[align=justify]
الفصل الأول:مفهوم الكلمة وجمالياتها فـي الفصاحـة والبلاغـة - القسم الأول: حدود ومفاهيم
1-مفهوم الكلمة واللغة:
الكلمة من حيث هي وجود تمثل النشأة الإنسانية لقوله تعالى في خطابه لمريم: (إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح ابن مريم( (آل عمران 3/45)... ومن هنا تكون شهادة بالوجود ذاته؛ لا تكذيباً به لقوله تعالى: (كبرت كلمة تخرج من أفواههم، إن يقولون إلا كذباً( (الكهف 18/5).
فالكلمة موضوعة لإحقاق الحق والعمل من أجله لقوله تعالى: (ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون( (يونس 10/82)... ولكن بعض القوم يجعلون الكلمة في الباطل، ولن يفلحوا؛ لقوله تعالى: (ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها... ومثل كلمة خبيثة اجتُثَّت من فوق الأرض ما لها من قرار( (إبراهيم 14/24-26).
فالكلمة وجود وضرورة إنسانية؛ تعبر عن قيمتها وأهميتها بذاتها من دون تباطؤ، أو انحراف. وهي بهذا المفهوم الصورة المثلى لمقاصد القوم ومشاعرهم من أجل إثبات الحق... وبها تحفظ مجموعة القيم التي يتواضع عليها الناس؛ ومن ثم تقيد القوانين التي قد توافق النشأة الأولى والحق أو تخالفه... وتبقى الكلمة وحدها هي الفاصلة والفيصل بين الخبيث والطيب لقوله تعالى:
( وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته( (الأنعام 6/115).
وقد كانت في بدء النشأة واحدة ثم تبلبلت على الألسنة في إطار عملية الاصطفاء وتلبية التعبير عن الحاجات والمشاعر... وحين استمرت العملية الإجرائية في صميم التطور الاجتماعي والارتقاء الفكري كانت الكلمات تتابع تطورها في البيئات كلها حتى تباينت ونشأت منها اللغات العديدة... فصارت الكلمة جزءاً من اللغة، وصارت اللغة ألفاظاً يعبر بها كل قوم عن مشاعرهم وحاجاتهم ومقاصدهم. وإذا كانت اللغات قد اختلفت من جهة التلفظ بالكلمات فإنها ظلت متشابهة من جهة المعنى... إن لم نقل متحدة فيه.
واللغة العربية تلك اللغة المختصة بجنس العرب ينطقون بها ويعبرون عن مشاعرهم وحاجاتهم ومقاصدهم بأساليبها المتنوعة.
وفي صميم العملية الاجتماعية والفكرية والنفسية والطبيعية وفي إطار عملية الاصطفاء كانت اللغة العربية مستمرة بالتطور حتى انتهت إلى احتواء القدرة على الإبداع، وتمثل بها البيان في أشكاله الجمالية التي ورثناها من لغة العصر الجاهلي...
وكانت الكلمة الفطرية العربية في ذلك العصر تواكب متطلبات التعبير وصيغه في أشكال شتى، في الوقت الذي حافظت على ذاتية خاصة بها... وجعلت لنفسها نمطاً من التركيب القائم على الاسم مرة، والفعل مرة أخرى؛ فجمعت بين الذات والحركة... وظلت تتطور من الداخل بفعل قوانينها الفاعلة والمؤثرة كالاشتقاق والتركيب والانفتاح على اللغات الأخرى... فكان الفعل بأشكاله يتنفس في صميم الذات الصانعة ويتحرك للتعبير عنها...
لهذا واكبت الكلمة في العربية كل متطلبات الحياة وما نشأ فيها من ضروب النشاط الفكري والفني والاجتماعي... وأصبحت قادرة على التعبير عن أدق ما في الكون من أفكار وعقائد ومصطلحات ومشاعر... ثم استحقت أن يختص بها كتاب الله دون غيرها من اللغات الأخرى...
فالكلمة في العربية ذات ظلال وإيحاءات كثيرة؛ وهي- أيضاً- ذات طبيعة علمية، إذ تعبر عن الحقائق كيفما كانت وفي أي اتجاه اتجهت... فكيفما قلبتها لبَّت لك ما تبتغي... وكأنها لا تنفد؛ بل كأن كلام الله تعالى الذي لا ينفد يصدق عليها في قوله سبحانه: (قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي، ولو جئنا بمثله مدداً( (الكهف 18/109).
فالكلمة في العربية تقوم على معانٍ نحوية وصيغ بلاغية لا نظير لها في اللغات الأخرى... وكلما تأمل فيها الباحث العارف والعالم بأسرارها وأدرك إشاراتها وغاياتها البعيدة والقريبة تأكد له ذلك...
وحين ننظر إلى مصطلح (الكلمة) ذاته نجد أن المصطلح في العربية يطلق عند اللغويين والأدباء والبلاغيين على اللفظ المفرد تارة، وعلى الجملة تارة أخرى، وقد يقال للقصيدة كلمة... كما يقال للكتاب كلمة...
