[align=center][table1="width:100%;"][cell="filter:;"]
[align=justify]
- علاقات الشّخصيّة الرّوائيّة
وقفتُ، في أثناء تحليلي الروايات السابقـة، وخصوصاً روايات عبد الكريم ناصيف وسلطان القاسميّ، عند منظور الرّاوي والرّوائيّ وما بينهما من تباين. ثم توقّفتُ في أثناء تحليلي رواية (فياض) لخيري الذهبي عند علاقة الرّاوي بالشخصيات، وتصنيفها وتسميتها في حدود بناء السرد والمشهد. وسأسعى هنا إلى التركيز على العلاقات وحدها، فأحلِّل علاقة الشخصية بالزّمن فالرّاوي فالرّحلة الرّوائيّة، وأجهد في بيان علاقة الشخصية بأساليب البناء دون غيرها من العلاقات الرّوائيّة.
الشّخصيّة والزَّمن :
تثير رواية (العصفوريّة)(1) للدكتور غازي القصيبي شيئاً غير قليل من الحوار النقديّ ؛ لأنها تطرح أوّل مرّة ذلك المزيج من التخييل والخيال الجامح والواقعيّة، فتبدو للمتلقّي غريبة عمّا هو سائد في الرواية العربية، سواء أكان بناء الشخصية الروائية مصدر الغرابة أم كانت لغة السرد هي المصدر. يُضاف إلى ذلك أنها رواية (حمَّالة أوجه)، تأخذ بيد المتلقّي إلى مستوى واقعيّ، ولكنّها سَرْعان ما تزجُّه في الترميز أو تخرج به من الواقعيّـة إلى الخيال الجامح الذي يتعامل مع الأشياء التي تُشبه الخرافة، أو هي هي. ويُخيَّل إليَّ أن هذه الرواية تحتاج إلى حديث خاص يسبر أبعادها، ويضع غازي القصيبي حيث يجب أن يُوضع بين الروائيين العرب. والظّنّ بأن التمهيد لهذا الحديث يحتاج إلى توضيح الزمن الروائيّ في (العصفوريّة)، تبعاً لأهميته في الإشارة إلى جوانبها المختلفة، فضلاً عن أنه يُمهِّد لتحليلي علاقة الشخصية بالزمن في رواية (ثم أزهر الحزن) لفاضل السباعي.
في رواية (العصفوريّة) قسمان : مدخل ومخرج. أما المدخل فيمتدُّ ثلاثاً وتسعين ومائتي صفحة، في حين يقتصر المخرج على صفحتين. يبدأ المدخل بالبروفسور في العصفورية، ويدور المخرج حول اختفاء هذا البروفسور من العصفوريّة. وما بين البدايـة التي يستدعي البروفسور فيها الدكتور سمير ثابت، والنهاية التي يكتشف فيها الدكتور نفسه اختفاء البروفسور، حوار طويل يمتدّ إحدى وتسعين ومائتي صفحة، يتحدَّد في نهايتها الزمن الذي استغرقه الحوار بينهما، وهو عشرون ساعة(2). وتحديد زمن الحوار لم يكن غير حيلة أسلوبيّة تُوهم بالزمن الروائيّ، وتسعى إلى إضفاء صفة المعقوليّة على الحوار الطويل بين الشخصيتين الوحيدتين في رواية العصفوريّة.
بيد أن قارىء رواية العصفورية يدرك بسهولة أن الزمن الروائي طويل جداً قياساً إلى زمن الحوار المحدَّد بعشرين ساعة. ذلك لأنه يلاحظ أن الراوي (البروفسور) في أثناء حواره مع الدكتور سمير ثابت يستعيد سيرة حياته كلها، وهي حياة ممتدّة في الزمن، مملوءة بالحوادث. بل إن هذا القارىء يعتقد بعد فراغه من قراءة الرواية أن الحوار، وهو الحاضر الروائي، وسيلة لاستعادة الماضي الروائي، وتعليل لاختفاء البروفسور في خواتيم الرواية. وهذا يعني أن الزمن الروائي في (العصفوريّة) يضمّ الحاضر والماضي الروائيين، ولكنّ الحاضر المحدَّد بعشرين ساعة يحتوي الماضي الطويل بوساطة تقنية الاسترجاع دون أن ينفصل عنه. والمراد بذلك أن البروفسور يسرد في الحاضر الروائيّ حكايته على الدكتور سمير ثابت، وفي أثناء هذا السرد يسترجع شيئاً من ماضيه ثم يتركه إلى الحاضر. وهكذا ينتقل الزمن الروائي من الحاضر إلى الماضي، ومن الماضي إلى الحاضر، بحيث يبدو الحاضر منطلق الزمن وقاعدته ومنتهاه، كما يبدو على مستوى المضمون وسيلة لتقديم حكاية البروفسور وتثبيتها عند الدكتور سمير ثابت ليكون شاهداً على مسوّغ الاختفاء في نهاية الرواية.
