رد: الرواية العربية البناء والرُّؤيا ـــ د.سمر روحي الفيصل
[align=center][table1="width:100%;"][cell="filter:;"][align=justify]- بناء الفضاء الرّوائيّ
الفضاء الروائي والمكان الروائي مصطلحان بينهما صلة وثيقة وإنْ كان مفهومهما مختلفاً. فالمكان الروائي حين يُطلَق من أيّ قيد يدلُّ على المكان داخل الرواية، سواء أكان مكاناً واحداً أم أمكنة عدّة. ولكننا حين نضع مصطلح المكان في مقابل مصطلح الفضاء بغية التمييز بين مفهوميهما فإنـنا نقصد بالمكان المكانَ الروائيَّ المفردَ ليس غير، ونقصد بالفضاء الروائي أمكنةَ الرواية جميعها. بيد أن دلالة مفهوم الفضاء لا تقتصر على مجموع الأمكنة في الرواية، بل تتسع لتشمل الإيقاع المُنظِّم للحوادث التي تقع في هـذه الأمكنة، ولوجهات نظر الشخصيات فيها. ومن ثَمَّ يـبدو مصطلح الفضاء أكثر شمولاً واتساعاً من مصطلح المكان.
ولاشكّ في أن هناك تبايناً بين الروائيـين العرب في بناء الفضـاء الروائي. فقد أخفق بعضهم في ربط الأمكنة بالحوادث ومنظور الشخصيات أو وجهات نظرها. والنتيجة الواضحة لهذا الإخفاق هي الاكتفاء بتقديم مكان جامد لا حياة فيه. ونجح روائيون آخرون في أن يجعلوا الأمكنة الروائية متكاتفة تؤثّر في الحوادث وتتأثّر بها، وتسهم في تطور الشخصيات التي تحلُّ فيها أو تخترقها. والروائي، في حالي الإخفاق والنجاح، يُقدِّم المكان الروائي بوساطة الوصف في الغالب الأعم، لأن هذا الوصف هو وسيلة اللغة في جعل المكان مُدْرَكَاً لدى القارىء. وقد يلجأ الروائي إلى وسائل أخرى غير الوصف في تقديم المكان الروائي. بيد أنه في الوسائل كلها مطالب بأن تُفضي أمكنته الروائيـة إلى فضاء يحيط بها ويُنظِّم حركتها ويجعلها أكثر عمقاً وإيحاء من دلالاتها المكانيّة الضَّيِّقة. وسأُقدِّم، هنا بغية توضيح أساليب الروائيين في بناء الفضاء الروائي، تحليلاً لروايات برز فيها الانتقال من المكان إلى الفضاء ، وأخرى اخترقت المكان وسعت إلى تشكيل الفضاء الروائيّ، وهي أربع روايات لأحمد زياد محبّك ونبيل سليمان وعبد الفتاح صبري وفاضل السباعي .
أوّلاً : من المكان إلى الفضاء
المعروف أن المكان الروائيّ هو المكان اللفظيّ المتخيَّل ؛ أي المكان الذي صنعته اللغة انصياعاً لأغراض التخييل الروائيّ وحاجاته. وهذا يعني أن أدبيّة المكان، أو شعريّته، مرتبطة بإمكانات اللغة على التعبير عن المشاعر والتصورات المكانيّة، مفضية إلى جعل المكان تشكيلاً يجمع مظاهر المحسوسات والملموسات، ومكوِّناً من مكوِّنات الرواية يؤثِّر فيها ويتأثَّر بها. وإذا كان الوصف قادراً على تقريب المكان من القارىء، تبعاً لرسمه صورة بصريّة تجعل إدراك المكان بوساطة اللغّة ممكناً، فإن هذا الوصف مجرد تمهيد لاختراق الشخصيات المكان بوجهات نظرها الخاصة، ومحاولتها بناء فضاء روائيّ يضبط إيقاع الأمكنة الروائيّة التي اخترقتها الشخصيات وتفاعلت معها.
والواضح بالنسبة إليَّ أن بناء المكان في رواية (الكوبرا تصنع العسل)(1) لأحمد زياد محبّك يحتاج إلى إنعام نظر ؛ لأن الأمكنة تبدو أول وهلة موزَّعة لا يضبطها ضابط روائيّ. فهناك غرفة الآلة الكاتبة، وهي غرفة العمل التي تجمع الشخصيتين الرئيستين رياض ووداد. وهناك أيضاً غرفة المدير، والمقصف، والقبو الذي يضم ثلاجة الموتى، والشارع والرصيف والحافلة الكهربائيّة وما إلى ذلك. وهذه كلها متناثرة في الرواية، لا يشير ظاهرها إلى شيء لافت لنظر القارىء. ولكن إنعام النظر فيها مجتمعة يقود القارىء إلى أن أحمد زياد محبّك معني في أثناء بناء المكان بالمكان المغلق، فإذا انتقل إلى مكان مفتوح نظر إليه من مكان مغلق غالباً، ومن موقع المكان المفتوح نادراً. ويقود إنعام النظر أيضاً إلى أن محبّك لجأ إلى الوصف في أثناء تقديم المكان والانتقال إلى الفضاء الروائيّ.
أ – المكان المغلق :
اختار أحمد زياد محبّك المكان المغلق ميداناً لحركة شخصياته الرئيسة والثانويّة. فمكان عمل الشخصيات هو المديريّة، وهي مكان مغلق آثر أحمد زياد محبّك تضييقه، فقدَّم غرفتين منه فحسب، هما غرفة الآلة الكاتبة حيث يعمل رياض ووداد، وغرفة المدير. أما غرفة الآلة الكاتبة فقد كان هناك وصفان لها، ورد أولهما على لسان رياض قبل انتقال وداد إلى هذه الغرفـة : (هناك صفّان من الطاولات، أربع على طول الجدار الأيسر ،وثلاث على طول الجدار الأيمن ،والطاولات كلها أمامي، بعضها وراء بعض، في رتلين متوازيين)(2). وورد الوصف الثاني لغرفة الآلة الكاتبة على لسان رياض أيضاً بعد انتقال وداد إلى الغرفة : (طاولتي في عمق المكتب، كما هي، في موضعها، ولكن أصبح وراءها غابة عميقة ممتدّة، هي لوحة جدارية كبيرة لصقتها على طول الجدار، من يرها يحسب نفسه في غابة. وعلى طاولتي وضعت أصيصاً ترتفع فيه شجرة لبلاب، تلتف حول جذع أخضر، في حلقات ودوائر صاعدة ،أوراقها زاهية الخضرة .أمام الجدار المواجه للداخل إلى المكتب وزعت أربع طاولات، ووضعت مقابلها، وأمام الجدار الآخر، ثلاث طاولات، وعلى كل طاولة وضعت إلى جوار الآلة الكاتبة أصيصاً فيه زهر الهوى، وقد تدلّت أغصانه الرقيقة الناعمة، وهي من اللطف بحيث تكاد تدعوك إلى احتضانها إشفاقاً عليها من الانكسار)(3).
إن الاختلاف بين صورتي غرفـة الآلة الكاتبـة لا يكمن في استعمال الوصف الموضوعيّ في المرة الأولى، والوصف الذاتيّ في المرة الثانية، بل يكمن في الدلالة على أن الغرفة التي بقيت سنوات طويلة دون أي تغيير وتبديل انتقلت إلى حال جديدة بعد حلول وداد فيها. وليس التغيير ههنا تغييراً في ترتيب الطاولات، ولا زيادة في الجوانب الجماليّة النابعة من الصور والأصص، ولكنه تغيير في طبيعة العلاقات المكانية، لأن وداداً لم تُبدّل شكل الغرفة فحسب، بل أضفت على وجود رياض فيها بهجة ومتعة لم يعرف لهما طعماً من قبل. كما غيّرت وجهة نظر منى وهيام وسناء ودلال فيها، وفي الدوام الإضافي لطباعة التقرير السنويّ، وفي الموقف الإنسانيّ من صالح الموظف المريض الذي توفّي بعد ذلك. ولهذا كله بدا تغيير شكل الغرفة دالاً على بداية التغيير في العلاقات المكانيّة، أو العلاقات بين المكان والشخصيات والحوادث، تبعاً للخوف الذي صاحب الموظَّفات في الغرفة من التحاق وداد ذات السمعة السيئة بغرفتهنَّ، والقلق الذي ساور رياضاً من المشكلات المحتملة الناجمـة عن تقاعس وداد في العمل، أو عن الأقاويل التي يُروّجها إسماعيل عن وداد وما ستفعله بعد انتقالها إلى غرفة الآلة الكاتبة. وليس غريباً أن يكون الوصف الثاني إرهاصاً بالحوادث القابلة في السياق الروائي ؛ لأنه تجسيد لاختراق شخصية وداد غرفة الآلة الكاتبة، وإحيائها العلاقات المكانيّة فيها تمهيداً لبناء الفضاء الروائيّ.
