الموضوع: برازق
عرض مشاركة واحدة
قديم 25 / 07 / 2009, 38 : 09 AM   رقم المشاركة : [1]
خيري حمدان
أديب وقاص وروائي يكتب القصة القصيرة والمقالة، يهتم بالأدب العالمي والترجمة- عضو هيئة الرابطة العالمية لأدباء نور الأدب وعضو لجنة التحكيم

 الصورة الرمزية خيري حمدان
 





خيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond repute

Momayz برازق

برازق
خيري حمدان

إن كنت من سكان الحي المتواضع الذي يقع عند آخر منحدر تصل إليه المدينة، فلا شك أنك تعرف "بكر" بائع البرازق، حيث تراه دوما بقامته الطويلة، هذه القامة التي تبدو دوما في إطار مشوش، سروال بني كالح يمسك بخصره النحيل وتلتصق بمؤخرته قطعة قماش خضراء خيطت به بقصد إطالة عمره، يكمل تشويش هذا الإطار قميصه ذو الألوان المتعددة المتنافرة، لا حذاء هناك، وما حاجته به وقد اكتست قدماه بطبقة جلدية سميكة لا حيلة لقطع الزجاج والأحجار المسننة ولا حتى المسامير معها، ولكن كل هذا قد لا تلحظه منذ الوهلة الأولى، ستلاحظ ولا شك الصينية المستطيلة التي رصت عليها أقراص البرازق الصفراء المسمسمة على شكل هرمين كل يقابل الآخر ثم صوته القوي الحلو المغناج .. " برا .. ز .. ق " ونوادره الحلوة التي يتحف بها كل من يمر به فيثير موجة من الضحك تواكبه أينما توجه، وأخيرا يستقر به المقام أمام صالون الحلاقة المتواضع فيضع ركوة من الخشب ذات أرجل ثلاث على الأرض، ثم ينزل الصينية من على رأسه لتقبع على الركوة ثم يعود يمط صوته من جديد وبحيوية أكثر:
- يا الله يا ولد .. برازق .. برازق بكر يا ولد.
يتجمع الصبية من حوله، وتمتد الأيدي الصغيرة بقطع النقد الصفراء. كل خمسة فلسات لها قرش ونكتة صغيرة حلوة.
كان يطيب لي أن أمر كل يوم ببكر أثناء عودتي من المدرسة ظهرا فيقابلني بلهجة حلوة:
- برازق بكر يا أستاذ.
ويناولني قرص الحلوى الهش المسمسم وأنقده ثمنه فيردف بكر قائلاً:
- اسمع أحدث نكتة يا أستاذ .. واحد حرامي دخل بيت .. ويكمل النكتة .. وجميعها حلوة مستساغة.
في كل مساء وأنا عائد إلى البيت كنت لا أجده في أغلب الأحيان فأعرف أنه قد باع جميع أقراصه، فأتصوره سعيداً هانئا يجلس مع زوجته يطعمها الأقراص التي كسرت فلم تعد صالحة للبيع ثم يروي لها كل النوادر التي رواها في ذلك اليوم لزبائنه.
افتقدته يوما فما رأيته حيث تعودت أن أراه ودام غيابه أربعة أيام ثم عاد ليستقبلني الاستقبال الحافل المعهود.
قلت له:
- طالت غيبتك يا بكر .. قلقت عليك؟ ..
فيغمز بعينه ويقول والسعادة تكاد تقفز من عينيه:
- عقبال عندك يا أستاذ .. لقد اصطحبت زوجتي إلى القرية لتضع قرب والدتها .. تصور يا أستاذ، بكر سيصبح أبا .. هذه آخر نكتة ...
في يوم جمعة كنت أقضي بعض حوائج البيت، فإذا صوت بكر يلعلع آتيا مع رأس الشارع فتراه يمد يده إلى الصينية وبمهارة يسحب قرص البرازق فيسلمه للمشتري ويتسلم الفلسات الخمسة ويتابع النداء .. وفجأة يسكت الصوت ويسود الشارع الصمت .. لقد داس بكر على قشرة موز ألقت به أرضاً ونثرت كل أقراص البرازق على الأرض فتكسر معظمها واتسخ الباقي .. ونهض بكر ونظر حوله فتخيلته قائداً مهزوما لمعركة فاشلة وأشلاء القتلى تحيط به .. أكثر من أربعمائة قرص ثمنها ديناران هي كل رأسمال بكر ..
تقدمت من بكر وأحطت كتفه بذراعي ومددت إليه بورقة نقد من فئة دينار فأجفل وتقدم صاحب صالون الحلاقة المتواضع وقال بصوت حاول أن يسمعه للجميع:
- عيب يا أستاذ .. أنت غريب وبكر واجبه علينا .. نشكرك.
أخرج صاحب الصالون من جيبه منديلاً ملونا وضع فيه قطعة نقود فضية ودار على الجميع كل يضع في المنديل ما تجود به نفسه .. واحد فقط رفض أن يساهم بحجة أن ذلك يفسد بكر الذي يجب أن ينتبه أكثر .. هذا الواحد كان صاحب مخزن البضائع الكبير في السوق!! .. وأحصيت النقود فإذا هي تقل عن الدينارين بقروش قليلة وضعتها في المنديل.
في اليوم التالي مررت ببكر وسلمته الخمسة فلسات وسلمني قرص البرازق وانتظرت النكتة ولم يتكلم فغمزت متسائلاً فإذا بدمعتين تترقرقان مع عينيه فسألته:
- ما لي أراك مهموما يا بكر؟
- زوجتي مريضة وابني الصغير يكاد يموت ..
وحاولت أن أساعده فرفض وألححت وأمعن في الرفض قائلاً:
- شكرا يا أستاذ لقد قبلت بالأمس حسنة ولن أقبل اليوم أخرى. وتركته وغصة ألم تكاد تفجر حلقي ..
في اليوم التالي كنت أستعجل عقارب الساعة لأعود إلى البيت مارا ببكر لأطمئن .. وكان المكان الشاغر ينبئني عن الحدث وتمنيت أن يكون الطفل الفقيد فهو يعوض، أما الزوجة فأقراص بكر لن تأتي أبدا بأخرى.
غاب بكر عن الحي أكثر من سنة، وحاولت أن أصل إلى أخباره فما تمكنت فبدأ شكله يغيب عن مخيلتي وصوته الممطوط يتلاشى من ذاكرتي وإن كنت كلما سمعت نكتة حلوة أتذكر بكر.
في بداية العام الدراسي الجديد نقلت إلى مدرسة ي حي آخر من أحياء المدينة لا فرق بينه وبين الحي السابق سوى ببؤس سكانه الأكثر وضوحا، ومضى أكثر من أسبوع وأنا أحاول أن أجد لي مسكنا ملائما فلم أجد، فاضطررت إلى استئجار بيت على الشارع يملؤه الضجيج ليل نهار، ونقلت أثاث بيتي البسيط في المساء ونمت ليلتي الأولى والحشرات البغيضة يستثيرها حر خانق تهاجمني دون رحمة .. وأفلحت أخيرا في النوم وأنا ألعن مهنة التدريس التي تدفعني كل عام إلى السكن في حي جديد.
في الصباح صحوت على صوت حلته يأتي من السماء .. دعكت عيني والصوت يهاجمني .. برازق بكر يا ولد .. الاسم صاف .. وهذا صوت أجوف مبحوح لا حياة فيه، وقلت عله اسم واحد لشخصين مختلين .. والبرازق نس السلعة .. بعد تردد قمت إلى النافذة وفتحتها وخرجت بنصف جسدي منها ورأيته ... رأيت بقية المأساة التي شاهدت بدايتها في الحي الفقير منذ عام .. رأيت بكر بلحمه وقد ذاب ودمه وقد جف .. يضع صينية البرازق على عربة لها ثلاث عجلات وقد استقر في قعر العربة طفل صغير يرضع إبهامه لا يزيد عمره عن عام واحد.

