27 / 07 / 2009, 42 : 08 PM
|
رقم المشاركة : [1]
|
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي
|
في حوار مع الروائي والأديب الراحل الدكتور بديع حقي
[align=justify]
في حوار مع الروائي والأديب الراحل الدكتور بديع حقي أغمس ريشتي بحنايا القلب مستجليا الواقع بكل ألوانه
رحل الروائي والمبدع العربي الكبير الدكتور بديع حقي يوم الأحد 23 كانون الثاني العام 2000 في مشفى دار الشفاء بدمشق بعد معاناة مع المرض دامت سنوات.. وكان بديع حقي من هؤلاء الأدباء المسكونين بالعطاء والجمال والإبداع، يكتبون فلا يعرفون إلا الاستمرار الذي لا يسمح بالتراخي، فالكتابة عندهم رسالة وفعل حياة.. ومن يقرأ أعمال بديع حقي في الرواية والقصة والدراسة والترجمة، يعرف إلى أي مدى كان هذا الإنسان مسكونا بالإبداع.. وربما من حسن حظي أن كنت قريبا كل القرب من هذا الإنسان المسكون بالحب والدفء والجمال.. كنت قريبا إلى الحد الذي جعلني أعرف الكثير عنه وعن حياته وأسلوبه في الكتابة.. وفي هذا الحوار، لن ادعي أنه الحوار الأخير، لأنني لا اعرف إن كان الأخير أو لم يكن، لكنني أستطيع القول إنه ينشر للمرة الأولى، وأنه كما قال لي الدكتور بديع حقي حوى الكثير من الأشياء التي لم يقلها من قبل في حوار..
* دكتور بديع لنبدأ من نقطة أولى تتحدث عن الميلاد.. ثم العوامل أو الدوافع التي جعلتك تسير في طريق الإبداع؟؟
** ولدت في دمشق في 26 حزيران 1920. كما جاء في دفتر سجل فيه والدي تاريخ ميلادي. وإن يكن آثر ـ رحمه الله ـ أن يسجلني بدائرة الأحوال المدنية بحمورية، على أنني ولدت عام 1922 ـ ليتاح لي ـ فيما أحسب ـ أن أخدم كموظف سنتين زيادة حين أبلغ الستين. وهذا ما تم فعلاً..
ليس في ميسوري تحديد العوامل التي حملتني على السير في طريق الإبداع. لقد بدأت هذه العوامل أمنية صغيرة، صغيرة. فيما كنت أطالع في ريق صباي بعض روائع الإبداع في الأدب "عربياً كان أم أجنبياً" كنت أتساءل: أيكون في مقدوري أن أنظم في المستقبل مثل هذه القصيدة أو أؤلف مثل هذه القصة أو الرواية. هذا التساؤل هو البذرة الصغيرة التي نثرتها خلال قراءاتي الجمة. النهمة. على أرض نفسي لتنجم نبتة متواضعة ـ أمنية صغيرة. ثم ربت ونمت وترعرعت حتى غدت طموحاً.