أما غرفة المدير، وهي المكان الذي يلي غرفة الآلة الكاتبة في الأهميّة الروائيّة، فقد ورد وصفها منجَّماً ثلاث مرات في الصفحات 13 / 14 / 16 على الرغم من أنها مكان مغلق لم يدخله رياض طوال الروايـة غير مرة واحدة. قال في المرة الأولى : (المدير في عمق المكتب، قابع وراء طاولته الكبيرة، نظارته على عينيه، يبدو منهمكاً في كتابة شيء ما. خمسة مقاعد موزّعة في شبه قوس أمام طاولته، وداد في المقعد الأول على الطرف الأيسر من الطاولة. وداد تنفث الدخان، وسيكارتها بين أناملها، وليس أمامها على المنضدة الصغيرة وسط المقاعد سوى منفضة سكائر، وضعت إلى جوارها حقيبة يدها. بيني وبين عمق المكتب مسافة أجدها شاسعة ،أطأ خلالها السجاد الفاخر ،وأنا أدخل في جو دافىء دفئاً زائداً لا ضرورة له)(4). وبعد سرد وحوار تابع الوصف فقال : (المدير ما زال يكتب. هو من غير شك قاعد على حشية فوق الكرسي، أو لا بد أن يكون قد رفع الكرسي الدوّار، أو لعله قصَّ أرجل الطاولة التي أمامه. مع ذلك يبدو جذعه، وهو مكبّ على الطاولة، مثل زورق صغير تائه في لجة من الأوراق والملفات والمصنفات والأقلام والهواتف الثلاثة، بالإضافة إلى جهاز استدعاء السكرتيرة. تظن نفسك الحوذي الذي يقود العربة، وما أنت إلا كمسمار صغير في عجلتها أيها الغر الذي ما يزال دون عمر ابني عماد)(5). وبعد سرد وحوار أكثر طولاً من سابقـه ورد القسم الثالث من الوصف : (المكيف البارز من الجدار في زاوية المكتب وراء المدير ينـز، ينـز. وداد تنفث دخان سيكارتها بصمت. الستائر على النوافذ مسدلة، الدفء الزائد يخنق الأرجاء)(6).
ورد وصف غرفة المدير على لسان رياض، كما ورد الوصف السابق لغرفـة الآلة الكاتبة على لسانه أيضاً، ولكن موقع رياض ووجهة نظره في أثناء الوصف مختلفان جداً. فغرفة الآلة الكاتبة مكان أليف بالنسبة إليه ؛ لأنه مكان عمله طوال ثلاثين سنة. أما غرفة المدير فهي مكان معاد بالنسبة إليه ؛ لأنه كان قدَّم طلباً للاستقالة من وظيفته، وافق الوزير عليه ولكن المدير ربط تنفيذ الاستقالة بالعثور على بديل لرياض. وقد دخل رياض غرفة المدير وهو يحمل موقف النفور، ولذلك اصطبغ وصفه الغرفة بصباغ دال على موقفه. ولم يكن من المفيد أن يُقدِّم وصفه الغرفة دفقة واحدة، ثم يفرغ للحديث مع المدير ؛ لأنه يعلم ما يريده منه قبل دخوله الغرفة. ومن ثَمَّ لجأ إلى حيلة روائيّة تُطيل مدّة بقائه في غرفة المدير بحيث يُقدِّم موقفه من خلال وصف المكان دون أن يبدو هذا الوصف متصلاً. وكانت الحيلة هي تفرُّغ المدير لصياغة قرار نقل وداد إلى غرفة الآلة الكاتبة، وقطع هذه الصياغة مرات لمحادثة رياض حول قضية وداد، ودعوته إياه للانتظار ريثما يفرغ من إعداد القرار الخاص بها. والواضح أن الوصف بدأ بالإشارة نفسها إلى الجو الخانق والدفء الزائد، ما يوحي بطبيعة الموقف النفسي لرياض في أثناء اختراقه غرفة المدير.
غير خاف، بعد ذلك، أن وصف المكان المغلق يتسم بالتركيز على الأشياء المبصَرَة في غرفة الآلة الكاتبة وغرفة المدير على حدّ سواء ؛ لأن الأشياء المبصَرَة واضحة دائماً، بل إن جزئيّاتها محدَّدة تبعاً لقرب المبصِر الواصف منها. ومسوِّغ ذلك كلّه معروف، هو الرغبـة في تقريب موجودات الغرفتين من إدراك القارىء. ولكن الإدراك المرغوب فيه هنا إدراك ذاتي وليس موضوعياً ؛ أي أنه إدراك معبِّر عن وجهة نظر معيَّنة يريد الواصف (الراوي / رياض) نقلها إلى القارىء ليُمهِّد للحوادث القابلة، ويعلن موقفه من الشخصيات في الحاضر الروائيّ .
ب – المكان المفتوح :
ليس هناك اهتمام كبير بالمكان المفتوح في رواية (الكوبرا تصنع العسل)، ولكنّ الراوي عرض بعض الأمكنة المفتوحة، كالشارع ومُتَنَزَّه السَّبيل ومدينة حلب، مؤثراً تقديم هذه الأمكنة من خلال أمكنة أخرى مغلقة. فقد قدَّم الشارع من داخل السيّارة مرة، ومن داخل المقصف أخرى. كما قدَّم مُتنَـزَّه السبيل من داخل منـزل أخت وداد، ومدينة حلب من داخل بهو المديرية. قال في وصف مُتنـزَّه السبيل : (من وراء زجاج النافذة تتألّق مصابيح متنـزه السبيل، مرسلة أضواءها الزاهية إلى أشجار الصنوبر والسرو الباسقة، وهي مندَّاة برذاذ نيسان الناعم، فتتألق خضرتها، وتسكب الأضواء على البِرْكة، وهي تتوسط المتنـزه، فتشارك الأمواج تراقصها البهيج. أطياف الرواد من الرجال والنساء والصبايا والشباب تتهادى في دروب المتنـزه، خلال مروج مزهرة، تتراكض فوقها خيالات أطفال يمرحون ويتنادون، نسمات نيسان تنعش أرواحهم)(7).
لقد بدأ الوصف، كما هو واضح، بتحديد موقع الواصف (الراوي / رياض)، وهو موقع مرتفع بعيد عن المتنـزَّه. وتحديد الموقع ضروريّ لأن الراوي سيصف ما يقع تحت بصره من عل، ما يسمح بتقديم الجزئيّات المبصَرَة أطيافاً (أطياف الرواد من الرجال والنساء والصبايا والشباب)، ولا يُقدِّمها مجسَّمة كبيرة كما فعل في أثناء وصف غرفتي الآلة الكاتبة والمدير، تبعاً لقرب الجزئيّات الموصوفة من عين الراوي الواصف. والملاحظ أيضاً انه كرّر في وصف المكان المفتوح ما فعله في المكان المغلق من تقديم وصف ذاتي غير موضوعي، تخالطه مشاعر الراوي الواصف وأحاسيسه ليُعبِّر بوساطـة هذا الوصف عن الحال الشعوريّـة له، وهي حال السعادة والاطمئنان في أثناء وجوده في منـزل أخت وداد.
الفضاء الرّوائيّ :
سعى أحمد زياد محبّك في أثناء تقديم أمكنة روايته المفتوحة والمغلقة إلى بناء الفضاء الروائي استناداً إلى مجموعة من الأمكنة في روايته، واتسم تبعاً لذلك بالسمات الآتية :
أ – التشبُّث بالعلاقات المكانيّة :
اتضح من خلال الحديث عن الأمكنة المغلقة والمفتوحة حرص الراوي على الوصف الذاتي، وابتعاده عن الوصف الموضوعيّ. أو، إنْ شئنا الدقّـة، الوصف الموضوعيّ الذي يخالطه وصف ذاتي، ويمتزج به، ويبدو عنصراً من عناصره. ذلك لأن رواية (الكوبرا تصنع العسل) لم تُقدِّم رواة واصفين، بل قدَّمتْ واصفاً واحداً هو رياض، ومن ثَمَّ لم يكن هناك تعدُّد في وجهات النظر الروائية من خلال وصف الأمكنة، بل كانت هناك وجهة نظر واحدة، وحال شعوريّة تتغيَّر وتتبدَّل بحسب وضعها الروائي النفسيّ. فالراوي يشعر بالضيق في المقصف(8)، فيُقدِّم وصفاً معبِّراً عن هذا الضيق، يضم الرعد المقعقع، والمطر الذي يضرب الزجاج، والبروق التي تقدح. وحين كان الراوي يشعر بالسعادة قدَّم وصفاً لمدينة حلب يضج بالحب. فهي رائعة، تشمخ بقلعتها التي تضم البيوت حولها كالأم. بيد أن تبدُّل الحال الشعوريّة للراوي الواصف ليس خاصاً، بل هو عام معبِّر عن تبدُّل الحوادث المحيطة به، وتغيُّر علاقاته بالشخصيات عموماً، وبوداد خصوصاً. وليست العلاقات المكانيّة شيئاً آخر غير العلاقة بين الأمكنة والشخصيات والحوادث، مصبوغةً بصباغ المشاعر.
