عرض مشاركة واحدة
قديم 26 / 01 / 2008, 38 : 02 PM   رقم المشاركة : [1]
خيري حمدان
أديب وقاص وروائي يكتب القصة القصيرة والمقالة، يهتم بالأدب العالمي والترجمة- عضو هيئة الرابطة العالمية لأدباء نور الأدب وعضو لجنة التحكيم

 الصورة الرمزية خيري حمدان
 





خيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond repute

سيدي .. لقد حان الوقت





سيدي .. لقد حان الوقت

خيري حمدان

مسرحية تقع في ثلاثة فصول




الفصل الأول




نشاهد في منتصف صالة الاستقبال طاولة بليارد محاطة بكراسٍ وكنبات فخمة ومزخرفة، يبدو الثراء واضحاً في معالم الأثاث القليل والمتناثر في أنحاء الصالة. قريباً من طاولة البليارد يظهر فؤاد (أبو النور) متكئً على عصا البليارد واضعاً طرفها على وجهه. يبدو سارحاً وينظر في ركن ما. لم يطل به التردد طويلاُ، صوّ? عصاه تجاه إحدى الكرات وضربها بشدّة فتدحرجت لتضرب كرة أخرى لتدخلها في الجحر المقابل. عاد أبو النور الى وضعه السابق ووضع العصا جانباً، سمع طرقاً خفيفاً على الباب فصاح بملل:
?بو النور: أدخل يا مصطفى .. أدخل الباب مفتوح.
دخل رجل رزين يرتدي بزّة أنيقة ويحمل بين يديه صينية حيث القهوة والماء وبعض الصحف اليومية.
مصطفى: صباح الخير يا أبو النور.
أبو النور: صباح الخير وت?لم يدك .. ماذا أحضرت؟ صحيفة الأنباء وأخبار المساء .. ما رأيك يا مصطفى بأيهما نبدأ.
مصطفى: إذا استثنينا الإعلانات والوفيات والحشو اليومي المألوف فسيبقى من هذه الصحف بضعة أوراق سيدي.
ضحك أبو النور وقال.
أبو النور: رغم السنو? الطويلة التي قضيتها في خدمة هذا المنزل ما زلت تتمتع بروح الدعابة يا أبو صطيف! وما زلت مصراً على مناداتي بلفظ "سيدي".
مصطفى: أنت أكرمتني في أكثر من مناسبة ووقفت معي كصديق وابن حنون في جميع المحن التي مررت بها يا سيد أبو النور.
أبو النور: أرجوك يا مصطفى لا داعي لهذا الحديث ثانية .. لقد تصرفت بما يمليه علي الضمير، ولم أقدم لك الشيء الكثير وأنت تعلم جيداً بأنني مقتدر وقد رزقني الله أكثر ممّا أستحق .. على أية حال أرجو أن تذكّ?ني ببرنامج اليوم. هل يوجد شيء يستحق عناء حلاقة الذقن ووضع ربطة العنق!.
مصطفى: للأسف الشديد جميع التزاماتك تتطلب اللباس الرسمي.
أبو النور: جيد .. هل يوجد موعد أو التزام نستطيع إلغاءه أو تأجيله أو حتى التخلص منه.
مصطفى: وكيف لا يا سيدي .. نستطيع التخلص من زيارتك للطبيب المختص.
أبو النور: أنت شيطان يا مصطفى .. وأنا أحب شخصك لأنك تحسن التلاعب بالكلمات. هل أنت متأكد من أن اليوم هو موعد زيارتي للمستشفى!
مصطفى: قد أنسى كل شيء، ولكن صحتك وسلامتك هي الأهم .. سيد أبو النور .. مستشار الشركة القانوني السيد كمال المرّ مصر على مقابلتك اليوم.
أشعل أبو النور الغليون وملأ عجيج دخانه المكان. نظر الى سقف الصالة مطولاً، هز رأسه وشرب بعض القهوة.
أبو النور: ليس من الحكمة تأخير لقاء المرّ خاصة إذا طلب هو اللقاء. ماذا تتوقع من هذا الرجل يا مصطفى؟
مصطفى: لا أدري .. ربما كارثة أرقام جديدة. السيد كمال يُحْسِن الصيد في الماء العكر. وهو مشهور بذلك ولا بد أنه يحمل في جعبته مشروعاً جديداً.
تصفح أبو النور الصحف على عجل وتوقف عند القسم الاقتصادي.
أبو النور: حركة البورصة غير مستقرة هذه الأيام.
مصطفى: هذا ليس من اختصاصي يا سيدي.
رشف أبو النور قهوته وأضاف.
أبو النور(وقد بان الجدّ على تقاطيع وجهه): إذا كنت تعرف شيئاً فهذا هو الوقت المناسب لتخبرني به يا مصطفى. اختصاصك هو خدمتي ومصلحة الشركة العام.
مصطفى: سيدي، ربما يجب توخي الحذر من حركة البورصة هذه الأيام. أحياناً تتراقص الأرقام لتسبق الزمن وتخرج بمفاجآت لا تسرّ البال .. لا داعي للمقامرة في الوقت الراهن.
أبو النور: البلد بخير يا مصطفى والأمن هو الأساس في حركة المال، أنا لا أخشى من خسارة المال في البورصة فهذا جزء من اللعبة التجارية، ما يهمني حقيقة هو زيارة المرّ!
تنتاب أبو النور نوبة سعال شديدة، تدمع عيناه من كثرة السعال وتظهر عليه علامات الإرهاق والتعب.
أبو النور(يشير الى زجاجة الويسكي): صب لي كأس يا مصطفى. طِلْعَتْ روحي دخلك .. آه .. لقد نسيت، إلاّ هذه. لعن الله ساقيها وشاربها. يصب أبو النور بعض الويسكي في كأسه ويشربه على عجل.
مصطفى: اسمح لي بالانصراف يا سيدي.
أبو النور: على بركة الله .. حضّر السيارة، سأذهب لمقابلة الطبيب اليوم.
تظهر في تلك الأثناء سعاد زوجة أبو النور وهي امرأة في مقتبل العمر، ويبدو أنها أفاقت حديثاً من النوم.
سعاد: صباح الخير .. الهدوء مخيم على البيت يا جماعة، شو القصة؟. أين الضيوف، والله أمر البيت غريب!
أبو النور: يا صباح يا فتاح .. النهار ما يزال في أوله يا سعاد، الوقت مبكر على الضيوف يا حبيبتي.
سعاد: سيجار وويسكي يا أبو النور. حرام عليك يا رجل، ارحم نفسك. أنت مستعجل على قتل نفسك.
مصطفى: هل تأمرين بشيء يا سيدة سعاد؟
سعاد: أبعد البلى من بين يديه. أخبره يا رجل .. يمكن يسمع كلامك يا مصطفى…
يغادر مصطفى المكان مسرعاً ليتجنب إغضاب أبو النور بينما يصب الأخير كأساً آخر غير آبه بامتعاض سعاد وكلماتها القاسية.
أبو النور: لماذا لا تذهبين لممارسة هوايتك المفضلة ((التسوق)) .
سعاد: شو يا أبو النور! .. تريد التخلص مني؟.
لاذ أبو النور بالصمت وأخذ يضرب الكرات مجدداً غير آبه للسانها الحاد.
سعاد: لماذا تعاملني بهذه الطريقة يا أبو النور .. لماذا تتجاهلني دائماً وتشعرني أنني نكرة في هذا المنزل؟ أنا قلبي عليك والله أخشى على صحتك وأنت تعرف بأنك مريض للغاية..
أبو النور: أشكرك على مشاعرك يا سعاد .. ولكن حاولي أن تغلقي الباب خلفك.
سعاد: أنت تؤذي مشاعري يا رجل، أعتقد أنني لا أستحق هذه المعاملة.
يبدأ الدمع يملأ مقلتيها وسرعان ما ينهمر على خديها. عندها يترك أبو النور كل شيء ويغادر الغرفة لجهة أخرى من المنزل. جلست سعاد على الكرسي ووضعت يديها على وجهها وهي تشعر بالحيرة والخوف. يدخل مصطفى بعد قليل الى الصالة مدفوعا من أبو النور.
مصطفى: سيدة سعاد .. أنا رهن إشارتك .. لماذا لا نقوم بنزهة في العربة، ربما تشعرين بعدها ببعض الراحة والهدوء.
سعاد: أنت لا تفهم يا مصطفى .. أنا أحبه، صدّ?ني، هذه مشاعري وهي صادقة بالطبع .. أنا غير قادرة على الوقوف مكتوفة اليدين حين أشاهده يقتل نفسه بهذه الطريقة البطيئة .. لا يا مصطفى هذا جنون!
مصطفى: أعرف أن مشاعرك نبيلة، ولكن السيد أبو النور لديه طريقة خاصة في ممارسة الحياة ولا أظنّ? الآن مستعداً لتغيير مجرى حياته أو تعديل سلوكه، حتى وإن كانت حياته مستهدفة.
هزّت سعاد رأسها موافقة وقالت بحزن واضح.
سعاد: اليوم سيقابل الطبيب المختص .. ربما يحتاج بعض الدم.
مصطفى: نعم، هذا صحيح .. سرطان الدم لا يرحم سيدتي ولا يحتمل الانتظار.
سعاد: أتعتقد أن من الطبيعي قيام سيدة لها مركز مرموق في المجتمع بممارسة هواية التسوق عند الصباح .. لمجرد أن زوجها المرفّ? والثري يرغب بذلك.
فضّ? مصطفى الصمت وأطرق في حيرة واضحة.
سعاد: أعلم أنه بعثك لطرفي يا مصطفي .. وهذه إهانة أخرى .. أرجو أن تبقيا وسيدك بعيداً عن أنظاري أطول وقت ممكن .. هل هذا واضح؟
غادرت سعاد المكان واستعدت لزيارة إحدى صديقاتها أو لممارسة هواية التسوق كما يصر أبو النور على ذلك، يعود بعد قليل أبو النور ليجد مصطفى متسمراً في مكانه وقد أسقط في يديه.
أبو النور: سعاد .. أين ذهبت؟ يا لها من امرأة عنيدة!
مصطفى: سيدي، هل تذكر قبل سنتين عندما قدمت لي يد العون واستطاع ابني إنهاء دراسة الحقوق .. يومها شعرت بامتنان لا يوصف يا سيدي.
أبو النور: وما مناسبة هذا الحديث الآن؟
مصطفى: لقد تخرج ابني وحقق نجاحا باهراً في مهنته يا سيد أبو النور واستطاع كسب الكثير من القضايا المالية لشركات مرموقة مما حقّ? له الربح الكثير، ليس هذا فحسب فقد أصبح مشهورا في الأوساط المهنية وهي أوساط مهمة وذات نفوذ كبير في البلد.
أبو النور: باختصار يا مصطفى، قل ما لديك.
مصطفى: لا شيء يا أبو النور. كل ما هناك .. أريد أن أقول لك بأن وجودي في هذا المنزل ليس بسبب المال أو الراتب. أردت أن أبقى الى جانب الرجل الذي أفخر به وأُكن له المحبة والودّ. لقد خدمت هذا المنزل منذ أن كان جدّ? سيد هذا البيت وبقيت في الخدمة حتى وفاة والدك المفاجئ. والآن كما ترى فإنني أرغب البقاء الى جوارك حتى تتجاوز مرحلة المرض. أشعر أني جزءاً من هذه العائلة.
أبو النور: مشاعرك نبيلة يا مصطفى ولكني لا أستجدي ال?فقة .. ما الذي أصابك يا رجل؟ صدقني ليس هناك داع لهذه المقدمة الأدبية إذا كنت تنوي الذهاب، فأنا أدرك مشاعرك جيداً وهذا أمر يخصك أنت وحدك.
مصطفى: يا أبو النور .. أنا لا أستطيع أن أكون حلقة وصل بينك وبين سعاد طوال الوقت .. وبصراحة أكثر .. أنت تقسو على السيدة كثيراً وخاصة في الفترة الأخيرة.
أبو النور: يعني كلّ هذه المقدمة وهذا الحديث الوجداني من أجل عيون السيدة سعاد. (صمت أبو النور بعض الوقت وهزّ رأسه قائلاً) أين ذهبت سعاد يا مصطفى؟
مصطفى: ذهبت الى غرفتها وقالت بأنها لا ترغب برؤيتنا نحن الاثنين طوال النهار.
أبو النور: يلعن أبو النسوان يا رجل .. أرجوك يا مصطفى ابْ?َ معها طوال الوقت .. بالمناسبة تستطيع استخدام سيارة المرسيدس لقضاء جميع حاجاتها.
مصطفى: والمستشفى يا أبو النور .. المستشفى يا سيدي!