فبلاغة تصميم الكلمة تنتظم التكيف والتهيؤ والتوافق مع التصميم الأولي للكون؛ في الوجود والنشأة؛ وفي التعبير عن الحق والحقائق، ومن ثم تغدو كلمة أدبية جمالية رفيعة... تملك من اللطائف البلاغية ما لا يمكن بلوغه كله... ولا يحيط به محيط.
وفي ضوء ذلك كله نقول: قد يتفق عدد من الناس مع ما قلناه؛ وقد يخالفنا عدد آخر... ولكننا سنشد العزم على توضيح مفهوم الكلمة العربية ثم الفصاحة؛ والبلاغة؛ ولا سيما أن أكثر الناس سلموا- منذ القديم- بمفهوم الكلمة باعتبارها الدلالي واختلفوا في تعريفها على نحو ما... ولو راجعنا ما قاله علماء العربية لوجدناهم لم يتفقوا على تصور واحد لها... فعلماء العربية نظروا إلى الكلمة من جهة شكلها المفرد الدال على معنى مرة، ومن الوجه التركيبي المؤلف نحواً وصرفاً مرة أخرى ثم باعتبارها البلاغي المرتبط بالفصاحة والبلاغة مرة ثالثة، ولكنهم قيدوا هذا الاعتبار حين وضعوا له شروطاً في حالة الإفراد وفي حالة التأليف...
فالكلمة عندهم- وفي طليعتهم سيبويه والمبرد- أساس الجملة والكلام؛ وهي لفظ دال على معنى مفرد؛ باعتبار أقسامها الثلاثة (الاسم والفعل والحرف)(1).
فالاسم: لفظ دال على معنى مفرد؛ غير مقترن بالزمان نحو زيد وشجرة... سواء كان اسم ذات أو اسم معنى... وعلامته صحة الإخبار عنه، أو تنوينه أو نداؤه أو جره بحروف الجر...
والفعل: لفظ دال على معنى في ذاته مقترن بالزمان- نحو: جاء زيد، وذهب عمرو؛ وقد يطلق الزمان ويتجدد كقولنا: بئس الكسول، ونعم المجد... وعلامته أن يقبل (قد أو السين أو سوف، أو تاء التأنيث الساكنة أو لن...).
والحرف: لفظ يدل على معنى في غيره لا في ذاته... نحو (هل- في – إنَّ- لم) وليس له علامة يتميز بها... وأقسامه ثلاثة:
1-حرف يختص بالاسم: نحو (حروف الجر، وحروف النواسخ:
إن وأخواتها).
2-حرف يشترك بين الاسم والفعل: كحروف العطف (و، أو، ف... ثم...) حروف الاستفهام (الهمزة- هل) وحروف النفي مثل ما، لا...).
3-حرف يختص بالفعل: نحو (حروف الجزم، وحروف النصب، وحروف الشرط (إذنْ- إذما)... (2).
ونظر علماء العربية إلى دراسة اللغة وأساليبها فما انفكوا يلتزمون بالكلمة ذاتها. فقد جعلها علماء النحو مادتهم في أبحاثهم، فعلم الإعراب لديهم يبحث في الكلمة المركبة وفق ما يقتضيه آخرها من تغير في الحركة أو ثبات فيها... وعلم الصرف عندهم يتوقف عند الأصول؛ ليعرف صيغة الكلمات وأحوالها فيما ليس بإعراب ولا بناء... لهذا كله فإن الكلمة مفردة ومركبة أساس علم النحو؛ وبه تعرف أحوال الكلمات العربية.
إن دراستنا تقوم على الكلمة المفردة والمركبة من جهة أحوالها البلاغية والدلالية معاً (أسلوباً ومضموناً)، وما تتركه من أثر في المتلقي... مما يجعلها تحتاج إلى علم النحو ومعانيه، لما يقدمه من عظيم الفائدة لعلم البلاغة؛ بل إن معاني النحو؛ هي البناء الأساسي لمعاني البلاغة...
لهذا سنسوق العديد من الآراء لمفهوم الكلمة من جهة أنها قيمة دلالية وجمالية وصوتية عند القدماء ثم نسوق بعض آراء المحدثين فيها شرقاً وغرباً، لنتبين قيمة ما لدينا.
فابن جني- مثلاً- بيَّن لنا اللغة والكلام والقول؛ فاللغة مجموعة أصوات للتعبير عن مقاصد القوم؛ والكلام كل "لفظ مستقل بنفسه مفيد لمعناه، وهو الذي يسميه النحويون الجمل... وأما القول فأصْلُهُ إن كان لفظاً مذل به اللسان تاماً كان أو ناقصاً، فالتام هو المفيد، أعني الجملة، وما كان في معناها، والناقص ما كان بغير ذلك... فكل كلام قول، وليس كل قول كلاماً"(3).