* ينقلني هذا مباشرة للتساؤل عن بديع حقي والحالة الإبداعية.. عن توهج الذات الإبداعية وارتباط ذلك بالزمن؟؟
** لا أستطيع أن أحدد الزمان الذي تتوهج فيه ذاتي وتتهيأ للإبداع. ويتفق لي أحيانا أن أسمع لحناً عابراً أو أغنية حلوة، لتثير حوافز الإبداع لديَّ ـ كما اتفق لي ذات مرة حين سمعت ـ قبل أكثر من اثنين وخمسين عاماً لحن البوليرو لرافيل. في دار الصديق صميم الشريف. وشعرت بهذا الوهج الذي يسبق العمل الإبداعي أو يواكبه. وفي ركن منزوٍ من غرفة صديقي صميم نظمت قصيدة" لحن البوليرو" التي أعدها من أجمل قصائدي ويترفق مطلعها على هذا النحو:
يا نديمي هلك اللحن وماتت كل آهْ هاتِ من روحك ما يبث في الناي الحياهْ من نداء الغاب مرَّ النسم فيه ثم تاه من حنين الدوح هلَّتْ في أعاليه صلاهْ وكما اتفق لي أيضاً ـ على نحو ما جلوت في كتابي: "جمرة الحرف وخمرة النغم" تحت عنوان "على جناح نغمٍ عابر" ص 205بعد أن صافح سمعي في خريف عام 1946 بغابة بولونيا، بباريس، لحن:"إلى اليز"الذي وضعه عملاق الموسيقا: بيتهوفن. فشعرت والنشوة تملأ عطفي، بوهج الإبداع، يملي عليَّ قصيدة "خريف غابة بولونيا" التي ضمها ديواني "سِحْر". وتعد هذه القصيدة من بواكير الشعر الحر وإرهاصاته ـ كما نوهت بذلك الشاعرة العربية نازك الملائكة. بكتابها: "قضايا الشعر المعاصر".
ويترفق مطلعها على النحو التالي:
أي نسمهْ حلوة الخفق، عليلهْ تمسح الأوراق في لين ورحمهْ تهرق الرعشة في طيات نغمهْ وأنا في الغاب أبكي أملاً ضاع وحلماً ومواعيد ظليلهْ وقد ضمها أيضاً كتابي: "جمرة الحرف وخمرة النغم" تحت العنوان المنوه عنه. ولا ينفسح لي، على الجملة، وقت محدد، تتوامض فيه جمرة الإبداع ووهجه. غير أنني أوثر في العادة أن أخلو إلى نفسي، بعد شرب القهوة. عند منبلج الفجر.
أما حين يهاجمني شيطان الإبداع ليلاً. فإن ليلتي تغدو بيضاء، لأسوِّد صفحاتٍ شتى. أوردها كما واتتني. لأنكفئ إليها فيما بعد وأصقلها مشذباً محككاً، مستبدلاً بلفظ، لفظاً أحلى وأوفى دلالة. وتنساق جملها، في قالب الأسلوب الذي ارتضيته وعرفت.
ويتفق لي أحياناً، أن أسمع جملة، أو كلمة مؤثرة. تنساق إلى شغاف قلبي وتنفض كوامن شجنه وأساه. مستعيراً هذه الكلمة المؤثرة الموحية. لأنوطها ببوح بكل قصتي أو روايتي لاهجاً بها، مردداً إياها.
أذكر هنا على سبيل المثال: أنني سمعت ابني الصغير عماد، يقول لي فيما كنت أودعه في المطار لأستقل الطائرة المسافرة إلى الجزائر، ملتحقاً بعملي: "بخاطرك يا بابا، يا حبيبي يا بابا" فقد انثالت كلمته العذبة" عفواً" إلى سمعي. وهاجت الدمع في عيني. وحملتني على أن أستعير كلمته النديّة، لأوشي بها كلمة "زينب" ابنة بطل روايتي "جفون تسحق الصور" فيما كانت تودع أباها المريض، لتتردد، مهيمنة، في رأسه، مانحةً الرواية، بعداً مشحوناً بالأسى واللوعة. ومترقرقاً في نغمةٍ أسيانةٍ شجية، كما لو أنها جملة موسيقية. تترفق في ثنايا سوناتا أو سمفونية، مما يتفق مع منهجي الذي فزعت إليه، بمحاولتي موسقة الرواية.