أبو النور: أخبر الطبيب أن يحضر الى المنزل .. أنا اليوم معتكف هنا ولن أتزحزح قيد أنملة وإذا أراد الطبيب أن يحضر الى المنزل فأهلاً وسهلاً به وإلا فذنبه على جنبه.
مصطفى: يا رجل أنت المريض بسرطان الدم وليس الطبيب .. أمرك عجيب يا سيدي .. على أية حال أعتقد أن بإمكاني مرافقتك للمستشفى فيما بعد.
يشعل أبو النور الغليون ثم يصب بعض الويسكي مجدداً.
أبو النور: أرجوك أشعر بحاجة ملحة للبقاء وحدي. أحياناً أشعر الدنيا ضيقة لا تتسع عالمي الصغير يا مصطفى.
مصطفى: والله أنا أخشى عليك يا أبو النور. كلامك غير مطمئن أبداً. وعدا عن ذلك أنت تفرط بتناول الكحول والتدخين.
حدج أبو النور مصطفى بعينيه الحادتين فسارع الأخير لمغادرة المكان، راوده شعور بالذنب تجاه سعاد لكن الأمور خرجت عن السيطرة ولم يعد بإمكانه فعل الكثير ولا حتى تلطيف الأجواء المتوترة في المنزل. وكانت هناك بعض اللوحات الزيتية الصغيرة تزيّ? جدران المكان، لكن لوحة لرجل ذو شارب كثيف وعينين قويتين تضحكان كانت تحتل مكان الصدارة على الجدار. الصورة كانت لجدّه المسمّى أيضا "أبو النور". نظر إليها مطولاً ثم قال.
أبو النور: ما رأيك يا أبو النور .. بصحتك على أية حال .. نظرتك قاسية وقوية يا جدي .. أشعر أحياناً أنك وحش يكاد يقفز ليفترس ضحيته دون رحمة .. وهذا الشارب العريض الذي يغطي جزءاً كبيراً من وجهك .. لا بد أنك تقضي وقتاً ليس بالقصير لتقليم الشارب وتهذيبه .. هذا جزءٌ من اللعبة، لعبة الوجاهة والحضور القوي .. أنت يا جدي لا تزال تعيش في هذا المنزل .. أنت تمتلك الكثير من أنحائه وزواياه وخباياه .. لا أدري الى متى أحتفظ بهذه اللوحة.
جلس أبو النور على الكرسي وأغمض عينيه الوهلة، سقط الكأس من بين يديه لكنه لم ينكسر على السجاد الرقيق، وبعد لحظات، ظهرت في وسط الغرفة فتاة جميلة ترتدي ملابس بيضاء، وجهها يشع نوراً وشعرها منسدل على كتفيها، تقترب منه وتحضن رأسه.
ليلى: وما أطال النوم عمراً .. فؤاد، أين أنت يا حبيبي؟ استيقظ أرجوك، تقبر عمري إن شاء الله. وحياتك بدري كثير على النوم!
تأخذ ليلى بملاطفته، تتخلل أصابعها شعره وتمسح برفق على وجهه، ثم تتناول الغليون من يده وتضعه جانباً وترفع الكأس المدلوق على الأرض.
أبو النور: ليلى .. متى حضرت الى هنا! لماذا لا أشعر أبداً بخطواتك؟ تأتين من العدم .. هكذا كلمح البصر ودون مقدمات.
ليلى: أنا أحضر دائماً في الوقت المناسب يا فؤاد.
أبو النور: فؤاد .. لا يجرأ أحد على مناداتي باسمي الحقيقي .. لكنك تفعلين ذلك يا ليلى.
تضحك ليلى وتبقى ممسكة رأسه وتمسح بيديها شعره.
أبو النور: خذيني معك يا جميلة الجميلات .. أنت تختفين فجأة كما تظهرين .. لا أدري أين وجهتك اليوم أو غدا أو بعد غد، ولكني على استعداد لمرافقتك حتى الجحيم.
ليلى(تضحك بخفة): الجحيم! هل تظنني شيطان يا فؤاد. شيطان بثوب امرأة؟ لقد حضرت لأطمئن عليك .. ولكني أعدك بأن ترافقني في رحلاتي القادمة وعندما يحين الأوان لذلك .. فؤاد، أجدك اليوم متعب، ولون بشرتك لا ي?رّ البال يا حبيبي. أين حمرة وجهك، ولماذا هذا الاصفرار؟ .. آه، يبدو أن سعاد لا تقوم باللازم، ولا تسهر على راحتك!
أبو النور: ويسكي .. أرجوك يا ليلى.
ليلى: لا يا فؤاد. أنت بحاجة لبرميل من الحليب والفيتامين، ربما وبعض الويسكي … أنا لا أستطيع تقديم الكثير لك يا فؤاد. على الأقل ليس في الوقت الراهن. هناك قرارات يتوجب عليك أن تتخذها بنفسك حتى تتمكن من تنظيم حياتك حسبما تريد، للحرية قيود غبر مرئية يا عيني. والآن أنا مضطرة للذهاب يا فؤاد .. وداعاً، أغادر لأن لدي الكثير من الالتزامات والواجبات، لدي أعمال لا تحتمل الانتظار .. وداعاً يا فؤاد .. وداعاً.
أبو النور: أرجوك يا ليلى .. ابقي الى جانبي .. لا تذهبي الآن، أشعر بأنني قادر على مراقصة القمر هذا المساء.
ليلى: النهار لا يزال في أوله يا فؤاد …
يعود أبو النور الى الواقع وتشتدّ الإضاءة مجدداً. يلاحظ أبو النور بأن الكأس والغليون قد وُضعا جانباً. ي?لفت حواليه لكنه لا يجد لليلى أي أثر.
أبو النور: رائحتها ما تزال تملأ المكان .. أعرف أنك حضرت لزيارتي يا جميلة الجميلات. بل أقسم أنك كنت هنا يا ليلى. مسحت رأسي بيديك الناعمتين، وتركت بعض أنوثتك في بيتي.
أراد الوقوف لكن قدماه خذلتاه. كان يشعر بضعف شديد فعاد للجلوس ثانية على المقعد. لم يمض وقت طويل حتى سمع الجرس الخارجي يرن باستمرار ودون انقطاع. كان يعرف أن من المستحيل الذهاب لفتح الباب وهو في حالته تلك، لهذا لم ينتظر حتى يعرف من بالباب. على الأرجح كمال المرّ هو الضيف ثقيل الظل، وهذه عادته بالضغط المتواصل على الجرس.
أبو النور: لعنة الله عليك يا مرّ!
ضغط أبو النور على زر الكهرباء الآلي لينفتح الباب الخارجي على عجل. انقطع صوت الجرس المزعج وبعد قليل سمع صوت اقتراب خطوات من الصالة حيث يتواجد أبو النور. سمع صوت كمال المرّ يصيح.
كمال المرّ: أين أنت يا رجل؟ .. أبو النور.
أبو النور: يلعن أبو الموت يا كمال .. أدخل يا مجنون.
يدخل كمال الصالة وبرفقته فتاة تشبه الى حدٍ بعيد ليلى.
كمال المرّ: يلعن أبو الموت مائتي مرّ? يا صديقي .. شو قصة الموت يا باشا .. ما يزال العمر بأوله .. تحياتي( يراه شاحباً ولا يقوى على الوقوف على قدميه) سلامتك يا أبو النور .. يظهر عليك التعب والإرهاق الشديد. إذا كان الوقت غير مناسب ربما نحض? في وقت لاحق.
نظر إليه أبو النور بشيء من الحرج ثم ألقى بنظرة مفصلة على الفتاة المرافقة .
أبو النور: لا يا كمال .. أنا بخير، مجرد إرهاق أو وعكة طارئة. بالمناسبة من تكون هذه الحسناء؟
كمال المرّ: آه .. أنا آسف. نسيت أن أقدمها لك. إنها عارضة أزياء تعمل في إحدى كبار دور الأزياء العالمية والتي تفرض الموضة خلال فصول السنة الأربعة .. إنها الآنسة …
فاطمة: فاطمة .. أنا اسمي فاطمة.
أبو النور: فاطمة! .. أهلاً وسهلاً.(تبدو الدهشة واضحة على تضاريس وجهه).
فاطمة: هل توقعت اسماً آخر .. ربما شيرين أو ربما ليلى…
أبو النور: ليلى! لماذا هذا الاسم بالذات؟
فاطمة: هذا اسمي وأنا فخورة به. وكوني عارضة أزياء لا يعني بالضرورة تغيير اسمي أو استخدام كنية خفيفة أو غربية.
أبو النور(يرفع يده موافقاً): نعم، أنت فاطمة ولا يليق بك اسم غير هذا الاسم .. شخصيتك وحضورك جزءٌ من اسمك الجميل سيدتي، أرجو المعذرة إذا كان تصرفي غير لائق .. تفضلي أرجوك.
كمال المرّ: سيد أبو النور، لدينا بعض الأعمال التي يتوجب ?لينا إنجازها، وبالمناسبة فاطمة مارست مهنة التمريض بضعة سنوات قبل أن تصبح عارضة أزياء.
فاطمة: أنا ما زلت أمارس مهنة التمريض يا كمال.
كمال المرّ: إذا كنت بحاجة لبعض الرعاية فهي قادرة على تقديم يد العون.
أبو النور: بداية تستطيع أن تريها الطريق الى المطبخ لتحضّر لنا القهوة. للأسف، مصطفى غير موجود وهو المسؤول عن خدمة المنزل، أما سعاد فقد خرجت للتسوق ولقضاء بعض الحاجات الخاصة.
فاطمة: من البداية على ا?مطبخ!
كمال المرّ: بسيطة يا فاطمة .. للضرورة أحكام.
فاطمة: حاضر .. على أية حال سأجد الطريق بنفسي الى ا?مطبخ. (تغادر فاطمة المكان)
أبو النور(يشير لزجاجة الويسكي): إذا أردت أن تشرب فعليك أن تخدم نفسك بنفسك يا كمال. والآن أخبرني ما هي حكاية فاطمة؟
كمال المرّ: لا أبداً. تعرفت إليها قبل فترة ورغبت بمرافقتي حين عرفت بأني أنوي زيارتك. أنت رجل مشهور ومعروف يا أبو النور .. لا تنسى بأننا نعيش في مجتمع صغير للغاية ولا توجد أسرار تدوم طويلاً بين أبناء هذه الطبقة. هذه أصول اللعبة.
أبو النور: لا أفهم .. أوضح أكثر .. ما سبب وجود هذه المرأة في بيتي اليوم؟ بالمناسبة، ليس لدي أي مانع على الإطلاق من وجودها في هذا المنزل. ولكني أريد أن أعرف أسبابك أنت على أية حال .. أعتقد أنني واضح. قد تكون فاطمة صديقتك أو عشيقة، وقد تكون مجرد فتاة تصلح لكل زمان ومكان .. هذا لا يهمني. لماذا دعوتها الى منزلي؟
كمال المرّ: آه .. لم أفكر بكل هذا يا أبو النور، فاطمة ليست خطيبة ولا عشيقة .. كل ما في الأمر أنها كانت برفقتي عندما قررت الحضور الى طرفك(يصب كمال لنفسه الويسكي ثم يملأ كأس أبو النور).
أبو النور(يتناول الكأس من بين يدي كمال): شكراً يا كمال .. والآن أخبرني ما لديك من أخبار. لم أستطع الحصول على جواب يشفي الغليل بخصوص هذه الحسناء .. فأنت ماهر بالمناورة والتهرب من الإجابات الصريحة والمباشرة. ما الذي دعاك لزيارتي اليوم يا كمال، ماذا ورائك؟
كمال المرّ: أرباح الشركة جيدة للغاية هذا إذا أخذنا بعين الاعتبار أحوال السوق يا سيد أبو النور .. لكنها دون المستوى مقارنة بالعام الماضي (يخرج من حقيبته ملفاً يحتوي على أوراق كثيرة) لدينا هنا بعض البوليصات والعقود التي تحتاج لتوقيعك .. بإمكانك قراءتها والاطلاع عليها. مجرد روتين يا أبو النور.
أبو النور(يضع كأسه جانباً ويُشغل الغليون قبل أن يبدأ بتوقيع الأوراق، يلقي نظرة عليها ويبدأ بتوقيع الأوراق): هل يوجد شيء جديد في الأفق يا كمال، أنت لم تحضر الى هنا لمجرد توقيع هذه الأوراق.
كمال المرّ(يخرج ملفاً من حقيبته ويناوله لأبي النور): نعم .. نعم. هناك صفقة جيدة ولا تحتمل التأخير على الإطلاق. أنت تعرف مطابع الفاروق وصاحبها السيد محمد الأشقر؟
أبو النور: محمد الأشقر .. إنه صديقي يا كمال، لقد أنهينا الثانوية العامة في مدرسة واحدة .. محمد رجل شهم ورائع .. ما هي أخباره؟
