16 / 12 / 2009, 14 : 09 PM
|
رقم المشاركة : [1]
|
أستاذة وباحثة جامعية - مشرفة على ملف الأدب التونسي
|
العنف والإرهاب الصهيوني..أساليب وأشكال متعددة في القرن العشرين - أوس داوود يعقوب
العنف والإرهاب الصهيوني.. أساليب وأشكال متعددة في القرن العشرين
الجذور والدوافع والغايات
[align=justify]"إن قوة التقدم في تاريخ العالم ليست السلام بل السيف" "مناحم بيجين".
يعد البحاثة الموسوعي، المفكر المصري الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيري من أبرز الباحثين والمفكرين العرب، لا بل وفي العالم، الذي استطاع أن يقدم دراسات ورؤى، علمية وموضوعية، من خلال موسوعته الرائدة، عن تاريخ العبرانيين في العالم القديم، وتواريخ الجماعات اليهودية بامتداد بلدان العالم، وتعدادتها وتوزيعاتها، وسماتها الأساسية، وهياكلها التنظيمية، وعلاقات أفراد الجماعات اليهودية بالمجتمعات التي يوجدون فيها وبالدولة الصهيونية. وقد غطت الموسوعة كذلك أشهر الأعلام من اليهود، وغير اليهود ممن ارتبطت أسماؤهم بتواريخ الجماعات اليهودية (مثل نابليون وهتلر). كما تناولت هذه الموسوعة كل الجوانب المتعلقة بتاريخ اليهودية، وفرقها وكتبها الدينية، وطقوسها وشعائرها، وأزمتها في العصر الحديث، وعلاقتها بالصهيونية وبمعاداة السامية (معاداة اليهود). وقد غطت الموسوعة كذلك كل ما يتعلق بالحركة الصهيونية ونشاطاتها ومدارسها وأعلامها، وبعض الجوانب الأساسية للدولة العنصرية الصهيونية.
ويمكن تلخيص هدف الموسوعة، التي صدرت في ثمانية مجلدات، متوسط عدد صفحات كل منها 450 صفحة، ويتناول كل مجلد واحد منها موضوعاً محدداً. فالمجلد الأول يتناول الإطار النظري للموسوعة وقضايا المنهج. أما المجلدات التالية (الثاني والثالث والرابع) فتتناول موضوع الجماعات اليهودية. ويتناول المجلد الخامس اليهودية، والمجلد السادس الصهيونية، والمجلد السابع (إسرائيل).
والموسوعة محاولة لتطوير الخطاب التحليلي (مصطلحات ومفاهيم)، القصد منها وصف الظاهرة اليهودية والصهيونية، وهو خطاب يسترجع البعد التاريخي لهذه الظاهرة، من حيث كونها ظاهرة تاريخية اجتماعية يمكن فهمها والتعامل معها.
استغرق إعداد الموسوعة ما يزيد عن ربع قرن. واشترك في هذه العملية عشرات الأفراد (مؤلفون- مساعدو باحث- مكتب للترجمة العبرية– وغيرهم الكثير). وقد قام الدكتور المسيري بجهوده الذاتية بإعداد هذه الموسوعة والإنفاق عليها طيلة هذه الفترة.
وحينما عرف بأمر الموسوعة، قام الإرهابي الصهيوني "مائير كاهانا" (عضو الكنيست السابق ورئيس جماعة كاخ الصهيونية الإرهابية) بإرسال خطابات تهديد بالقتل لمؤلفها والمشرف عليها في يناير عام 1984، واعترف بإرسال الخطابات، في حديث مع جريدة "يديعوت أحرونوت الإسرائيلية" في عددها الصادر في 21 فبراير 1984. وبلغ عدد هذه الخطابات ثلاثة عشر خطاباً، أرسل ستة منها على عنوان الدكتور المسيري بالرياض (المملكة العربية السعودية) وأرسلت الستة الأخرى على عنوانه بالقاهرة، أما الخطاب الثالث عشر فقد أرسل له في القاهرة فور عودته من الرياض، جاء فيه أن مرسلي الخطاب يعلمون بأمر عودته، وأنهم "يعدون قبراً له". كما جاء في هذه الرسائل أنه إن لم يتوقف الدكتور المسيري عن نشاطاته المعادية للصهيونية (وأهم هذه النشاطات - بطبيعة الحال- هو تأليف الموسوعة) فستصل إليه الأيدي الصهيونية، وستقوم بتصفيته. وقد وضع الدكتور المسيري تحت حراسة سلطات الأمن المصرية، حمايةً له.