فابن جني سبق أصحاب اللسانيات الحديثة الذين فرقوا بين اللغة التي تكون استعداداً للبشر كلهم؛ بينما يكون للكلام وجه فردي واجتماعي متفاعلين كما قال دوسوسير، وتشومسكي.(4)
وكان سيبويه قد وقف عند ماهية الكلمة المفردة دون أن يعرفها، وكذلك فعل المبرد، بعد تقسيمها إلى الاسم والفعل والحرف، بينما قال ابن الحاجب: "حد اللغة كل لفظ وضع لمعنى"؛ و"الكلام هو اللفظ المركب المفيد بالوضع".(5) وقال الزمخشري: "اعلم أن الألفاظ التي يتهجى بها أسماء مسمياتها الحروف المبسوطة التي منها ركبت الكلم".(6)
فالكلمة بما تحمله من خصائص بنائية تؤدي وظائف صوتية ونحوية وصرفية ومن ثم تعبيرية وفنية... واتصالية... ولهذا عرفها الدكتور حلمي خليل بقوله: "الكلمة هي مجموعة من الوحدات الصوتية المؤلفة بطريقة معينة لكي ترمز للأشياء الحسية والأفكار المجردة."(7) ونحو هذا التعريف ذهب إليه الدكتور صلاح فضل.(8)
وهو بهذا التعريف يوفّق بين القدماء والمحدثين ولا سيما أصحاب اللسانية الغربية الحديثة... فاللغة عندهم مرتكزة على الكلمة والكلمة مجموعة أصوات (فونيمات)؛ بينما الجملة تمثل عدداً من الأصوات ذات الدلالة الإشارية... فالكلمة عند العالم الأمريكي (بلوم فيلد Bloom Field) "هي أصغر صيغة حرة"؛ على حين عرَّفها (ماثيسيس Mathesius) بأنها "أصغر وحدة صوتية متتابعة لا يمكن أن ترتبط بأي وحدات أخرى"، بينما قال (تُرنكا Trnka): إنها "عبارة عن وَحْدة يمكن إدراكها عن طريق الفونيمات (الصوائت phonemes) وهي قابلة للإبدال ولها وظيفة دلالية (semantic).(9)
فالكلمة من حيث هي صوت تحمل دلالة ما، وتتصف بجمالية معينة على مستوى اللفظ المفرد والمؤلف عند ابن سنان الخفاجي؛ فسبق بذلك الغربيين، ولكنه نظر إليها من جهة الفصاحة والبلاغة... فهي ذات ماهية خاصة على المستويين السابقين، فما تتخذه الكلمة في حالة الإفراد لا تتخذه في حالة التركيب النحوي المباشر وغير المباشر... وهي في نهاية المطاف (مبنىً ومعنىً)... إنها تتخذ لنفسها ماهية متعددة كتعدد السياق الذي تدخل فيه... ولهذا فهي تظهر وتُحذف، وتُقدَّم وتؤخر، وتقحم في مكان لا تقحم في غيره، ويُستعاض عنها بكلمة في مكان لا يمكن أن تقع كلمة أخرى في مكانها... فهي تتسم بخصائص فنية بنائية مستمدة من جنسها اللغوي الذي تنتمي إليه أولاً ومن صياغة حروفها في تقاليبها المميزة لعمق دلالتها وتنوعها ثانياً، ومن التركيب النحوي الذي تغدو جزءاً منه ثالثاً؛ ومن الاستعمال الحقيقي أو المجازي الذي تبنى عليه رابعاً، وقد تحدث عنه القدماء ثم دخل في الدراسات البلاغية عند المتأخرين.(10)
لذلك كله فالكلمة عند الإمام عبد القاهر أعظم بكثير مما انتهى إليه ابن سنان الخفاجي- على معاصرتهما- فقد تقدم خطوات كبرى في معالجة أصوات الكلمة عما انتهى إليه ابن فارس، وكذلك فعل في البنية الصرفية ودلالتها، وفي التركيب النحوي وثرائه الدلالي... فدرس علاقة التركيب بالدلالة الشعورية والفكرية؛ ونظر إلى بنية الكلمة ووظيفتها مفردة ومركبة وما تتركه من أثر في المتلقي... فكان رائداً للدراسة الأسلوبية بكل اتجاهاتها، وإن تطورت كثيراً عما هي عليه عنده.(11)
وقبل أن نتناول مسألة الفصاحة والبلاغة في اللفظ المفرد والمؤلف، وما قيل في شأنهما فيما يخص الكلمة، لا بد أن نضع تعريفاً لها نتصوره في ضوء ذلك. فالكلمة صوت دال على معنى ما يحدث في الآذان إيقاعاً معيناً؛ ويتصف بجمالية خاصة تترك أثرها في المتلقي. وهذا التعريف يفرض علينا القول:
"إن دلالة الكلمات ليست كلأ مباحاً، الكلمات أنظمة مفتوحة، الكلمات حرية؛ ولكل حرية قيود. بعض التعامل مع الكلمات أشبه بالثغرة، وبعض حرية الكلمات أقرب إلى الإضافة. لقد شعر المدققون بأن الكلمة يجب ألا تكون مطية لكل إنسان لا يلتزم بشرعية التمييز بين الأهداف والتسليم بهدف مشترك يدور في ظله بعض الخلاف".(12)
وإذا كان هذا الكلام يثير فينا الممارسة الحرة والمسؤولة فإنه يفرض علينا الحديث عن مسألة تأصيل الفصاحة والبلاغة لدى البلاغيين والنقاد العرب؛ لأنها مسألة لغوية بلاغية أسلوبية تبحث في الصوت والدلالة والأثر. ولعلنا ندرك في ضوء ذلك وفي ضوء ما يأتي من دراستنا أن الكلمة ليست عند العرب مجرد إشارة منفصلة عما تشير إليه؛ بل هي منذ القديم مرتبطة بنظام معياري معين وربما ينزاح عن تلك المعيارية إلى اتجاهات بلاغية مثيرة... ومن هنا فإننا نعترض على ما قاله أحد الباحثين من أن "الكلمات في الاصطلاح القديم في الشرق والغرب جميعاً إشارات منفصلة عما تشير إليه، وعلى عكس ذلك الكلمات في الفكر الحديث رموز أو أدوات ذهنية للتفكير"(13)، فأساليب البلاغة وعلومها- على تطورها- ملتزمة بدلالتها الاصطلاحية ولا تنفك منها...