كمال المرّ(يبدو غير مرتاحاً للكلمات التي سمعها للتو من أبو النور): أخباره لا تسر عدواً يا أبو النور .. على أية حال جميع التفاصيل موجودة في هذه الأوراق.
أبو النور(يتناول الملف ويبدأ بتفحصه): هذه مصيبة .. كيف حدث هذا يا كمال.
كمال المرّ: لا أعرف الكثير من التفاصيل، لقد قام بضمان وكفالة رجل أعمال يُدعى عثمان .. عثمان ..
أبو النور: عثمان الحديدي .. رجل الأعمال هذا زميلنا وصديق المدرسة إياها يا كمال، يعني نحن الثلاثة كنا شلة واحدة، ومحمد لن يرفض طلباً لعثمان أو لغيره من الأصدقاء مهما كلفه ذلك من ثمن.
كمال المرّ: عثمان قام بسحب قرضاً مالياً كبيراً للغاية واختفى بعد فترة عن الأنظار، لم نسمع عنه خبراً منذ بضعة أشهر .. ووفقا ًللشروط المنصوص عليها في العقد المبرم بين البنك وبقية الأطراف، قام البنك بالحجز على أملاك الأشقر بدءاً بالمطابع حتى يتمكن من استرداد ما تبقى من قيمة القرض المستحق. وأعتقد بأننا قادرين على استثمار هذه الفرصة وشراء المطابع عن طريق البنك وبأقل من نصف ثمنها الحقيقي .. أرجو يا سيدي أن تكون رجل الأعمال الذي أعرفه جيداً. وسيتم طرح العطاء قريباً في المزاد العلني ونحن الآن نستبق الأحداث.
أبو النور(والذي كان يحاول طوال الوقت تجنب النظر نحو كمال): ماذا تتوقع أن يكون نصيبك من هذه الصفقة يا كمال. أرجو أن تكون صريحاً للغاية.
كمال المرّ: سيدي .. أنت تحرجني للغاية.
أبو النور: لا .. ليس هناك مكاناَ للحرج .. بل على العكس من ذلك. أنا أشعر بالامتنان الشديد لأنك أبلغتني تفاصيل هذه الصفقة وفي الوقت المناسب .. ما هو نصيبك يا كمال؟
كمال المرّ:
5% تكفي يا أبا النور.
أبو النور: عشرة آلاف دينار مقابل صمتك، لا أريد لأحد أن يتدخل في هذه القضية. أنا سأتصرف بطريقتي الخاصة، هل هذا واضح يا كمال؟
كمال المرَ: واضح جداً، بالمناسبة تستطيع الاحتفاظ بفاطمة مقابل هكذا عمولة؛ فهي على أية حال ماهرة في الكثير من الأمور.
أبو النور(ضاحكاً): آه ،، نسيت أنها تتقن مهنة التمريض .. أليس كذلك؟
تدخل فاطمة في تلك الأثناء الى المكان حاملة بين يديها صينية القهوة.
فاطمة: سكر خفيف على ما أظن؟
كمال المرّ: هذا صحيح .. قهوتك يا أبو النور.
أبو النور: الله يسلّم يداك يا ست فاطمة، بالمناسبة أنت تذكريني بشخص عزيز على قلبي.
فاطمة(تبتسم وقد ملأ الحبور وجهها): تقصد ليلى!
أبو النور: ليلى .. كيف عرفت بذلك يا فاطمة؟
فاطمة: لقد ذكرت اسمها أمامي أكثر من مرة..
أبو النور: تحضرني ليلى كلما شعرت بالغروب يخيم على سمائي.
فاطمة: أنا الشروق يا أبو النور .. صدقني، أكره حديث القلب المتعب .. أنا الشروق بعينه.
كمال المرّ: أنا مضطر للمغادرة يا جماعة .. ما رأيك يا فاطمة، لقد أصبح الوقت متأخراً.
فاطمة: هل تمانع من شرب فنجان القهوة؟
عندها يسمع جرس الباب الخارجي مجدداً
أبو النور: أرجوك يا كمال .. أنا اليوم وحيداً كما ترى، اذهب لترى من بالباب.
كمال المرً: هل تنتظر أحداً؟
أبو النور: لا أدري، يبدو أن قدمك خفيفة .. لا بد أن النهار كله محفوف بالضيوف.
يذهب كمال لاستقبال الضيف بينما يبقى أبو النور بمعية فاطمة.
أبو النور: أخبريني يا فاطمة .. هل أنت صريحة!
فاطمة: لماذا لا نجرب حظك معي .. على أية حال سأكون صريحة قدر الإمكان .. أعدك بذلك.
أبو النور: كم دفع لك كمال المرّ لتحضري الى منزلي برفقته؟
فاطمة(فاجأها سؤال أبو النور المباشر لكنها لم تجد بداً من الإجابة عنه): إذا كنت تقصد المال .. لا شيء، لكنه أخبرني بأنك قادر على تحقيق الكثير من أمنيات .. الفتيات .. الجميلات.
أبو النور: وما هي أمنيتك يا فاطمة؟
فاطمة: أنت تحرجني كثيراً يا أبو النور بسؤالك هذا .. لم أكن أتوقع أنك حسّاس لهذه الدرجة. أنت تقرأ بين الأسطر وتلاحظ الكثير في عيون محدثيك.
أبو النور: هل هذا جيد .. أم مزعج للغاية؟
فاطمة: بل محرج .. ليست لدي الآن أية رغبات .. ربما أتمنى الآن مغادرة المكان في أسرع وقت ممكن، أنا لست سلعة كما أراد كمال لي أن أكون .. أرجو أن تغفر لي طموحي يا أبا النور.
أبو النور: الطموح شيء مشروع .. أرجوك لا تذهبي الآن، أشعر بالوحدة تلاحقني وتأكل كياني.
يدخل كمال المرّ بعد لحظات برفقة طبيب أبو النور الأخصائي.
الطبيب: ما هذا يا أبو النور؟ غليون وويسكي(يحاول الضحك مازحاً) حرام عليك يا رجل، ارحم نفسك(ينظر إليه ملياً) أعتقد أنك بحاجة الى رعاية سريريه، هذا عدا عن الدم الذي تتعطش إليه شرايينك.
كمال المرّ: أتمنى لك الشفاء العاجل يا أبو النور، والآن .. اعذروني يا جماعة، لدي الكثير من الأعمال التي لا تحتمل الانتظار .
يسرع كمال بمغادرة المكان وتشيعه فاطمة للباب الخارجي من المنزل.
الطبيب: لماذا لا تخضع يا أبو النور لعملية جراحية .. سرطان الدم لم يعد خطيراً الى ذلك الحدّ! .. وأعتقد بأنك قادر على تجاوز هذه المحنة .. إضافة لذلك، أنت رجل مقتدر وتملك ما يكفي من المال لإجراء هذه العملية في أفضل مستشفيات العالم .. برلين، لندن أو نيويورك. في نهاية المطاف الموضوع يتعلق بحياتك.
أبو النور: أتدري يا دكتور .. سرطان الدم هذا مرض ملائكي لأنه يضطرك لتنقية دمك باستمرار .. دماء الكثير من الناس تسير في شراييني.
الطبيب: هذا صحيح وأنت شاعري أكثر من اللازم يا أبو النور ولكن أحاسيسك الشعرية لن تفيدك كثيراً. أنت الآن في أمس الحاجة للدم يا دراكولا، أين تريد أن نقوم بعملية حقنك بالدم. أنا لم أحاول القيام بذلك في ظروف منزلية.
أبو النور: نعم .. ولدينا الممرضة التي ستساعدك في مهمتك يا دكتور.
الطبيب: لا تعجبني فكرة القيام بذلك في المنزل، صدقني .. المستشفى يضمن لك الراحة التامة.
أبو النور: صحيح يا دكتور .. ولكن لا يوجد ويسكي في المستشفى.
الطبيب(ضاحكاً): نحن ننوي تزويدك بالدم والمقويات وليس الكحول يا رجل. على أية حال نستطيع أن نبدأ.
تعود فاطمة بعد قليل وتشاهد الطبيب وهو يقوم بفحص ضغط دم أبو النور.
فاطمة: هل هو بخير؟
الطبيب: نعم .. لقد أحضرت بعض الدم وهو موجود في ثلاجة صغيرة في سيارتي في الخارج .. هل تذهبين لإحضارها يا سيدتي؟
بدا الشحوب واضحاً على وجهها وكأنها تكاد تسقط فاقدة الوعي.
الطبيب: يا إلهي .. لا أدري ما الذي يحدث في هذا المنزل! ألم تخبرني بأنها ممرضة؟
فاطمة: لقد تركت مهنة التمريض منذ سنوات وقد كان السبب الرئيسي وراء ذلك هو خوفي من الدم.
أبو النور: أهلاً .. أعطوني الغليون يا جماعة.
بدأ الطبيب يلم أغراضه وقال بحدة واضحة: لا يا أبا النور، أنا غير موافق على ما يحدث في منزلك اليوم ولن أقوم بعمل أرعن. مكانك هو المستشفى، ولا أرغب المخاطرة بحياتك وحياتها. قد تفقد رشدها إذا ما شاهدت الدم، هذه الحالات ليست غريبة عني.
فاطمة(تنقل نظراتها بين الاثنين): أنا آسفة .. كلّ شيء عدا الدم.
أبو النور: حسناً يا دكتور سأحضر مع مصطفى الى المستشفى في وقت لاحق .. اليوم.
الطبيب: اليوم يا أبا النور .. وضعك لا يحتمل الانتظار .. واضح!
أبو النور: واضح(يوجه حديثه الى فاطمة) أرجو أن تشيعي الطبيب الى الباب الخارجي يا فاطمة.
يغادر الطبيب وفاطمة المكان ويبقى أبو النور وحيداً في الصالة، يذهب قبالة اللوحة المعلقة على الجدار.
أبو النور: ما رأيك يا جدي .. ألا تظن أن العالم قد أصيب بالجنون .. أشعر أنني أصبحت مصاص دماء واليوم عرضوا علي وجبة سخية. عرضوا علي دماء الأشقر .. لقمة سائغة .. مليون جديد يدخل في ثروة عائلة أبو النور. لم أستطع التغلب على محمد الأشقر ولا لمرة واحدة في مسبح المدرسة .. محمد يا والدي رجل قوي ووسيم. محمد طيب القلب حتى السذاجة. وهو الآن بين يدي، أستطيع أن أفعل به ما أشاء .. أنا الآن قادر على الرمي به للوحوش التي لا ترحم. كيف وثقت بعثمان يا محمد؟ عثمان رجل غريب الأطوار .. صحيح، ليس بالرجل الشرير لكنه فعلها. قصة احتيال وضربة قاسية تودي بالأخضر واليابس.
يسمع بعد قليل صوت صخب عند مدخل البيت.
أبو النور: فاطمة وسعاد عَلِقْنا والحمد لله .. سترك يا رب.
يبدأ أبو النور لعب البليارد غير آبه للأصوات القادمة الى الصالة. يُفْتَحُ الباب وتدخل فاطمة وسعاد الى الصالة أما مصطفى فيبقى عند المدخل لا يجرؤ على الدخول.
سعاد: يِخْرِبْ بيتك يا رجل .. تغيبت عن البيت ساعتين بالتمام. ساعتين فقط. ممكن تخبرني ما الذي تفعله هذه العاهرة في منزلي وفي وضح النهار.
أبو النور(يستمر بضرب الكرات دون أن يعير أحداً أدنى انتباه): لا أعرف يا سعاد .. اسألي المرّ .. أحضرها الى هنا كصدقة جارية حتى يريحني من مزاجك الزفت.
سعاد وفاطمة بصوت واحد: نعم .. جارية!
فاطمة: هذه إهانة يا رجل .. أنا آنسة حُرة وبنت عائلة محترمة ومرموقة.
سعاد: أنا لا يهمني من تكوني ومن أي عائلة تنحدرين .. هذا شيء لا يخصني بالمطلق وليس لك مكانا في هذا المنزل على الإطلاق.
أبو النور: على مهلك يا سعاد .. الطبيب نصح بوجود ممرضة الى جانبي.
سعاد: يا سلام! .. ممرضة مرة واحدة حتى تشرب ويسكي وتعربد على المزاج.
أبو النور: اسألي الطبيب يا سعاد، أنا متفق معك. لا يلزمني شيء سوى الويسكي والغليون وطاولة البليارد. أما الأسبرين فهو للمساكين صدقيني.
تسارع فاطمة بصب الويسكي في الكأس ثم تقوم بتقديمه له على عجل.
فاطمة(بمرح واضح): بالشفاء يا رب .. شو رأيك بسيجار كوبي نخب أول يا سيد الرجال.
أبو النور: صحيح يا فاطمة أنت تفهمي أصول العمل جيداً.
