقل ابن مالك أن تقدير البيت: لو شرق بغير الماء حلقي هو شرق، وجملة هو شرق تفسيرية، وهذا تكلف لا مزيد عليه فلا يُلتفت إليه.
ويغلب أن يكون خبر (أنّ) بعد (لو) فعلاً غالباً ما يكون ماضياً وقليلاً ما يكون مضارعاً، قال الشاعر:
تمـدّ بالأعنـاق أو تلويهـا
و تشتكي لو أننا نشكيها([66])
أما قول كعب بن زهير:
أكـرم بها خلةً لو أنها صدقت
موعودها أو لو أنّ النصح مقبول([67])
فلا تتعين فيها الشرطية وتجوز الشرطية وجوابها محذوف، أو أنْ يكون للتمني فلا جواب حينئذٍ.
هي عكس (إن) لأنها تصرف المضارع إلى المضيّ([68]).
جوابها لا يكون إلاّ فعلاً ماضياً مثبتاً أو منفياً بـ (ما) أو مضارعاً مجزوماً بـ (لم) والأكثر في الماضي المثبت اقترانه باللام([69]).
هي حرف شرط في المستقبل إلاّ أنها لا تجزم، وقد جُزم بها ضرورة([70])، ولغلبة دخولها على الماضي لم تجزم، وزعم بعضهم أن الجزم بها مطّرد على لغة،وأجازه جماعة في الشعر منهم ابن الشجري كقول الشاعر:
لـو يَشَأْ طـار بـه ذو ميعـةٍ
لاحق الآطال نهدٌ ذو خُصَلْ([71])
وقول لقيط بن زرارة:
تامت فؤادك لو يحزْنك ما صنعتْ
إحدى نساء بني ذهل بن شيبانا([72])
والبيت الأول ـ عند ابن مالك ـ لا حجة فيه لأنّ من العرب من يقول جاء يجي و شاء يشا بترك الهمز، أما البيت الثاني فهو من تسكين ضمة الإعراب تخفيفاً كما قرأ أبو عمر )ينصرْكم( آل عمران 160، و)يشعرْكم( الأنعام/ 190.
لا يكون جوابها بعدها إلاّ محذوفاً غالباً لدلالة الكلام عليه([73]).
16 – 17 – لولا – لوما:
هما لابتداء وجواب فالأول سبب ما وقع وما لا يقع، أصلهما (لو) دخلها (لا) و (ما) فتغير معناها واختُلف حول معناها، حرف امتناع لامتناع أو وجود لوجود، أما جوابها فماض مثبت مقرون باللام، ويجوز أن يحذف ضرورة([74])، وقد يقترن باللام المنفي بـ (ما) كقول الشاعر:
لـولا رجاءُ لقـاء الظاعنين لمـا
أبْقت نواهم لنا روحاً ولا جسدا([75])
وإذا وليها اسم فهو مبتدأ، وعند الكوفيين فاعل لفعل محذوف نابت (لا) منابه([76])، وربما وليها ضميرٌ.
لولاك ولولاي:
جاء في كتاب سيبويه «هذا باب ما يكون مضمراً فيه الاسم متحولاً عن حاله إذا أظهر بعده الاسم، وذلك لولاك ولولاي إذا أضمرت الاسم فيه جُرَّ، وإذا أظهرت رُفع، ولو جاءت علاقة الإضمار على القياس لقلت لولا أنتَ كما قال سبحانه وتعالى )لولا أنتم لكنا مؤمنين( سبأ /31، وكلهم جعلوه مضمراً مجروراً، والدليل على ذلك أنّ الباء والكاف لا تكونان علامة مضمر مرفوع. قال يزيد بن الحكم:
وكم مَوْطن لولاي طِحتَ كما هوى
بأجرامهِ من قُلّة النّيق مُنهوي([77])
وهذا قول الخليل رحمه الله و (يونس)، وقد عقد صاحب الإنصاف لها مسألة([78]).