رحم الله الدكتور عبد الوهاب المسيري، الذي ترك لنا هذا الأثر العلمي الهام ليكون مرجعاً لكل باحث أخذ على عاتقه التصدي للظواهر اليهودية والصهيونية بالدراسة، كل في حقل تخصصه.
وقد وجدت في من فصول هذه الموسوعة، ضالتي، وأنا أبحث عن جذور العنف والإرهاب الصهيوني، وقد رأيت أنه من المفيد بداية تقديم تعريف للصهيونية، قبل الخوض في غمار الحديث عن جذور العنف والإرهاب الصهيوني ودوافعه وأسبابه وأشكاله المتعددة.
إشكالية تعريف الصهيونية:
يرى الدكتور عبد الوهاب المسيري أن كلمة «صهيونية» يصعب تعريفها بشكل مباشر لعدة أسباب منها أن التعريفات الشائعة في المعاجم الغربية تشير إلى "الأمل الصهيوني" وليس إلى الظاهرة الصهيونية، فتُعرَّف الصهيونية، على سبيل المثال بأنها "الحركة الرامية إلى عودة اليهود إلى وطن أجدادهم إرتس يسرائيل حسبما جاء في الوعد الإلهي والآمال "المشيحانية لليهود"! وغني عن القول إن الأمل الصهيوني أو المتتالية المفترضة أو المتوقعة تختلف كثيراً عن الواقع الصهيوني أو المتتالية المتحققة.
كما أن هذه التعريفات تختلط بالاعتذاريات والمنظورات المختلفة بحيث لا تمكن التفرقة بين الواحد والآخر، فالصهيونية قد تكون من منظور البعض هي تحقيق الآمال المشيحانية، ولكنها من منظور البعض الآخر مخطط استعماري استيطاني.
إضافة إلى أن مصطلح الصهيونية يشير إلى نزعات وحركات ومنظمات سياسية غير متجانسة، بل متناقضة أحياناً، في أهدافها ومصالحها ورؤيتها للتاريخ، أو في أصولها الإثنية أو الدينية أو الطبقية. فضلاً على أن هذا المصطلح قد يُستخدَم مع صفة تحدُّ من حقله الدلالي أو تُوسِّعه كأن نقول «الصهيونية العمالية» و«الصهيونية المسيحية». بل هناك أيضاً «صهاينة صهيون» وهم معارضو مشروع شرق أفريقيا باعتبار أن دعاة هذا المشروع هم صهاينة بدون صهيون (كما أشار بعض دعاة الصهيونية الإثنية العلمانية إلى صهيونية هرتزل باعتبارها "صهيون بلا صهيونية").
وإذا كانت الصهيونية تعني "تهجير بعض أعضاء الجماعات اليهودية إلى فلسطين وتوطينهم فيها"، فبأي معنى إذن يمكننا الحديث عن «صهيونية الدياسبورا» أو «الشتات» (الجماعات اليهودية في العالم)، أي صهيونية اليهودي الذي يرفض أن يشترك في عملية "الاستيطان" الصهيوني وإن كان في الوقت نفسه يرى أن هذا "الاستيطان" هو الحل الوحيد لمشاكل اليهود؟ ولعل هذا هو الذي حدا بالمفكر الصهيوني العمالي بوروخوف إلى أن ينحت مصطلحاً في غاية الأهمية اختفى من الأدبيات والتواريخ الصهيونية وهو «صهيونية الصالونات»، ويعني صهيونية الطبقة الوسطى التي تهتم بالجوانب الحضارية والثقافية والإثنية (أي ما يُسمَّى «الوعي اليهودي») ولا تهتم كثيراً "بالاستيطان". كما نحت آخر (بعد تأسيس الدولة الصهيونية) مصطلح «صهيونية دفتر الشيكات» وهي صهيونية اليهودي الذي يُحدث أصواتاً صهيونية عالية ولكنه يكتفي بدفع مبلغ من المال للمنظمة الصهيونية. ولذا، فإن الصفة هنا في الواقع لا تُعدِّل دلالة المصطلح وحسب، وإنما تغير معناه تغييراً جوهرياً.