ب – التشبُّث بالحال الشعوريّة :
إن الحال الشعوريّة للراوي الواصف تُعبِّر من جانب آخر عن وجهة نظر محدَّدة كما لاحظتُ غير مرة. وهذا الحرص على وجهة نظر واحدة طوال الرواية نوع من تضييق المجتمع الروائي ؛ لأن الحياة الروائيّة المتسعة تضم تعدُّداً في وجهات النظر، وصراعاً بينها، يقود إلى شيء غير قليل من المتعة ونمو الشخصيات. وليس في رواية (الكوبرا تصنع العسل) شيء من ذلك كله. فالراوي واحد، والشخصيات الأخرى تنضوي تحت لوائه الروائي لولا بعضٌ من التمرُّد تبديه وداد، وتتضح من خلاله وجهة نظرها التي بدت مطابقة وجهة نظر رياض الراوي، وغير مخالفة لها في شيء، ما فوَّت على القارىء مرة ثانيةً فرصة ملاحقة صراع روائي توافرت أسبابه ولكنها وئدت حين لجأ الراوي إلى المطابقة بين وجهتي نظر الشخصيتين الرئيستين، وحين عثر على حل سريع لقضية وداد المرتبطة بإسماعيل والمدير.
ج – خلق الامتدادات المكانيّة :
لم يكن المكان المفتوح ضمن الاهتمامات الأساسيّة لرواية (الكوبرا تصنع العسل)، ولكن الراوي رغب في الانتقال من المكان إلى الفضاء، ومن ثَمَّ سعى إلى خلق نـوع من الامتداد المكاني في ذهن وداد، فحدَّثها عن الحافلة الكهربائيّة (الترومواي) التي كانت إحدى وسائل المواصلات داخل مدينة حلب. وهذا الحديث لم يكن وصفاً للحافلة فحسب، بل تحديداً للأمكنة التي تمر فيها(9)، من وراء القلعة إلى حي الجميليّة. وقد استند الراوي في هذا الحديث إلى الذاكرة الروائيّة بغية تثبيت هذا الشكل من أشكال المواصلات في ذهن وداد، وهذا ما منح المكان نوعاً من الامتداد من المكان المغلق الأثير لدى الراوي إلى المكان المفتوح الهامشيّ لديه. والواضح أن الرغبة في خلق الامتدادات المكانيّة لم تكن عرضيّة ؛ لأن الراوي عاد إلى الحافلة نفسها وذكر من خلالها شارع القوتلي ومحتوياته (سينما حلب وسينما فؤاد وسينما الشرق التي أضحت الكندي ،ومقهى النجمة ،ومحلات الألبسة والمرطبات والصحف …). ولم يكن رجوع الراوي إلى أمكنة أخرى ليست لها وظيفـة روائية غير خلق الامتداد المكانيّ في ذهن وداد ؛ لأنها من الجيل الذي فاتته معرفة هذه الأمكنة.
هذا ما فعله أحمد زياد محبّك في رواية (الكوبرا تصنع العسل) في أثناء سعيه الجادّ إلى بناء الفضاء من مجموع الأمكنة المفتوحة والمغلقة. فقد وفَّر رباطاً واحداً نظَّم حركة هذه الأمكنة وإيقاعها، فأضفى على المكان طابع الحزن حين كان الراوي حزيناً، وطابع الفرح حين كان الراوي فرحاً، وطابع الامتداد حين كانت وداد بعيدة عن معرفة المكان، وطابع العلاقات حين كان الراوي راغباً في تحديد صلته بالشخصيات والحوادث من خلال المكان نفسه. ولكنَّ هناك سعياً آخر إلى الانتقال من المكان إلى الفضاء قدَّمه نبيل سليمان في رواية (جرماتي)(10)، ووضَّح بوساطته أسلوبه في توظيف التقنيات في بناء المكان والفضاء. ولا بأس في تحليل هذا السعي لتعزيز أساليب الروائيين العرب في بناء الفضاء الروائيّ.
في رواية (جرماتي) عنوانان : رئيس هو (جرماتي)، وفرعي هو (ملف البلاد التي سوف تعيش بعد الحرب). والتدقيق في هذين العنوانين يخدم القارىء في تعرُّف هدف الرواية وهو الحديث عن شيء يخصّ مكاناً محدَّداً. ذلك أن جرماتي، كما سيكتشف القارىء، قرية ؛ أي مكان جغرافيّ، ولكنها قرية غير محدَّدة جغرافياً. وما يُقدِّمه سياق الرواية عن قرب هذه القرية من (دمشق) لا يعني شيئاً في العرف النقديّ ؛ لأن استعمال اسم (دمشق) لا يُحدِّد القرية، بل يخدع القارىء الذي يطابق بين الواقع الخارجيّ والواقع الروائيّ، فيجعله يظنّ بأن جرماتي مثل (دمشق) مكان حقيقيّ، في حين أنهما ليسا كذلك في العرف النقدي والروائيّ معاً. إن (جرماتي) مكان روائيّ لا يتحدَّد قبل فراغ القارىء من قراءة الرواية، وما استعمال هذا المكان في عنوان الرواية إلا تمهيد نفسيّ للقارىء المتلقّي، يقول له إنكَ مُقبِل على قراءة شيء محدَّد عن مكان اسمه (جرماتي). ومن العبث أن يعتقد القارىء بأن العنوان الفرعيّ للرواية تكرار لا فائدة منه. ذلك لأن هذا العنوان يضمّ شيئين لا يُعبِّر عنهما العنوان الرئيس :
أوّلهما : عبارة (بعد الحرب). فهذه العبارة تدلُّ على أن الحديث عن جرماتي سيكون خاصاً بزمن معيَّن، هو زمن ما بعد الحرب. ولكنّ (الحرب) غير محدَّدة ؛ لأن (ال) الجنسيّة فيها تفيد العموم لا الخصوص. وعلى الرغم من ذلك فإن عنوان الرواية (جرماتي) يوحي بشيء من التحديد ؛ لأن القارىء قادر على أن يفهم منه أن الحديث عن هذا المكان سيكون مقصوراً على فترة محدَّدة من تاريخ جرماتي هي فترة ما بعد الحرب.
وثانيهما : كلمة (البلاد) التي تناقض صيغة (جرماتي) ؛ لأنها جَمْعُ بلدٍ، ولا علاقة لها بجرماتي القرية الواردة بصيغة المفرد. ولو جاء العنوان على النحو الآتي : (ملف البلد أو القرية التي ستعيش بعد الحرب) لما كان له معنى ومغزى، إذ إن معناه ومغزاه كامنان في تلك المغايرة بين القرية – وهي مكان له اسم محدَّد مُخصَّص – والبلاد وهيطفال ين جمع يفيد التعميم. وسيكتشف القارىء الذي يُنعم النظر في العنوان الفرعيّ أن هدف الرواية النهائيّ هو تعميم دلالة (جرماتي) وليس تخصيصها، بنقل التسمية من مكان جغرافيّ محدَّد إلى وطنٍ أكثر اتساعاً. وتلك، في رأيي، مهارة نبيل سليمان في الانتقال من المكان إلى الفضاء الروائيّ في هذه الرواية ؛ تلك المهارة التي جعلته يختار عنوانين دالين على ما سيتكفَّل السياق الروائيّ بتقديمه للقارىء. وهذا تحليل موجز لهذه المهارة يوضِّح تفصيلاتها على نحو أكثر جلاء.
أ – اختراق جرماتي :
تبدأ الرواية بالإشارة إلى صباح جديد في (جرماتي)(11). أي أنها تبدأ بإشارتين : زمنيّة ومكانيّة. وإذا قصرتُ الحديث على الإشارة المكانيّة قلتُ إن الرواية تُسمّي المكان الأساسيّ (جرماتي)، ثم تنتقل إلى تسمية الأمكنة الفرعيّـة فيه، وهي : الشارع الإسرائيليّ – جرن النبُّوعة – مربض الدّبَّابة – ساحة المدرسة. وإذا كانت التسميـة خطوة أولى باتجاه تحديد المكان الروائي فإن اختراق هذا المكان يحتاج أول الأمر إلى وصفٍ يجعل إدراك المكان بوساطة اللغة ممكناً. والواضح أن نبيل سليمان لم يغفل عن ذلك، فقدَّم بعد التسمية وصفاً للمكان، هو : (جرماتي تسقط في الحرب الماضية. البلدوزرات تمسح كرم تامر صبح وبيت أبي سميّة، تشقّ الشارع الإسرائيليّ. السكّة تمر بجرن النبّوعة على مطلّ جرماتي. حفرة كبيرة ترتقي في زاويتها الشرقية إلى السكة عبر خمس درجات. تكسو أرض الحفرة بلاطة صخرية واحدة ملساء. يتصدر البلاطة النبع المتفجِّر في فتحة كهف غائر في بطن التلّة .تتحدّر التلة بقسوة عن يمين السكة من النبوعة إلى سنديانات الشيخ إبراهيم الثلاث. تتلو السنديانات فسحة سهلية يسيرة يقتسمها كرم تامر صبح والمقبرة. تضيق السكة بعدئذ كثيراً قبل أن تفضي إلى المئذنة المضلّعة المقصوفة منذ يوم القتال الأول. انصبَّت على المئذنة من كبد السماء ثلاث كتل من جهنم أتت كل كتلة على قسم من المئذنة)(12).