18 – مـا:
لم تُذْكَر إلا قليلاً فقد ذكرها صاحب الجنى فقال شرطية، لكنه لم يعلق كثيراً، ولم يذكرها صاحب الرصف عند تعداد أنواعها، وفي الهمع «وما» و«من» و«مهما» بمعنى (ما)([79]) وأضاف ولا ترد (ما) ولا (مهما) للزمان، وقيل ترادن له وجزم به الرضي فقال نحو: ما تجلس من الزمان أجلس فيه، ومهما تجلس من الزمان أجلس.
واللافت ندرة الشواهد([80]) كما قلة الكلام والأحكام علماً بأنها وردت بكثرة.
19 – متى:
وردت عند سيبويه([81]) زيدت بعدها (ما)، وقال ولا يجوز في «متى» أن يكون الفعل وصلاً لها كما جاز في (مَن) و (الذي) وسمعناهم ينشدون قول العجير السلولي:
وما ذاك أنْ كان ابن عمي ولا أخي
ولكن متى ما أملك الضرّ أنفعُ([82])
والقوافي مرفوعةٌ، كأنه قال ولكن أنفعُ متى ما أملك الضرّ،ويكون أملك على متى في موضع جزاء و (ما) لغواً، ولم يجد سبيلاً إلى أن يكون بمنـزلة (مَنْ) مُتوصّل ولكنها كمهما.
وشذّ إهمالها حملاً على (إذا)([83]).
20 – مَـنْ:
لم يقف معظم العلماء عند (مَنْ) الشرطية علىكثرة استعمالها كثير، ويكفيها معلقة زهير بن أبي سُلمى، وربما يعود هذا إلى قلة أحكامها، ومّما وقف عندها صاحب الخزانة([84])، بيت الشاعر:
ومن نحنُ نؤمنه يَبِتْ وهو آمن
فنحن فاعل لفعل محذوف يفسره المذكور، فلمّا حذف الفعل برز الضمير وانفصل والتقدير فمن نؤمنه نؤمنه.
21 – مهما([85]):
اختُلف في تركيب (مهما) وفي اسميتها أو حرفيتها، فقد سأل سيبويه الخليل عنها، فقال هي (ما) أدخلت معها (ما) لغواً بمنـزلتها مع (متى) وهي عند ابن هشام اسم يعود الضمير إليه، بسيطة لا مركبة،وعند ابن يعيش كلمتان فلو كانت واحدة لكتبت بالياء لأنها رابع والدليل على أنَّ فيها معنى (ما) أنه يجوز أن يعود إليها الضمير، والضمير لا يعود إلا إلى الاسم.
قال الشاعر:
إذا سُدتـهُ سُـدْت مطواعـةً
ومهما وكلت إليه كفـّاه([86])
فالهاء في كفاه تعود إلى (مهما) وعند صاحب الجنى المشهور أنها اسم([87]) فيه أسماء الشرط مجرد من الظرفية مثل (مَن)، ونقل عن ابن مالك أنها قد (من) ترد ظرفاً، وعند السيوطي تلزم الاسمية ولا للزمان، وزعم السهيلي أنها تخرج عن الاسمية وتكون حرفاً إذا لم يعد عليها من الجملة ضمير كقول زهير:
ومهما تكن عند امرىء من خليقةٍ
وإن خالها تَخفى على الناس تعلمِ([88])
وقال صاحب الجنى وهذا قول غريب.
ـ مسائل في الأدوات:
اقتران (ما) مع أدوات الشرط:
آ – يجب مع (إذا) و (حيث).
ب- يمتنع مع (ما) و (من) و (أنى) و (مهما).
ج – يجوز مع (إن) و (أي) و (أيان) و (متى)([89]).
تزاد (ما) بعد (إن) و (أي) للتوكيد([90]).
إذا دخل حرف الجر على أسماء الشرط لا يغيرها عن عملها لأنها من أسماء الاستفهام، فحروف الجر لا تغّيرها عن حال الاستفهام مثل (من) و (أي)([91]).
يجب حذف كان بعد (إن)([92]).
4 – إعراب أسماء الشرط:
جاء في المقتضب إذا وقعت الأدوات الشرطية على مكان أو زمان فظرفٌ أي فهي في موضع النصب على الظرف نحو «متى تقم أقم» و )أينما تكونوا يدرككم الموت( أو على حدث فمفعول مطلق، وإنْ وقع بعدها فعل لازم فمبتدأ وخبره فعل الشرط وفيه ضميرها([93]).