وسيتضح لنا أيضاً أن البلاغة العربية لم تكن "ترى الأفكار الخارجية تطفو على سطح القصيدة، أو ترى هذه الافكار متميزة ثابتة في كل مكان، أو ترى القصيدة تعكس عاطفة شخصية من رغب ورهب وطرب"(14). وتبقى محايدة في التعبير عن ذلك.. إننا نرى أن البلاغة لدى القدماء كانت إرهاصاً لكثير من مفاهيم النقد الحديث؛ وما ظهر فيه من ملامح البلاغة الجديدة، على اختلاف المنهج والرؤية. وإذا كان منهج البحث العلمي يفرض علينا بيان مفهوم البلاغة والفصاحة فإن التدرج التاريخي- على أهميته- لن يقيدنا في ذلك... ومن هنا سنبدأ بإجلاء ما يتعلق بالمفهوم اللغوي والاصطلاحي للفصاحة والبلاغة في الكلمة والجملة... ومن ثم نتوقف عند شروط فصاحة اللفظ المفرد والمؤلف كما وردت عند ابن سنان الخفاجي- غالباً- في كتابه (سر الفصاحة)، دون أن نهمل الإشارة إلى المتأخرين الذين أخذوا منه كالسكاكي والقزويني وابن الأثير... وكلهم حاولوا التوفيق بين ما اقتفوه من طريقة الإمام عبد القاهر الجرجاني؛ وبين ما وجدوه عند ابن سنان الخفاجي. ورأوا في الفصاحة أنها مطابقة مقتضى الحال؛ وهو ما عبر عنه الإمام عبد القاهر بتوخي معاني النحو، ولكنهم فصلوا على نحو ما بين الفصاحة والبلاغة... وهذا غير قادح لما ذهب إليه الإمام...
أما ما يتعلق بالمتقدمين عليه كالجاحظ وابن قتيبة والمبرد وأبي هلال العسكري... أو بمعاصريه كابن رشيق فإن البحث سيشير إلى ما ذهبوا إليه وتبنوه من مفاهيم.
2-مفهوم الفصاحة والبلاغة
انطلق العرب القدماء في درسهم اللغوي للفصاحة والبلاغة من مفهوم تنظيري ذوقي، ومن ثم مارسوه تطبيقاً عملياً في الكلمة المفردة والمؤلفة قبل أن يعرفوا مرحلة الترجمة عن الثقافة اليونانية... وكان النص الذي يشتمل على الكلمة أساس توجيههم إلى دلالتها المباشرة وغير المباشرة...
وحين نشأت نظرات بلاغية فطرية في العصر الجاهلي ثم تطورت في العصور التالية كان النص وحده صاحب السيادة في التحليل؛ فتوقفوا عند الدلالة الحقيقية والدلالة المجازية... وأدركوا أن هذه الكلمة أفصح من تلك في هذا الموضع دون ذاك؛ علماً أن العرب يتميزون بسليقة فطرية ذات قدرة عالية على براعة الكلم حتى قال (صلى الله عليه وسلم):" أنا أعربكم: أنا من قريش، ولساني لسان بني سعد"؛ أي أفصحكم؛ وقال [ عليه السلام] [أُعطيت جوامع الكلم، واختصر لي الكلام اختصاراً].(15)
ولعل الدرس البلاغي للفصاحة والبلاغة وغيرهما يدين بالفضل للدراسات القرآنية... واللغوية في وقت واحد؛ ومن ثم تطور على يد من تأثر بالثقافة اليونانية... وانتهى إلى تقعيد سافر؛ ذهب ببهاء الذوق البلاغي والنقدي واللغوي المرهف والواعي الذي سما به الإمام عبد القاهر الجرجاني (ت 471هـ)، بينما أضرَّ به كثيراً ابن سنان الخفاجي (ت 466هـ)، ومن حذا حذوه كالسكاكي في تقنينه بقواعد صارمة.
فابن سنان تحدث مطولاً عن فصاحة الكلمة وبلاغتها باعتبارها المفرد المُوَقَّع الدال على معنى، وباعتبارها المؤلف وحدد لهما شروطاً خاصة... ظلت مدار الباحثين بعده؛ وإن كان هو قد استمدها ممن سبقه، وأطَّرها في أشكال محددة.
وهذا ما سنكشف عنه فيما بعدُ؛ إذ اتضح لنا أن للفصاحة مفهوماً لغوياً واصطلاحياً؛ وقد استعمل في اللغة قبل استعماله في النقد والبلاغة؛ وتعددت معانيه في ذلك كله. ومما جاء في اللسان (فَصح) أن الفصاحة- في اللغة-: البيان. فصُح الرجل فصاحة فهو فصيح من قوم فُصحاء وفِصاح وفُصْح، وامرأة فصيحة من نسوة فِصاح وفَصائح. ورجل فصيح وكلام فصيح، أي بليغ، ولسان فصيح: طَلْق.