وهنا يجب أن نثير قضية تتصل بالمجال الدلالي. فإن قَبلنا بأن الصهيوني "هو من يدعو إلى تهجير اليهود إلى فلسطين وتوطينهم فيها"، فهل يمكن أن نُطلق المصطلح على دعوة المعادين لليهود بطرد اليهود من أوطانهم وتوطينهم في فلسطين؟ بل هل يمكن أن نُطلق المصطلح على المشاريع النازية المختلفة للتخلص من اليهود؟ وهل يمكن الحديث عن النازيين كصهاينة؟ وعلى كل حال، فإن هذا ما فعله أدولف أيخمان أثناء محاكمته. فقد أشار إلى نفسه باعتباره صهيونياً يحاول أن يضع شيئاً من الأرض الراسخة تحت أقدام اليهود (باعتبار أن اليهود شعبٌ بلا أرض، أما الأرض الراسخة فهي فلسطين، أرض بلا شعب).
الصهيونية.. تاريخ المفهوم والمصطلح:
يؤكد الدكتور المسيري أن مصطلح «الصهيونية» لم يُسك إلا في القرن التاسع عشر، ولكنه مع هذا يُستخدَم للإشارة إلى بعض النزعات في التاريخ الغربي، بل داخل النسق الديني اليهودي قبل هذا التاريخ. وانطلاقاً من هذه الرؤية، عمل المسيري على رصد بعض استخدامات المصطلح وأوردها في تسلسلها التاريخي، مع إشارته إلى أن كل دلالة جديدة لا تنسخ بالضرورة ما سبقها، وإنما تُضاف إليها فتزيد المجال الدلالي اتساعاً وتناقضاً وتجعل المصطلح تركيباً جيولوجياً تراكمياً:
أولاً: الصهيونية بالمعنى الديني: تشير كلمة «صهيون» في التراث الديني اليهودي إلى جبل صهيون والقدس، بل إلى الأرض المقدَّسة ككل، ويُشير اليهود إلى أنفسهم باعتبارهم «بنت صهيون». كما تُستخدَم الكلمة للإشارة إلى اليهود كجماعة دينية. والواقع أن العودة إلى صهيون فكرة محورية في النسق الديني اليهودي، إذ أن أتباع هذه العقيدة يؤمنون بأن الماشيح المخلِّص سيأتي في آخر الأيام ليقود شعبه إلى صهيون (الأرض العاصمة) ويحكم العالم فيسود العدل والرخاء. ولكلمة « صهيون» إيحاءات شعرية دينية في الوجدان الديني اليهودي، فقد جاء في المزمور رقم 137/ 1 على لسان جماعة يسرائيل بعد تهجيرهم إلى بابل: "جلسنا على ضفاف أنهار بابل وذرفنا الدمع حينما تذكرنا صهيون". وقد وردت إشارات شتى في الكتاب المقدَّس إلى هذا الارتباط بصهيون الذي يُطلَق عليه عادةً «حب صهيون»، وهو حب يعبِّر عن نفسه من خلال الصلاة والتجارب والطقوس الدينية المختلفة، وفي أحيان نادرة على شكل الذهاب إلى فلسطين للعيش فيها بغرض التعبد. ولذا، كان المهاجرون اليهود الذين يستقرون هناك لا يعملون ويعيشون على الصدقات التي يرسلها أعضاء الجماعات اليهودية في العالم. وقد كان العيش في فلسطين يُعَد عملاً من أعمال التقوى لا عملاً من أعمال الدنيا، وجزاؤه يكون في الآخرة أو في آخر الأيام، ولذا فإنه لا تربطه رابطة كبيرة "بالاستيطان" الصهيوني، وخصوصاً أن اليهودية الحاخامية (الأرثوذكسية) تُحرِّم محاولة العودة الجماعية الفعلية إلى فلسطين وتعتبرها تجديفاً وهرطقة ومن قبيل «دحيكات هاكتس» أي «التعجيل بالنهاية». فاليهودية تؤمن بأن العودة إلى أرض الميعاد ستتم في الوقت الذي يحدده الرب وبطريقته، وأنها ليست فعلاً بشرياً يتم على يد البشر. وهذه النزعة الصهيونية الدينية (التي تؤكد عنصر تجاوز المادة) لا علاقة لها "بالاستيطان" الصهيوني الفعلي والمادي في فلسطين ولا حتى بما يُسمَّى «الصهيونية الدينية» في الوقت الحالي.