* تعرف أن الأديب يقف من عمله المنجز موقفا قد يكون غريبا.. ماذا عنك بعد أن تضع النقطة الأخيرة في عمل ما؟؟
** أشعر بغبطة عارمةٍ تملأ نفسي حتى لأحسب أنني ملكت الدنيا بأسرها. ثم يبدأ القلق يتسلل إليها، حين أكتشف خللاً يسيراً. هنا أو هناك، في سياق القصة أو الرواية، وأحاول بهذا القلق المبدع، المتصل الذي يحكُّ في صدري أن أصلح ما يتراءى لي ناقصاً، غير مكتمل. وأكتب القصة أو الرواية من جديد. مثنى وثلاث حتى أضيق أخيراً بما أنجزت. ليكون طبع الكتاب خاتمةً لمحاولاتي الدائبة المتكررة ومع هذا فكثيراً ما أردد في حسرة صادقة، ليتني كتبت هذا المشهد من القصة أو الرواية ـ بعد طبعها ـ على نسقٍ أحسن وأوفى وأكمل،فكأنني أردد ما أورده "العماد الأصفهاني" في هذا الصدد بقوله:
"إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتاباً في يومه إلا قال في غده، لو غيَّر هذا لكان أحسن ولو زيد كذا، لكان يستحسن. ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل. وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر".
وقد أشرت في مقدمة روايتي "همسات العكازة المسكينة". "إلى أنني أعدت كتابتها ثلاث مرات. وكنت في كل مرةٍ أنتهي منها أجدني غير راض عنها، وهو قلق يجاذبني في أكثر ما كتبت ونشرت. وقد دفعت بها إلى الطبع وفي نفسي شيء يغريني بالتمهل، لأضيف إليها أو أحذف منها أو أبدل فيها. ولكني خشيت أن يتراخى هذا القلق إلى اليأس. ولم يبق من العمر سوى الربع الأخير. فأسلمتها إلى القارئ وفي القلب إليها نزوع وتطلع وحسرة".
* يتحدثون كثيرا عن المكان وأثره على الكتابة.. قد يختار كل كاتب مكانا معينا يكتب فيه.. هل لك موقف أو شيء خاص بالنسبة للمكان؟؟
** كتبت معظم أعمالي الإبداعية في بلودان حيث أتخذ مجلسي في شرفة مطلة على سهل الزبداني تاركاً نظراتي تنسرح إلى المدى البعيد. البعيد. ومع هذا فقد نظمت بعض قصائدي وكتبت بعض قصصي في أوربا وغينيا "برن وباريس، وكوناكري بخاصة" وأشرت إلى ذلك في كتابي "جمرة الحرف وخمرة النغم". تحت عنوان: الغول البيضاء ص "147". بشكل مفصل حول الزمان والمكان اللذين أوثر أن أمارس فيهما عملي الإبداعي.
* رغم أن الجواب ناقص إلى حد ما، لكن دعنا ننتقل إلى العمل الأثير لديك وأنت صاحب المؤلفات الكثيرة المتعددة في أي عمل تجد شيئا من صورتك؟؟
**أرى صورتي في كتابي "الشجرة التي غرستها أمي" على حقيقتها من دون أي تزيُّد أو تشويه أو تزويق. وأعد هذا الكتاب المجلى الواضح لشخصيتي منذ بدء نموها ونضجها حتى استمسكت على النحو الذي عرفت به الآن.
ويعود الفضل في ذلك كله إلى أمي رحمها الله، فقد كانت تربيتها لي مزيجاً من القسوة والعطف والحنان.
وعلى الرغم من أنها كانت أمية، إلا أنها كانت تدرك بفطرتها السليمة واستقامتها، ما يحسن أن أقوم به أو أتجنبه من الأعمال المناسبة أو المنافية، وقد سقت في هذا الكتاب أمثلةً ذات دلالة.
وظلت أمي النبع الثرَّ الذي أمدني بأعمق المشاعر التي سقت طرفاً منها وجلوتها في جلّ قصصي ورواياتي.
وفي مقال غمز أوتار قلبي كتبه صديق العمر عبد السلام العجيلي يقول فيه:"لقد غرست أم بديع شجرتين، شجرة نارنج عرفتها في الأيام الفائتة وتفيأت ظلَّها ومتعتُ نظري بخضرة أوراقها. والشجرة الثانية هي بديع نفسه الذي غرسته أمه في أرض الوطن، في حديقة الأدب وروضة الفن من هذا الوطن".