سعاد: يلعنها من عيشة معك يا أبو النور .. يكون بعلمك يا أنا يا هي في هذا البيت.
أبو النور: مصطفى .. يا مصطفى تعال بسرعة.
يدخل مصطفى وقد بان القلق على وجهه.
مصطفى: حاضر سيدي.
أبو النور: أرجو أن تقوم بإيصال السيدة فاطمة الى أي مكان تريده.
فاطمة: لا .. ما في داعي. أنا أعرف طريقي جيداً .. عن إذنكم.
تغادر فاطمة المنزل على عجل.
مصطفى: هل أوصلها بالسيارة؟
سعاد: لا .. ليست هناك ضرورة لذلك يا أبو صطيف .. يبدو أنها تعرف الطريق جيداً. مثل ما حضرت لوحدها تستطيع أن تغادر على بركة الله. مصطفى حضِّر القهوة الله يرضى عليك.
مصطفى: القهوة أمامك يا ست سعاد .. فاطمة قامت بالواجب.
سعاد: مصطفى .. خذ القهوة من أمامي دَخْلَكْ .. خلّصني .. القهوة ترفع الضغط وتوجع الرأس.
يبدأ مصطفى بجمع الفناجين على الصينية ويغادر المكان بعد ذلك على عجل.
سعاد(برقة متناهية): حبيبي .. أنا عاتبة عليك .. أنا عاتبة عليك كثير يا تاج رأسي يا أبو النور .. يعني سعاد غير قادرة على إشباع رجولتك يا عيني!
أبو النور: أنت أصبحت عصبية أكثر من اللازم يا سعاد .. تزعجك توافه الأمور .. يعني أنا غير قادر على الاستمرار بهذه الطريقة.
سعاد: أنت لم تعد تبالي بشيء يا أبو النور خاصة في الفترة الأخيرة. أنت دائماً سارح الذهن وعقلك مع الكأس، حتى صحتك أهملتها .. أنا أيضاً بحاجة ماسة إليك، أنا بحاجة لحبك وعطفك وحنانك يا زوجي العزيز. أنا لست قوية كما تظن.
أبو النور(ينظر إليها معتذراً): حبيبتي سعاد .. ربما أظهرت بعض اللامبالاة في الأيام الأخيرة تجاهك، ولكني بحاجة ماسة لك ولقربك. وهذه حقيقة .. الإنسان لا يعرف قيمة ما يملك حتى يفقده .. أنا لا أرغب بفقدك .. ولكني أرجوك أن تعطني الفرصة. أنا الآن أهيم في عالم خطير وخاص للغاية ولا يمكنني أن أقحمك به. تجربة سرطان الدم مؤلمة وعميقة ولا بد لي من إنهاء هذه التجربة حتى أشعر بوجودك حولي.
سعاد: أتعرف يا أبو النور كم مرة ذكرت كلمة "أنا" .. أنا وأنا .. وماذا عني أنا. أنا زوجتك وأقاسمك سقف هذا المنزل، أنا أرغب بمقاسمتك همومك ومشاكلك لكنك لا تسمح لي بذلك يا حبيبي .. صدقني .. أنا قادرة على الانتظار ولكن ليس طوال الوقت وليس للأبد. أنا بحاجة أيضاً الى بعض الخصوصيات، وأرجو ألّا يكون عالمي بعيداً عن عالمك.
أبو النور: كلامك صحيح يا سعاد .. اتفقنا.
سعاد: عن إذنك. تغادر سعاد المكان على عجل. يترك أبو النور كل ما في يديه ويمسك رأسه متألماً.
أبو النور: أين أنت يا ليلى؟ .. كلّ نساء العالم اليوم ليلى.
يحاول الاضطجاع على كنبة طويلة ثمّ يخفي رأسه بين كتفيه ويمسك قدميه ليجعل من جسده ما يشبه الكرة. يفتح مصطفى الباب محاولاً الدخول بحذر شديد حتى لا يزعج سيد المنزل، لكنه يشعر بقلق شديد حين يشاهده على تلك الحالة.
مصطفى: أبو النور .. أبو النور هل أنت بخير؟
أبو النور(يبدو وكأنه يغط في نوم عميق): آه .. مصطفى ثانية. لماذا لا تتركني أنام بعض الوقت.
مصطفى: أنا آسف .. أعذرني يا أبا النور .. أعذرني .. أنا ذاهب.
أبو النور(يجلس الى الأريكة بكسل واضح): لا .. لا داعي لذهابك الآن، أريد أن تقوم بأداء بعض الخدمات الخاصة. هناك قضايا لا تحتمل التأخير. وبالمناسبة .. ما رأيك بليلى يا مصطفى؟
مصطفى: لقد حدثتني عنها كثيراً يا سيدي .. لا بد أنها جميلة للغاية.
أبو النور: جميلة ورقيقة .. كلّ نساء الدنيا ليلى يا مصطفى .. وكأنك لم ترَها في المنزل يا صديقي!
مصطفى: هذا أمر غريب حقاً يا سيدي .. أنا لم أشاهد هذه المرأة بتاتاً في هذا المنزل. أرجو المعذرة .. ولكن يبدو أن ليلى تعيش في مخيلتك فقط .. وهذا أمر محزن ويدعو للقلق .. ثم أنني أشعر بالذنب تجاه السيدة سعاد.
أبو النور: لا .. لا يا مصطفى .. صدقني هذا أمر مختلف تماماً .. ليلى ليست امرأة فقط.
مصطفى: نعم! .. إذا لم تكن امرأة فماذا تكون .. شبح أم عفريت؟
أبو النور: لا بل هي أكثر من امرأة يا مصطفى. أتحدث معها عن كل شيء بما في ذلك سعاد وربما أنت أيضاً.
مصطفى: لم أكن أعرف أنني أخدم "دون جوان" الشرق. الله يعين عمّان، ونساء رام اللة ودمشق وبغداد على مغامراتك .. طيب وفاطمة يا أبا النور. فاطمة يا سيدي امرأة من شحم ولحم حتى أن صدرها ما شاء .. كيف دخلت هي الأخرى لمنزلك وحياتك؟
أبو النور: النساء كالورود .. دع الورود تتفتح.
مصطفى: فاتني القطار يا سيدي .. وبقيت على الشاطئ عطشان.
أبو النور: لا ،، أنت غلطان. هناك الفلّ والياسمين والأقحوان. وهناك ورود قادرة على افتراس اللحم البشري.
مصطفى: لا .. دخلك يا سيدي.. لدي حساسية مفرطة تجاه الورود على أنواعها. خلّينا والصبّار .. الصبّار يُقَشَّرْ بهدوء وبالأصابع العشرة. (يشير بيديه كيف يقشر ثمر الصبّار).
أبو النور: والله أنت تحسن استخدام أصابعك يا مصطفى. تخيّل أن المرأة ثمرة صبّار.
مصطفى: لا يا سيد أبو النور. أنا سأترك التخيل لحضرتك. لدي ما يكفي من خزين الواقع.
أبو النور: على أية حال الورد دون الشوك ليس له الرائحة ذاتها..
مصطفى: دعنا من كل هذا وأخبرني بالمهمة التي كنت تنوي أن توكلها لي .. أنا أعشق المهمات الصعبة. خاصة عندما تدور الأحداث خارج المنزل.
أبو النور(يبدأ بكتابة عنوان وهاتف على ورقة ويناولها لمصطفى): يضطر الإنسان على اتخاذ بعض القرارات الصعبة والمصيرية. قد لا تتكرر هذه الفرصة مرة أخرى خلال سنوات العمر القصيرة .. هذا هاتف وعنوان منزل محمد الأشقر. أريدك أن تعرف كل شيء عن هذا الرجل. راقبه جيداً .. متى يذهب الى العمل، هل يحلق ذقنه ويلبس ثياباً أنيقة، هل يبدو سعيداً أو مهموماً، ما نوع السيارة التي يقودها وهل لديه سائق خاص، متى يعود الى المنزل! وبعد انتهائك من كلّ هذا، اتصل به وادعه لزيارتي في الوقت الذي يناسبه.
مصطفى: هل نحن بصدد افتتاح مكتب تحقيق خاص يا أبو النور!
أبو النور: آه .. ذكرتني. ولكن .. سأقوم أنا شخصيا بهذه المهمة. اذهب يا مصطفى أنا في سباق مع الزمن. أدر محرك السيارة وفكّ الغم المرسوم على وجهك.
مصطفى: حاضر .. لكني لم أفهم الجزء الثاني من الحديث
أبو النور: ولا كلمة ..
مصطفى( يغادر المنزل على عجل): لازم أعرف ما هي قصتك يا كمال أفندي. يعود مصطفى وكأنه نسي أمرا ما.
أبو النور: وبعدين يا مصطفى؟
مصطفى: فاطمة تركت لك أمانة لدي. (يناول مصطفى ورقة لأبي النور) أعتقد أنها كتبت رقم هاتفها على الورقة.
يغادر مصطفى المكان ثانية، ويضع أبو النور الورقة جانبا دون أن يعيرها أدنى انتباه.
أبو النور: غباء .. نحن نعيش في عالم غبي .. هل خشيت هذه المرأة أن أتصل بها .. أم ربما خشيت البقاء على هامش الدنيا. ولأول مرة يُخْرِجْ أبو النور هاتفه المتنقل ويطلب رقماً مخزن في الذاكرة.
أبو النور: كابتن علي .. يسرني أن أسمع صوتك مجدداً .. أرجو يا كابتن أن تقدّم لي خدمة يا صديقي. لقد فقدت أثر زميل يا كابتن ويدعا عثمان الحديدي .. سأحضر لطرفك بعد ساعة من الزمن، أرجو أن تكون قد توصلت لنتيجة .. وشكراً. أنهى أبو النور المكالمة. تظهر سعاد بعد قليل وتدخل وقد بدا أثر التعب على وجهها.
أبو النور: سعاد .. لقد افتقدتك كثيراً يا زوجتي العزيزة.
سعاد: ما لك يا حبيب القلب .. تبدو مهموماً، هل أحضر لك شيئاً.
أبو النور: أنا مضطر للخروج .. لدي عمل طارئ …
سعاد: والمستشفى يا رجل. لقد وعدت الطبيب أن تذهب الى العيادة .. اليوم.
أبو النور: ربما أذهب لمقابلته فيما بعد.
سعاد: أرجوك يا أبا النور .. هذا أمر مهم جداً بالنسبة لي .. أنا لا أقوى على ممارسة الحياة بدونك.
أبو النور: أعدك بأن أقابل الطبيب اليوم .. أشعر أن قواي تخونني يا سعاد، ولكن هناك أمراً يؤرقني كثيراً.
سعاد: الله يحميك يا تاج رأسي.
أبو النور: شكراً لمشاعرك النبيلة .. أنت امرأة رائعة. هل تريدين شيئاً آخر؟
سعاد: أرجو ألّا تنسى يوم غد.
أبو النور: يوم غد .. آه، كدت أنسى. كل عام وأنت بألف بخير.
سعاد: وأنت بألف بخير يا حبيبي.
أبو النور: عن إذنك يا ست الكلّ. يغادر المنزل مقبّلاً وجنتيها. وبعد أن يغادر المكان تشاهد سعاد الورقة التي تركها جانباً قبل مغادرته المكان، وعليها اسم ورقم هاتف فاطمة. تشعر بالحزن يعصر قلبها وتأخذ بالبكاء. يدخل مصطفى الصالة ويشاهدها على حالتها تلك.
مصطفى: ستّ سعاد .. أنا آسف لما حدث .. كان علي أن أمزق الورقة قبل أن أعطيها للسيد أبو النور. ولكن أخلاقية المهنة لا تسمح لي التدخل كثيراً في حياة المنزل الخاصة.
سعاد: أنا قادرة على التعايش مع هذا الوضع .. ولست بحاجة لمشاعر الشفقة .. ظننتك خرجت قبل أبو النور يا مصطفى.
مصطفى: نعم لقد أوكل لي مهمة .. ولكني أردت الاطمئنان عليك يا سيدتي.
سعاد( تلقي عليه نظرات ذات معان كثيرة): مصطفى أرجو ألاّ تتخطى حدودك في هذا المنزل .. أتمنى أن تبقى بمثابة الأب الحنون ولا شيء غير ذلك .. وإذا كنت حقاً تريد راحتي فأرجو أن تبقى برفقة أبو النور .. فهو في أشد الحاجة للدعم والمساعدة.
مصطفى: أرجو المعذرة سيدة سعاد .. يبدو أن خدمتي الطويلة في هذا المنزل جعلتني أتعدى حدودي كخادم. لكن مشاعري نبيلة للغاية. صدقيني يا سيدتي، أنا هو الشخص الذي تعرفينه دائماً .. ولم يطرأ أو يتغير شيء على إخلاصي في هذا المنزل. أنا على أتم الاستعداد للسهر على راحتكم ليل نهار. عن إذن سيدتي.
يغادر مصطفى المكان وتبقى سعاد وحيدة وأول ما تقوم به تمزيق الورقة التي وجدتها على الطاولة وعليها رقم هاتف فاطمة. ثم تبدأ بتنظيف وترتيب المكان.