إذا سُبِق الشرط باستفهام يكون الاسم بالرفع فقط، سواء اقترن فعل الشرط بالهاء أم لم يقترن تقول: أعبدُ الله إن ترهْ تضربْـه، وتقول: أعبد الله إن ترَ تضربْ، وإذا لم تجزم الآخر نصبت وذلك قولك: أزيداً إن رأيت تضربُ، وأحسنه أن تدخل في رأيت الهاء لأنه غير مستعمل([94]).
يضمر الفعل بعد حرف الشرط كقولهم: «الناس مجزيون بأعمالهم إن خيرٌ فخير»، وإن شئت أظهرت الفعل قلت: إن كان خيراً فخير، وإن كان شراً فشرّ، والرفع أكثر وأحسن في الآخر، لأنك إذا أدخلت الفاء في جواب الجزاء استأنفت ما بعدها وحسن أن تقع بعدها الأسماء، وإن أضمرت فأنت تضمر الناصب أحسنُ، فكلما كثر الإضمار كان أضعف([95]).
ثانيا ً: آ – ترتيب أسلوب الشرط:
يتألف أسلوب الشرط من الأداة ففعل الشرط فجوابه، ولأداة الشرط صدر الكلام، فإن تقدّم عليها شبيه بالجواب معنى فهو دليل عليه وليس إياه([96])، وحروف الجزاء لا يعمل فيها ما قبلها، نحو: «آتيك إن أتيتني» و«أزورك إن زرتني» ولا يجوز هذا إلا في الشعر نحو «إن تأتني آتيك»، «وأنت ظالم إن تأتني» لأنها قد جزمت، ولأن الجزاء في موضعه فلا يجوز في قول البصريين في الكلام إلا أن تقع الجواب فعلاً مضارعاً مجزوماً، أو فاء إلاّ في الشعر([97]).
وأجاز الكوفيون تقديم المفعول بالجزاء على حرف الشرط، ولم يجوزه البصريون، لأن الشرط بمنـزلة الاستفهام، والاستفهام له صدر الكلام([98]).
وإذا تقدم الاسم المرفوع في جواب الشرط فإنه لا يجوز فيه الجزم ويجب فيه الرفع عند الكوفيين، أما البصريون فأجازوا تقديم المرفوع والمنصوب في جواب الشرط([99])، ويحسن في الكلام إن أتيتني لأقومنّ وإن لم تأتيني لأغْضبنّ، ويذهب سيبويه إلى أنه على التقديم والتأخير كأنه قال: لأغْضبنّ إن لم تأتني، ولأقومن إن أتيتني.
ولا يتقد م الاسمُ الفعلَ على الإضمار مع غير (إن) من أدوات الشرط إلا في الضرورة كقوله:
فمن نحن نؤمنه يبتْ وهو آمن
ومن لا نُجزهِ يُمسِ منا مفزّعـا
وقد جاز اعتراض القسم والدعاء والنداء والاسمية والاعتراضية بين الشرط والجزاء([100]).