* هذا الكتاب ترى فيه صورتك.. فما هو الكتاب الذي تعتبره ذروة أعمالك.. هل تجد كتابا واحدا يمكن أن يعطيك هذا الشعور؟؟
** أجل أعتبر رواية "همسات العكازة المسكينة" ذروة أعمالي الأدبية. إذ تأتلف فيها، على نحو ظاهر واضح همسات العكازة ونجواها مع خلجات قلبي ودقاته، انسياقاً مع منهجي الذي طمحت إليه في موسقة الرواية. لتبدو، كما لو أنها سمفونية رحبة، تهيم في ثناياها همسات العكازة الخفيضة كأنها جملة موسيقية، منسربة تغيب ثم تؤوب/مترددة، مترفقة، مستأنية، لتنفض بحركتها المتواترة وهمساتها، خفايا الأعماق، متممة بنقلاتها الشعرية وصورها، بعض ما يغمغم به اللاشعور. كما أفضت في الحديث عنه بمقدمة الرواية. وقد جعلت هذه العكازة تبوح بنجواها وحديثها الخفي. آخذاً بمبدأ التشخيص وأنسنة الأشياء الجامدة، لتنوب عن بطل الرواية، حين يعجز هو عن الافصاح عما يدور في أعماقه من مشاعر وأحاسيس. فكأنها ظله أو صداه.
كل هذا مع التزامي بتصوير الواقع المرير، من دون أن أعتمد على عدسة تنقله. فوتوغرافياً، أمام بصر القارئ، بل على ريشةٍ "معربدةٍ" أغمسها في حنايا القلب، مستجلياً الواقع ملوناً بخفقات هذا القلب.
أما في القصة فإن قصة "حين تتمزق الظلال" هي برأيي أجمل قصة وأدناها من الكمال الذي أنشد. ولا أخفي أنني نسجت خيوطها من الواقع، بعد أن روت لي فلك ابنة أخي رفقي، وشقيقة ابن أخي نهاد قلعي ـ رحمهم الله ـ قصة الزبال الذي حسب أن ابنتها الصغيرة، هي خادمة فجعل يزلق كل يوم صورة فوتوغرافية له، تحت الباب لعلها أن تحبوه بنظرة عطف، وترق له، فلما مزقت صورته الأخيرة، ورمت بها إلى القمامة ولمح جذاذاتها المتناثرة شعر بأن شيئاً ما يتمزق في حنايا قلبه.
وقد أضفت إلى ما روته لي ابنة أخي قصة عثور هذا الزبال على سوار ذهبي أعاده في فرحة تياهة ساذجة.
إن الزبالة هي أحقر ما نستغني عنه ونرمي به، في القمامة، ولكننا قد نعثر مصادفة على شيء ثمين، يتلامح ويتألق ضمنها ـ كسوار أو خاتم ـ كما نعثر في الوقت نفسه على كنزٍ عاطفيٍ في صدر الإنسان. هو هذا القلب المتوهج بالحب. ههنا يجاذب الرمز الواقع ويعانقه ويلامحه.
وأذكر أن رائد القصة العربية الأستاذ محمود تيمور كتب إلي مهنئاً إثر قراءته القصة منشورة في مجلة "العربي" الكويتية ـ وكان بيننا مراسلات ـ علماً بأن هذه القصة قد نقلت إلى الايطالية، بقلم مستشرقة ايطالية، بطلب عن طريق الصديق الدكتور عبد الرحمن منيف.
* طبعا جزء كبير من هذا الحب ينسحب على أعمالك الأخرى؟؟
**أحب كلَّ ما كتبت حتى ولو ألفيت مع تقدم العمر والنضج أن فيه شيئاً يحسن أن تعاد كتابته. فإن كل آثاري الشعرية والقصصية والروائية والنقدية هي فلذات منتزعة من روحي، هي بنات فكري وقلبي. وهي إلى ذك، منوطة بفترات ومناسبات من حياتي. أستعيدها، إما طاب لي أن أقرأها من جديد.