لا شكَّ في أن صورة المكان التي قدَّمها الوصف بصريّة، تجعل القارىء يدرك محتويات الشارع الإسرائيليّ وتفصيلات جرن النّبُّوعة والسّاحة، وما يُحيط بهذه الأمكنة ويطيف بها. والمسوِّغ الروائيّ لهذا الوصف هو القول إن (البلدوزر) الإسرائيليّ في أثناء الاحتلال شقَّ شارعاً في جرماتي. ولكن نبيل سليمان وظَّف هذا المسوّغ لغرض آخر هو الإشارة إلى الدمار الذي خلَّفه الاحتلال. ولهذا السبب مهَّد للوصف بسرد عن الدمار، وذيَّله بسرد مماثل عن الدمار. أيْ أن الصورة الوصفيّة لجرماتي قدَّمت مكاناً خارجاً من الاحتلال، مملوءاً بالدمار، بغية تحديد البدايـة الزمنيّة للرواية (صباح الانسحاب الإسرائيلي) والموضوع الذي تدور حوله، وهو الدمار.
ولو اكتفى نبيل سليمان بالصورة البصريّة لقدَّم وصفاً للمكان الجامد ليست له دلالة روائيّة، ولكنه لم يفعل ذلك، بل جعل وصف المكان مقدّمة لاختراقه. إذ إنه طرح قبل الوصف الشخصيات التي بقيت في جرماتي ولم تغادرها، وراح بعده يعرض تباينها وتناقضها ووجهات نظرها، وقدَّم من خلال ذلك تحديداً آخر ينقل صورة المكان الجامدة إلى مكانٍ روائيّ متحرِّك. ذلك أن الباقين في جرماتي فريقان : فريق تعاون مع المحتل، وفريق قاوم المحتل. ولكل فريق من الفريقين وجهة نظر خاصة به. أما الفريق الأول فينتظر ما ستؤول إليه الأمور، وهو خائف من تعاونه السابق مع المحتل. والفريق الثاني ينتظر أن يقوم في جرماتي حكم جديد مغاير لما كان قبل الاحتلال. وتحديد هذين الفريقين هو أول اختراق لجرماتي يُحيي المكان ،يأتي بعده اختراق ثان ينهض به العائدون إلى جرماتي ،وهم فريقان أيضاً : فريق الهاربين (عبد السّتَّار – البرزغل …)، وفريق المقاومين والمهجَّرين. وسَرْعان ما انتمى الفريقان العائدان إلى الفريقين المقيمين. فالفريق المقاوم والمهجَّر انتمى إلى الفريق الراغب في جرماتي جديدة، وانتمى الفريق الهارب إلى الفريق الذي تعاون مع المحتل. وبذلك اخترقت الشخصيات المكان وحدَّدته تحديداً نهائيّاً. والمراد بذلك أن نبيل سليمان خلق جرماتي من خلال اختراق الشخصيات الروائية لها. والاختراق هنا هو دخول الشخصيات المكان، وتحديد انتماءاتها الروائية فيه. وقد وفّر هذا الاختراق فهم الشخصيات الروائية، ووضَّح حوافز الفعل لديها، وهي هنا موقفها من الدمار.
ب – إحياء جرماتي :
إذا كانت قدرة نبيل سليمان على الانتقال من المكان إلى الفضاء من الميزات الفنيّة الأساسيّة في رواية جرماتي، فإن هذه الميزة هي التي عبَّرت عن أن جرماتي / القريـة هي المكان الروائي الذي اتضح حين اخترقته الشخصيات الروائية. فقد وفّر هذا الاختراق، كما سبق القول، فرصة فهم الشخصيات وتحديد انتمائها إلى فريقين لهما موقفان متناقضان من الدمار الذي حلَّ في جرماتي. ولكنّ الروايـة لم تكتف بتحديد هذين الفريقين، بل راحت ترصد العلاقـات بينهما، وهي علاقات ذات صفات مكانيّة. فقبلان والسكماني وعبد الستّار في أعلى الهرم الاجتماعيّ، ورافع وجبر ونايف في أدنى درجات السُّلَّم الاجتماعيّ. والتقابل بين الأعلى والأدنى هو تقابل بين صفتين مكانيتين واضحتين. كذلك أمر التقابل بين الفلاحين والسلطة، وبين عمّال الورش ومستغلِّيهم. وهذه كلها علاقات مكانيّة تنمّ على ثنائيّات ضدّيّة نابعة من الثنائيّة الرئيسة التي وضّحها الاختراق، وهي ثنائيّة : التدمير – التعمير. وهذا يعني أن الاختراق أحيا جرماتي، وعرَّى التراتبيّة السياسيّة والاقتصاديّة والأخلاقيّة بين الفريقين، بحيث كان الفريق الأول راغباً في الإفادة من التدمير في استغلال التعمير لصالحه. أما الفريق الثاني فكان راغباً في تعمير جرماتي جديدة مغايرة لجرماتي السابقـة على الاحتلال في علاقاتها وسلطتها وأصحاب المصلحـة فيها، ولكنه فوجىء بعودة السلطـة القديمـة (قبلان – السكماني – عبد الستّار) إلى جرماتي، ومحاولتها الإفادة من التدمير في بناء (الفيلا) والمقصف والمستودعات بدلاً من المدرسة وبيوت الفلاحين المدمَّرة. وفي أثناء المواجهة بين الفريقين تعدَّدت الأمكنة بتعدُّد العلاقات، فجرى الانتقال من علاقات جبر بالجرماتيين إلى علاقة ناهض بهم، وهي علاقة ضدّيّة كفلت طرح موضوع (الفيلا) المشرفة على جرماتي، وبناء المقصف والمستودعات، بغية تحويل جرماتي إلى منتجع سياحيّ. وكفل أيضاً الكشف عن التحولات الداخليّة التي طرأت على الشخصيات، كتردُّد زاهي، ومغادرة نايف جرماتي إلى لبنان … وهكذا أحيا الاختراق جرماتي، فبدت قضيّتها أكثر اتساعاً من مكانها الجغرافيّ الروائيّ المحدود بحدود قرية انسحب الإسرائيليون منها. كما دلَّ اتساع القضية على أمر آخر، هو الفضاء الروائي، بحيث بدأ القارىء يلاحظ أن ما جرى بين الفريقين في جرماتي كان انعكاساً لوضعهما خارجها. أو قُلْ إن جرماتي تحوّلت من مكان جغرافيّ إلى مكان رمزيّ دال على فضاء لا تخرج المواقف فيه عما جرى في جرماتي. ومن ثَمَّ لم تكن هناك حاجة إلى أن ينفي نبيل سليمان في بداية الطبعة الثانية من الرواية(13) المطابقة بين الواقع الحقيقيّ والواقع الروائيّ في روايته ؛ لأن الفضاء الروائيّ الذي نجح في تحديده فنيّاً أوحى بالمماثلة، وعبَّر عن أن الرواية ليست جرماتي، بل هي البلاد التي سوف تعيش بعد الحرب كما عاشت قبلها.
ثانياً : اختراق المكان وتشكيل الفضاء
ما انتهى إليه نبيل سليمان يحتاج إلى توضيح طبيعة الاختراق وتشكيل الفضاء ؛ لأن الرواية العربيّة احتفت بالفضاء الروائيّ، وقدَّمتْ نموذجات فنيّة له، بعد إهمال المكان الروائيّ كثيراً، وبعد عناء طويل في معالجة ملامحه العامة. والواضح، استناداً إلى النموذجات الروائيّة السابقة، أن هناك روائيين عرباً جسَّدوا ما انتهى إليه النقد الروائي من تمييز بين المكان الحقيقي والمكان الروائي أولاً، وبين المكان الروائي والفضاء الروائي ثانياً. فقد لجأ هؤلاء الروائيون إلى الوصف الذي يرسم صورة بصرية تجعل إدراك المكان بوساطة اللغة ممكناً، وحرصوا في أثناء ذلك على تصوير المكان وبيان جزئيّاته وأبعاده. ولكنهم أدركوا أن وصف المكان غير كاف للقول إنهم قدَّموا مكاناً روائياً، لأن هذا الوصف مجرّد تمهيد لاختراق الشخصيات المكان بما تحمله من وجهات نظر متباينة في الحوادث الروائية. ومن ثَمَّ ميَّزوا بين صورة المكان والمكان الروائي، وجعلوا الوصف خطوة إجرائية أولى، تلتها خطوة ثانية هي اختراق الشخصيات المكان، وتحرُّكها في جزئيّاته، وتشكيلها الفضاء الروائي من العلاقات المكانية أو العلاقات بين الأمكنة والشخصيات والحوادث، ثم الارتفاع فوق هذه العلاقات بغية توفير الإيقاع المنظِّم لها. وكان نجاحهم في ذلك دليلاً على أن الفضاء الروائي لا يتشكَّل إذا لم تخترق الشخصيـة المكان حاملة وجهة نظرها الخاصـة في علاقاته، وإذا لم تكشف عن حالها الشعورية وتسهم في رصد تحولاتها الداخلية.