ب ـ فعـل الشـرط:
أصلُ الجزاء أن تكون أفعاله مضارعة لأنه يعربها، ولا يُعرب إلاّ المضارع، فإذا قلت: إن تأتني آتيك فتأتني مجزومة بـ (إن) وآتِك مجزومة بـ (إن) وتأتني، واسم الشرط يدخل على الفعل لا على الاسم ويجوز أن يُحذف فعل الشرط إن كانت الأداة (إن) مقرونة بـ (لا) كقوله:
وإلاّ يعـلُ مفرقَـكَ الحسـام
أي وإلاّ تطلقها يعلُ([101]) وقال ابن مالك: إن الاستغناء عن الشرط وحده أقلّ من الاستغناء عن الجواب وأكثر ما يضمر إذا فسرّ بعد معموله بفعل مذكور والغالب كونه ماضياً أو مضارعاً منفياً بـ (لم) ومجيئه مضارعاً بدون (لم) شاذ ومنه قول الشاعر:
فـإن أنت تفعـل …([102])
ويجوز أن يدخل شرط على شرط فإن قصدت أن يكون الشرط الثاني مع جزائه جزاءً للأول فلابد من الفاء في الأداة الثانية، تقول: إن دخلت الدار فإن سلمت فَلَكَ كذا، وإن سألت فإن أعطيتك فعليّ كذا لأن الإعطاء بعد السؤال، أما إن قصدت إلغاء أداة الشرط الثاني لتخللها بين أجزاء الكلام الذي هو جزاؤها معنىً فلا يكون في أداة الشرط الثاني فاء، كقوله:
فإن عثـرت بعدها إن وألت
رجلي من هاتا فقولا لا لعا
وإذا أضيفت أداة الشرط إلى ظرف يكون الجزم لها، وهو خاص بالشعر كقوله:
على حينِ مَنْ تلبث عليه ذنوبه
يجد فَقْدها إذ في المقام تدابر
فالجزم بـ (من) مع إضافة حين إلى جملة الشرط ضرورة، وحكمها ألا تضاف إلاّ إلى جملة خبرية لأن المبهمات إنما تفسر وتوصل بالأخبار لا بحروف المعاني وما ضمنت معناها، وجاز هذا في الشعر تشبيهاً لجملة الشرط بجملة الابتداء والخبر أو الفعل والفاعل([103]).
ـ مسـألـة:
من المسائل المشكلة في أسلوب الشرط فعل الشرط المصدر بـ (لا) أو (لم) إن لا... وإن لم...
والخلاف حول من الذي جزم فعل الشرط، ويبدو أنّ القدماء والمحدثين داروا حول القضية، وحاول بعضهم البتَّ فيها، لكن لم نصل إلى قرار قاطع، وقد يستطيع من يتتبع المسألة بدءاً من سيبويه أن يصل إلى الجواب الصحيح، أو ترجيح الوجه الأكثر صواباً.
جاء في سيبويه )وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين( الأعراف 23، و)إلاّ تغفر لي وترجمني أكن من الخاسرين( هود 47، قال لّما كانت (إن) العاملة لم يحسن إلاّ أن يكون لها جواب ينجزم بما قبله.
فهذا الذي يشاكلها في كلامهم إذا عملت، وأضاف: وقد يقال «إن أتيتني آتِك» و «إن لم تأتني أجزِكَ» لأن هذا في موضع الفعل المجزوم وكأنه قال: إن تفعلْ أفعلْ([104]).
فسيبويه يشير إلى أنّ (لا) تفيد النفي، وأنّ هذا النفي معنىً لكن الجزم وقع على الفعل، وجاءت (لا) نافية زائدة لا تعمل فيما بعدها،وصارت مجردة للنفي كقولك: جئت بلا مالٍ، فتكون الأداة قد أثرت في الفعل المصدر بها تخصيصاً للاستقبال، وإن لم تجرد للنفي أفادت الاستقبال من دون أداة الشرط([105]) وقد أشار سيبويه إلى هذا في غير ما موضع.
وإذا كانت (لا) تأتي ناهية جازمة ودخل عليها حرف شرط فإنها تتجرد للنفي فحسب، فتهمل ويبقى العمل لأداة الشرط، وكذا الحال في (لم) التي من معانيها النفي، فهي لم تعد جازمة كـ (لا) الناهية ولكن ظلّ فيها معنى النفي، فلمَ لا تُعرب حرف نفي فحسب، ويكون الجزم بأداة الشرط ثم أليس المعنى واحداً إن لا،وإن لم.. وماذا لو أبدلنا بـ (لم) (لا) فلا المعنى يتغير، ولا الوزن ينكسر والأسلوب أسلوب شرط، وهو يبدأ بالأداة.
تتمـة (1):
قال الحسين بن مطير (ديوانه 56):
ومن يتّبَعْ ما يُعجِبُ النّاسَ لم يزلْ
مطيعاً لهـا في فعل شيء يضيرها
فما الذي جزم (يزل ْ) أليس اسم الشرط (من) و (لم) أليست نافية فحسب، وماذا لو قال: (ما زال)، وما يؤكد هذا قول كعب بن سعد الغنوي:
ومن لا يـزلْ يُرجـى يغيب إيابه
يجوبُ ويغشى هول كل سبيل
على قلتٍ يوشـكْ ردىً أن يُصيبه
إلى غيـر أدنـى موضعٍ لمقيل([106])
فالجزم بـ (من) ولا النافية لا عمل لها، وهي تشبه (لم) في المعنى ولو استبدلت بها لما اختل المعنى، وجواب الشرط (يوشك) في البيت التالي.