* قد يبدو السؤال في غير محله، لكن لنقل عن مدى تأثرك بكتابات الآخرين؟؟
**تأثر شعري بجل الشعراء الرمزيين الفرنسيين العظام "بودلير ـ رامبو ـ مالارميه فاليري". وأحب من بين الشعراء العرب القدامى: ابن الرومي والبحتري وأبو تمام ومن بين الشعراء المعاصرين: عمر أبو ريشة، والأخطل الصغير، وأمين نخلة، وبعض قصائد بدر شاكر السياب، ونزار قباني وسعيد عقل.
أما في القصة والرواية، فيتوزع تأثري بين دستويفسكي وتشيخوف وفوكنر وبروست وجويس "لاسيما في الحوار الداخلي بروايته أوليس".
كما تأثرت إلى حد ما، ببعض أقطاب الرواية الجديدة "روب غريية وكلودسيمون" في حرصهم على إيراد التفاصيل الدقيقة للأشياء وإن كنت أنأى عنهم بمحاولتي إيراد هذه التفاصيل ممزوجاً بدفء الأعماق.
* النقد عند عدد كبير من المبدعين غير موجود في هذا الزمن.. طبعا هذه مبالغات غير صحيحة.. ما موقفك أنت من النقد، وكيف تعامل مع أدبك؟؟
** يخيل إلي أن قلة من النقاد ـ أذكر منهم الدكتور ابراهيم الكيلاني والدكتور حسام الخطيب والدكتور سمر روحي الفيصل ـ استطاعت أن تنفذ إلى أدبي وأن تحلله وتقومه على أفضل وجه.
وأسجل هنا، ما كان أورده الناقد الدكتور سمر روحي الفيصل، في العدد الخاص بأدبي في الأسبوع الأدبي. العدد 313 في 21/5/1992. بقوله "لابد من الاعتراف بتقصير الباحثين والنقاد في تسليط الضوء على إسهامات هذا الرائد "يعني بديع حقي" في الأدب العربي الحديث.
وقد أشرت في الحفل الذي أقيم تكريماً لأدبي في مكتبة الأسد: إلى "أنني أشعر أحياناً بالقنوط والإحباط، ويمثل في وهمي أن كل ما ألفت لم يكن إلا عبثاً وسراباً ويجاذبني آنئذ ما كان جاذب أبا حيان التوحيدي من خيبة ومرارة. حين دفع بكل ما تبقى لديه من مؤلفات إلى النار. ضناً بها على من لا يعرف قدرها وقيمتها في زمانه".
* هل استفدت في إغناء إبداعك مما كتب من النقد عن أعمالك؟؟
**أفدت الشيء الكثير مما نشره الدكتور حسام الخطيب، لاسيما دراسته الشائقة الممتازة عن روايتي "همسات العكازة المسكينة" حين طلب إلي في العدد نفسه الذي نشر فيه دراسته من "الموقف الأدبي". أن أورد رأيي وملاحظاتي عليها، لنتفردا معاً، في سياق تعاون المبدع والناقد في تقويم أثر أدبي ما.
وقد أفدت من دراسته أنها تناولت جانباً خفياً من إبداعي "لعلي نفضته على نحو لا شعوري" فدلَّني بحسه السليم الناقد، المتذوق، عليه.
كما أن دراسة الدكتور ابراهيم الكيلاني لسيرتي الذاتية بكتابي "الشجرة التي غرستها أمي" قد هدتني إلى تحليل دقيق لشخصيتي الإنسانية. فإن بعض عيوبي وسجاياي تطل خفية متوارية، مجهولة مني أخذاً بالمقولة المعروفة "شدة القرب حجاب" علماً بأن بعض الزملاء من الكتاب المبدعين، ممن لم يمارسوا النقد الأدبي، إلا عرضاً، كتبوا عن أدبي بكثير من المودة والإعجاب والمحبة أذكر منهم الدكتور عبد السلام العجيلي والدكتور محمود موعد، والأستاذ فاضل السباعي.