وأفْصح يُفصِح إفصاحاً: أبان وأوضح... وفَصُح الأعجمي فَصاحة: تكلم بالعربية وفُهم عنه... وتفَصَّح: تكلَّف الفصاحة... والفصيح في كلام العامة: المُعَرَّب. والفصيح في اللغة: المنطلق اللسان في القول، الذي يعرف جيد الكلام من رديئه.
وبهذا فإن الفصاحة- في الاصطلاح- تعني الإبانة والظهور والإيضاح والبراعة والبلاغة في اللفظ المفرد والمؤلف...(16)
وقيل: جميع الحيوان ضَرْبان: أعجم وفصيح، فالفصيح كل ناطق، والأعجم كل ما لا ينطق. وقال الجاحظ: "الفصيح هو الإنسان، والأعجم كل ذي صوت لا يفهم إرادته إلا ما كان من جنسه."(17) وبذلك فسر قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): [غفر له بعدد كل فصيح وأعجم].(18)
فالأعجمي في ضوء ذلك من لا يفصح في كلامه، ولا يفهمه أقوام آخرون حتى غدا الفصيح معادلاً لكلمة عربي، والعجمي مقابلاً للعربي بينما يقال الأعجمي للسان غير العربي.
فالفصاحة ملكة يقتدر بها على التعبير عن المشاعر والحاجات... وهي لذلك تمام آلة البيان.
ويعد الجاحظ أول من قصَر مفهوم الفصاحة على العرب على اعتبار أنهم أفصح من غيرهم؛ في الوقت الذي يكون أحدهم أفْصح من الآخر؛ كما يستفاد من كلمة لأبي بكر (رضي الله عنه) حين جعل النبي أفصح العرب: [لقد طفت في العرب وسمعت فصحاءهم فما سمعت أفْصح منك](19). لكن بعض المتأخرين عنه حصر الفصاحة في العرب دون غيرهم من الأمم كالنويري (ت 733هـ) في قولـه: "ولا توجد الفصاحة إلا في العرب" بينما البلاغة لهم ولغيرهم.(20) وقال يحيى بن حمزة العلوي (ت 749هـ) في كتابه (الطراز): "اعلم أن الفصاحة في الألفاظ المفردة يجب أن تكون مختصة بخصائص: الخاصة الأولى؛ أن تكون اللفظة عربية قد تواضع عليها أهل اللغة؛ لأن الفصاحة والبلاغة مخصوصان بهذا اللسان العربي دون سائر اللغات من الفارسية والرومية والتركية، فلا مدخل لهذه الألسنة في فصاحة وبلاغة"(21).
ونرى أن الفصاحة ليست ملكاً لأمة دون أمة؛ وإن كانت تقع لفرد دون فرد؛ ويقع الفرق فيها في الأحسن والأبرع والأكثر إثارة وجمالاً... ويؤكد هذا قولـه تعالى: (وأخي هارون هو أفصح مني لساناً( (القصص 28/34). وإذا كانت كلمة (أفصح) هي الكلمة الوحيدة في القرآن الكريم من مفردات الفصاحة، فإن الآية تثبت وجودها في أمم أخرى غير العرب... ولكن العربية في طبيعتها ومفرداتها وأساليبها التي انتهت إلينا، وفي إطار ما عرفناه من لغات الآخرين تدل على أنها "أوسع مناهج؛ وألطف مخارج؛ وأعلى مدارج؛ وحروفها أتم، وأسماؤها أعظم، ومعانيها أوغل، ومعاريضها أشمل، ولها هذا النحو الذي حِصَّتُه منها حِصَّة المنطق من العقل. وهذه خاصة ما حازتها لغة على ما قرع آذاننا، وصحب أذهاننا من كلام أجناس الناس؛ وعلى ما ترجم لنا أيضاً من ذلك".(22)
وهذا ما نلمحه عند ابن الأثير (ت 637هـ) في قوله: "فإن كل لغة من اللغات لا تخلو من وصفي الفصاحة والبلاغة المختصين بالألفاظ والمعاني؛ إلا أن للغة العربية مزية على غيرها، لما فيها من التوسعات التي لا توجد في لغة أخرى سواها"(23).
بهذا كله قد نكون أوضحنا مفهوم كلمة الفصاحة التي تعني البيان والظهور والبلاغة في الكلام وعند القائل، وفي صفة الأشخاص كما يوضحه قول عبد الله ابن رواحة في مدح النبي الكريم:
لو لم تكن فيه آياتٌ مُبَيَّنةٌ
كانت فصاحتُه تنبيك بالخبر
وقد بيَّنا في الوقت نفسه أنها ملازمة لكلمة البلاغة التي دار معناها غالباً على معاني الفصاحة عند كثير من البلاغيين القدامى... حتى أصبحتا صنوين في الدراسات البلاغية عند كثير منهم... ثم أخذوا يفرقون بينهما فيما بعد...