قال الجميح الأسدي (المفضليات 34):
أما إذا حَرَدت حَـرْدي فمجريةٌ
....جرداءُ تمنعُ غيلاً غير مقروب
تقدّم أنّ جواب (أمّا) يجب أن يقترن بالفاء،وفي البيت أداة شرط أخرى (إذا) فأيّهما العامل ولمن الجواب؟
الواضح أن الجواب لـ (أما) لسببين:
الأول: وجوب اقتران جوابها بالفاء.
الثاني: جواز حذف جواب الشرط (إذا).
ج – جواب الشرط:
ج / 1 العـامـل فيـه:
قال بعض البصريين جواب الشرط مجزوم بحرف الشرط، وقال بعضهم بل مجزوم بحرف الشرط وفعله، وقال بعضهم الثالث: حرف الشرط يعمل في الفعل والفعل في الجواب، أما الكوفيون فيجزمونه بالجوار، وأما البصريون فيحتجون على ما قالوا بأنّ حرف الشرط يقتضي جواب الشرط كما يقتضي فعل الشرط([107])، ويردّ ابن الأنباري على من جزمه بحرف الشرط وفعله لأنّ فعل الشرط أصلُ والأصلُ في الفعل ألاّ يعمل في الفعل،ويرى أنّ العامل هو حرف الشرط بواسطة فعل الشرط لأنه لا ينفك عنه، فحرف الشرط يعمل في جواب الشرط عند وجود فعل الشرط وجوابه.
أما الرضي فقال الحرف يعمل في الفعل، والفعل في الجواب،وأما ابن مالك فالجزم عنده بفعل الشرط لا بالأداة وحدها، ولا بهما،ولا على الجوار خلافاً لزاعمي ذلك مستنداً في كلامه إلى كلام سيبويه «واعلم أنّ حروف الجزاء تجزم الأفعال ويجزم الجواب بما قبله([108])».
وأقول: لماذا لا يكون الجزم بالأداة وحدها؟ أليست عاملاً، والعامل يعمل فيما بعده، أليست تشبه الحروف المشبهة بالفعل، أو الأفعال الناسخة تأخذ اسماً وخبراً؟ ثم هل يأتي أسلوب الشرط مجرداً من فعل الشرط؟ إن أسلوب الشرط يتألف من أداة وفعل وجواب، ولا يجوز حذف الفعل،وإذا حُذف قُدِّرَ فهي بلا شك ستدخل عليهما وتؤثر فيهما، ولا حاجة إلى التأويل البعيد الذي يضيع فيه الطالب،وهو الذي اعتاد إعراب فعل الشرط وجوابه مجزومين بالأداة.
ـ ج / 2: جواب الشرط – نوعه:
جواب الشرط إمّا أن يكون فعلاً، وإما جملة مقترنة بالفاء([109]) لأن معنى الفعل فيها، وقد يقع الماضي جواباً في معنى المستقبلية لأن الشرط لا يقع إلا على فعل لم يقع، فتكون مواضعها مجزومة وإن لم يتبيّن فيها الإعراب، فإذا كان الجواب ماضياً لفظاً لا معنى لم يجز اقترانه بالفاء إلا في وعد أو وعيد لأنه إذا كان وعداً أو وعيداً حسن أن يقدّر ما في المعنى فعُومِلَ معاملة الماضي حقيقةً([110]).
ـ ج / 3: جواب الشرط – حذفه:
كثر حذف جواب الشرط، فقد يُغني عنه خبر ذي خبر مقدم على أداة الشرط، أو خبر مبتدأ مقدر بعد الشرط، قال الشاعر:
وإني متى أُشرفْ من الجانبِ الذي
....به أنت من بين الجوانب ناظر
وإذا تقدم على أداة شرط عند كثيرين ممّا هو في معنى الجواب فهو دليل الجواب عند أكثر النحويين والجواب محذوف([111])، والواجب في الاختيار ألا ينجزم الشرط بل يكون ماضياً لفظاً أو معنى نحو (إن لم أفعل) فلا تعمل الأداة في الشرط كما لم تعمل في الجزاء،وقد تقدم الحذف في المسالة المشكلة،وأشار ابن يعيش إلى أن جواب (لو) قد يُحذف كثيراً([112]).