* أريد أن أبقى في حيز النقد، برأيك إلى أين وصل النقد العربي في الوقت الراهن؟؟
** لابد لي أن أجلو هنا إعجابي وتقديري، بحركة النقد في العصر الحديث منوهاً بمؤلفات الدكتور حسام الخطيب والدكتور نعيم اليافي. والدكتور سمر روحي الفيصل. والدكتورة يمنى العيد، وغيرهم، ومع ذلك تظل إسهامات بعض الكتاب النقاد قاصرة عن الاحاطة الوافية بكل ما ينشره المبدعون في الوطن العربي.
وقد أفصح لي ذات مرة الصديق د. نعيم اليافي عن إعجابه بأدبي، ومع ذلك فلم يتسق له أن يكتب كلمة ً واحدةً ـ ولو أتت مختصرة ـ عن أدبي على الرغم من تطلعي إلى معرفة تقويمه العميق له "من دون أن ألح عليه، في إبداء رأيه بهذا الأثر الأدبي أو ذاك من آثاري الأدبية".
* سكنك الإبداع من قصة ورواية.. هل هناك ميل إلى كتابات أخرى؟؟
** أميل إلى الدراسات الأدبية، وأكتب في هذا المجال، تلبية لطلب صديق أديب، كما فعلت في الدراسات الأدبية التي نشرتها في مجلة "العربي" بالكويت، بناء على طلب رئيس تحريرها الدكتور أحمد زكي رحمه الله. وقد ضم بعضها: كتابي "قمم في الأدب العالمي" أو تلبيةً لطلب مؤسسة علمية أو أدبية "كالموسوعة العربية". وقد ضم بعضها كتابي "مذاهب وأعلام في الأدب العالمي" وشجعني على طبعها ونشرها الصديق الدكتور عبد النبي اصطيف لما حوت من معلومات تفيد أساتذة الجامعة وطلبتها، بيد أنني أعترف أنني لا أملك منهجاً محدداً في النقد، من بين المناهج الذائعة المعروفة "كاللسانيات" وأعتمد على ذائقتي الأدبية في تقويم الإنتاج الأدبي لأي مبدع.. ثمة مجال، أدبي أحببته كثيراً، هو مجال الترجمة.
فقد قمت بنقل روائع طاغور في الشعر والمسرح إلى العربية. ولعل اعتزازي بما نقلت يعدل اعتزازي بما ألفت وأبدعت في مجال القصة والرواية والدراسة، كما نقلت روايتين عن الروسية، لغوغول، ونقلت رواية "ولا تزال الشمس تشرق" لهمنغواي، وديوان "قصائد مناضلة" لأحمد سيكوتوري.
* ما هي الخطط المستقبلية إبداعياً؟
**تجاذب نفسي، خطط شتى لكتابة قصص أو روايات، تختمر موضوعاتها في ذهني مغريةً، متلامحة، وأنتظر الشرارة الأولى لأشرع بكتابتها. ويثنيني المرض "في قلبي، وقرحة معدتي" في أغلب الأحيان عن بذل الجهد اللازم لأعكف على الكتابة. ثم أنني استشرفت الثمانين، ولم أعد أتمتع بحميا الشباب واندفاعه. ولم يبق لي سوى الثمن الأخير من العمر، ومع هذا كله، أظل أتمنى ما تمناه "اندرو موروا" ـ كما ذكرت ذات مرة ـ أن يفاجئني الموت بين نقطة وفاصلة من جملة أكتبها في رواية أو قصة أو دراسة.
* هل حققت طموحك؟ جزءاً منه، أم أن هناك الكثير تأمل في تحقيقه؟
** لا، لم أحقق طموحي قط، وإن كنت أشعر بأنني راض عن جزء يسير من هذا الطموح، يتجلى فيما كتبت عن مواجع فلسطين، إذ تظل قضيتها موصولة بحنايا قلبي وشغافه.
