الموضوع
:
الشعر الصوفي و أدب التصوف
عرض مشاركة واحدة
28 / 12 / 2007, 40 : 02 AM
رقم المشاركة : [
2
]
هدى نورالدين الخطيب
مديرة الموقع المؤسس - إجازة في الأدب ودراسات عليا في التاريخ - القصة والمقالة والنثر، والبحث ومختلف أصناف الأدب - مهتمة بتنقيح التاريخ - ناشطة في مجال حقوق الإنسان
بيانات موقعي
اصدار المنتدى
: مدينة حيفا - فلسطين ( فلسطينية الأب لبنانية الأم) ولدت ونشأت في لبنان
التصوف والأدب 2
[frame="15 10"]
وتشيد ميمونة السوداء بالعارفين السالكين الذين يحبون الله ويسلكون في تجلدهم الروحاني مقامات وأحوالا من أجل الاتحاد بالله ومعانقته والاتصال بجبروته وقدسيته النوارنية:
قلوب العارفين لها عيون
ترى ما لا يراه الناظروما
وألسنة بسر قد تنــــاجي
تغيب عن الكــــرام الكاتبينا
وأجنحة تطير بغــير ريش
إلى ملكــــوت رب العالمينا
فتسقيها شراب الصدق صرفا
وتشرب من كؤوس العارفينا
[i]
ويعد الحلاج من كبار الصوفية الذين تغنوا بالذات الربانية ، وقد استطاع أن يبرهن على وجود الله اعتمادا على التجلي النوراني والمحبة الروحانية التي يعجز عن إدراكها أصحاب الظاهر والحس المادي:
لم يبق بيني وبين الحق اثنان
ولا دليـــل بآيات وبرهان
هذا وجودي وتصريحي ومعتـقدي
هذا توحد توحيدي وإيماني
هذا تجل بنور الحق نائره
قد أزهرت في تلاليها بسلطان
لايستدل على الباري بصنعته
وأنتــــم حدث ينبي عن أزمان
ويزور الحلاج حبيبه في الخلوات ويذكره سرا وجهرا، ويدركه بالقلب الوجداني في الحضور والغياب قربا وبعدا، ويفهم جيدا كلمات الرب من خلال تجلياته النورانية وحضرته القدسية واللدنية:
لي حبيب أزور في الخلوات
حاضر غائب عن اللحظات
ماتراني أصغي إليه بسمع
كي أعي ما يقول من كلمات
كلمات من غير شكل ولا نط
ــق ولا مثل نغمة الأصوات
فكأني مخاطب كنت إيا
ه على خاطري بذاتي لذاتي
حاضر غائب قريب بعيد
وهو لم تحوه رسوم الصفات
هو أدنى من الضمير على الو
هم وأخفى من لائح الخطوات
بيد أن الحلاج يسقط في فكرة الحلول والتي تعني حلول اللاهوت في الناسوت، وتذكرنا هذه الفكرة الصوفية بالمعتقد المسيحي الذي يؤكد الطبيعة الثنائية للمسيح. وقد أودت هذه الفكرة بمتصوفنا إلى الصلب والإعدام حينما خرج إلى الناس وهو يقول: أنا الله أو أنا الحق، وما في جبتي إلا الله، وفي هذا يقول الحلاج:
سبحان من أظهر ناسوته
سر سنا لاهوته الثاقب
ثم بدا لخلقه ظاهرا
في صورة الآكل والشارب
حتى لقد عاينه خلقه
كلحظة الحاجب بالحاجب
وفي موقع آخر يؤكد هذه الحلولية بقوله الشعري:
مزجت روحك في روحي كما
تمزج الخمرة بالماء الزلال
فإذا مسك شيء مسني
فإذا أنت أنا في كل حال
ويقول أيضا:
أنا من أهوى، ومن أهوى أنا
نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته
وإذا أبصرته أبصرتنا
وهذه الشطحات الصوفية هي التي دفعت المستشرقين إلى ربط التصوف الفلسفي بالمؤثرات الخارجية بعيدا عن القرآن والسنة، إذ أرجعوا التصوف الإسلامي إلى مصادر خارجية كالمسيحية واليهودية و الفارسية والبوذية والأفلاطونية المحدثة.