ج / 4: المضارع المعطوف على جواب الشرط:
يجوز في الفعل المضارع الذي يُعطف على جواب الشرط الاستئناف، والنصب بـ (أن) والجزم عطفاً([113]).
ج / 5: الفـاء الرابطـة:
نقل ابن يعيش كلام الجمهور في هذا، قال: أما إذا كان الجزاء ممّا يصلح أن يقع شرطاً فلا حاجة إلى رابطة بينه وبين الشرط لأنّ بينهما مناسبة لفظية من حيث صلاحية وقوعه موقعه، وإن لم يصلح له فلا بدّ من ربط بينهما وأَوْلى هذه الأشياء به الفاء لمناسبته للجزاء معنىً، لأنّ معناه التعقيب بلا فصل،والجزاء متعقب للشرط كذلك([114]).
ذكر القدماء مواضع وقوع الفاء الرابطة،وأشار المبرد إلى أنها «لا تقع إلاّ ومعنى الجزاء فيها موجود، فهما يسدّان مسدّ جواب (إنْ) وجاز حذفها في شاهد روي رواية أخرى وهو قوله:
من يفعل الحسنات الله يشكرها ...
والشرّ بالشر عند الله مثلان([115])
أو إذا اضطر شاعر، كقول جرير:
يا أَقْـرَعُ بـنَ حابسٍ يا أقرع..
..إنك إنْ يُصْرَعْ أخوك تُصرعُ([116])
على تقدير إنك تُصرعُ إن يُصرع أخوك.
ويجوز أن تُحذف من جواب (أمّا) ضرورة كقوله:
فأما الصدور لا صدور لجعفر([117])
د – فعـل الشرط وجوابـه:
جاء في شرح الكافية الشافية «ولا بدّ لأداة المجازاة من فعل يليها يُسمّى شرطاً، وفعل بعده، أو ما يقوم مقامه يُسمّى جواباً وجزاءً»([118])، وقال في شرح التسهيل بعد كلامه على أدوات الشرط «وكلها تقتضي جملتين أولاها شرط تصدر بفعل ظاهر، أو مضمر مفسر بعد معموله بفعل يشذ كونه مضارعاً دون (لم) ولا يتقدم فيها الاسم مع غير (إن) إلا اضطراراً، وتسمى الجملة الثانية جزاءً وجواباً وتلزم الفاء في غير الضرورة»([119])، ثم حدّد الفعلين ماضيين أو مضارعين أو مختلفين، وقد رتبهما الرضي([120]) بحسب أهميتهما كما يلي:
الأجود مضارعان
ماضيان لفظاً
ماضيان معنى
ماض مضارع
مضارع ماض
ولا يجوز حذف هذين الفعلين من غير الأداة (إن) لأنها أصل الأدوات،وقد تقدم البيت المشهور:
قالت بنات العم...
أما إذا وقع فعل بينهما فيأتي مرفوعاً،أو مجزوماً على البدليَّة كما في الشاهد الثاني، قال الحُطيئة:
متى تأتِه تعشو إلى ضوء ناره ...
تجد خير نارٍ عندها خير موقدُ([121])
وقال عبد الله بن الحر:
متى تأتنا تُلمِمْ بنا في ديارنا ....
تجدْ حَطباً جزلاً وناراً تأججـا([122])
وأما إذا دخل على هذا الفعل الفاء أو الواو أو ثم فإنه يُجزم لأن هذه الحروف يُشرِكنَ فيما دخل فيه الأول، ويجوز في هذا الباب أن تُعرب الفاء سببيةً، ولا يجوز في (ثم) لأنَّها لا تنصب بـ (أن) مضمرة([123]).