ثانياً: يُطلَق اصطلاح «الصهيونية» أيضاً على نظرة محددة لليهود ظهرت في أوربا (وخصوصاً في الأوساط البروتستانتية في إنجلترا ابتداءً من أواخر القرن السادس عشر) وترى أن اليهود ليسوا جزءاً عضوياً من التشكيل الحضاري الغربي، لهم ما لبقية المواطنين وعليهم ما عليهم، وإنما تنظر إليهم باعتبارهم شعباً عضوياً مختاراً وطنه المقدَّس في فلسطين ولذا يجب أن يُهجَّر إليه. وقد استمر هذا التيار المنادي بتوطين اليهود في فلسطين حتى بعد أن خمد الحماس الديني الذي صاحب حركة الإصلاح الديني. ويُطلَق على هذه النزعة اسم «الصهيونية المسيحية»، وهي تمارس في الولايات المتحدة الآن بعثاً جديداً وخصوصاً في بعض الأوساط البروتستانتية (الأصولية) المتطرفة.
ثالثاً: مع تَزايُد معدلات العلمنة في المجتمعات الغربية، ظهرت نزعات ومفاهيم صهيونية في أوساط الفلاسفة (ولا سيما الرومانسيين) والمفكرين السياسيين والأدباء، تنادي بإعادة توطين اليهود في فلسطين باعتبار أنهم شعب عضوي منبوذ تربطه علاقة عضوية بها استناداً لأسباب تاريخية وسياسية بل "علمية". ويُطلَق على هذا الضرب من الصهيونية «صهيونية غير اليهود» أو «صهيونية الأغيار».
رابعاً: يُلاحَظ حتى الآن أن مصطلح «صهيونية» نفسه لم يكن قد تم سكه بعد، ومع هذا كان مفهوم الصهيونية مفهوماً مُتداوَلاً على نطاق واسع بين الفلاسفة والمفكرين والشعراء والمهووسين الدينيين. ولكن مع تبلور الهجمة الإمبريالية الغربية على الشرق، وبخاصة الشرق الإسلامي، ومع تبلور الفكر المعادي لليهود في الغرب (بسبب ظهور الدولة العلمانية المركزية التي همَّشت اليهود كجماعة وظيفية)، ومع تصاعد معدلات العلمنة بدأ مفهوم الصهيونية نفسه في التبلور والتخلص من كثير من أبعاده الغيبية الدينية أو الرومانسية وانتقل إلى عالم السياسة والمنفعة المادية ومصالح الدول.
خامساً: ليس من الغريب إذن أن نجد أن نابليون بونابرت أول غاز غربي للشرق الإسلامي في العصر الحديث وواحد من أهم المعادين لليهود في العالم الغربي (كما يدل على ذلك سجله في فرنسا) وواحد من أهم دعاة العلمانية الشاملة هو أيضاً صاحب أول مشروع صهيوني حقيقي، إذ دعا الصهاينة إلى "الاستيطان" في "بلاد أجدادهم"!