و من جهة أخرى، يلقى الصوفية في مسالكهم الوجدانية ومقاماتهم أنواعا من البلاء والمحن خاصة أثناء خلوتهم الروحانية التي تستلزم الصبر والتجلد والفقر والمعاناة والضنى من أجل لقاء الله والاتصال بهحضرة وتجربة وانكشافا كما في هذين البيتين للشاعر العباسي أبي الحسن النوري:
كم حسرة لي وقد غصت مرارتها
جعلت قلبي لها وقفا لبلواك
وحق ما منك يبليني ويتلفني
لأبكينك أو أحظى بلقياك
[ii]
ويعد ذو النون المصري أول من تحدث عن الأحوال والمقامات الصوفية إلى جانب السري السقطي، وهو حسب شوقي ضيف:" الأب الحقيقي للتصوف، هو أول من تكلم عن المعرفة الصوفية فارقا بينها وبين المعرفة العلمية والفلسفية التي تقوم على الفكر والمنطق، على حين تقوم المعرفة الصوفية على القلب والكشف والمشاهدة، فهي معرفة باطنة تقوم على الإدراك الحدسي، ولها أحوال ومقامات" .
[iii]
وإليكم أبيات ذي النون المصري وهو يناجي ربه روحانيا:
أموت وما ماتت إليك صبابتي
ولا قضيت من صدق حبك أوطاري
تحمــــــــــل قلبي ما لا أبثه
وإن طال سقمي فيك أوطال إضراري
أما ابن العربي فيقول بوحدة الوجود الناتجة عن تجاوز ثنائية الوجود: وجود الله ووجود الكون، فعن طريق امتزاجهما في بوتقة عرفانية واحدة تتحقق الوحدة الوجودية بين العارف والذات الربانية، كما يؤمن ابن عربي بتعدد الأديان مادامت تنصب كلها على محبة الله واستجلاء ملكوته روحانيا:
عقد الخلائق في الإله عقائدا
وأنا اعتقدت جميع مااعتقدوه
وقال ابن عربي أيضا:
لقد صار قلبي قابلا كل صورة
فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت
ركائبه فالحب ديني وإيماني
ومن الشعراء الذين اشتهروا بالكتابة الصوفية ابن الفارض المصري الذي عاش ما بين القرن السادس والسابع الهجري( 576هـــ- 632هـ )،وتأثر بالتجربة الصوفية للسهروردي. وكتب عدة قصائد صوفية من أشهرها تائيته الكبرى وكافيته التي يتغزل فيها بالذات الربانية مبديا لواعجه وتشوقه إلى الحضرة الربانية كاشفا عواطفه الصادقة ولهفته لرؤية الله :
ابــــق لي مقلـــة لعلــي يومـــــــا
قبل مـــوتي أرى بها من رآكا
أين مني مارمت؟ هيهات بل أيـــ
ن لعيـــني باللحــــظ لثم ثراكا
وبشيري لو جاء منك بعطف
ووجودي في قبضتي قلت هاكا
قد كفى ماجرى دما من جفون
لي قرحي! فهل جرى ما كـفاكا
فانا من قلاك فيــــــــك معنى
قبل أن يعرف الهــــوى يهـــواكا
بانكساري بذلتي بخضوعي
بافتقـــــاري بفـــاقـــتي لغنــــــاكا
لاتكلــــني إلى قوى جلد خا
ن ، فإني أصبحــت من ضعــفاكا
كنت تجفو وكان لي بعض صبر
أحسن الله في اصطباري عزاكا!
كم صدود عساك ترحم شكوا
ي، ولو باستماع قولــي عساكا!
شنّع المرجفون عنك بهجري
وأشاعـــــوا أني سلـوت هــــواكا
ما بأحشائهم عشقت، فأسلو
عنــــــك يوما. دع يهجر حاشاكا
كيف أسلو ؟ ومقلتي كلما لا
ح بريـــــق تلفتت للقـــــــــــــاكا
كل من في حماك يهواك لكن
أننــــــا بكــــــل مـــن في حماكا
ومن مميزات الشعر الصوفي القديم السمو الروحي، واستكناه المعاني النفسية العميقة ، والخضوع لإرادة الله القوية، والإكثار من الخيال ، واستعمال الرمزية والشطحات الصوفية، والجنوح نحو الإبهام والغموض، والتأرجح بين الظاهر والباطن، والتأثر بالشريعة الإسلامية كما هو شأن التصوف السني ، وتمثل المصادر الفلسفية والعقائد الأجنبية كما هو حال الشعر الصوفي الفلسفي.