ولا أشكّ في أن بنية رواية (الغربان لا تختفي أبداً)(14) للروائي القاص عبد الفتَّاح صبري نموذج تستحق إنعام النظر في قضية الفضاء الروائي. فهي نموذج حديث لا يعتمد الحكاية والحبكة، ولا ينصرف إلى بناء الشخصية، ولا يهتم بالنموّ الخطّيّ للزمن الروائي كما يفعل النمـوذج الروائي التقليدي. فهذه الرواية نموذج حديث يعتمد الراوي الممثَّل ذا التبئير الداخلي والسرد الذاتي، ويسعى طوال النص إلى تفتيت الحدث وخلخلة البناء اللّغويّ. والظن بأن هذا النموذج صالح للتحليل من ثلاث زوايا : زاوية الكاتب الضمني الذي حلَّ في الراوي الممثَّل وراح يُوجِّه السرد تبعاً للشخصية التي حلَّ فيها، وهي هنا شخصيـة البطل المحوري (صبحي عثمان) الذي سرد الحدث الروائي بضمير المتكلّم، وحاول إيهام المتلقّي بأنه يسرد حكايته الخاصة، بغية قيادته إلى الاعتقاد بأن هناك مزجاً بين العناصر المستمدّة من السيرة الذاتية والعناصر المتخيَّلة، ومن ثَمَّ بدت الرواية وكأنها نوع من الرواية السيرية. وزاوية اللغة الروائية المعنيّة بالاستبطان الداخلي، وتفتيت الحدث، والحرص على وجهة نظر واحدة هي وجهة نظر الشخصية المحورية (صبحي عثمان)، وتقديم ذلك في هيئة بناء لغويّ ذي جمل قصيرة، ليس فيه اهتمام بأدوات الربط التي تجعل السرد متصلاً، بل فيه حرص على أن يُعبِّر هذا السرد عن حدث مُفتَّت يرصد دخيلة صبحي عثمان، ويهتم بخلخلة البناء اللغوي لمواكبة الخلل في المجتمع الروائي. أمّا الزّاوية الثّالثة فهي زاوية المكان والفضاء الروائي التي سأهتمّ بها، دون أن يعني ذلك أن الزوايا الثلاث منفصلة، أو يمكن فصلها لغير الأغراض التحليلية. ومن البديهي، تبعاً لذلك، أن أستعين في أثناء التحليل بإشارات إلى الزاويتين السابقتين، وأن أسعى إلى رؤيتهما من خلال الفضاء الروائي.
– اختراق المكان :
بدأت رواية (الغربان لا تختفي أبداً) بتحديد المكان الروائي : (من هنا، من القرينين، القرية الصغيرة جداً، القابعة في إحدى زوايا الدلتا الواسعة)(15). وهذا التحديد لافت للنظر لأنه يدلّ بوضوح على أن المكان الروائي ضيِّق. فقرية القرينين (صغيرة جداً) قابعة (في إحدى زوايا الدلتا الواسعة). ولكن (الضيق) هنا لا علاقة له بالمساحة التي يتحرّك فيها الحدث الروائي، بل له علاقة بما توحي به القرية (والريف عموماً) في الرواية بالإقبال على موضوعات ذات علاقة بالأرض والفلاح والمالك والعمدة (المختار) والمرأة في المجتمع الريفي، وما إلى ذلك من أمور بعيدة عن التنوُّع والامتداد وتعقُّد الحياة التي يوحي بها المكان المدينيّ (والرواية المدينيّة عموماً). وليس ذلك تصنيفاً ولا تفضيلاً للمكان الذي يتسم بالاتساع، بل هو إيحاء بالضيق بدأت به الرواية تمهيداً لما سيفعله صبحي عثمان عندما يخترق هذا المكان الضَّيِّق ويبعث الحياة في علاقاته، فيجعله واسعاً شاملاً مصر كلّها، متنوّعاً لا تنفصل علاقاته الاقتصادية عن علاقاته الاجتماعية والسياسية، ولا يختلف ريفه عن حضره.
أشار الراوي الممثَّل صبحي عثمان إلى اختراقه قريته بعد التحديد مباشرة ،فقال : (لفظتني ذات يوم وإليها أعود)(16). وقد تكفَّل السرد اللاحق باسترجاع الماضي الذي قاد إلى هرب صبحي عثمان من قريته القرينين. وحين انتهى من ذلك في نهاية القسم الأول من الرواية(17) رجع في بداية القسم الثاني إلى الحاضر الروائي بادئاً بعبارة مماثلة للعبارة الافتتاحيّة، هي : (أعود إليك يا بلد)(18) .وهذا يعني أن الرواية بدأت بالحاضر الروائي ثم اعتمدت على النسق الزمني الهابط في تجسيد الاسترجاع. ولما فرغت من الاسترجاع عاد الزمن إلى الحاضر ثانيةً وبدأ النسق الزمني الصاعد، وهو زمن أكثر طولاً وتنوُّعاً، لأنه استمرّ حتى نهاية الرواية (بين ص 29 – 76) ،وهي نهاية مفتوحة تُوحي باستمرار المأزق الروائي. بيد أن القضية لا تكمن في التلاعب بالأنساق الزمنية وحدها، بل تكمن في الوقت نفسه بتجسيد الاختراق من خلال الاسترجاع، وتشكيل الفضاء من خلال الحاضر.
والظن بأن دخول صبحي عثمان قرية القرينين عبَّر عن اختراق المكان بإحياء علاقاته التي كانت مستورة قبل الاختراق. أو قل إن قرية القرينين كانت ساكنة لا يعلم المتلقّي شيئاً عن العلاقات التي تحكمها وتسيطر عليها، وعندما اخترقها صبحي عثمان تخلخل سكونها وشرعت العلاقات التي تحكمها تتضح. وكلّما أوغل صبحي في الاختراق زاد وضوح العلاقات المكانية، فبدت قرية القرينين مكاناً (معادياً) لأن السرد الاسترجاعي أماط اللثام عن أن (صميدة شعبان) ذا الأصل الوضيع قتل بديعة (المجنونة) لأنها فضحت أسراره النسوية المخزية، وكشفت عمله في تهريب المخدِّرات. ولـمّا كان صبحي عثمان هو الوحيد الذي سمحت له بديعة بالاقتراب منها والتواصل معها فقد اتهمه صميدة بقتلها وأدخله السجن، ثم وفّر له فرصة الهرب من القرية. فبدا (صميدة شعبان)، نتيجة ذلك، بؤرة إشعاع العداء في القرينين، وهي بؤرة جعلت المكان الروائـي المعادي (طارداً) بدلاً من أن يكون (جاذباً)، تبعاً لنجاحها في القضاء على بديعة رمز التحرُّر من الرضوخ، وإبعادها صبحي عثمان المؤهَّل من خلال قبول بديعة له لأن يكون رمزاً ثانياً للثورة على سيطرة صميدة على القرية، ونشره الفساد فيها.
وإذا كانت جماليّة المكان لا تـتجسّد من خلال تحديد اسمه وأبعاده وصفاته فحسب، بل تتجسّد من خلال الطريقة الفنية التي قُدِّم بها، فإن الواضح بالنسبة إليَّ أن حرص الراوي الممثَّل على اختراق المكان وإحياء العلاقات السائدة فيه هو الطريقة الفنية التي قُدِّم فيها الراوي الممثَّل مقهوراً، وصميدة قاهراً، وبديعة موضوعاً للقهر. وبالتالي ارتبـط المكان بعلاقات محدَّدة بين الشخصيات القاهرة والمقهورة، ولكنه ارتباط مُقدَّم من وجهـة نظر الراوي الممثَّل ليس غير. فهو السارد مالك السرد الذاتي، ومن خلاله نعرف بديعة كما نعرف صميدة، ونقرأ عن القهر والسيطرة والعداء كما نقرأ عن دخيلة الراوي المضطربة الهائمة التي لا تعرف الاستقرار على حال واحدة. ويمكنني القول باختصار إن السرد الذاتي قدَّم، في أثناء الاسترجاع، مكاناً معادياً طارداً ذا علاقات قهر تراتبيّة(19)، يقبع في قمّتها صميدة شعبان الفاسد المفسد تاجر المخدّرات، وفي أدناها أناس يجب أن يرضخوا ويستكينوا أو يغادروا القرية ويتغرّبوا. مَنْ يتكلَّم يُقتَلْ، ومَنْ يتعاطفْ ويتهيّأ للتَّكلُّم يُتَّهمْ ويُسجن ويُطرد. وهذا الذي يحدث في قرية القرينين يحدث في مصر كلّها حسب التصريح المباشر للراوي الممثَّل(20). تلك هي طبيعة المكان الروائي، ولكنها طبيعة أراد لها الراوي الممثَّل أن تكـون تمهيداً للفضاء الروائي، ولذلك قصرها على القسم الأول من الرواية، وهو قسم استرجاعي.