وآمل مع هذا كله أن يظل قلمي غميساً في مداد الإبداع. كما أفصحت من قبل، وإن تكن قسوة الواقع تثنيني عن بلوغ ما أصبو إليه. وكثيراً ما أتساءل، حائراً، مرتاباً، ترى أيكون في مقدوري أن أكتب خيراً مما كتبت ونشرت.؟
* بصراحة هل تشعر أن إبداعك يصل إلى الناس بشكل يرضيك ؟ ما رأيك بالاهتمام الحالي بالإبداع؟
**لا. لم يصل إبداعي إلى الناس، بل إلى النخبة منهم، ممن يتذوقون سحر الكلمة وجمالها وموسيقاها، على النحو الذي أفضت في الحديث عنه، بكتابي "جمرة الحرف وخمرة النغم" ومع ذلك أشعر أن دائرة متذوقي أدبي بدأت تتسع. يوماً بعد يوم. كما تشي بذلك مبيعات مؤلفاتي في المكتبات وإقبال الجمهور على حضور محاضراتي ـ على قلتها ـ معترفاَ إلى هذا بغلبة الحزن الدفين على جل ما أكتب، حتى ليظن الكثيرون بأنني متشائم بالفطرة. فإن الجمهور نزَّاع بطبعه إلى المؤلفات التي تسليه وتهب له الابتسام والضحك، فهو ينأى إلى حد ما، عن كل الموضوعات التي تهصر قلبه وتسربله بالحزن والكآبة.
أضف إلى ذلك أن أدبي يجانف تصوير الشبق والغلمة ـ ولعل تربية أمي الصارمة هي التي نأت بقلمي عن الأدب الذي يدغدغ الشهوة ويثيرها. وديواني "سحر" مترع بالصور الجمالية فحسب، ولن يجد القارئ فيه وصفاً للشهوة المغتلمة. الجامة، الهلوك، وموضوعات قصصي ورواياتي تنأى بقلمي أن يتطامن إلى درك الجنس والأهواء الجامحة التي تجتذب على الجملة بعض المراهقين المولعين بهذا اللون المغري المثير من الأدب.
* كأنك أجبت عن سؤالي.. لكن أحب أن أقول بصورة أخرى كيف تنظر إلى أدبك بعد كل هذه السنوات من العطاء الرائع الجميل؟؟
**أقف معترفاً بعجزي عن بلوغ ما كنت أتمناه وأهفو إليه، فقد ذهب بي طموح شبابي، كما ذكرت في حفل تكريمي إلى التمني بأن أضحي أنا النحلة الصغيرة المشغوفة برحيق الزهر. أن أضحى ملكة من ملكات النحل المرموقة، وأن أحتل من خليتها الأدبية ما احتله عمالقة الأدب من مكان سام رفيع، ولكن هيهات، هيهات، لقد انتسخت كل الأماني وتلاشت ولم تستطع هذه النحلة الصغيرة: بديع حقي، أن تمنح سوى اليسير من الشهد.
لا، لم أستطع ـ واأسفاه ـ أن أكتشف في رحلتي الروائية، سوى جزرٍ تافهةٍ، تائهةٍ، في الخضم الرحب من الإبداع الحقيقي الجدير بالخلود.
لم يتسنَّ لي أن أكتشف، قارةً، مثلما اكتشف دستويفسكي، في اوقيانوس النفس الانسانية، قارةً بل قارات.واقنع مع هذا بأن أردد، ما كان أفضى به إليَّ، ذات مرة، صديقي فؤاد الشائب رحمه الله: لسنا يا بديع سوى جسورٍ مفضيةٍ إلى الأدب الخالد.
فلأقنع نفسي إذن بأنني جسر صغير، صغير من هذه الجسور.
