قصة قصيرة ’’ البركان ‘‘ تأليف فاطمة يوسف عبد الرحيم
البركان
اعتلى سطح المنزل مستشرفاً عمل الطاحونة الانتفاضية ، صبية يتراكضون فرادى وجماعات وراء حجارتهم الصارخة ، تعبير فطري عن القهر والظلم ،أمسك بيديه الفتيتين طرف السور، حجارة السور تفتت بين يديه ، عيونه أطلقت سهاماً مقهورة نحو الأزقة ، التي تبتلع الفتية بحنو، وتقذف بقرف جنود الاحتلال بأورامهم المدججة بالسلاح ، حاول أن يخمد البركان الثائر في داخله .
انساب بهدوء إلى مكانه في زاوية الغرفة ،كلما أغلقت الهموم أبوابها عليه قبع في تلك الزاوية الأثيرة لديه، وترك رأسه مسرحاً للأفكار تفعل الأدوار ،أطلت أمّه بسحرها المزغرد بالحنان ، سألته-: أتريد شيئا ؟ هزّ رأسه بالنفي ، يعلم أنها تحبه إلى حد الوله ، أليس هو بكرها وشبيه أخيها الشهيد ، كّلما نظر إليها شعّ من عينيها بريق دفيء ، تحتضنه بنظراتها الحانية .
أرسل بصره في أرجاء الغرفة التي امتدت براثن الفقر على جدرانها بكل أدواته، ليس له من المنزل إلا تلك الزاوية من الغرفة الوحيدة، في النهار يقضي وقت فراغه فيها ليمارس هوايته المفضلة المطالعة فوق صندوق خشبي ، عند النوم ليلاً يركن الصندوق جانباً ويمد ساقيه مستسلماً إلى سلطان النوم ، أمه طلبت منه القبول بهذا المكان حتى لا يتعثر الأخوة الصغار بساقيه الطويلتين .
لحظات ممتعة تلك التي يسمع فيها صوتها الحبيب مناجيةً إياه عند تسرب أشعة الشمس إليه صباحاً : " قم إلى الشاي مع فتة الخبز قبل أن يبرد ، يفتح عينيه ينظر إليها ويتبادل معها نداءات الصباح ، أحب عينيها اللوزتين بسحريهما اللامع بأمواجها الصاخبة بتدفقات الحنان التي تغرقه فيها حتى الأعماق، حملته الأفكار إلى خارج الغرفة ، وإلى خارج الصخب الأخويّ ، الحجارة تتراشق بل تتراقص على أسنّة من لهب ونداءات الغضب تعبق بالأجواء ، لكن من يخمد النيران في داخله ، رغبته في الشهادة تطوي كل الأحلام في داخله ،ضجيج صوت قوي يأتيه من الأعماق ،البركان ثائر حائر .
سيلتحق بالقافلة ، عملية استشهادية وتنال الرضوان ، في الصباح ارتدى زيّه المرقم (16) مدير المصنع الإسرائيلي يقول العامل رقم (16) ولد مؤدب ( بيرفكت ) هادئ لا يعرف الغضب طريقاً إلى ملامحه، ليست عليه مخالفات قانونية ، وطنيّة ،إهمال ،انحراف، البركان سينفجر ، بدأت الأركان تتصدع ، قبض الراتب بفرح راقص ، اشترى القماش الأبيض رتّبه بحب ودفء ، الجدّة تقول"الكفن الهنيّ من عرق الجبين ".
البركان سينفجر، سيأتيك الرّد ،انتظر قليلاً، أنّا على أتم الاستعداد ،حمل الكفن إلى الجهة المخططة، رجع إلى بيته التقت عيناه بعينيها ،اغرورقت العين بالدمع السخين، أشفق عليها من الحزن والحسرة، اضطرب ،ما بك ، لاشيء ، أخذت نظراته تودع المكان والأشياء والأخوة، طأطأ رأسه عندما التقى عينيها الحائرتين ، وتاه في الينبوع, أخذت تتراءى أمامه صور الحزن التي ستغرق هذا الوجه الحزين ، لن تتوجه أجمل الإشراقات بعد أن يعتلي الأكتاف ويغيبه الردى ،وا أسفاه ،أمّاه كم أنا حزين لتوالي حسراتك ، لكن كوني فخورة بي ألست أمّ الشّهيد ، أمّ البطل ، سامحيني أمّاه لأني سأصدّع قلبك .
طرقات تضجّ على ا لباب،صريره يئن ،همسات سريعة تتردد على شفاه وجلة .تعليمات ،أوامر ،استجابات ، ترتد نظراته إلى الداخل ، تقبّل الجميع ، حزن يحرق الجفون ، ولدي قلبي يتمزق من أجلك ، أهناك أمر ما ؟ صمت ثم خرج أسرعت وراءه ،تناديه تبكي ، إلى أين؟ ارجع -: دعاؤك أمي ،-: الله يرضى عليك ، وفي اليوم التالي تناقلت الإذاعات (خبر عاجل ) وقعت عمليّة استشهادية تناثرت على أثرها الأشلاء وارتفع عدد القتلى ، وهمد البركان وحفر الدّمع أخاديد ، واعتلى الأسى ملامح الوجه الحبيب ، والروح تهمي :هديتي إليك يا أمي شهادة في سبيل الله ،اقبليها.
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|