ولعل الدرس البلاغي في التفريق بينهما قد أفاد كثيراً من الدراسات التي بدأت تظهر لخدمة القرآن الكريم؛ ابتداء من كتاب (معاني القرآن) للفراء (ت 206هـ) وكتاب (مجاز القرآن) لأبي عبيدة (ت 210هـ)، وكتاب (نظم القرآن) الذي لم يصل إلينا حتى الآن للجاحظ (ت 255هـ).
أما ما وصل إلينا من كتب الجاحظ فكلها تؤكد أنه لم يضع حداً فاصلاً بين الفصاحة والبلاغة على الرغم من أنه ساق جملة من تعريفات البلاغة في كتابه (البيان والتبيين)، ولم يُعرّف البلاغة، وكأنه ارتضى بتعريف ابن المقفع لها بعد قولـه: "لا يكون الكلام يستحق اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه، ولفظُه معناه، فلا يكون لفظه إلى سمعك أسبق من معناه إلى قلبك" ثم أورد تعريف ابن المقفع لها حين سئل: "ما البلاغة؟ قال: البلاغة اسم جامع لمعانٍ تجري في وجوه كثيرة"(24). وعلى الرغم من ذلك فالفصاحة لديه مرتبطة بسلامة النطق وصحة مخارج الألفاظ، ونقاء اللغة.
وكذلك كان ابن قتيبة (ت 276هـ) فلم يشر إلى الفصاحة، وتوقف كالجاحظ عند قضية اللفظ والمعنى، واتفق معه على أن الألفاظ أحق بالرعاية والاهتمام وإن لم يهمل العناية بالمعاني؛ ولكنه نحا بدراسة الألفاظ والأبنية منحىً تطبيقياً جاعلاً النص الأدبي مدار حديثه في ضوء أشعار بعينها في
كتابه (الشعر والشعراء) ثم اتجه بها اتجاهاً بلاغياً في كتابه (تأويل مشكل القرآن).(25)
ولو تتبع المرء ما كتبه القدماء كالمبرد (ت 285هـ) في كتابه (الكامل في اللغة والأدب) وغيره، وثعلب (ت 291هـ) في كتابه (قواعد الشعر) وابن المعتز (ت 296هـ) في كتابه (البديع) لما ظفر بشيء واضح ودقيق يفرق بين الفصاحة والبلاغة. كما أن الفصاحة ظهرت مرادفة للبلاغة عند قدامة بن جعفر (ت 338هـ) في كتابه (نقد الشعر)؛ بل لم تأخذ المعنى الدقيق عند إمام البلاغيين عبد القاهر الجرجاني (ت 471هـ) فضلاً عن أنه لم يرَ في أسلوب المجاز فصاحة ولا هو رأس البلاغة عنده كما في كتابه (أسرار البلاغة)، بل لم يختلف مفهومهما عند بعض المتأخرين كالرازي (ت 606هـ) في كتابه (نهاية الإيجاز) والقرطاجني في (منهاج الأدباء).(26)
ومن هنا يفرض البحث علينا أن نتبين معنى البلاغة قبل أي شيء آخر لغة واصطلاحاً لإدراك حقيقة الأمر. فالبلاغة- لغة-: الانتهاء والوصول، وبلغ الشيء يبلغه بلوغاً وبلاغاً: وصل وانتهى، وتبلَّغ بالشيء: وصل إلى مراده. والبلاغ: ما يُتَبَلَّغ به؛ ويُتَوَصَّل إلى الشيء المطلوب، والبلاغ: ما بلغك. والإبلاغ: الإيصال... بلغت المكان بلوغاً: وصلت إليه... والبَلْغ والبِلْغ: البليغ من الرجال، ورجل بليغ: حسن الكلام فصيحه؛ يبلغ بعبارة لسانه كنه ما في قلبه، والجمع بُلَغَاء(27) وقيل: البلاغة: الفصاحة.
ولذا لم يتفق الناس على مفهوم البلاغة؛ فقيل: "للفارسي: ما البلاغة؟ قال: معرفة الفصل من الوصل، وقيل لليوناني: ما البلاغة؟ قال: تصحيح الأقسام، واختيار الكلام. وقيل للرومي: ما البلاغة: قال: حسن الاقتضاب عند البداهة، والغزارة يوم الإطالة. وقيل للهندي: ما البلاغة؟ قال: وضوح الدلالة، وانتهاز الفرصة، وحسن الإشارة"(28).
ثم يسوق الجاحظ جملة من الأقوال التي تدل على اتساع مفهوم البلاغة تبعاً للمقام ومقتضى الحال؛ فأثبت أنها الإيجاز، أو الانطلاق بالكلام على الفطرة، أو أن تجيب فلا تبطئ وتقول فلا تخطئ...
وإذا كان مقام البحث لم يوضع لهذا الجانب يمكنه أن يلم ببعض الآراء اللازمة لـه... فالبلاغة تقع- في مفهومنا- على الشخص وعلى الكلام نفسه، فنقول: رجل بليغ وكلام بليغ، والبلاغة لكليهما، وهي الفصاحة للقائل؛ وهي الكلام البديع المؤثر المفيد الصائب في موضوع لغته المطابق لمعناه المقصود حقيقة ومجازاً، الصادق في ذاته، المطابق لمقتضى الحال والمقام.