إن حكاية البروفسور هي الوسيلة الوحيدة لتحديد زمن استرجاع الماضي أو مداه. ذلك لأن الراوي (البروفسور) يعترف في بداية حواره مع الدكتور سمير ثابت بأن عمره خمس وأربعون سنة. وهذه الإشارة الزمنية توحي بأن البروفسور في الحاضر الروائي يبلغ الخمسين من عمره على أقل تقدير. أما الحوادث التي يسردها الراوي (البروفسور) فترجع بداياتها الأولى إلى تلقّيه العلم في أمريكا، وكان آنذاك شاباً لا يجاوز العشرين أو الخامسة والعشرين من عمره في الحدِّ الأعلى. وعلى الرغم من أن حوادث الحكاية لا تُحدِّد زمن تلقّي العلم بدقة، فإنها تُصرِّح من خلال علاقة البروفسور بسوزي بأن الراوي البروفسور كان آنذاك شاباً تملؤه الحماسة. كما يُصرِّح الراوي نفسه من خلال حكايته مع فرحة ربيع(3) بأنه رآها قبل سفره إلى أمريكا، وكان آنذاك فتى، فأحبَّها، ثم بعد عودته من أمريكا وفجيعته بسوزي لقي فرحة ربيع ثانية واقترن بها. وعلاقة البروفسور بسوزي وفرحة ربيع تدلُّ دلالة واضحة على أن مدى الاسترجاع يمتدُّ من الشّباب الأول للبروفسور في أمريكا إلى الحاضر الروائيّ والبروفسور في الخمسين من عمره على أقلِّ تقدير. وهذا يعني أن مدى الاسترجاع طويل يبلغ نحواً من ربع قرن.
ههنا تتضح اللّعبة الرّوائيّة الدّقيقة في رواية (العصفوريّة). فقد رغب الروائي في أن يسرد حكاية شخصيّته لأنها تملك تجربة طويلة مريرة على المستويين الخاصّ والعامّ. فهذه الشخصية تنتقل – على المستوى الخاصّ – من مصحّة مونتري إلى العصفورية في لبنان، ثم مصحّة بلاكبول في انكلترة، فمصحّة جنيف. وهي – على المستوى العامّ – تنتقل من تجربة تقديم العون للثورة في عربستان 48 إلى تقديم العون نفسه للثورة في عربستان 49، فعربستان 50، وأخيراً عربستان 60. وتجربة البروفسور – في مستوييها العام والخاص – مريرة، قادته بعد ذلك إلى الاختفاء من الدنيا والسّياحة في الفضاء الخارجيّ .
والواضح أن البروفسور يسرد تجربته الخاصّة بانتقاله بين المصحّات. وقد قادته هذه التجربة الخاصّة إلى ما بدأ به من ضرورة تقديم العون للأمّـة العربيّة لتنهض من تخلُّفها وتتمكّن من اللّحاق بالأمم المتقدِّمة، ومن القضاء على إسرائيل. وهذا الأمر جعله ينتقل من التجربة الخاصّة بالمصحّات إلى التجربة الخاصّة بالانقلابات. فقد قدَّم العون (نصف مليار دولار) لصلاح الدين المنصور في عربستان 48، ولكنّ هذا الضابط تحوَّل بعد نجاحه في الانقلاب إلى دكتاتور. ثم قدَّم عوناً ماليّاً مماثلاً لمناضل من عربستان 49 هو برهان سرور، فإذا بهذا المناضل يتحوَّل بعد نجاحه في الانقلاب إلى دكتاتور أيضاً. ثم التقى ضياء المهدي الذي بدا رجل دين محافظاً راغباً في نشر العقيدة في عربستان 50، فإذا به يتحوَّل بعد نجاحه في الانقلاب إلى راغب في نشر العقيدة بقوّة السّلاح، ويروح يتلهّى بمحاربة عربستان 49 المجاورة له بدلاً من الانصراف إلى محاربة أعداء بلاده. وقد خلص البروفسور من تجارب الانقلابات الثلاثة إلى أن الديمقراطيّة هي الحلّ النهائيّ للأمّة العربيّة، فساعد عربستان 60 على تجسيد هذه الديمقراطيّة، ولكنّه اكتشف بعد نجاح التجربة أن ضابطاً تمكَّن من الانقلاب على الحكم الديمقراطيّ، وتسنّم الحكم في عربستان 60، فيئس الرّاوي البروفسور، وهجر الدُّنيا مختفياً في الفضاء الخارجيّ .