سادساً: أصبح مفهوم الصهيونية مفهوماً أساسياً في الخطاب السياسي الغربي عام 1841 مع نجاح أوروبا في بلورة مشروعها الاستعماري ضد العالم العربي والإسلامي الذي حقق أول نجاح حقيقي له في القضاء على مشروع محمد علي في تحديث مصر والدولة العثمانية، ومع تفاقم المسألة اليهودية التقت المسألة الشرقية بالمسألة اليهودية وساد التصوُّر القائل بإمكان حل المسألتين من خلال دمجهما.
سابعاً: تمت بلورة المفاهيم الصهيونية وملامح المشروع الصهيوني بشكل كامل في الفترة بين منتصف القرن التاسع عشر وعام 1880 على يد المفكرين الصهاينة غير اليهود لورد شافتسبري ولورانس أوليفانت. وقد لخص شافتسبري التعريف الغربي لمفهوم الصهيونية في عبارة أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض (في كلمات تقترب كثيراً من الشعار الصهيوني). وقد حاول أوليفانت أن يضع المشروع الصهيوني موضع التنفيذ.
ثامناً: يُلاحَظ أننا نضع تاريخ تطوُّر مفهوم الصهيونية في سياق التاريخ الفكري والسياسي والعسكري الغربي، ولا نعود إلى العهد القديم أو ما يُسمَّى «التاريخ اليهودي» (إلا في محاولة دراسة الديباجات). فحتى العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر لم يكن يربط اليهود أو اليهودية علاقة كبيرة بالصهيونية كفكرة أو مفهوم أو مشروع سياسي واقتصادي عسكري. وقد كان هذا هو الرأي السائد في الأوساط الصهيونية حتى عهد قريب. فأول تاريخ رسمي للصهيونية، كُتب بتكليف من المنظمة الصهيونية وكتبه ناحوم سوكولوف (الذي تولى رئاسة المنظمة الصهيونية بعض الوقت) مكوَّن من جزأين كرِّس معظمها لتاريخ الصهيونية بين غير اليهود.
تاسعاً: بدأت النزعات الصهيونية تظهر بين اليهود أنفسهم في أواخر القرن التاسع عشر مع تفاقم المسألة اليهودية، وعبَّرت عن نفسها في بادئ الأمر عن طريق المساعدات التي كان أثرياء اليهود في الغرب يدفعونها للجمعيات التوطينية المختلفة التي كانت تهدف إلى توطين يهود شرق أوروبا في أي بلد (ويشمل ذلك فلسطين) حتى لا يهاجروا إلى غربها فيعرِّضوا مكانتهم الاجتماعية وأوضاعهم الطبقية للخطر. وقد عبَّرت النزعة الصهيونية في شرق أوروبا عن نفسها من خلال جماعات أحباء صهيون التي حاولت التسلل إلى فلسطين للاستيطان فيها. وتُوصَف هذه النزعات أيضاً بأنها «صهيونية» رغم اختلاف الدوافع بين الفريقين الأول والثاني.
عاشراً: نحت المصطلح نفسه المفكر اليهودي النمساوي نيثان بيرنباوم في أبريل 1890 في مجلة الانعتاق الذاتي وشرح معناه في خطاب بتاريخ 6 نوفمبر 1891 قال فيه إن الصهيونية هي إقامة منظمة تضم الحزب القومي السياسي بالإضافة إلى الحزب ذي التوجه العملي (أحباء صهيون) الموجود حالياً. وفي مجال آخر في المؤتمر الصهيوني الأول 1897 صرَّح بيرنباوم بأن الصهيونية ترى أن القومية والعرْق والشعب شيء واحد، وهكذا أعاد بيرنباوم تعريف دلالة مصطلح «الشعب اليهودي» الذي كان يشير فيما مضى إلى جماعة دينية إثنية، فأصبح يشير إلى جماعة عرْقية (بالمعنى السائد في ذلك الوقت)، وتم استبعاد الجانب الديني منه تماماً. وأصبحت الصهيونية الدعوة القومية اليهودية التي جعلت السمات العرْقية اليهودية (ثم السمات الإثنية في مرحلة لاحقة) قيمة نهائية مطلقة بدلاً من الدين اليهودي، وخلَّصت اليهودية من المعتقدات المشيحانية والعناصر العجائبية الأخروية، وهي الحركة التي تحاول أن تصل إلى أهدافها من خلال العمل السياسي المنظم لا من خلال الصدقات. ورغم أن بيرنباوم كان يهدف إلى الدعوة إلى ضرب جديد من التنظيم السياسي مقابل جهود أحباء صهيون التسللية، فإن المصطلح استُخدم للإشارة إلى الفريقين معاً.