وإذا كان الزمخشري قد ذهب إلى أن بلاغة الكلام المؤثر تتجه اتجاهاً نفسياً(29) فإن الراغب الأصبهاني يجريه على القائل وعلى الكلام ذاته حين فسر قولـه تعالى: (وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً( (النساء 4/63). وذهب في تفسيره لكلمة بليغ إلى وجهين:(30)
1- الكلام بذاته بليغ لأنه صواب في لغته، مطابق لمعناه المراد منه، وصادق في طبيعته ومضمونه؛ وإذا فقد إحدى هذه الصفات كانت بلاغته ناقصة.
2- الكلام بليغ باعتبار قائله والمقول له... فالقائل يورد أمراً على وجه يقبله المقول له..(31)
وكان عمرو بن عبيد (ت 144هـ) قد فسر البلاغة تفسيراً دينياً فقال:ما بلغ بك الجنة وعدل بك عن النار، وما بصَّرك مواقع رشدك وعواقب غيّك(32)
أما أبو هلال العسكري (ت 395هـ) فقد عرَّفها بقوله: البلاغة كل ما تبلغ به قلب السامع فتمكنه في نفسه؛ كتمكنه في نفسك، مع صورة مقبولة ومعرض حسن.
يذهب أبو هلال إلى أن البلاغة من صفة الكلام لا من صفة المتكلم؛ بدليل أنه لا يجوز أن نصف الله بقولنا: الله بليغ؛ ووصف الرجل بأنه بليغ إنما يكون على التوسع.
واتجه أبو هلال العسكري إلى إثبات رأيين للفصاحة والبلاغة معاً:
الأول: تَرْجِعُ الفصاحة والبلاغة إلى معنى واحد؛ فكل منهما للإبانة عن المعنى والإظهار له.
الثاني: الفصاحة والبلاغة مختلفتان، فالفصاحة من تمام آلة البيان؛ مما يجعلها مقصورة على اللفظ، والبلاغة إنما هي إنهاء المعنى إلى القلب، فهو مفهوم مقصور على المعنى. ولا شيء أدل على ذلك عنده من أن الببغاء يسمى فصيحاً ولا يسمى بليغاً، وليس له قصد إلى معنى يؤديه... ومن هنا نفذ إلى حديث بديع عن النظم المستمد من ماهية فصاحة اللفظ وبلاغة المعنى.(33)
ولا يشك أحد في أن ابن سنان الخفاجي قد أفاد من أبي هلال العسكري حين قرر أن الناس قد اضطربوا في كُنْه الفصاحة والبلاغة ثم رأى أن "الفصاحة مقصورة على اللفظ، والبلاغة لا تكون إلا وصفاً للألفاظ مع المعاني... وكل كلام بليغ فصيح، وليس كل فصيح بليغاً."(34) ثم وضع شروطاً لفصاحة اللفظ المفرد، وفصاحة اللفظ المؤلف حتى يغدو بليغاً، وتابعه فيها عدد من البلاغيين بعده، فقال القزويني- مثلاً-: "والبلاغة في المتكلم ملكة يُقْتدر بها على التعبير عن المقصود بلفظ فصيح والبلاغة في الكلام مطابقته لمقتضى الحال مع فَصاحته"(35).
إننا لنلحظ أن هناك اتجاهين اثنين في تفسير البلاغة والميل بها إلى فصلها عن الفصاحة، اتجاهاً ينطلق من القرآن ويفسرها تفسيراً دينياً؛ ومن ثم يقدم في إطاره بحثاً لغوياً، وأسلوبياً رفيعاً يضاهي به الدراسات اللسانية والأسلوبية الحديثة كابن قتيبة والزمخشري؛ واتجاهاً آخر يفسرها تفسيراً أسلوبياً صرفاً بعد أن أفاد من أسلوب القرآن، واعتمد فيه على اللغة في سياقها النصي، وعلى الذوق المرهف والنزعة الوجدانية المتأصلة في النفس العربية، ويمثله الجاحظ وابن سنان الخفاجي وعبد القاهر الجرجاني... وغيرهم...
ولعل هذا كله كان وراء عدم وجود تعريف جامع مانع للبلاغة عند العرب؛ وهذا ما توصل إليه ابن خلدون في مقدمته إذ قال: "ليس في تعريف القدماء ما يعطي صورة واضحة للبلاغة."(36) فهناك كثير من التعريفات لها عندهم ذكرنا شيئاً منها؛ وعرض لعدد كبير منها صاحب كتاب (التفكير البلاغي عند العرب) الذي رأى أن كثيراً منها لا يحقق الشروط الدنيا للمعنى المنطقي الاصطلاحي وإن توافر فيها جملة من الخصائص الأسلوبية المستمدة
من النص... وقد قرر أن البلاغة لم تخرج عن معناها اللغوي (الفصاحة والإبانة).(37)
أما تعريف البلاغة عند اليونان فقد كان واضحاً، واتجه ثلاثة اتجاهات من جهة الهدف؛ فإذا كان هدفها أصول الكلام الرفيع الذي يقتضي الإفهام والتصرف وتأكيد الاعتقاد والإقناع فهي (فن الكلام الرفيع)؛
وإذا كان هدفها الكشف ضمن الخطابات المتعددة، عن الطرق القابلة للتعليم وإيصالها إلى الآخرين بحالات مختلفة فهي (تعليم فن الخطابة)؛
وإذا كان هدفها "دراسة الخطاب ليس لاستعماله ولكن لفهمه" من جهة أنها تفسيرية لا معيارية فهي (نظرية الخطاب المقنع).(38)
ومن هنا قد يكون الفارق الحضاري اللغوي والفني والفكري سبباً في بروز الفرق في الدرس البلاغي بين العرب وبين اليونان.. ويؤكد ذلك اتصال الدرس البلاغي في مستوياته كلها ونتائجه بالدرس اللساني واللغوي الغربي الحديث.