– الفضاء الرّوائيّ :
إذا لم يكن الفضاء الروائي يتشكَّل من مكان واحد، بل يحتاج إلى أمكنة عدّة ذات بنية نابضة بالحركة والفعل، متماثلة في علاقاتها وطبيعتها ودلالتها، بحيث يبدو الفضاء إطاراً لحوادثها وصراعاتها ووجهات نظرها. فإن حرص الراوي الممثَّل صبحي عثمان على تشكيل هذا الفضاء منطلقاً من المكان الروائي بعد توضيح طبيعته. ولهذا السبب رجع في بداية القسم الثاني إلى عبارة كان القسم الأول بدأ بمثيل لها، ولكنها عودة إلى العبارة بعد تشبُّعها بمشاعر قهرٍ لم تعرفها العبارة الافتتاحيّة التي بدأ بها اختراق المكان الروائي.
بدأ القسم الثاني بعبارة (أعود إليك يا بلد)، وهي عبارة مشبعة بمشاعر القهر النابعة من طبيعة العلاقات المكانية المعادية في قرية القرينين، ومن تلك الغربة القسرية التي امتدّت سنوات دون أن تخلع من قلب الراوي الممثَّل صبحي عثمان حبَّ القرية والرغبة في العودة إليها. بدأ القسم الثاني بعبارة مؤذنة بحال شعورية جديدة هي مواجهة القهر الذي استكانت له القرية، والانتقام من الرأس القاهر المسيطر. وهذا يعني أن عودة الراوي الممثَّل مدفوعـة بالعلاقات المكانية المعادية التي قدَّمها الاسترجاع، وبقرار فرديٍّ بعدم الرضوخ لقرار الطرد، وبعزم على الانتقام من صميدة الرأس المدبّر. ولكن السرد الذاتي اللاحق سرعان ما كشف عن شيء جديد أضافه الراوي الممثَّل إلى العلاقات المعادية، هو نجاح القهر في اغتيال الطبيعة الجميلة، وفي الامتداد من تجارة المخدِّرات إلى تجارة النقود المزيَّفة، ومن مصر إلى إسرائيل، ومن حاكم قاهر محلّيٍّ إلى دوائر سيطرة مركزية. وإذا كان ذلك كلّه إيذاناً بتشكيل الفضاء الروائي، وهو إطار الأمكنة والشخصيات والحوادث والعلاقات ،فإن الحاجة الروائية تقضي بتجسيد الفضاء من خلال نموّ الحدث الروائي. وقد لجأت الرواية إلى تنمية حدثها مستعينة بوسيلة (التّسلُّل)، فجعلت الراوي يتسلّل إلى منـزله، ويقابل أمه خفية، ثم يستعين بصديقه (زكريا إسماعيل) المقرَّب من صميدة في التسلُّل إلى بؤرة الفساد في صـورة النادم على ما مضى، الراغب في أن يعمل لدى صميدة.
ومن الواضح أن (التسلُّل) المعبِّر عن عدم توافر الإمكانية للمواجهة المباشرة مع الفساد أتاح الفرصـة الروائيـة للانتقال من المكان العام (القرية) إلى المكان الخاص (منـزل صميدة) الواسع (الحقول والبراري والمدن والنهر). ومن العلاقات المحدودة (علاقات صميدة بالقرية) إلى العلاقات المتشعِّبة (علاقات صميدة بدوائر النفوذ في مصر، وإسرائيل، وتهريب النقود المزيّفة إلى جانب المخدرات). وهذا الانتقال جعل الأمكنة تتعدَّد (القرية – المنـزل – الجسر – النهر – المدرسة الزراعية – شاطىء الرياح – الجبل – القبو – طنطا – البحيرة – الاسكندريـة – الشرقيـة – المنصورة …)، والشخصيات يزيد عددها (زكريا إسماعيل – متولي بقر …)، والحوادث تتشعَّب (نقل الحقائب السوداء – علاقة صبحي بزوجة صميدة ثم قتلها معه). وبرزت، ضمن هذا الفضاء الروائي الجامع لذلك كله، الحال الشعورية لصبحي عثمان، تلك الحال التي بدأت تتغيّر من الاضطراب والتردُّد إلى الاستقرار على رأي محدَّد، هو قتل صميدة دون توجيه تهمة لأحد. وقد نفّذ قراره، ولكنه اضطر إلى قتل زوجة صميدة أيضاً، وظن بعد نجاته وإعلانه الحزن على مقتل صميدة أنه قضى على رأس الفتنة ومصدر الفساد، ولكنه اكتشف في العزاء ابناً لصميدة مؤهَّلاً لخلافتـه دون أن يعلم بأمره لسكنه بعيداً عن القرية، وهذا ما يوحي بدلالة محدَّدة، هي أن الانتقام الفردي لا يحلّ مشكلة الفساد، ولا يقضي على جذوره وامتداداته.
ومن الواضح بعد ذلك كلّه أن الفضاء الروائي في (الغربان لا تختفي أبداً) لم يعرف تعدُّد وجهات النظر، بل بقي محكوماً بوجهة نظر واحدة، هي وجهة نظر صبحي عثمان، ما جعله فضاءً أحادياً، فضلاً عن حاجته إلى الاتساق. إذ إن الشخصيات المعادية (وخصوصاً صميدة ومتولي) مدانة في سلوكها الجنسي، ولكن شخصية صبحي عثمان غير مدانة على الرغم من ممارستها السلوك نفسه. كما أن الحل الوجودي للقهر باغتيال القاهر حلٌّ فرديٌّ. وهذا الحلّ الذي تردَّد بطل مطاع صفدي في جيل القدر (1960) وثائر محترف (1961) في تنفيذه ،نضج لدى عبد الفتَّاح صبري ،فدفع بطله إلى تنفيذه دون أن يناقشه أو يتردّد في شرعيته، ثم جعله يوقن بعدم جدواه بعد معرفته بأن هناك ابناً لصميدة، وانتهى في آخر عبارات الرواية إلى أن (يولول) ويندب حظّه وحظّ قريته، موحياً مرة أخرى بأن الاغتيال ليس حلاً للفساد.
ثالثاً : بناء الفضاء
أما رواية (الطبل)(21) لفاضل السباعي فلا نتعرّف من خلالها طريقة السباعي الفنية في بناء فضاء روايته فحسب، بل نسعى في الوقت نفسه إلى تلمُّس الجديد في هذا البناء قياساً إلى السائد في الرواية العربية. ذلك أن قارىء رواية (الطبل) يعتقد بأن فاضل السباعي لم يُعْنَ بالمـكان الروائي. ومصدر هذا الاعتقاد خلو رواية (الطبل) من مقاطع وصفية تحيط بالأمكنة التي تُشكّل الفضاء الروائي، وهي : مبنى الهلال – مبنى الإدارة المركزية – منـزل عثمان العطّار – الحديقة العامة – الشـوارع المجاورة لمباني الوزارة. وهذا الاعتقاد غير صحيح، لأن عناية فاضل السباعي ببناء الفضاء الروائي في رواية (الطبل) تبدو متميّزة قياساً إلى ما قدَّمه في روايتيه الضخمتين (ثم أزهر الحزن) و (رياح كانون).
ويمكنني توضيح ذلك بالقول إن فاضل السباعي أدرك أن الوصف هو الوسيلة الرئيسة لتقديم المكان الروائي. وقد اعتاد استعماله في تصوير المكان، والتعريف بأشكاله وأحجامه وجزئياته، وتفنّن في ربطه بعد ذلك بالحوادث والشخصيات ،حتى إن الوصف أصبح لديه مكوّناً من مكوّنات الرواية ،أو عنصراً من عناصر بنائها. وهو محقّ في ذلك، لأن المكان الروائي ليس زينة، بل هو خالق للمعنى داخل الرواية(22). ومن ثَمَّ لم يكتف بمكان واحد في رواياته، بل راح يُعدِّد الأمكنة ليـخلق فضاءً روائياً، دون أن يتخلّى عن الوصف، لأن اللغة وحدها هي التي تجـعل إدراك المكان الروائي ممكناً.
وليس هناك ما يشير إلى أنه خرج عن المألوف الروائي في روايته (ثم أزهر الحزن). فقد قدَّم فيها وصفاً موجزاً للدار العربيـة التي سكنتها الأسرة، قائلاً : (ففي دارنا العربية صحن وسيع وبركة وليوان. وفي صحن الدار حوض مزهر يوازي حائط الغرفة الكبرى التي كنا نسمّيها بالقاعة. كان أبي، يوم وُلدتْ لـه أختي البكر، قد قام إلى هذا الحوض، وغرس فيه عوداً من الكرمة. ثم انثنى يقول لأمي وهو ينفض التراب عن يديه :
- هذه الدالية لصغيرتنا نورة.