وبعد المؤتمر الصهيوني الأول 1897 في بازل، تحدَّد المصطلح وأصبح يشير إلى الدعوة التي تبشر بها المنظمة الصهيونية وإلى الجهود التي تبذلها، وأصبح الصهيوني هو من يؤمن ببرنامج بازل (في مقابل المرحلة السابقة على ذلك، أي مرحلة أحباء صهيون بجهودها التسللية المتفرقة).
بعد ذلك، بدأت دلالات الكلمة تتفرع وتتشعب، فهناك «صهيونية سياسية» (يُشار إليها أحياناً بعبارة «الصهيونية الدبلوماسية»)، وأخرى «عملية»، وتبعتها «الصهيونية التوفيقية». وكل صهيونية لها توجُّهها وأسلوبها الخاص وإن كانت جميعاً لا تختلف في الهدف النهائي. وتذهب الصهيونية التوفيقية إلى أن كل الاتجاهات الصهيونية غير متناقضة بل يكمل الواحد منها الآخر، ومن ثم يَسهُل التوفيق بينها.
ويشير الدكتور المسيري أن المفهوم الغربي للصهيونية تَبلور تماماً في وعد بلفور الذي مُنح "للشعب اليهودي" (أُسقطت عبارة "العرْق اليهودي") والذي أشار للعرب باعتبارهم الجماعات غير اليهودية، أي أن اليهود أصبحوا شعباً بلا أرض، وفلسطين أصبحت أرضاً بلا شعب.
ثم بعد ذلك ظهرت « الصهيونية الثقافية» و«الدينية» التي أضافت إلى الصهيونية البعد الإثني (الديني والعلماني). ومن ثم ظهرت «الصهيونية الديموقراطية» و«الصهيونية العمالية» و«الصهيونية التصحيحية» و«الصهيونية الراديكالية. « وبعد عام 1948، ظهرت «صهيونية الدياسبورا».
ويذهب الدكتور المسيري في طرحه إلى أنه يوجد في الواقع صهيونيتان لا صهيونية واحدة (صهيونية توطينية وصهيونية استيطانية). ومع هذا، فإنهما يُشار إليهما بدالٍّ واحد: «صهيونية». وذلك برغم أنهما ظاهرتان مختلفتان تماماً، لهما جذور مختلفة وقيادات وجماهير وأهداف مختلفة.
الصهيونية التوطينية: ظهرت في بداية الأمر بين الصهاينة غير اليهود (من المسيحيين والعلمانيين) وبين يهود الغرب المندمجين، وعلى وجه الخصوص أثرياؤهم. ثم عبَّرت الصهيونية التوطينية عن نفسها في الصهيونية الدبلوماسية وصهيونية الدياسبورا. وجمهور هذه الصهيونية هم مؤيدو المشروع الصهيوني في العالم الغربي ويهود الغرب الذين يؤيدون المشروع الصهيوني ولكنهم لا ينوون الهجرة، وهم يشكلون غالبية يهود وصهاينة العالم، وكذلك كل يهود غرب أوربا والولايات المتحدة تقريباً.
الصهيونية الاستيطانية: ظهرت في بداية الأمر على هيئة صهيونية تسللية ثم تحوَّلت إلى صهيونية استيطانية بعد مرحلة هرتزل وبلفور. وأهم التيارات الاستيطانية التيار العمالي، ويأتي معظم الصهاينة الاستيطانيين من يهود شرق أوروبا.