* هل تنظر إلى بديع حقي المبدع بعين الرضا بعد كل ما أعطى .. ليتنا نبتعد قليلا عن شحنة الألم التي ملأت إجابتك السابقة؟؟
** بلى، انظر إلى ذاتي بكثير من الرضا والتفاؤل ـ على الرغم من المواجع التي كانت تواجهني ـ وما تزال. وعلى الرغم من التمزق الذي أراه وألمسه في مجتمعنا العربي، وتفككه، وانحسار مثله العليا، وغلبة الأثرة والطمع والخيانة وطلب المال.
حسبي من كل هذا، وعلى الرغم من كل هذا، أنني قلت كلماتي، المعذبة، اللاهفة وعبرت عما يعتلج في القلب. ببراءة تماثل براءة الأطفال. حسبي أنني وضعت اصبعي على الجرح وحركته. آملاً بالتغيير المرتجى ككاتب ملتزم بقضية فلسطين التي نذرت لها قلمي. ورويتها بدموعي. ومع ذلك فإن نفحة من الحزن لا تني تناسم قلبي، لأن دموعي لم تفتأ بعد رغبتي العارمة في المزيد من التفجع والبكاء.
* هل تضع خارطة لعملك الإبداعي، قبل أن تبدأ، أم ماذا؟
**أضع في العادة، خارطة لعملي الإبداعي، لاسيما في مجال الرواية. وكثيراً ما تكون نهاية الرواية، ماثلة في خاطري، حتى قبل أن أشرع بكتابتها.
وأشعر، حين أمضي بكتابتي، بأن نغمة، مثيرة شائقة، تجدد كلماتي وتسوقها. لتصبَّ في منحدرها المنتظر، مثلما تلتئم الجداول، وتنتظم نهراً لجياً، يفضي إلى البحر. لعل هذا يفسر، على نحو ما، منهجي في موسقة الرواية. حين تهيم نغمة من هنا، ونغمة من ههنا، ونغمة من هناك لتتساوق كلها معاً، مؤتلفة،متناغمة، متجاذبة.
وكما ذكرت آنفاً، فإنني أعمد بعد هذا، إلى الصقل والتشذيب والتحكيك، لأحذف كلَّ الشوائب التي يمكن أن تلحق بعملي الإبداعي، في مسيرته الدائبة،المتصلة.
وقد يتفق لي أن أصادف في رحلتي الإبداعية. نهاية جديدة، غير متوقعة اوثرها على النهاية المرتقبة التي كنت رسمتها من قبل.
كل هذا موكول بالالهام الذي قد يفسح لي فجأة أفقاً جديداً، مغرياً، أفزع إليه.
* ليتك تقدم صورتك واضحة عن حالتك أثناء عملية الإبداع، إضافة إلى الحالة النفسية، المواد المستعملة، وسوى ذلك؟
**حين أفزع إلى الكتابة، ألفي نفسي مستغرقاً في عملي الإبداعي، على نحو لا أرى فيه سوى الأسطر التي تمتلئ بالسواد. والبياض، بياض الورق الذي يلتهمه قلمي شيئاً، فشيئاً، ولا أسمع سوى الهمس الداخلي الذي يملي علي كلماتي. وقد يتفق أن يتردد صوت ما ـ رنين الهاتف مثلاً ـ فلا أسمعه البتة. وكثيراً ما تناديني زوجتي، لأمر مستعجل، طارئ، فلا أسمع صوتها. وإن تكن تهيئ لي، في العادة، الجو الهادئ المناسب، حين تراني مستغرقاً بالكتابة.
وأشعر أحياناً بأن العرق ينضح من وجهي، إما استغرقت بعملي كما لو أن الحمى قد استبدت بأوصالي.
أدوات الكتابة التي أوثرها هي قلم الرصاص والورق الأبيض المليس "يرجى الرجوع إلى مقالي "الغول البيضاء.. من كتابي: جمرة الحرف وخمرة النغم".
أوثر قلم الرصاص في الكتابة، لأنه يتيح لي أن أحكك وأمحو بعض الكلمات التي لم ترض عنها أذناي، وأستبدل بها كلماتٍ أجمل وأوفى دلالةً.
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|
|
|
|