وغرس، بُعيد ولادة سليمى، شجيرة ياسمين. ثم كان من نصيبي شجيرة ورد. فلما أقبلت رابعة كان الحوض قد ضاق بشجيراته الثلاث الناهدات، فوسّعه وأضاف إليه شجيرة رمان)(23).
يدلّ هذا المقطع بوضوح على أن الوصف مجمل بالنسبة إلى الدار، ومفصَّل بالنسبة إلى الحوض. فقد ذكر موضع الحوض (يوازي حائط القاعة)، ومحتوياته من الأشجار. ولم يكن وصـف الحوض في الرواية هدفاً، بل كان تعبيراً عن وضع الأسرة، مرتبطاً بأفرادها، دالاً عـلى طبيعة حياتها. فهي تنتظر ابناً ذكراً يزرع له الأب شجرة تفاح تدين لها شجيرات البنات بالطاعة(24). ويبدأ الأب ييأس بعد إنجاب البنت الخامسة، ثم ما يلبث يعتقد بأن ابنه الذكر لن يأتي إلى الدنيا وهو على قيد الحياة. وتتحقّق نبوءته، فيموت قبل ولادة زوجته بعلاء، وتروح (أعراف الشجيرات الخمس تترنح جزعاً)(25)، مشاركة الأسرة حزنها على الأب الذي قضى قبل رؤيته ابنه علاء. وحين يولد علاء تفرح الأسرة ويعود إلى (الشجيرات صداح العنادل والعصافير)(26).
إن الحوض مكان روائي يُعبِّر عن أحلام الأسرة وتطوراتها، فلا يبدو مكاناً جامداً، بل يـبدو معادلاً لمشاعر الأسرة، يفرح حين تفرح ويحزن حين تحزن. وعندما وُلد علاء انتهت مهمـة هذا المكان الروائي، وبدأت مهمة مكان روائي ثان هو الغرفة التي أجَّرتها الأسرة للمعلمة زينب. وقد تجلّت هذه البداية في وصفٍ مجملٍ لغرف المنـزل، ومفصَّلٍ للغرفـة (المربّـع – العلّيّة)(27) التي تنوي الأسرة تأجيرها للمعلمة.
هكذا تشكَّل الفضاء الروائي في (ثم أزهر الحزن) من أمكنة عدّة، بعضها في الدار العربية، وبعضها الآخر في الدار الحديثة التي اشترتها الأسرة(28)، وبعضها في الشوارع والمكتبة والجامعة. وكلّ مكـانٍ يحمل معه تطوراً من تطورات الأسرة وحياتها، حتى يغدو الفضاء الروائي دالاً على حركة الحوادث والشخصيات وعلاقاتها. أي أن تعدُّد الأمكنة في رواية (ثم أزهر الحزن)، وارتباط كلّ مكان منها بحدث من الحوادث الروائية، وإسهامه في الدلالة على جانب من طبيعة الشخصيات وعلاقاتها داخل الأسرة وخارجها، موظَّف للتعبير عن الحكاية الروائية التي ترصد تطورات أسرة تُوفّي عائلها وخلَّف وراءه زوجة وابناً وبُنيّات خمساً صغاراً. وكأن تعدُّد الأمكنة لبَّى الحاجة الجمالية الخاصة برصد تطورات الأسرة، وكان وصف كلّ مكان منها، مجملاً أولاً ومفصَّلاً بعد ذلك، سبيل الراوي إلى جَعْل القارىء يرى البيئة المختارة وهي تتغيّر وتتبدّل.
هذه، بإيجاز، عناية فاضل السباعي بالفضاء الروائي في رواية (ثم أزهر الحزن). إنها عناية تدلّ بوضوح على أنه استند إلى الوصف في بناء فضاء روايته. وسبق القول إن الروائيين اعتادوا اللجوء إلى الوصف في بناء فضاءاتهم الروائية. ولم يختلف فاضل السباعي عنهم في شيء غير رغبته في إيجاز الوصف وتوظيفه. وعلى الرغم من ذلك كله فإنني أعتقد بأنه بنى فضاء رواية (الطبل) على نحو آخر جديد مغاير لمـا فعله في (ثم أزهر الحزن). وأولُ ما نلاحظه في هذا البناء الجديد خلُّوه من الوصف وهو الرجبة الأساسية التي يُشاد عليها الفضاء الروائي. ولئلا يكون هناك لبس أقول إن رواية (الطبل) خالية من المقاطع الوصفية للأمكنة الخمسة التي شكّلت فضاءها، وهي : مبنى الهلال – مبنى الإدارة المركزية – منـزل عثمان العطّار – الحديقة العامة – الشـوارع المجاورة لمباني الوزارة. وسنلاحظ، بعد، أن فاضل السباعي استعاض عن المقاطع الوصفية بالأرقام والصفات المفردة ودلالات الألفاظ. ولا بأس، بادىء ذي بدء، من توضيح الفضاء الروائي في رواية الطبل استناداً إلى الإجراءات الثـلاثـة الآتية : اختراق المكان وتراتبيته وتعدُّد الرؤى فيه.
يختلف المكان الروائي عن المكان الطبيعي الخارجي في أنـه لا يتضح إذا لم تخترقه الشخصيات الروائية. فلا استقلاليـة له عنها، لأنه لا يظهر إلا من خلال وجهات نظرها(29) وشبكة علاقاتها ورؤياها. والفضاء الروائي لا يُشاد إذا لم تتضامن وجهات النظر وشبكة العلاقات والرؤى مع بعضها بعضاً، تبعاً لارتباط هذا الفضاء بالحوادث والشخصيات. فالمكان جامد، ولكن اختراق الشخصيات له يجعله نابضاً بالدلالات والحوادث. وليست هناك وسيلة واحدة لاختراق الشخصية الروائية المكان. ولكنني لاحظتُ أن فاضل السباعي استند إلى الثنائيات المُبرزة للتراتبية وتعدُّد الرؤى، مستخدماً الأرقام والصفات المفردة ودلالات الألفاظ بدلاً من المقاطع الوصفية.
لننعم النظر، الآن، في ثنائية : الإدارة المركزية ومبنى الهلال. ففي الرواية كلها صفة واحدة خلعها الراوي على مبنى الهلال، هـي كونـه مبنى (ملحقاً)(30) بالإدارة المركزية. وهذه الصفـة المكانية التي وردت عرضاً في رواية الطبل جوهرية، يستند إليها بناء الفضاء الروائي كله. ذلك أنها تعني أن هناك مبنيين (مكانين) : أولهما أصل وهو الإدارة المركزية، والثاني فرع وهو مبنى الهلال. والفرع في رواية الطبل تابع دائماً للأصل. وهذه التبعية تبدو مكانية أول الأمر، ولكنـها سرعان ما تنبض بالدلالات الفكرية، فيكرّر المكان / الفرع صورة المكان / الأصل.
الإدارة المركزية هي المكان / الأصل. وفي هذا المكان مكانان يدلان على الأصل، هما : مكتب الأمين العام، ومكتب الوزير. وقد غيَّب الراوي مكتب الوزير في بدايات الرواية، وسمح لمكتب الأمين العام بالسيادة في السياق الروائي، وجعل الوصول إليه يحتاج إلى الصعود على الدرج، وهذه صفة مكانية تدل على العلو. كما جعل للأمين العام مكتباً آخر يحلّ فيه السكرتير، وهذا المكتب الثاني يدلّ على الأهمية. ورغب الراوي أخيراً في أن يضفي صفة الضخامة على مبنى الإدارة المركزية، فجعله في خمسة طوابق ومائة غرفة. أي أنه استخدم الأرقام للدلالة على ضخامة المكان.
أما مبنى الهلال فهو المكان / الفرع. والفرع أصغر من الأصل، ولكنه في رواية الطبل متماه بالأصل. فقد نُدِب عثمان العطّار لمراقبة الدوام في مبنى الهلال ،كما نُدِب الأمين العام لمراقبة الدوام في مبنى الإدارة المركزيـة. ومكتب العطّار في الطابق الثاني، كما أن مكتب الأمين العام يُرْتَقَى إليه بالدرج. وقد ألحق العطّار بمكتبه مكتباً آخر للسكرتيرة شادن، كما ألحق الأمين العام بمكتبه مكتباً للسكرتير هشام رمضان. وهذا كله يوضّح التماهي المكاني بين المبنيين، بما في هذا التماهي من علو وفخامة. وقد أضاف الراوي تماهياً آخر بين شخصي الأمين العام وعثمان العطّار، هو أنهما رُكِّبا على (مزاج واحد في السهر على تطبيق النظام، وضبط دخول الموظفين والزائرين إلى المباني وخروجهم منها بأسلوب يرضي نوازعهما الخاصة)(31). أي أنهما مشتركان في الحزم في تطبيق النظام ومراقبة دوام الموظفين.