وتقسيم «توطيني/ استيطاني» ينصرف إلى المجال الذي يختاره كل صهيوني ليمارس نشاطه. ولنا أن نلاحظ وجود انقسامات فرعية داخل كل تيار بشأن التوجه السياسي (اشتراكي/ رأسمالي) والموقف من التراث والهوية (ديني/ علماني). ويجب ألا نتصور أن هناك فصلاً قاطعاً بين الفريقين، فثمة تشابك وتداخُل بين الصهيونيتين (التوطينية والاستيطانية) قد يتبدَّى في الشخص الواحد نفسه، كما هو الحال مع وايزمان الذي قضى معظم حياته يقوم بنشاط في الخارج نيابة عن الداخل، ولكنه عاد بعد إعلان الدولة ليترأسها ويصبح من "المستوطنين" (وإن كان قد عاش في عزلة نظراً لأن زعيم الصهاينة الاستيطانيين بن جوريون لم يكن يرغب في أن يشاركه وايزمان السلطة). ويظهر هذا التداخل في شخصية آحاد هعام، فيلسوف الصهيونية الإثنية العلمانية، الذي قام بجهود دبلوماسية ثم استوطن فلسطين نهائياً، ولكنه مع هذا ظل يشعر بالغربة فيها وبالحنين إلى المنفى والشتات!
ويُشبِّه يوري أفنيري الصهيونية بالبيوريتانية بالإنجليزية: بيوريتانيزم Puritanism)) في أمريكا، فهي أيديولوجيا الأصول التي أدَّت إلى ظهور المجتمع الأمريكي، ولكنها ماتت ولم تَعُد لها فعالية في هذا المجتمع. ويرى الكاتب "الإسرائيلي" بوعز إفرون أن على "الإسرائيلي" في علاقته بالصهيونية أن يكون مثل الأمريكي في علاقته بالبيوريتانية. وبذا، تصبح الدوافع الأيديولوجية أو الاقتصادية التي دفعت الرواد الأوائل (الصهاينة أو البيوريتان) إلى "الاستيطان" (في فلسطين أو الولايات المتحدة) موضوعاً ذا أهمية تاريخية أو أكاديمية محضة، وليس موضوعاً أساسياً.
ويتحدث الكاتب "الإسرائيلي" أبراهام يهوشاوا عن الصهيونية بوصفها حركة إنقاذ عملية ظهرت حلاًّ للمأزق اليهودي منذ قرن (أي المسألة اليهودية في شرق أوروبا)، وهو يعتقد أن العملية قد وصلت إلى نهايتها، أي أن الصهيونية كانت ولم تَعُد.
ويضيف الدكتور المسيري إلى أنه هناك أيضاً مصطلح «الصهيونية الجغرافية» الذي ورد في رسالة بعث بها يوسف ضياء الدين الخالدي رئيس بلدية القدس إلى حاخام فرنسا الأكبر صادوق كاهن (الصديق المقرب لكلٍّ من هرتزل ونوردو) يُذكِّره بأن فلسطين جزء لا يتجزأ من الإمبراطورية العثمانية ويسكنها غير اليهود، ويتنبأ بقيام حركة شعبية ضد الصهيونية فيما لو استمرت الحال على ما هي عليه، ولذا فقد نصح الصهاينة بالتخلي عن «الصهيونية الجغرافية»، أي الربط بين صهيون وفلسطين وبضرورة البحث عن أرض أو بلاد أخرى.
ولعل هذا المصطلح هو المحاولة العربية الوحيدة لسك مصطلح مستقل لوصف الظاهرة. وهو مصطلح دقيق إلى حدٍّ كبير، فهو يفصل بين الصهيونية وبين أية ديباجات دينية أو علمانية، ويبين أن المستهدف هو الأرض الفلسطينية. كما أن التركيز على عنصر الجغرافيا يبين أن عنصر التاريخ الحي قد استُبعد، ولذا فقد أشار الخالدي في خطابه إلى أن فلسطين هي بلاد اليهود "تاريخياً"، بمعنى أن جزءاً من تاريخهم مرتبط بها، ولكنه تاريخ متحفي بائد، إذ أن فلسطين أصبحت الآن جزءاً من التاريخ العربي الإسلامي. والواقع أن كلمة «جغرافية» تبين شراهة المشروع الصهيوني واستعماريته وإنكاره تاريخ المنطقة ووجود أهلها.