وقد رأى منذر عياشي أن هناك تعريفين لدى العرب يقتربان من تعريفات اليونان؛ تعريف ابن المقفع ويقول فيه: "البلاغة كشف ما غمض من الحق في صورة الباطل" وتعريف خالد بن صفوان، ويقول فيه: "البلاغة إصابة المعنى والقصد في الحجة".(39)
ولا بأس أن نقرر هنا ما قرره ابن عبد ربه في تعريفها "البلاغة هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته ومقام الكلام عند تفاوته."(40) "ذلك أن هذا القول إنما هو تعريف لغوي ولساني لعمل الأسلوب في انسجامه مع السياق المعبر عنه، ومراعاته للمتغيرات عند تفاوت أصناف الخطاب ومستويات المتكلمين".(41)
وبذلك كله فإن الدرس البلاغي عند العرب ظل منشداً إلى الدراسات الإعجازية في القرآن وإلى الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية القائمة على الشعر العربي وبيان خصائصه...
وما أحرانا نحن العرب- اليوم- أن نتمسك بمنهج القدماء ورؤيتهم، وإن انفتحت أعيننا على الدرس الغربي الذي أخلص لتراثه البلاغي وغيره. فاللغة العربية متفردة بما تملكه من خصائص ذاتية، وأساليب بلاغية وتبرز طاقات هائلة من الإشارات والإيحاءات البلاغية والجمالية.. وتؤكد نصوصها الأدبية مستويات أسلوبية رفيعة لا توجد في أي نصوص أجنبية..
ومن ثم فإن التصور البلاغي عند العرب إنما هو نتيجة لما يمتلكونه من نصوص كثيرة ومتنوعة دينية وأدبية ولغوية... وهي نصوص معرفية تعبر عن مجمل قضاياهم بل تفكيرهم وحضارتهم... وهي التي كانت وراء عدم وجود تعريف بلاغي شامل لمفهوم البلاغة.
وإذا كانت أي حضارة تلتقي مع أختها في بعض العموميات فإن (لكل حضارة مكوناتها الخاصة). وهذا يجعلنا نؤمن بلا أدنى شك بأن الدرس البلاغي عند العرب القدماء كان درساً متميزاً، وسبق في كثير من قضاياه ما عرفته الدراسات الحديثة اللسانية والأسلوبية وفي طليعتها البنيوية.(42)
وبعدُ، فإن الدراسة البلاغية النصية عند العرب اعتمدت على الأبيات المفردة حتى مجيء الباقلاني (ت 401هـ) وابن شرف القيرواني (ت 460هـ) فدرسا النص كاملاً منطلقين في ذلك من التأثر بالنص القرآني... فقد كانت الدراسات القرآنية سابقة في هذا المجال، وقد قامت على النص الكامل لا الأبيات المفردة... وكلاهما تناول شعر امرئ القيس عامة ومعلقته خاصة ووازن بينها وبين النص القرآني... وما يعاب على الباقلاني أنه انحاز مقدماً إلى أسلوب القرآن، ولذلك أجحف في كثير من الأحكام بحق امرئ القيس.
ومهما كان من انحراف المنهج عند الباقلاني فقد سبق في دراسته للنص المتكامل ما عرف لدى الغربيين بالدراسة النصية... واستطاع أن يتوقف عند كثير من الأساليب البلاغية اللافتة للنظر؛... وكأنه في ذلك يحذو حذو أبي عبيدة وابن قتيبة في دراسة النص الكامل ممثلاً في القرآن الذي كان وحده سبيل الدراسة لديهما...(43)
فإذا ما أتى عبد القاهر الجرجاني وجدنا الدراسة البلاغية تقوم على النص القرآني الكامل والنص الأدبي واللغوي.. لتقدم نظرات رائعة في إطار الأساليب البلاغية تنظيراً وتطبيقاً سبق بها أصحاب الدراسات الحديثة...
وهنا يتوقف بنا المقام لئلا نخرج في بحثنا عن تعريف البلاغة وأساليبها لنؤكد من جديد أن أي واحد من هؤلاء لم يضع تعريفاً نظرياً للبلاغة أو الفصاحة وإن مارسوها عملياً في أبحاثهم؛ ويظل ابن سنان الخفاجي فرداً في ذلك حين سعى جاهداً إلى وضع حدود للفصاحة والبلاغة؛ فالفصاحة في اللفظ المفرد؛ والفصاحة والبلاغة في اللفظ المؤلف. وهذا ما نتبينه فيما يأتي.
[/align]