*** *** ***


الفصل الثاني






يبدو أبو النور شاحب الوجه وقد بان الإعياء على حركاته البطيئة. كان يجلس قبالة الكابتن علي في مديرية شرطة العاصمة.
الكابتن علي: أخي أبو النور .. حالك لا يسر البال يا صديقي، يجب أن تراجع طبيبك على وجه السرعة حتى يقوم باللازم ويجري الفحوصات الروتينية وتقديم العلاج الملائم لحضرتك.
أبو النور: وهذا ما سيحدث بالتأكيد يا كابتن ولكن قبل أن ألجأ للطبيب، علي اتخاذ بعض الإجراءات الشخصية حتى أشعر بالراحة.
الكابتن علي: العمر ينتهي والعمل يبقى على الدوام يا أبو النور. ولجسدك عليك حق.
أبو النور: صحيح .. كلامك على العين والرأس يا كابتن. ولكن أرجوك أخبرني ماذا توفرت لديك من معلومات عن عثمان الحديدي؟
الكابتن علي(بخبث واضح): لماذا كل هذا الفضول!
أبو النور: محمد الأشقر هو كفيل عثمان أمام البنك وقد سبق أن سحب الأخير مبلغاً كبيراً ثمّ اختفى عن الأنظار مرة واحدة. ولا أخفي عليك يا كابتن فكلاهما صديقي .. خاصة الأشقر الذي سيفقد كلّ ما يملك إذا أتم البنك إجراءاته القانونية.
الكابتن علي: وهذا حقه الطبيعي يا أبو النور .. هذه أصول اللعبة .
أبو النور: نعم .. ولكن ليطمئن قلبي.
الكابتن علي: لقد راجعت جميع الملفات المتواجدة لدي وتوصلت الى بعض الاستنتاجات منها أن الحديدي لم يغادر البلاد على الإطلاق. لم يغادر جواً أو بحراً أو براً. وقانونياً الحديدي ما يزال موجوداً داخل البلاد. ثم أنه غير مطلوب من العدالة أو الانتربول للآن. الحديدي رجل أعمال نظيف ودون سوابق. هذا كل ما لدي.
أبو النور: أمر غريب حقاً .. ألا يوجد بلاغ رسمي يفيد اختفاءه؟
الكابتن علي(بحك رأسه): نعم .. هناك بلاغ رسمي عن اختفاءه.
أبو النور: إذن …
الكابتن علي: الحديدي اختفى منذ فترة والبلاغ قُدّمَ قبل بضعة ساعات يا أبو النور .. إذا كنت تعرف شيئاً عن هذه القضية أخبرني حتى أتمكن من تقديم المساعدة بشكل أفضل.
أبو النور: لا يا كابتن .. أنا لا أعرف إلا القليل .. لقد عرض علي وسيط شراء مطابع الأشقر مقابل دفع قيمة القرض الذي حصل عليه الحديدي من البنك .. وبهذا فإن البنك سيحصّل أمواله مقابل أقل من نصف رأسمال المطابع، وهذا ظلم كبير بحق الأشقر.
الكابتن علي: هذا عرض سخي .. لماذا لا تستغله .. أنت لا ذنب لك فيما حدث.
أبو النور: هذا صحيح .. ولكن المطبعة هي ثمرة حياته. شقا العمر يا كابتن .. وكما ترى فإن الموضوع خارج عن إرادته. ربما أستطيع مساعدته في هذه المحنة الصعبة.
الكابتن علي: هذا كلام جميل .. هل تعرف من قام بالتبليغ عن اختفاء الحديدي؟
أبو النور: بالطبع عائلته .. زوجته بالتأكيد!
الكابتن علي: لقد قمت ببعض التحريات الخاصة ووجدت بأن ابنه جابر هو من قام بالتبليغ وليس زوجته كما يعتقد الكثير. يبدو أن الزوجين على خلاف شديد .. العلاقات متوترة ما بين عثمان وزوجته .. على الأقل في الفترة الأخيرة التي سبقت اختفاءه.
أبو النور: هل لديك شكوك محددة يا كابتن؟
الكابتن علي(يضحك زاهياً وهو يرى أثر حديثه على أبو النور): يبدو أن زوجته على علاقة غرامية مع أحدهم.
أبو النور: معقول يا كابتن؟ أعوذ بالله.
الكابتن علي: وهذا يقودنا للشك في حدوث عمل إجرامي.
أبو النور: إذا كانت هناك جريمة يا كابتن عندها .. يستطيع البنك استحقاق أمواله من شركة التأمين ..البنك يعمل على تأمين حياة كافة عملائه خاصة إذا كانت القروض كبيرة .. وهذا يبرئ ساحة محمد الأشقر .. هذه قضية جنائية يا سيد علي، ولكن هل يعقل أن تكون الزوجة متورطة في اختطافه أو حتى قتله؟
الكابتن علي: أنت تطرح الكثير من الأسئلة، وعليك أن تدرك بأن الإجابة عن كل هذه التساؤلات هو وظيفتنا يا أبو النور، ومن المستحسن عدم التسرع في الوصول الى النتائج؛ لأننا إذا افترضنا مقتله فعلينا في هذه الحالة أن نجد وعلى الأقل جثة عثمان .. ولن نستطيع عمل الكثير في هذه القضية الآن، لأنه لم يمض على البلاغ سوى وقت قصير.
أبو النور: أنا أشكرك يا كابتن على جهودك وعلى المعلومات القيمة التي قدمتها لي .. وأنا حقاً مدين لك.
الكابتن علي: والآن لا بد من ذهابك الى الطبيب .. وأرجو أن تلتزم الراحة التامة حتى تتجاوز هذه المحنة.
أبو النور: نعم .. ولكن علي الذهاب الى مكان آخر قبل مقابلة الطبيب في المستشفى .. ما زال في العمر بقية يا كابتن علي.
الكابتن علي: ما زال في العمر بقية .. وعمر واحد لا يكفي يا أبو النور.. أليس كذلك؟
أبو النور: صحيح .. عمر واحد لا يكفي. شكراً على مشاعرك النبيلة، وأرجو أن نبقى على اتصال يا كابتن.
كابتن علي: وهو كذلك .. الى اللقاء.
تعتيم ..
بعد قليل يظهر أبو النور وهو يدخل مرهقاً في الصالة المفضلة في منزله الكبير. الضوء خافت للغاية ولا يلاحظ ليلى التي تجلس في انتظاره، يتجاوزها ويذهب قبالة جده، يقف أمامه ويتأمل ملامح وجهه بعض الوقت.
أبو النور: أخبرني يا جدي ماذا كنت لتفعل لو كنت مكاني اليوم؟ .. ربما يكون سؤالي غبياً حقاً .. هذه لقمة سائغة رماها لي القدر، وماذا فعل حفيدك المدلل .. رفسها بقدمه باسم المبادئ والأخلاق! .. من يكون الضحية بيننا يا جدي؟ عثمان، الأشقر، أم أنا يا ترى! .. إذا كنت تظن أنني أكره المال فأنت مخطئ .. أنا أُحْسِن اقتناص الفرص، ولكن هذه المرة يختلف الحال كثيراً .. شعرت للمرة الأولى بأنني حوت كبير قادر على ابتلاع آلاف الأسماك الصغيرة .. خفت من قدرتي وجبروتي وحجم نفوذي .. وفي الوقت ذاته .. شعرت أنني أسبح في مياه عميقة وحيدا دون رفيق .. في هذه المياه، لا توجد حياة يا جدي، لا يستطيع غيري الوصول الى هناك .. هل تعرف شيئا عن ذاكرة الأسماك الصغيرة .. ذاكرة الضحايا .. إنها تذوب في النخاع الشوكي للحوت وأسماك القرش المفترسة .. وتبقى ذاكرة الصغار تؤرق كيانهم ما داموا يجوبون صحراء البحار الواسعة .. أنظر جيدا في عيون الحوت وستجدها حزينة .. وكلما امتد به الأجل زاد حزنا ووحدة يا جدي! سامحني أيها العجوز، ربما أقلقت سباتك الأبدية في القبر .. ولكن من أجل تلك الأسماك الصغيرة، حان الوقت لتغيب عن ساحة الحياة .. ربما تجد الهدوء والسلام الذي ترنو له .. سامحني يا جدي.
يُنْزِلُ أبو النور اللوحة عن الحائط، ويضعها جانباً مغيبا بذلك صورة جده وعندها يسمع صوت تصفيق خفيف يأتي من عمق الصالة. يستدير أبو النور ليشاهد ليلى .
ليلى: يا سلام .. أنت شاعر يا أبو النور!
أبو النور: ليلى .. لقد أخفتني حتى الموت.
ليلى: لا .. كل شيء إلا سيرة الموت.
أبو النور: كيف يحدث هذا يا سيدتي .. تأتين وتذهبين كالنسيم؟
ليلى: أنت اليوم في قمة التجلي الشعري.
أبو النور: ما رأيك يا ليلى .. لقد غيّبت جدي .. هذا الرجل قادر على إملاء إرادته حتى بعد مماته.
ليلى: لا .. أنت صاحب القرار يا فؤاد.
أبو النور: نعم .. فؤاد .. فؤاد. هذا ما ينقصني طوال الوقت .. لا أحد يجرأ على مناداتي بفؤاد غيرك يا ليلى!
ليلى: شو يا فؤاد .. يبدو بأن أمك فطمتك عن صدرها في وقت مبكر!
أبو النور: ماذا تقصدين؟
ليلى: لا شيء .. أشعر في كثير من الأحيان بأنك مسكون بأنانية متأصلة وكأنك مركز الدنيا.
أبو النور: ليلى .. هل حان الوقت؟ هل أتيت لاصطحابي الى عالمك الغريب؟
ليلى: أنا بحاجة لاصطحابك حقّاً .. أعتقد أن الوقت قد حان لتأتي معي الى هناك. صدقني لن تشعر بألم شديد.
أبو النور(محتداً): لا يا ليلى .. ما يزال أمامنا متسع من الوقت .. أنا لن أنهي مهمتي بعد .. هناك الكثير من الأعمال الملحة والتي لا تحتمل الانتظار.
ليلى(بكل هدوء): تقصد قضية الأشقر؟
أبو النور: قضية الأشقر تشعبت الى قضيا أخرى كثيرة.
ليلى: هذه القضية ستخيب آمالك وكافة تطلعاتك يا فؤاد .. أنت تعلق الكثير من الآمال على هذا الموضوع. لكن القضايا لن تنتهي والأشقر لا يختلف كثيراً عن المرّ. على أية حال سأمهلك الوقت الذي تريد.
أبو النور: لماذا هذه الحدة المفاجأة يا ليلى؟ من المفترض أن تكوني صديقتي.
ليلى: هذا خارج عن إرادتي .. الوقت ينفذ يا فؤاد .. الوقت ينفذ.
تختفي ليلى على عجل وبهدوء تماما مثلما ظهرت.
أبو النور(وقد أدرك أن ليلى ستأخذه برفقتها ودون عودة): آخر نساء الدنيا ليلى.(يسمع صوتاً على الباب) أدخل يا مصطفى.
مصطفى: سيد أبو النور .. لقد قمت بما أمرتني .. ليس لدي الكثير من المعلومات ولكن وباختصار شديد لم أشاهد قلقا أو توترا في تصرفات الأشقر، ولا أعتقد أنه قد غير شيئاً من عاداته وبرنامجه اليومي.
أبو النور: مصطفى عن ماذا تتحدث؟
مصطفى(مستغرباً السؤال): عن الأشقر بالطبع .. هل نسيت يا سيدي بأنك أرسلتني لمراقبته وتقصي أخباره وجمع أكبر قدر من المعلومات عن مجرى حياته وأسراره!
أبو النور: نعم .. صحيح، لقد نسيت يا مصطفى .. أخبرني بالله عليك هل رأيت شيئاً غريباً في تصرفاته وتحركاته؟
مصطفى: أبداً .. العمل ثم البنك والمنزل، وأعتقد أنه قام بزيارة منزل صديق يقع في إحدى الضواحي الراقية يا سيدي وهذا هو العنوان.
أبو النور(يأخذ الورقة من يد مصطفى ويقرأ العنوان بصوت خفيض): مجرد عنوان يا مصطفى .. شارع رقم 205 ورقم المنزل. هل تعرف صاحب هذا البيت؟
مصطفى: نعم .. هناك لوحة صغيرة تحمل اسم صاحب المنزل، أعتقد أنه عثمان الحديدي.
أبو النور(مستغرباً): هل أنت متأكد؟
مصطفى: نعم .. كل التأكيد.
أبو النور: وكم أمضى من الوقت في منزل الحديدي؟