وفي الوقت الحاضر، فإن كلمة« صهيونية» تعني في العالم العربي "الاستعمار الاستيطاني الإحلالي في فلسطين الذي تَرسَّخ بدعم من الغرب". وتحمل الكلمة إيحاءات دينية لدى كثير من العرب المسلمين أو المسيحيين الذين يرون أن الصراع العربي/ الإسرائيلي صراع ديني. ولا تحمل الكلمة أي معنى ديني في بلاد العالم الثالث، ولا تشارك شعوب العالم الثالث في الديباجات الصهيونية المختلفة عن "حق" اليهود بسبب اضطهادهم في أوروبا أو عن الرابطة الأزلية بأرض الميعاد. وتحمل الكلمة تقريباً الدلالات نفسها التي تحملها في العالم العربي.
وحتى نُبيِّن مدى خلل المجال الدلالي، يمكن أن نشير إلى أن الصهيونية حركة عنصرية حسب أحد قرارات هيئة الأمم وأنها ليست كذلك حسب قرارات أخرى.
ويُلاحَظ الدكتور المسيري أن أزمة الصهيونية عبَّرت عن نفسها من خلال عدد لا ينتهي من المصطلحات، التي تناولها في باب منفرد بعنوان «أزمة الصهيونية».
وقد حاول المسيري في عمله الموسوعي تحدِّيد معنى لفظ «صهيونية» ومجاله الدلالي من خلال ما سماه «الصيغة الصهيونية الأساسية» التي تحوَّلت إلى «الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة» والتي تم تهويدها وأصبحت «الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة اليهودية» أو «المُهوَّدة». ويمكن اشتقاق فعل من كلمة «صهيونية» فنقول «صَهْيَنَ» بالإنجليزية: زايونايز(zionize).
ويُستخدَم المصدر من هذا الفعل عادةً بشكل شبه مجازي فيُقال «صهينة يهود العالم» بمعنى أن تسيطر العقيدة الصهيونية على بعض جوانب وجودهم لا كلها، ويُقال «صهينة اليهودية» بمعنى أن الرؤية الصهيونية للكون تصبح هي القيمة الحاكمة داخل النسق الديني اليهودي. وصهينة اليهود واليهودية هي الشكل الخاص الذي تتخذه عملية علمنتها.
أخيراً يرى الدكتور المسيري أن تعريفات الصهيونية الشائعة في المعاجم الغربية تتسم بضعف مقدرتها التفسيرية. معللاً ذلك بأنه إذا كانت الصهيونية، هي حركة القومية اليهودية وعودة اليهود لأرض الأجداد (كما تقول بعض المعاجم)، فكيف نُفسِّر أن أغلبية هذا الشعب اليهودي الساحقة لا تزال تعيش في «المنفى» متمسكة به، تدافع عن حقوقها فيه؟ وكيف نُفسِّر امتلاء مخيمات اللاجئين بملايين الفلسطينيين؟ كيف نُفسِّر ما يقومون به من مقاومة؟ ولذا لا بد من طرح تعريفات جديدة أكثر تركيبية وشمولاً وتفسيرية تتجاوز كل الاعتذاريات والديباجات (الصهيونية والعربية) لنصل إلى بعض الثوابت الكامنة. ويذهب الدكتور عبد الوهاب المسيري إلى أن ثمة صيغة صهيونية أساسية شاملة تُشكل التعريف الحقيقي للصهيونية، وثمة عقد صامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية، كامن في هذه الصيغة، وثمة مادة بشرية مُستهدَفة (أعضاء الجماعات اليهودية خارج فلسطين والعرب الذين يعيشون فيها).
بعد هذا التعريف الشامل والواضح للصهيونية ، سنحاول في هذا المقال تناول جذور العنف والإرهاب الصهيوني، وتعريفه ومعرفة دوافعه وأسبابه وأشكاله، كما بينها الدكتور عبد الوهاب المسيري.
[ يتبع ][/align]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|
|
|
|