إن مدى الاسترجاع طويل في رواية العصفوريّة كما هو واضح من سرد وقائع المصحّات والانقلابات. ولكنّ الحوادث المرويّة بوساطة الاسترجاع هي الغرض الأساسيّ من الرواية، بل إنها المعبِّرة عن رؤيا غازي القصيبي لواقع الأمة العربية. ولو لجأ القصيبي إلى الزمن الحاضر وجعله خطّياً لما كان لرواية العصفورية ذلك الرونق والتشويق والقدرة على مزج الخاص بالعامّ في تجربة الراوي البروفسور. وما فعله الروائي غازي القصيبي هو البدء بالمزج بين الخاص والعامّ، فافتعل موضوع الحوار في العصفورية، وجعل زمنه بطيئاً (عشرون ساعة)، وسمح للراوي البروفسور في أثناء ذلك باسترجاع ماضيه ثم العودة إلى الحاضر في نوع من التناوب بينهما، بحيث يبقى القارىء المتلقّي يتابع الحاضر ويتلقَّى من خلاله الماضي الذي سيُعلِّل النهاية نفسها، وهي نهاية تضمُّ مغزى الرواية ورؤيا الروائيّ.
ومن المفيد أن نلاحظ أن التناوب بين الماضي والحاضر لم يعرف قطع أحدهما للبدء بالثاني. أو قُلْ إن القَطْعَ لم يكن وسيلة الرّاوي لتجسيد التناوب. ذلك لأن هناك وسيلتين أساسيتين حلّتا محل القطع، ونجحتا في مزج الماضي بالحاضر، وإضفاء التماسك الفنّيّ على الرواية كلّها. أما الوسيلة الأولى فهي الاستشراف الحقيقيّ، وأما الثانية فهي الاستطراد.
أمّا الاستشراف – وهو تقنية زمنيّة كما هو معروف(4) – فيعني الإشارة إلى حوادث ستقع في مستقبل السرد، أو في الزّمن اللاحق للسرد. وهذا الاستشراف غير متداول في الرواية العربية بكثرة، ولعلّ رواية (فياض) التي حللتُها في أثناء حديثي السابق عن بناء السرد، أكثر الروايات العربية استعمالاً لهذا الاستشراف. وربّما رجع عدم اهتمام الرواية العربية بالاستشراف إلى أنها، في الغالب الأعمِّ، ما زالت رواية خطّيّة، تسرد الحوادث من بدايتها إلى نهايتها، أو تتلاعب قليلاً بهذه الحوادث تقديماً وتأخيراً، دون أن تشير عموماً إلى حوادث لم تقع بعدُ. وما فعله غازي القصيبي هو اللجوء إلى عبارة تدلّ على الاستشراف، بحيث تُهيِّىء هذه العبارة القارىء لتلقّي حادثة ستقع في السرد اللاحق. وهذه العبارة الاستشرافيّة هي – غالباً - : (سوف أحدّثك عن ذلك فيما بعد)(5). ووصْفُ الاستشراف بأنه (حقيقيّ) نابع من أن الراوي يُجسِّد هذا الوعد، فيُحدِّث الدكتور سمير ثابت بعد العبارة الاستشرافيّة بصفحات تطول أو تقصر بما وعده به. والاستشراف الحقيقيّ في هذه الحال نقيض الاستشراف الكاذب الذي يُقدِّم الراوي فيه عبارة استشرافية، ولكنّه لا يُحقِّق مضمونها في السرد اللاحق. والراوي يستفيد من الاستشراف الكاذب في شدِّ القارىء إلى النّصّ، وتشويقه إلى الحوادث اللاحقة فيه. أما الاستشراف الحقيقي فلا يهدف إلى التشويق أساساً، بل يهدف إلى تهيئة المتلقي للحوادث اللاحقة، ومزج المروي في الماضي بالمروي في الحاضر بغية ربط حلقات السرد، وجعل الرواية مترابطة تُجسِّد التماسك الفني. فالعبارة الاستشرافيّة المذكورة قبل قليل وردت في الصفحة العشرين من رواية العصفورية، ومفاد هذه العبارة الاستشرافية أن الراوي سيُحدِّث الدكتور ثابت عن تعيينه وزيراً للشؤون الهامّة في عربستان 49. وبعد مائتي صفحة(6) يُجسِّد وعده، فيحدِّثه عن تعيينه وزيراً للشؤون الهامة في عربستان 49، وما فعله في أثناء تولّيه الوزارة وبعد تخلّيه عنها. وتجسيد العبارة الاستشرافية يدلُّ على أن ذاكرة الروايـة جزء من تقنيتها الزمنيّة ؛ لأن الراوي لا ينسى شيئاً وعد بتنفيذه، وهذا ما يضفي على النص المصداقيّة الداخليّة، ويجعل المتلقي أكثر انتباهاً للعبارات الاستشرافية، وأكثر دقة في تتبُّعها، ومن ثَمَّ يربط حاضر الحوادث بالسابق واللاحق منها.