مصطفى: نصف ساعة تقريباً وكان حذراً للغاية حين دخوله ومغادرته المنزل، تلفت كثيرا وكأنه يخشى أن يكشف أمر زيارته أحد.
أبو النور: معلومات قيمة ومفيدة يا مصطفى .. أشكرك كل الشكر.
مصطفى: لا شكر على واجب يا سيدي .. والآن هل حان الوقت لنذهب الى المستشفى؟
أبو النور: هل قمت بدعوته لزيارتي؟
مصطفى: نعم وهو الآن في طريقه لزيارتنا.
أبو النور: إذا كان حاضراً لزيارتي فكيف أهرب من لقائه الى المستشفى يا مصطفى! أرجوك أخبر سعاد بأني أرغب برؤيتها حالاً.
مصطفى: على طول يا سيدي.
يغادر مصطفى المكان ويُسْمَعُ صوته مناديا على سعاد. بعد قليل تدخل سعاد الى الصالة وقد بان القلق واضحا على ملامح وجهها.
أبو النور: سعاد يا حبيبتي .. أشعر أنك تسكنين كل خلية من جسدي وذاكرتي.
سعاد: ماذا جرى لك يا أبا النور! كلامك خارج من القلب وإلا قلبك مكلوم.
أبو النور: لماذا لا تناديني باسمي الحقيقي .. أنا فؤاد. ناديني باسمي يا سعاد.
سعاد: هل نسيت بأنك تكره هذا الاسم وتفضل مناداتك بكنية أبو النور!
أبو النور: ليس بعد اليوم .. ناديني بما تشائين، ربما يحلو لك ذلك.
سعاد: أنا خائفة .. لماذا هذا التغيير المفاجئ يا زوجي العزيز؟
أبو النور: لا أدري .. ربما عودة نحو البدايات .. هل تذكرين أول لقاء لنا يا سعاد؟
تقترب سعاد منه وتعانقه.
سعاد: نعم .. أذكر كل شيء .. عِدْني بأنك لن تفارقني يا فؤاد.
أبو النور: قُلْتِها أخيرا يا جميلة الجميلات .. أعدك بأن أبقى بين يديك ما حييت.
سعاد: إذا كنت قاسية معك في الفترة الأخيرة فأرجو أن تسامحني.
أبو النور: بل أنا من يطلب منك السماح، لقد كنت أنانيا أكثر من اللازم .. بالمناسبة(يخرج من جيبه علبة صغيرة ويقدمها لسعاد التي تفتحها بحذر وببطء ).
سعاد: إنه الخاتم نفسه .. لقد غضبت كثيرا حين أضعته قبل سنوات.
أبو النور: إنها ذاكرة الجمال يا سعاد .. لقد استطعت تذكر جميع التفاصيل التي يحتويها الخاتم.
سعاد(تنظر الى التاريخ المحفور في بطن الخاتم): لم تَنْسَ التاريخ أيضاً يا رفيق العمر.
أبو النور: لا يا سيدتي .. أبداً.
سعاد: أتمنى أن يطول العمر بنا حتى الشيخوخة يا فؤاد .. أتمنى أن يملأ أحفادك المكان. هذا ما أتوق له الآن وأكثر من أي وقت مضى.
أبو النور: أشعر الدنيا تدور بي يا سيدتي. سعاد يا رفيقة دربي، يبدو أن حالتي تزداد سوءاً.
سعاد: أنت عنيد للغاية. عنيد كجحش قبرصي أعيته الرطوبة والجو الحار. لماذا لا تذهب الى المستشفى .. أنت بحاجة الى بعض الدم وحالتك ليست مستعصية .. أرجوك لا داعي لهذه السوداوية يا رجلي .. أنظر الى الدنيا بعين الأمل .. أنت قادر على قهر هذا المرض وتجاوز هذه المرحلة من حياتك.
أبو النور: نعم .. كلامك دافئ وصريح .. أنا بانتظار صديقي الأشقر .. أريد مقابلته وبعد ذلك سنذهب للمستشفى لا محالة .. سعاد، أرجوك احضري لي الغليون .. رائحة التبغ تعيد لي الحياة.
سعاد: كما تريد .. غليون وويسكي .. كما تريد.
أبو النور: لا .. الغليون فقط. لا أريد ويسكي. لا أريد شيئا سوى التبغ الآن وربما بعض القهوة .. أنا أعشق القهوة حين تحرقها وتغليها يداك. هذا كل ما أريد في هذه اللحظة يا سعاد.
سعاد: أنت تخيفني. لا أدري سر هذه الحساسية المفرطة .. الله يطول بعمرك يا أبا النور.
في تلك الأثناء يظهر مصطفى بالباب.
مصطفى: لقد حضر السيد محمد الأشقر.
أبو النور: دعه يدخل .. وأرجو أن لا يزعجنا أحدا أثناء الاجتماع.
مصطفى: حاضر سيدي.
يخرج مصطفى برفقة سعاد ويدخل السيد محمد الأشقر.
أبو النور: أهلا وسهلا .. أهلا .. أهلا(يأخذ الأشقر بالأحضان ويقبل أحدهما الآخر) معقول الأشقر بلحمه ودمه .. أهلا بصديق العمر.
محمد الأشقر: أهلا بك أبو النور . أنا مسرور بلقائك والاجتماع بك .. والله مضى عمر طويل منذ أن التقينا آخر مرة.
أبو النور: أنت مذنب يا أشقر .. أنا دائما أسأل عنك .. دائما.
محمد الأشقر: صحيح .. صحيح .. واجبك علينا يا صديقي. ولكن أنت تعلم بأن المشاكل كثيرة والمسؤوليات لا ترحم أبداً.
أبو النور: المشاكل حقاً لا تنتهي .. ولكن حديث الروح له شجون لا ينتهي. أتعرف أن الأصدقاء يعدّون على الأصابع بعد سن الأربعين ويبقى المقربون ثلة صغيرة تثلج القلوب. وأنا لا أخفي عليك .. أيام الدراسة لا تنسى أبداً.
محمد الأشقر: أبو النور أيام الثانوية لا تنسى أبداً. كنت طالما تتغلب علي بكل شيء. إلا السباحة .. لم تتمكن ولا لمرة واحدة أن تجاريني أو تسبقني.
أبو النور(ضاحكاً): كتفاك العريضة تدل على غرامك بالسباحة يا صاحبي.
محمد الأشقر: كيف حال سعاد .. لم أرها منذ وقت طويل؟
أبو النور: سعاد بخير. علينا القيام بزيارات عائلية يا أشقر .. ربما نقضي سهرة عشاء في أحد المطاعم. ما رأيك لو التقينا الأسبوع القادم.
محمد الأشقر: وهو كذلك .. ولكن الدعوة على حسابي.
أبو النور: هل تظنني سأناقش هذا الموضوع وأضيع وقتي في هذه المسألة .. أول سهرة على حسابك والثانية كذلك. أما الثالثة فهي على حسابي. اتفقنا؟
محمد الأشقر: آه يا أبا النور أنت لبق ودبلوماسي من الطراز الأول. صدقني أنا أكن لك احتراما ومكانك في القلب دائما.
أبو النور: هذه مشاعر متبادلة. والآن (يدخل مصطفى حاملا القهوة) والآن حان موعد القهوة (يقوم مصطفى بتقديم القهوة ثم يمضي الى مشاغله دون أن ينبس بكلمة واحدة).
محمد الأشقر: يا سلام .. مصطفى لا يزال في خدمتكم، يا له من رجل رائع.
أبو النور: نعم .. إنه مخلص للغاية. تفضل، اشرب القهوة. إنها من صناعة زوجتي سعاد وهي فنانة في تحضير القهوة.
محمد الأشقر: شكرا (يتذوق القهوة) إنها لذيذة حقا.
أبو النور: هل تريد بعض المشروب أو …
محمد الأشقر: لا يا أبو النور القهوة تكفي .. أنا من المغرمين بنكهتها وسحرها .. أشكرك على أية حال.
أبو النور: والآن يا صديقي ربما تدرك سبب دعوتي لك اليوم!
محمد الأشقر: أعتقد أن الموضوع يتعلق ببعض القضايا العالقة مع عثمان الحديدي .. أنت تعرف هذا الرجل وبلا شك، لقد كان زميلا لنا في المرحلة الثانوية.
أبو النور: وكيف لا أعرفه .. لقد عرضوا علي مطابعك مقابل القرض الذي حصل عليه عثمان من البنك .. وقد كنت كفيله على ما أذكر.
محمد الأشقر(مستغرباً): بهذه السرعة؟
أبو النور: ولماذا العجب .. هذه قضايا مالية محمية بقوة القانون. لا يمكن التلاعب مع البنوك، خاصة إذا كان الأمر يتعلق بقروض كبيرة.
محمد الأشقر: أنا لا أقدر على تسديد المبلغ للبنك يا أبو النور. الدفعات الشهرية كبيرة بعض الشيء وتفوق قدراتي ومستوى دخلي الشهري. وبصراحة أكثر .. فإن أرباح المطبعة تقلصت كثيراً في الفترة الأخيرة خاصة بعد أن ظهر على الساحة منافسين دوليين ذوو رؤوس أموال كبيرة، مقارنة بحجمنا التجاري في السوق الداخلي وقد استطاعوا الفوز بحصة أثرت على إنتاجنا.
أبو النور: إذا أردنا أن نكون واقعيين فأنا لا أؤمن بالنهايات السعيدة خاصة بما يتعلق بقضايا المال.
محمد الأشقر: لماذا لا تشتري المطبعة وننتهي .. هذا حقك الطبيعي وإذا لم تفعل فسيعمل غيرك على شرائها دون تردد. الأقربون أولى بالمعروف.
أبو النور: بالطبع موضوع الشراء وارد وقد أفعل. ولكني أعتقد بأن علينا إعطاء مهلة لعثمان لكي يصلح هذا الوضع. وإذا لم يفعل عندها يصبح لكل حادث حديث.
محمد الأشقر(يشرب بعض القهوة): عثمان اختفى منذ فترة ليست بالقصيرة.
أبو النور: ولكن أين اختفى يا ترى .. أين وجهته ولماذا فعلها؟ هل هو خارج البلاد، وهل هرب بالمال الذي حصل عليه من البنك؟!
محمد الأشقر: ولماذا تسألني أنا حيث أنا الخاسر وفي جميع الأحوال. لا أدري أين اختفى عثمان حقاً وماذا حل به.
أبو النور(ببعض التردد): هل هو على قيد الحياة؟
محمد الأشقر(يحفل كالملسوع): ولماذا هذا السؤال؟ .. أبو النور أنت تخيفني حقاً. عثمان ليس له أعداء ولا يوجد شيء يستوجب قتله والتخلص منه.
أبو النور: الغريب أن زوجته لم تبلغ عن اختفائه.
محمد الأشقر(وقد بدا التردد على وجهه): وما أدراك؟ .. قد تكون أبلغت عن اختفائه.
أبو النور: في هذه الخالة تصبح القضية جنائية وعندها يصبح القرار النهائي لدى شركات التأمين .. هذا وضع مطمئن للغاية. أليس كذلك يا أشقر؟
محمد الأشقر(متلكئا): طبعا .. عندها تسقط المسؤولية المالية عن كاهلي وتتحرر المطبعة. ولكن أخلاقياً..
أبو النور: أخلاقياً .. وما دورك أنت في اختفاء عثمان الحديدي؟
محمد الأشقر: أنت تحاول الإيقاع بي .. إذا كنت تتهمني بشيء فقلها يا أبو النور ولننتهي .. لا داعي للّف والدوران. أرجوك يا صديقي.
أبو النور: لا .. أستغفر الله يا أشقر .. أنا لا أتهمك بشيء يا رجل. هل تذكر يا محمد حسناء الحيّ الذي كنا نقطنه .. هل تذكر نسرين؟ كنا جميعا مُغْرَمين بها. أما نسرين فقد كانت نزقة للغاية .. كانت تبتسم لنا جميعا وتشجعنا كثيرا .. هل تذكر يا محمد؟ كانت العامل المشترك بيننا وحديثنا الدائم.
محمد الأشقر(يقف وقد بان الخوف على وجهه): اسكت يا أبو النور .. أرجوك، لا تكمل حديثك.
أبو النور: يا محمد، أنا الذي يطلب الرجاء منك. باسم الماضي الجميل الذي قضيناه سوية .. أخبرني بكل شيء .. أنت تُخْفي الكثير من الأسرار يا محمد .. أستطيع اكتشاف الحقيقة إذا تابعت البحث والتنقيب وطرح الكثير من الأسئلة. وهذا لن يسرك بتاتاً.
محمد الأشقر: ولماذا لا نتوقف .. لا يوجد خاسر في هذه الحالة، أما إذا كنت تطمح لامتلاك المطبعة فأنا…