( كتبت عام 1959 )


زملائي الأعزاء
كتاب القصة القصيرة
القرّاء الأحبّاء
إذا كان لا بد من التصفيق فلنصفق جميعا للشهيد ماجد أبو شرار فهو كاتب هذه القصة وهي إحدى قصص مجموعته القصصية (الخبز المرّ)

دعونا نتعلم من هذا الأديب والمناضل العملاق الذي قدم حياته من أجل فلسطين، فكتب وأبدعت ومارس العمل الإداري والنضالي حتى استشهد كما تعلمون في روما.
كتاباته وهذا نموذج منها تدل على معايشته للشارع العربي والفلسطيني اليومي، ومناصرته للفقراء والمظلومين، كما تتمته قصصه بتشويق واضح وهدف موجه لخدمة الإنسان والقضية. ماجد أبو شرار من القلة الذين يشار لهم بالبنان، وللأسف لم يسعفه مصيره ليستمر في الكتابة والإبداع، قائدٌ فذّ يصعب وجود مثيلاً له في هذه الأجواء الفلسطينية المشحونة سياسيا بالخلافات ونشر الفضائح واستغلال الأحداث المأساوية من أجل تنفيذ مصالح شخصية. واسمحوا لي باستغلال هذه المناسبة للتذكير بماجد أبو شرار وسير حياته واستشهادهِ

- ولد في بلدة دورا / الخليل سنة 1936، وفيها تلقى تعليمه الابتدائي والمتوسط، ثم انتقل إلى القاهرة حيث أنهى دراسته.
- عمل في التدريس في الأردن ثم في السعودية حيث التحق بحركة فتح هناك وأصبح مسئول تنظيمها.
- انتقل إلى الأردن سنة 1967 وتفرغ للعمل النضالي والتنظيمي في حركة فتح وانتخب عضوا في مجلسها الثوري، ثم عضوا في لجنتها المركزية سنة 1980.
- له الكثير من المقالات والدراسات حول أوجه القضية الفلسطينية المختلفة، نشرها في العديد من الصحف والمجلات.
- أصبح عضوا في الأمانة العامة لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين منذ 1972 حتى وفاته.
- كان مسؤول الإعلام الموحد في منظمة التحرير الفلسطينية.
- اغتالته المخابرات الصهيونية يوم 09.10.1981 بقنبلة وضعت تحت سريره في أحد فنادق روما حيث كان يشارك في مؤتمر عالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني.
- منح اسمه وسام القدس للثقافة والفنون في عام 1990.


نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
خيري حمدان غير متصل   رد مع اقتباس