أ-
االأدب الصوفي الحديث:
إذا كان الكثير من المتصوفة هم الذين كتبوا الأشعار الصوفية في محبة الله وفنائه في الشعر العربي القديم، ففي العصر الحديث نجد الشعراء هم الذين دبجوا تجارب صوفية في قصائد ذاتية وجدانيةكما في القصائد الرومانسية عند عبد الكريم بن ثابت في مصنفه الشعري :" ديوان الحرية" الذي قدم فيه الشاعر رحلات صوفية وجدانية يقوم بها الشاعر السالك المسافر بتعراجه في السماء ، وهو في حالة سكر وانتشاء، ولا يعود إلى وعيه إلا مع فترة الصحو ويقظة اللقاء والوصال. ولابد أن نذكر شاعرا رومانسيا آخر أبدع الكثير من القصائد الصوفية ألا وهو: الشاعر المصري محمود حسن إسماعيل كما في ديوانه الشعري:" قاب قوسين" الذي يقول فيه معبرا عن حالة الكشف الصوفي والتجلي الرباني:
مزقي عن وجهــــك اليانع، أسمال القنــاع
وارفعي الستـر، بلا خوف على أي متــاع
زادك النور، وفي دربك ينبـــوع الشعــاع
فانفذي...فالسر إن سرت على قيــد ذراع
واصرعي الموج، ولو أقبلت من غير شراع.
[iv]
ب-
الشعر الصوفي المعاصر:
مع انطلاق الشعر العربي المعاصر أو ما يسمى بشعر التفعيلة منذ منتصف القرن العشرين، بدأ الشعراء يشغلون التراث في شعرهم على غرار تجربة إليوت في ديوانه "أرض اليباب" ، حينما اتكأ على الموروث الأسطوري لنعي الحضارة الغربية وإعلان إفلاسها.
واقتداء بإليوت، غدا الشعراء العرب المعاصرون يوظفون التراث الأسطوري والتاريخي واستخدام الأقنعة الدينية والفنية والأدبية والصوفية، وتشغيل الرموز المكانية والطبيعية واللغوية من أجل خلق قصيدة الرؤيا والانزياحالتي تتجاوز طرائق الاجترار والامتصاص والاستنساخ في التعامل مع التراث إلىطريقة الحوار والتناص قصد خلق تعددية صوتية تحيل على المعرفة الخلفية للكاتب ومرجعياته الثقافية وسمو حسه الشعري، وجمعه بين المتعة والفائدة في شعره.
وقلما نجد شاعرا عربيا معاصرا يكتب شعر التفعيلة أو الشعر المنثور بدون أن يوظف التراث أو يشغل الكتابة الصوفية أو يستلهم الشخصيات الصوفية أو يستعمل تعابير المعرفة اللدنية أو يستحضر مقتبسات المتصوفة والوعاظ أو ينحو منحاهم في التخييل والتجريد واستعمال الرموز و الاستعانة برشاقة الأسلوب وتلوين النصوص الشعرية بنفحات الدين والعرفان الباطني.
هذا، وإن استعارة" الشخصيات الصوفية مثلت ظاهرة واضحة في الشعر المعاصر، وقد اختار شعراؤنا المعاصرون شخصيات عديدة من أهل التصوف واجهوا بها قارئ قصائدهم، واتخذوا منها قناعا يتحدثون به ومن ورائه عن مشاغلهمومعاناتهم ومواقفهم. وليس ذلك فحسب، بل نجد الشاعر المعاصر أحيانا يندمج في الشخصية الصوفية ويحل فيها حلولا صوفيا. ويتحد بأبعادها بفعل تشابه أحواله بأحوالها."
[v]
ومن الشعراء الذي وظفوا الخطاب الصوفي نذكر: بدر شاكر السياب و نازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وأدونيس وصلاح عبد الصبور ومحمد الفيتوري وخليل حاوي ومحمد عفيفي مطر ومحمد محمد الشهاوي وأحمد الطريبق أحمد ومحمد السرغيني وحسن الأمراني ومحمد بنعمارة وعبد الكريم الطبال وأحمد بلحاج آية وارهام ومحمد علي الرباوي وآخرين.