هـ - اجتماع الشرط والقسم:
حـدّد سيبويه هذه المسألة تحديداً في باب سمّاه «هذا باب الجزاء إذا كان القسم في أوله» فأجاز أن تقول: والله إن أتيتني لا أفعل ولم يُجوِّز «والله إن تأتني آتِك» ومحالٌ أن تقول: «والله من يأتني آتهِ» لأنّ اليمين لا يكون لغواً، ويجوز أن تقول: أنا والله إن تأتيني لا آتِك لأنّ الكلام مبني على (أنا) فالقسم هنا لغو([124]).
وقد أفاض العلماء القدامى في هذا الجانب، وكان ملخص كلامهم أنّ القسم والشرط إذا اجتمعا استُغني بجواب ما سبق منهما عن جواب الآخر.
ولا فرق إذا كانت الأداة (إن) أو (لو) أو (لولا) أو أسماء الشرط وأما إذا تقدّم (لو) و (لولا) على القسم فالواجب إلغاء القسم لأنّه جوابهما لا يكون إلاّ جملة فعلية خبرية، ولا يصحّ أن يكون جملة قَسميّة، تقول: «لو جئتني والله لأكرمنّك»، «ولولا زيـدٌ والله لضربتك».
وإذا تقدم القسم على الشرط فإمّا أن يتقدم على القسم ما يطلب الخبر أو لا يتقدم، والأول قد يجيء الكلام عليه في قوله وإن توسط يتقدم الشرط([125]).
ويجوز في الشعر اعتبار الشرط وإلغاء القسم مع تصدره، كقول الأعشى:
لئن مُنيْتَ بنا عن غِبٍ مَعركةٍ ....
لا تُلفنـا عن دماءِ القومِ ننتفلُ([126])
وقال:
لئن كان ما حدثته اليوم صادقاً....
أصمْ في نهار القيظ للشمس باديا([127])
وقال:
حلفت لـه إن تدلج الليل لا يزلْ...
أمامك بيت من بيوتي سائِرُ([128])
وأما لو عكس الأمر يعني تقدم الشرط على القسم فالواجب اعتبار الشرط ولك بعد ذلك إلغاء القسم نحو: إن جئتني والله أكرمْك، وقد شبه الرضي هذا الباب بباب التنازع، وقال لا استدلال للكوفيين فيه على أن إعمال الأول أولى([129]).
ـ تتمـة:
اختلف العلماء في إعطاء الجواب لأحدهما، ومن قراءة آرائهم وأحكامهم يبدو لنا أن معظمهم يؤيد أن يعطى الجواب للسابق منهما، وعدّ البغدادي هذا قاعدة عامة، واعتبر اللام واقعة في جواب القسم لا (لولا) في قول الشاعر:
والله لـولا شيخنـا عبّـاد....
لكمـرونا اليـوم أو لكادوا
وردّ في هذا على ابن مالك الذي جعل الجواب لـ (لو) أو (لولا) سواء تقدّم القسم عليهما أو تأخر عنهما، كقول:
فأقسم لو أبدى النديّ سواده
....لما سمت تلك المسـالات عامرُ
ومثله قول الآخر:
فأقسـم أن لو التقيا وأنتـم....
لكان لكم يومٌ من الشر مظلمُ
ويبدو أن البغدادي([130]) يدافع عن القاعدة التي اعتمدها عامةً فرفض أن يكون الجواب إلا للأسبق ولو كان في الشاهد دليل حسِّي، وبدا هذا في قول الشاعر:
للـولا قـاسـمٌ ويـدا سبيل...
لقـد جرت عليك يد غشوم
فاعتبر اللام الداخلة على (لولا) زائدة، وأما لام قد بدون لولا فالمشهور أنها لام القسم، وكأنه يرفض أن تكون جواباً لـ (لولا) وهي كذلك، وإلاّ فأين جواب (لولا)؟ وقال قد تحذف هذه اللام من بعد (لو) إذا لم يكن القسم ظاهراً، قال الشاعر:
فلو أنّ قومي أنطقتني رماحهم
....نطقت ولكنّ الرماح أجرَّت
أي (لنطقت)، وقال آخر:
فوالله لولا الله لا شيء غيره
....لزُعزع من هذا السرير جوانبْه
فاللام في جواب (لولا) إنما هي جواب القسم.