ويستطيع قارىء رواية (الطبل) بعد الاطلاع على طبيعة المكانين السابقين ملاحظة شيء مهم، هو أن الأزمتين الرئيستين في الحكايـة الروائية، وهما أزمة هاني النبهاني مدير البحوث، وأزمة الشجار بين الموظفتين إكرام ونسرين، لا يمكن إقناع القارىء بهما إذا كان المكانان المذكوران يحملان ثنائية ذات صفات مغايرة لتبعيـة الفرع للأصل وتماهيه به، واشتراك شخصيتي الرئيس والمرؤوس في التشدُّد بتطبيق النظام ومراقبة الدوام. فأزمة هاني النبهاني تتعلق بمراقبة الدوام، وأزمة إكرام ونسرين تتعلق بتطبيق النظام. أي أن المكانين (المبنيين) أسهما في خلق المعنى في الحكاية الروائية عندما اخترقتهما شخصيات هاني وإكرام ونسرين وعثمان العطّار والأمين العام، وهي شخصيات متناقضـة في مفهومها للنظام والدوام.
بيد أن الفضاء الروائي لرواية (الطبل) لم يكن مقصوراً على مبنى الهلال ومبنى الإدارة المركزية، بل امتد إلى أمكنـة أخرى تُبرز ثنائيات جديدة :
أول هذه الأمكنة منـزل عثمان العطّار الذي لم يقدِّم له فاضل السباعي شيئاً مما قدَّمه لمبنيي الهلال والإدارة المركزية. ولكنه جعل عثمان العطّار يخترقـه دائماً، ويعكس في اختراقه له ما كان يلقاه في مبنى الهلال. فحين يزهو بنصره وتحقيقه وإخضاعه هاني النبهاني يرجع إلى منـزله مسروراً، فيداعب أولاده ويتباسط معهم، وحين تضيق به سبل التحقيق وينجو هاني النبهاني من الخضوع يرجـع إلى منـزله قلقاً، فيتشاجر مع زوجته ويصيح في وجه أولاده. ولم يكتف منـزل عثمان العطّار بعكس حاله غمّاً وسعادة، بل جعل موقف الزوجة والأولاد تعبيراً عن موقف الموظفين في مبنى الهلال. فقد تضايقت الزوجة ونفر الأولاد من أبيهم عثمان، كما تضايقت أم وليد منه في المبنى وسخر الموظفون من مبالغاتـه في تطبيق النظام ومراقبة الدوام. وهكذا شكَّل مبنى الهلال ومنـزل عثمان ثنائية أخرى تُرسِّخ دلالة الحكاية الروائية.
كذلك الأمر بالنسبة إلى الشوارع. فقـد خلع عليـها الراوي صفـة (المجاورة) لمباني الوزارة. ولم تكن هذه الشوارع أمكنة هامشية، بل كانت رئيسة لأنها موطن مخالفة النظام، ومنبع أزمة إكرام ونسرين. تلك أيضاً حال الحديقة. فهي (عامة) في الرواية من حيث الصفة المفردة، ولكنها مكان مخالفة النظام لأنها الموضع الذي التقى فيه قصي نسرين .ومن ثَمَّ شكَّلت الشوارع المجاورة لمباني الوزارة ومبنى الهلال ثنائية ضديّة، وشكَّلت الحديقة العامة ومبنى الهلال ثنائية ضديّة أخرى. وهاتان الثنائيتان تنمان على موقفين أخلاقيين متغايرين، لم يكن باستطاعة فاضل السباعي إبرازهما لولا حرصه على جعل الشخصيات بأفكارها وآرائها تخترق هذين المكانين وتجعلهما تسهمان في تقديم أبعاد أخرى لمعنى الحكاية الروائية ودلالتها.
وقد اكتمل الفضاء الروائي في (الطبل) حين أعلن الراوي مكاناً جديداً هو مكتب الوزير. ذلك أن تراكم اللامعقول الروائي في حكاية هاني وإكرام ونسرين لم يكن ممكناً لو لم يغفل الراوي الوزير ومكتبه. وحين اكتملت التحقيقات في قضية إكرام ونسرين، وبلغـت حدَّ اللامعقول الذي يُنفِّر القارىء من مفهوم النظام لدى الأمين العام وعثمان العطّار، وحين كاد الأخير ينجح في إخضاع هاني النبهاني، أبرز الراوي الوزير الجديد، وسمح للشخصيات الرئيسة الثلاث : الأمين العام وعثمان وهاني باختراق مكتبه. وقد دلَّ هذا الاختراق على أن الوزير يحمل مفهوماً آخر للنظام مغايراً لما اعتاده الأمين العام وعثمان العطّار. ومن ثَمَّ شرعت الحكاية الروائية نتيجة هذا الاختراق تتجه نحو الانحدار، وبدأت أمور الموظفين ترجع إلى وضعها الطبيعي. فهذا الاختراق هو الذي هدم سطوة عثمان فمرض ومات، وهو الذي سبّب إحالة الأمين العام إلى التقاعد، وهو الذي رفع مكانة هاني النبهاني، وفرَّج الكرب عن إكرام ونسرين.
إن الجديـد في بنـاء الفضاء الروائي عنـد فاضل السباعي في روايـة (الطبل) هو عدم الاستناد إلى الوصف. ذلك أن ضوابط المكان كما لاحظنا في روايات محبك وسليمان وصبري متصلـة بلحظات الوصف، وهي لحظات متقطِّعة تتناوب في الظهور(32) كلما رغب الراوي في طرح مكان جديد. ذلك أن راوي رواية (الطبل) طرح الأمكنة من غير افتتاحها بمقاطع وصفية تُعين القارىء على إدراكها، ولكنه لجأ إلى وسائل أخرى غير الوصف، كالصفات المفردة والأرقام والتراتبية ودلالات الألفاظ، وهي وسائل لا تلفت انتباه القارىء، ولا تعوق حركة السرد، ولا تضع الروائي الكاتب أمام مأزق اتصال السرد بعد الفراغ من المقطع الوصفي، بل تبدو عرضية للقارىء العجل، وجوهرية لمن ينعم النظر في النص ليكتشف خلفيات التشويق فيه.
ويقودنا إنعام النظر إلى أن خلفيات التشويق في رواية (الطبل) تكمن في أن الراوي ربط الأمكنة الروائية، وهي مكوِّنات الفضاء الروائي، بوجهات نظر الشخصيات في الحدث الروائي، فغدا ما يفعله الموظفون والموظفات في الشوارع المجاورة لمباني الوزارة وفي الحديقـة العامـة خاضعاً للمساءلة والتحقيق، ومرتبطاً بشرف الوظيفة، تبعاً لوجهة نظر عثمان العطّار ورئيسه الأمين العام. كذلك الأمر بالنسبة إلى عثمان وهاني، فهما متفقان في الحرص على النظام، ولكن كلاً منهما يحمل وجهـة نظر في تطبيقه وفهمه. وقد خلق الاختلاف في وجهتي النظـر الحدث الخاص بإذن الخروج، ولكن هذا الحدث مرتبط أيضاً بوجود مكانين / مبنيين. ولو لم يكن هناك مبنيان لما كان لهذا الحدث معنى في الحكاية الروائية. وهذا ما يؤكد ارتباط الأمكنة بوجهات نظر الشخصيات في الحدث الروائي، ويجعل الفضاء المكوَّن في هذه الرواية من خمسة أمكنة أكثر شمولاً واتساعاً بحيث يضمها بما فيها من حوادث وشخصيات.
أخلص من ذلك كله إلى أن الروائيّ العربيّ حرص على الوصف في أثناء تشكيل المكان في روايته، وراح يسعى إلى جعل هذا الوصف ذاتياً ليوظِّفه في اختراق المكان. ذلك أن الوصف الذاتي هو المعبِّر عن الحال الشعوريّة للشخصيّة الروائيّة، وهو يخدم الروائيّ في أثناء اختراق المكان في تحديد العلاقات المكانيّة، أو العلاقات بين المكان والشخصيات والحوادث. وقد لاحظتُ أن الروائيين لجؤوا إلى إحياء العلاقات المكانيّة، واخترقوا المكان، بغية التمهيد لتشكيل الفضاء الروائيّ. كما لاحظتُ أن بناء الفضاء لديهم لا يتشكَّل ولا يُصبح مكوِّناً من مكوِّنات الرواية إذا لم تخترق الشخصيات المكان حاملة وجهة نظرها الخاصة، وإذا لم تعمل على تحديد انتمائها فيه. ولاحظتُ أخيراً أن الروائيين قد يختلفون في الوصف البصريّ، أو في اعتمادهم رواة أو راوياً واحداً، أو في الاستناد إلى الثنائيّات الضدّيّة والصفات المفردة واستعمال الأرقام ودلالات الألفاظ، ولكنهم لا يختلفون في شيء إلا بعد اشتراكهم في القاعدة الأساسيّة اللازمة لبناء الفضاء الروائيّ. وهذه القاعدة المشتركة هي تحديد الأمكنة الروائيّة، واختراق الشخصيات لها بغية إحيائها وجعلها عاملاً من عوامل فهم الشخصيات والحوادث الروائيّة. [/align][/cell][/table1][/align]
|