وقد استعار هؤلاء الشعراء مجموعة من الشخصيات الصوفية كشخصية النفري عند أدونيس، وشخصية السهرورديوفريد الدين العطار وجلال الدين الرومي عند عبد الوهاب البياتي، وشخصية الحلاج عند صلاح عبد الصبور في قصيدته الدرامية" مأساة الحلاج"، وعبد الوهاب البياتي في قصيدة بعنوان" عذابات الحلاج"، وأدونيس في قصيدة تحت عنوان" مرثية الحلاج"، وشخصية إبراهيم بن أدهم عند الشاعر التونسي محيي الدين خريف، وشخصية رابعة العدوية عند نازك الملائكة في قصيدتها" الهجرة إلى الله".
ويمتاز الشعر الصوفي المعاصر باستعمال التناص بكثرة فضلا عن الاستشهاد بالمستنسخات والمقتبسات والشذرات العرفانية. كما يشغل الشعراء المعاصرون في قصائدهم ودواوينهمالشعرية خطاب الانزياح الصوفي و الرموز الإحالية والعبارات الموحية الرشيقة. وهناك من الشعراء من سقط في خاصية الإبهام والغموض خاصة الشاعر الحداثي أدونيس الذي حول كتاباته الشعرية إلى طلاسم من الصعب تفكيكها و فهمها وتأويلها . وهناك من أحسن توظيف التناص الصوفي في سياقه الشعري الملائم إبداعيا، وهناك من وظف العبارات العرفانية والمفاهيم الصوفية دون أن يعيش التجربة أو يستكنهها بشكل جيد؛ مما أوقع نصوص الكثير منهم في التصنع الزائد والتمحل الشعري.
خاتمــــة:
ويتضح لنا مما سبق ، أن المتصوفة والشعراء على حد سواءاستعملوا الكتابة الشعرية للتعبير عن تجاربهم العرفانية وأحوالهم الذوقية ومجاهداتهم النفسية ومقاماتهم الباطنية.
هذا، وقدترابط الشعر مع التصوف منذ مرحلة مبكرة لينتعش الشعر الصوفي مع القرن الثالث من العصر العباسي. وقد سبق هذا الشعر ما يسمى بشعر الزهد وشعر المديح النبوي اللذين سبقا الشعر الصوفي منذ فترة مبكرة. وقد آثرنا أن يكون موضوعنا منصبا على الشعر الصوفي مرجئين الكتابة النثرية إلى دراسة لاحقة إن شاء الله.
وعليه، فقد بينا أن الشعر الصوفي عرف عدة أطوار في القديم والحديث، ففي القديم ارتبط التصوف بشعر الزهد وشعر المتصوفة السنيين، لينتقل بعد ذلك إلى شعر المتصوفة الغلاة أو المتصوفة الفلاسفة.
وإذا كان الشعر الصوفي في القديم من نظم المتصوفة ، فإن الشعر الصوفي في العصر الحديث والمعاصر من نسج الشعراء المبدعين الذين صاغوا قصائد صوفية في إطار تجارب كلية أو جزئية أو في شكل استشهادات تناصية موحية أو في شكل مستنسخات تناصية وظيفية وغير وظيفية.
[/frame]
ملاحظة:
جميل حمداوي، صندوق البريد 5021 أولاد ميمون، الناظور، المغرب.
jamilhamdaoui@yahoo.fr
[i]
- انظر النيسابوري:
عقلاء المجانين
، ترجمة ميمونة، طبعة دمشق، سوريا، 1924م؛
[ii]
- أبو عبد الرحمن السلمي:
طبقات الصوفية
، طبعة ليدن، 1960م، ص: 153؛
[iii]
- شوقي ضيف:
العصر العباسي الثاني،
ص:475-476؛
[iv]
- محمود حسن إسماعيل:
ديوان قاب قوسين،
ط الأولى، 1964م، دار العروبة، القاهرة، ص:10؛
[v]
- محمد بنعمارة:
الأثر الصوفي في الشعر العربي المعاصر
، شركة النشر والتوزيع ، المدارس، الدار البيضاء، ط 1، 2001م، ص: 266؛
هدى نورالدين الخطيب
مشاهدة ملفه الشخصي
زيارة موقع هدى نورالدين الخطيب المفضل
البحث عن كل مشاركات هدى نورالدين الخطيب