أبو النور: اخرس يا محمد .. أنت تعرف جيداً بأن الموضوع أكبر من ذلك. ومن قال لك أنه لا خاسر بيننا .. ماذا عن عثمان الحديدي. ألا تعتقد بأنه كبش الفداء؟
محمد الأشقر: أنا لا أدري ماذا أقول (يأخذ بالتجول في الصالة، يمسك بعصا البليارد ولا يدري ماذا يفعل بها) ليس بالضرورة أن يكون الحديدي كبش فداء لأنه وبكل بساطة غير موجود .. هذا كل ما أعرفه الآن (يضرب إحدى الكرات فتتدحرج على الطاولة الخضراء لكنه لا يتمكن من إدخال أية كرة في فجوات طاولة البليارد.
أبو النور: أنت بحاجة لبعض الدروس لإتقان هذه اللعبة.
محمد الأشقر: على العكس يا صديقي .. يبدو أن الوقت غير مناسب لهذه اللعبة. بالمناسبة .. أريد السؤال عن صحتك، سمعت بأنك متعب في الفترة الأخيرة .. أمراض الدم مقلقة للغاية!
أبو النور: صحيح .. ولكن هناك ما هو أخطر منها بكثير .. هذا المرض جعلني أكثر حساسية .. وجعلني أراقب الأمور وأعايشها من زاوية مختلفة تماماً. أنا راضٍ عن حالتي.
محمد الأشقر: فلسفة مثيرة للجدل.
أبو النور: وما المانع .. على أية حال .. أريدك أن تعلم بأنني على اطلاع، وأدرك الكثير من الخفايا يا محمد .. أعلم بأن نسرين زوجة عثمان الحديدي .. نسرين فضلت هذا الرجل علينا نحن الاثنين يا محمد. والسؤال الثاني "هل استطاع الأشقر أن يتقبل قرار السيدة نسرين من الزواج من رجل آخر؟"
محمد الأشقر: الأسئلة كثيرة يا صديقي .. هناك سؤال آخر "هل اكتفت نسرين بهذا الاختيار؟"
أبو النور: يا الهي .. هذا أمر لم أكن أتوقعه .. ما رأيك لو أخذنا رأيها بهذا الموضوع؟ ربما أخبرتنا نسرين من يكون اختيارها الآخر، وأنا على ثقة من أنها قادرة بذلك على وضع النقاط على الحروف. قد يكون الآخر متورطاً باختفاء أو مقتل عثمان.
محمد الأشقر: أنت رجل عنيد للغاية وخيالك واسع يا أبو النور. يبدو أنك تقرأ الكثير من القصص البوليسية. ليس لدي ما أقوله ولا أعتقد بأنك قادر على تفهم هذه الوضعية الخاصة. أشكرك على حرصك ونصيحتي لك أن تبقى بعيداً قدر الإمكان عن هذه القضية.
أبو النور: هل هذا تهديد يا محمد؟
محمد الأشقر: لا يا أبو النور .. أنا لا أقصد التهديد أبداً .. ولكني مضطر للدفاع عم نفسي بشتى الطرق .. عن إذنك (يسارع بمغادرة المكان).
أبو النور: عليك أن تدرك يا محمد بأنني لا أتخلى عن قضية بدأتها، وسوف أحل هذا اللغز مهما كلفني هذا من وقت وجهد.
محمد الأشقر(يقف بعد أن يكون قد وصل الباب الخارجي ويعود أدراجه الى المكان): اللعب بالنار يحرق الأصابع يا صديقي.
يدخل مصطفى بحذر ويُبْلِغْ أبو النور أمرا وبصوت منخفض.
مصطفى: سيدي لقد حضر كمال المرّ.
أبو النور: ماذا تنتظر .. دعه يدخل .. المرّ هو السبب وراء كل هذه المصائب ..
كمال المرّ(يدخل على عجل): ما لك يا رجل معصب .. أنت دائماً بصلتك محروقة.
أبو النور: لا بصل ولا ثوم يا كمال .. أنت تعرف السيد محمد الأشقر.
كمال المرّ: نعم .. لقد سبق والتقينا في إحدى الشركات .. البلد صغيرة يا أبو النور .. يصعب إخفاء أي أسرار في هذه البلاد. أليس كذلك يا سيد محمد؟
محمد الأشقر: بداية تشرفني رؤيتك من جديد يا سيد كمال. أنا مدير مطابع الأشقر(يتصافح الاثنان) المدينة ليست صغيرة الى الحد الذي تتصوره يا سيد كمال. على أية حال أنا مضطر للذهاب فلدي الكثير من الأعمال التي يتوجب علي إنجازها.
أبو النور: بالمناسبة .. السيد كمال هو أول من أعلن عن إمكانية الحجز القانوني لمطابعك. وقد تقدم لي بمشروع شراء المطابع من البنك.
محمد الأشقر: هذا يدل على أنه مستشار ناجح .. ويدل كذلك على مدى امتداد علاقاته الشخصية. ربما أستطيع الاستفادة من خدماته فيما بعد.
كمال المرّ: كل شيء بثمنه .. هل أنت قادر على مواجهة البنك وحماية أملاكك؟
محمد الأشقر: وما رأيك أنت؟ أعتقد بأنك قادر على تقديم النصيحة كونك مستشارا قانونيا يا كمال. هل أنا قادر على إنقاذ أملاكي ومطابعي؟
في تلك الأثناء يخرج أبو النور ليطلب شيئا من مصطفى ثم يعود أدراجه لمجالسة ومحادثة الرجلين.
كمال المرّ: لا بد من مراجعة أوراقك وشروط العقد المبرم مع البنك حتى أتمكن من الإجابة على سؤالك. لكني أعتقد بأن وضعك صعب للغاية بعد أن استوفى البنك كافة الشروط القانونية. قد أتمكن من تخفيف الدفعات الشهرية وزيادة مدة تسديد القسط الى سنوات أخرى.
محمد الأشقر: ما رأيك لو التقينا في مكتبي لبعض الوقت لنتحدث في هذه المسألة؟
كمال المرّ: لا تنسَ بأنني موظف رسمي لدى شركات أبو النور.
أبو النور: لا بأس يا كمال. تستطيع التعامل معه وتقديم العون اللازم وفي أي وقت تشاء .. ولكن عليكم أن تدركوا بأنكم اليوم ضيوفي ولن تخرجوا من هنا قبل أن تتناولوا طعام الغذاء.
محمد الأشقر: لا يا أبا النور .. هذا ابتزاز.
أبو النور: ماذا قلت يا أشقر؟ .. أتسمي دعوتي لكم وضيافتي ابتزاز! هذا ما لم أكن أتوقعه منك يا صديقي.
كمال المرّ: بالمناسبة يا جماعة، السيدة سعاد طبّاخة ماهرة، ولا بد أننا سنأكل أصابعنا بعد أن نتذوق الطعام من بين يديها. صدقوني لن تندموا على بقائكم للغذاء.
محمد الأشقر(يضرب كفاً بكف): لا حول ولا قوة إلا بالله(يلقي نظرات ارتياب على أبي النور)
أبو النور(وقد لاح على وجهه السرور): من يسمعك تولول يا محمد سيظن أنك تلقيت حكماً بالسجن في منزلي.
محمد الأشقر(يحك رأسه قليلاً): هذه وجهة نظر يا صديقي. أنا لا أستطيع مغادرة منزلك بسهولة وهذه حقيقة. صراحتك تدهشني فأنت في بعض الأحيان حاداً كالسيف.
أبو النور: لا يا محمد .. أنا لست قاض ولا أريد أن أكون .. كل ما في الأمر هو رغبتي الشديدة بتوضيح بعض القضايا العالقة .. قد نتمكن من ذلك في وقت لاحق. على فكرة يا محمد، الإنسان لا يستطيع الهرب من ماضيه ومن ذكرياته. وأنت تعني لي الكثير يا أشقر.
محمد الأشقر: هذا صحيح. ولكن للضرورة أحكام .. الماضي ليس مجرد سباق مائة متر في مسبح المدرسة.
أبو النور(ضاحكاً): نعم .. هناك ظلال امرأة تلاحقنا طوال هذه السنوات.
كمال المرّ: يبدو أن لحديثكم شجون .. لقد حضرت في الوقت غير المناسب.
محمد الأشقر: ولماذا تعتقد ذلك يا كمال .. إنه يتحدث عن امرأة فاتنة سلبت عقولنا فترة المراهقة، ليست جميلة بقدر ما هي فاتنة وجذّابة .. إنه يتحدث عن حسناء الحيّ "نسرين".
كمال المرّ(بصوت منخفض): نسرين؟
أبو النور: نعم .. نسرين. تلك المرأة التي كانت دائما محط الأنظار، ولم تكن تقبل أن تكون الرقم الثاني في هذه اللعبة. كان الجميع يلاطفونها ويتغزلون بجمالها، ولم تكن نسرين تمانع بذلك آنذاك. كانت تبادلنا النظرات وتضحك منّا ولنا .. والآن يا محمد ألا تظن بأنها كانت مهووسة وربما مريضة؟
محمد الأشقر: ربما كانت كذلك .. لم أفكر بهذا الأمر بهذه الطريقة. صحيح أنها كانت ترغب أن تكون دائما حديث الساعة. وتتمنى أن تلتفت الأعناق خلفها أينما اتجهت وكلما دخلت أو غادرت المدرسة. لكن هذا كان منذ زمن بعيد.
أبو النور: أتذكر ماذا حلّ بأستاذ اللغة الإنجليزية عندما وقع ضحية غوايتها، لقد أضطر المسكين الى مغادرة المدرسة.
كمال المرّ: يبدو بأنها امرأة خطيرة للغاية!
أبو النور: إذا كان الجمال والسحر كذلك .. فهي حقاً امرأة خطيرة.
محمد الأشقر: أنا أخالفكم الرأي .. ربما شاءت الظروف أن أتعرف بهذه المرأة أكثر ممّا كنت تعتقد يا أبو النور .. نسرين حساسة ومن السهل جرح مشاعرها وإيذائها، وفي الوقت نفسه يصعب كثيراً اكتساب ثقتها والدخول الى عالمها الداخلي .. إنها امرأة كريمة وقادرة على العطاء الى حد التضحية بالنفس.
أبو النور: هل لهذا علاقة بقضيتنا يا محمد؟
محمد الأشقر: طبعاً .. هذا مفتاح شخصيتها .. ولهذا علاقة بموضوع جلستنا. ولا تنسى يا أبا النور بأنك أنت من جعل سيرتها محور هذا الحديث.
أبو النور: قلت بأنها لم تكتف بعثمان وأنها..
محمد الأشقر: أبو النور(يتنهد بحرقة): عثمان كان مقامراً .. وكان يسافر كثيراً خارج البلاد. وبالطبع كان يحرص على أن يكون وحيداً أثناء رحلاته الكثيرة تلك .. وقد تسبب لها بعد عودته من إحدى السفرات بمرض جنسي، ليس بالخطير ولكنها الحقيقة. عثمان لم يكن يعشق هذه المرأة كما …
أبو النور: كما كنّا نفعل نحن .. لقد فهمت ما تنوي قوله يا محمد .. كانت ترغب بالبكاء على كتف رجل يحترمها ويقدر مشاعرها. رجل يخفف عنها ويقدّم لها بعض المحبة والدفء الذي كانت تتوق إليه.
محمد الأشقر: صحيح .. صحيح يا أبا النور، وأنا لا أرغب بالحديث عن هذه المرأة أكثر من ذلك. أعتقد بأننا تحدثنا عنها أكثر من اللازم. نسرين كانت حريصة على كتمان علاقاتها وربما نجحت في هذا الأمر.
أبو النور: وكيف عرفت جميع هذه التفاصيل يا محمد؟
محمد الأشقر: كانت تربطنا علاقات عائلية وكانت تبوح لي أحيانا ببعض همومها ومتاعبها.
أبو النور: لم يبق سوى معرفة اسم الرجل الآخر في حياتها’ إذا تواجد حقاً .. والكشف عن مصير عثمان. أليس كذلك يا محمد؟
محمد الأشقر: كما أخبرتك .. عثمان كان مقامراً من الدرجة الأولى.
أبو النور: هل تقصد بأن اختفاء عثمان له علاقة بالقمار؟
في تلك الأثناء يدخل مصطفى بعد أن يدق الباب برفق.
مصطفى: المعذرة .. أرى بأني قاطعت حديثكم أيها السادة، ولكن يسرني أن أدعوكم الى الغداء .. تفضلوا الى غرفة الطعام من فضلكم.
كمال المرّ: هذه لحظة الحقّ يا جماعة .. عندما يحضر الطعام يبطل الكلام .. هل تعرفون ما هو أطيب أنواع الأكل؟ .. إنه الطعام بعينه.
يتلو ذلك ضحك وابتسام ويذهب الجميع الى تناول الطعام.


*** *** ***


الفصل الثالث


الصالة نفسها. ويبدو الرجال الثلاثة وقد وضعوا أيديهم على بطونهم من ثقل الطعام.
كمال المرّ: آه يا أبا النور .. جزاك الله على هذا الغداء .. يعني ضروري تغرق الأرز باللوز المقلي .. أنا بطني سينفجر يا جماعة. لقد أكلت كالمجنون. آه يا أمي.
محمد الأشقر: الشاي كفيل بتسليك المعدة وإعادتك الى عالم الأحياء.
أبو النور: أهلاً وسهلاً .. هذا كله من لطفكم.
كمال المرّ: والله لولا الحياء يا جماعة كان أخذتها تكويعة ونومة.
أبو النور: ما رأيك بغليون يا كمال؟
كمال المرّ: دخلك يا أبا النور .. أنا ببالي معسّل التفاح. النرجيلة بعد هذه الوليمة ترد الروح.
أبو النور: مصطفى .. يا مصطفى.
مصطفى(يحضر مسرعاً): حاضر يا سيدي.
أبو النور: معسّل بالتفاح للسيد كمال (ينظر للأشقر) محمد ما رأيك أن تشاركنا أنت أيضاً بالنرجيلة حتى تعدل رأسك.
محمد الأشقر: هل نسيت يا أبا النور بأني رياضي ولا أتعامل مع التدخين بجميع أنواعه .. على أية حال الشاي المغلي بالنعناع يفي بالغرض.
يقترب مصطفى من أبو النور ويهمس بأذنه بعض كلمات.
أبو النور(يهمس قائلاً): دعها تَدْخُل، ولكن أحضر لنا قبل ذلك الشاي المغلي بالنعناع وكذلك النرجيلة.
لم يعر الأشقر وكمال المرّ كثير انتباه للهمس الذي تمّ بين أبو النور ومصطفى وقد عاد الأخير بعد قليل وهو يجرّ طاولة عليها الشاي والغليون، ثم عاد ليحضر مجدداً النرجيلة. بدأ مصطفى بتعمير النرجيلة حيث وضع التبغ على رأسها ثم أضاف الجمر وناولها والدخان يتصاعد من أعلاها لكمال المرّ، وقبل أن يغادر مصطفى المكان غمزه أبو النور بطرف عينيه فهزّ مصطفى رأسه موافقاً وهرع أبو النور خلف مصطفى مستأذناً. بقي محمد الأشقر وكمال المرّ ليستمتعوا بما قدم لهم.
محمد الأشقر: املأ الفم والبطن بالطعام تخجل العين وتغض الطرف. كان من المفروض أن أترك المكان منذ وقت طويل، والآن لا أقدر على تحريك نفسي من الكسل والخجل. هناك ما يخفيه أبو النور وهو ماهر في تحقيق أهدافه.
كمال المرّ: والله غداء فاخر يا محمد والنرجيلة عامرة ولا يُعْلى عليها أبداً
محمد الأشقر(يشرب الشاي) سيد كمال ارحم نفسك النرجيلة تهاجم الرئة مباشرة دون فلتر. وهي قاتل يرافق النكهة والكيف.
كمال المرّ: وهنا تكمن حلاوته يا صديقي، جرّب بنفسك وستدرك ما الذي فقدته خلال سنين حياتك الماضية. حاول أن تمسك أنبوب النرجيلة. حتى طريقة مسك الأنبوب لها أصول وقوانين تخضع لعلم الجمال.
محمد الأشقر: صحيح يا كمال رائحتها طيبة للغاية .. أشعر بأنها تملأ تجاويف أنفي وأحشائي .. أحسدكم أحيانا على هذه المتعة.
يدخل أبو النور بعد قليل برفقة امرأة جميلة ترتدي زياً رسمياً لكنه يشف عن رشاقة وجسد جذّاب، وجهها مستديراً نضراً ويبدو واضحاً بأنها تقضي أوقاتاً طويلة أمام المرآة من أجل الاعتناء بوجهها. حواجبها مرسومة بدقة وعناية فائقة وقد أضاف الكحل لعينيها بريقاً يُسْكِرُ عقول الرجال. يسارع الأشقر بصب الشاي ليلهي نفسه بشيء ما بعد أن أدرك من تكون السيدة الضيفة.
أبو النور: طالما تحدثنا عن سيدة السيدات، وقد رأيت من المناسب في هذه الجلسة دعوة السيدة نسرين للانضمام الى مجلسنا هذا .. وأعتقد بأن لديها بعض ما تخبرنا به.
توقف الأشقر عن انشغاله بالشاي ووقف وكمال المرّ حين أصبحت نسرين في منتصف الصالة الواسعة، تزين الأثاث وتلقي بأنوثتها وسحرها الذي لا يقاوم على المكان.
نسرين: أرجو ألا أكون قد أثقلت عليكم بحضوري.
كمال المرّ: لا يا سيدة نسرين .. أبداً.
أدرك أبو النور بأن كمال يعرف نسرين على الفور حين شاهد ردة فعله. كان حضورها غبر متوقع للجميع ولو كان يدرك كمال بأنها ستحضر بهذه الطريقة المفاجئة لربما عدل عن البقاء في المنزل.
محمد الأشقر(وقد بان الهدوء على تقاطيع وجهه): أهلاً سيدة نسرين .. هذا هو المكان الأخير الذي كنت أتوقع حضورك ولقاءك به. على أية حال رؤيتك تسرّني كثيراً وعسى أن تكون دوافع زيارتك مقنعة.
نسرين: كل خير إن شاء الله .. أعتقد بأن هناك شيء مشترك بيننا جميعاً وهو زوجي عثمان الحديدي .. وقد أردت أن أخبركم بما لدي من معلومات .. أردت البوح بما يعتمل في صدري .. ربما ستلقي حكايتي بعض الضوء على هذه القضية.
أبو النور: المعذرة يا أصدقاء .. ولكني مصرٌ على إغلاق هذا الملف مرة واحدة والى الأبد. حتى تهدأ النفوس وتعود المياه الى سابق عهدها.
محمد الأشقر: أنت حقاً رجل عنيد للغاية .. لم يكن هناك ضرورة لإحضار السيدة نسرين وإحراجها أمامنا يا أبا النور.
نسرين: لا يا محمد .. أنا مصرة على ذلك .. لا أريد الخوض في تفاصيل أنتم بغنى عنها، ولكن قصتي مع عثمان تعود لأيام دراستي الثانوية. أنتم تعرفون بأنني كنت محطّ أنظار الكثير من الشباب.
محمد الأشقر: ومن منّا ينسى تلك الأيام يا نسرين. أليس كذلك يا أبا النور.
أبو النور: نعم .. نعم. هذه حقيقة يعرفها الجميع.
نسرين: بعد الثانوية تفرقت طرقنا. بعضكم غادر البلاد للدراسة، والبعض الآخر قذفته دوامة الحياة في الروتين اليومي وبقيت أنا وحيدة، وفي أحد الأيام قابلت عثمان، ولا أخفي عليكم سررت كثيراً برؤيته لأنه يحمل في ذاته الحنين الكامن لتلك الأيام الخالية. ويوما بعد يوم .. نشأت بيننا علاقة حميمة انتهت طبعاً بالزواج.
كمال المرّ: يا له من رجل محظوظ حقاً.
نسرين: حياتنا كانت رائعة ومليئة بالحب والتفاهم الذي كنت دائما أصبو إليه. ثم دارت الأيام وأخذ عثمان يُكْثر من السفر خارج البلاد بحجة العمل .. لكني أدركت فيما بعد بأن الأسباب كثيرة ومن ضمنها بعض العلاقات العاطفية مع الكثير من النساء .. ومن ضمنهم سكرتيرته الخاصة. هكذا بدأ الفتور والجفاء بيننا بعد أن صارحته بشكوكي وأخذنا نبتعد عن بعضنا البعض .. بعد بضعة سنوات وبالرغم من جهود ابننا جابر لإصلاح ذات البين بيننا، زادت الأمور سوءاً وبقي مصرا على المضي في طريقه. ثم بدأت متاعبنا المالية بعد أن بدأ عثمان يلعب القمار. أخذ يقامر بمبالغ كبيرة، أحيانا يربح وأحيانا أخرى يخسر الكثير من المال. وفي إحدى الليالي اجتمع أهل السمر والقمار في المنزل .. تناولنا طعام العشاء وبدءوا اللعب الى وقت متأخر من الليل .. لم أستطع النوم تلك الليلة، كان هناك شيء غير طبيعي يلف أجواء المنزل. توتر وغضب وحنق، أدركت بأن زوجي تلك الليلة هو الخاسر الأكبر وقررت التصنت قليلاً .. كان زوجي قد خسر فعلا الكثير من المال .. ولم يكن يمتلك المزيد ليستمر في تلك اللعبة القاتلة. وعندها عرض عليه أحد الحضور إقراضه ما يريد من المال مقابل .. مقابل ..
أبو النور: لا تكملي حديثك يا نسرين .. أعتقد بأن كل شيء أصبح واضحاً .. أرجوك هذا يكفي.
نسرين: مقابل قضاء تلك الليلة في غرفتي .. وكان أن هربت من المنزل تلك الليلة. هل ما زلتم ترغبون بمعرفة ما تبقى من هذه الحكاية.
أبو النور بقي معقّد الجبين لا ينبس ببنت شفة.
محمد الأشقر: أكملي حديثك يا نسرين .. أعتقد بأن الوقت قد حان لإنهاء هذه الدراما.
نسرين: أنا لن أطيل عليكم كثيراً فلقد قمت بالاتصال بأحد السادة الذين كانوا متواجدين في منزلي تلك الليلة، وطلبت منه أن يصون شرفي ويشتري الدين الذي تلقاه عثمان من ذلك الرجل .. وهذا ما حصل.
أبو النور(بصوت يكاد لا يسمع): وماذا حصل لعثمان يا نسرين؟
في تلك الأثناء تناولت نسرين من صدرها كيساً صغيراً ورمت به اتجاه أبو النور. التقطه الأخير بقلق بدا واضحا على تقاطيع وجهه. أدار وجهه عندما رأى محتواه ورمى به لكمال ليستقر به الحال بين يدي محمد الأشقر.
نسرين: شرفي لا يقدّر بالمال يا أبو النور .. لقد بعثوا لي بإصبع عثمان، وعليه خاتم الزواج وكما ترون، فإن إصبعه بين أيديكم.
خيّم الصمت على الجميع وقام الأشقر بإعادة الكيس الذي يحتوي على الإصبع لصاحبته وعاد بصمت الى مكانه.
نسرين: هل يريد أحداً منكم معرفة الرجل الذي بعث لي بإصبع عثمان. هذا ما تبقى من زوجي .. وسأقوم بدفنه في حديقة المنزل. والآن، وبالرغم من أنني لست على عجلة من أمري وليس لدي أشغال تنتظرني، أجد بأنني مضطرة لمغادرة هذا المكان. يبدو بأن دوري قد انتهى في هذه اللعبة القذرة. وسوف أترككم وللأبد. هل اتفقنا يا أبا النور؟
أبو النور: نعم .. اتفقنا يا نسرين .. أعتقد بأن الحكاية انتهت عند هذا الحدّ.
نسرين: الوداع إذن.
تنطلق نسرين مسرعة لتغادر المكان دون أن تلتفت الى الوراء.
محمد الأشقر: هل ارتحت الآن يا أبا النور .. أنت عنيد للغاية.
أبو النور: قصة جميلة. فيها بعض الصدق .. والكثير من الكذب يا محمد. نسرين تريد أن ألعب لعبتها وحسب شروطها. لن يكون لك هذا يا نسرين. لا أدري حقاً من هو الخاسر في هذه اللعبة، لهذا أرجو أن تتركوني وشأني. لقد سمعت ما فيه الكفاية اليوم.
محمد الأشقر: أبو النور .. لقد حذرتك منذ البداية، ولكن لا حياة لمن تنادي .. عن إذنك.
بخرج الأشقر بصمت وعندها يقف كمال المرّ وقد بدت معالم الحيرة على وجهه.
كمال المرّ: لا أدري ماذا أقول لك يا صديقي.
أبو النور: هل كنت هناك تلك الليلة يا كمال؟
كمال المرّ: لقد انتهت اللعبة .. انتهى كل شيء .. وجودي هناك أو عدمه لا يعني شيئا .. عن إذنك.
يخرج كمال مسرعاً من منزل أبو النور ويبقى الأخير وحيداً. بعد قليل يدخل مصطفى الصالة ويجلس الى جانب أبو النور. يتناول أنبوب النرجيلة ويسحب منها نفساً عميقاً.
أبو النور: هل سمعت ما يكفي من هذه الحكاية؟
مصطفى: يا لها من حكاية يا سيدي. ويا لها من امرأة! هل انتهى الموضوع عند هذا الحدّ؟
أبو النور: نعم يا مصطفى. انتهت حكاية السيدة نسرين حقاً.. أنا لا أرغب بمتابعة هذه اللعبة الشيطانية، لدي الكثير من علامات الاستفهام ولكني لا أملك أن أغير من مجرى الأمور شيئاً .. تكفيني ليلى.
مصطفى: حدثتني كثيراً عن ليلى يا أبو النور .. لماذا لم أشاهدها ولو لمرة واحدة في هذا المنزل؟
أبو النور: صدقني يا مصطفى لست بحاجة الى رؤيتها، ليس الآن على كل حال.
مصطفى: أحسدك أحيانا على كلّ هذه النساء اللواتي يعشن في أفق حياتك. وأحياناً أشعر بالشفقة من كوكبة النسوة اللواتي لا يرحمن نهارك وليلك.
أبو النور(ضاحكاً): المصيبة أننا معشر الرجال لا نستطيع ممارسة الحياة من دونهن يا صديقي.
تدخل سعاد وتنظم إليهما.
سعاد: نهار مليء بالمفاجآت يا أبا النور!
أبو النور: سعاد .. آه يا زوجتي الحبيبة، لماذا لا تناديني بفؤاد مجدداً. أنا فؤاد بعينه .. ناديني بهذا الاسم أرجوك.
سعاد: فؤاد كان ذلك الفتى الوسيم .. ذو الضحكة الرنانة .. فؤاد اختفى عن ناظري منذ وقت طويل. فؤاد رجل ذو جناحين لا يخشى التحليق في السماء، ولا يخشى أن يهمس في أذني بين الحين والآخر "أحبك".
أبو النور: لا يا سعاد. فؤاد ما يزال بين يديك .. صدقيني لقد عُدْتُ ثانية .. يبدو لي أنني كنت تائهاً في عالم أناني بعيد عن حبك ودفء قلبك أيتها الجميلة. أرجوك كوني تلك المرأة التي أعشق وسامحيني.
سعاد: هل تخلصت حقاً من ظلال الماضي يا فؤاد؟
أبو النور: الماضي يبقى جزءاً من الحاضر والمستقبل يا سعاد. لا يستطيع الإنسان التخلص من الماضي بهذه السهولة ولا توجد ضرورة لذلك. لكنني تمكنت من التخلص من الظلال اللعينة لقصة استمرت طوال هذه السنوات، وتبقين أنت أجمل صورة في ماضي فؤاد. ولن أسعى أبداً للتخلص منها.
سعاد: مصطفى .. كنت أتعجب دائماً حين أشاهد فقاعات الهواء تتصاعد في اسطوانة الماء (تشير نحو النرجيلة) أتسمح لي بتجربتها .. أظنها لا تقتل؟
مصطفى(ضاحكاً): لا يا سيدتي .. التجربة لا تقتل (ينظر الى أبو النور طالبا الأذن منه).
أبو النور(يغمز مصطفى): لا يا سيدتي الجميلة. التجربة لا تقتل .. جرّبي معسّل التفاح.
سعاد(تسحب نفساً طويلاً وتبدأ إثر ذلك بالسعال): آه .. والله طعمها يرد الروح يا جماعة.
أبو النور: أشعر بأنني مررت ينفق طويل لا ينتهي.
سعاد: إذا كنت تبحث عن ضوء في هذا النفق فنحن هنا.
أبو النور: نعم .. كلّ نفق يستحق أضوائه.
مصطفى(يقف ويواجه أبو النور بهدوء وجدّ): لقد تأخرنا يا سيدي عن موعدنا في المستشفى .. تأخرنا كثيراً سيدي .. لقد حان الوقت.

انتهت.




نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
خيري حمدان غير متصل   رد مع اقتباس