ولم يكن الاستطراد غير وسيلة أخرى تكمل مهمّة الاستشراف الحقيقيّ. والاستطراد هنا هو الخروج من سرد الحوادث إلى قضايا ثقافيّة ذات لبوس تخييليّ حيناً، وخرافيّ أحياناً. والقضايا التي ذكرها الراوي في أثناء الاستطراد كثيرة جداً، كعلاقته بالمتنبي والزعماء السياسيين، وزواجه من جنّيّة ثم من فراشة من الكائنات الفضائيّة، وزيارته عبقر الشعراء وموطن الكائنات الفضائية، وما إلى ذلك. وتبرز في أثناء الاستطرادات السُّخرية العلنيّة والمبطَّنة من قضايا المجتمع والإنسان. ويعتمد الراوي في استطراداته على شعر المتنبي كثيراً، ويغوص أحياناً في نقاش فقهيّ وطبّيّ، أو يتلاعب بالألفاظ ويتفنّن في تفسير الأمور وإحالتها إلى مراجعها. وذلك كله جعل رواية (العصفورية) متميِّزة في استعمال الإشارات الثقافيّة، وتضمينها، وإحالتها إلى شيء أساسيّ في بنية الرواية. ولولا الاستطراد الذي لجأ إليه الراوي لما كانت هناك إمكانية لتقديم هذا التنوُّع في الإشارات الثقافيّة. بيد أن الشيء اللافت للنظر هو استعمال الاستطراد بين الاسترجاع والاستشراف، بحيث بدا عاملاً رئيساً في المزج بين الماضي والحاضر، وفي التمهيد للحوادث في السرد اللاحق. ومن ثَمَّ انتفى القطع من نصِّ الرواية، فبدت متماسكة مترابطة الحلقات.
ومن المفيد القول إن علاقة الشخصية بالزمن الروائيّ في رواية (العصفورية) تُنبىء عن مهارة في ضبط الزمن الروائي، وتُقدِّم شكلاً فنياً أشبه بالسيرة الفنية للشخصيّة الروائيّة. صحيح أن هذا الضبط ساعد القصيبي على تقديم رؤيا سوداء لحال الأمة العربية، وأن رواية (ثم أزهر الحزن) لفاضل السباعي التي سأتابع من خلالها تحليل علاقة الشخصية بالزمن، تُعبِّر أيضاً عن رؤيا اجتماعيّة رومنتيّة تختلف عن مثيلاتها الأوربيات في احتجاجها على الواقع ومطالبتها بحقوق القلب وارتباطها بالطبيعة(7). ولكنّ الصحيح أيضاً أن اهتمامي بتحليل علاقة الشخصية بالزمن في روايـة (ثم أزهر الحزن) لا يرجع إلى رؤيتها الرومنتيّة، بل يرجع إلى ريادتها(8) في (اللاشخصية) ؛ أي في قدرة فاضل السباعي على إخفاء (أناه)، وابتعاده عن التغنّي بعواطفه الخاصة، بغية الانصراف إلى خدمة المجتمع الروائيّ. ويمكن أن أضيف، بالنسبة إلى (ثم أزهر الحزن) والرواية العربية السورية قبل عام 1967، ما كان معروفاً عن ضعف الاتجاه الواقعيّ وسيادة المجتمع المحافظ الآخذ بالتحرُّر الاجتماعيّ، وما نجم عن ذلك من صراع بين القيم التقليديّة الرّاسخة والجديدة الوافدة. ففي ظلال هذه الدلالة العامة نستطيع فهم (ثم أزهر الحزن) على نحو أكثر دقة، فضلاً عن تحليل علاقة الشخصية بالزمن فيها.
الواضح أن فاضل السباعي انتصر لقيم المجتمع الجديد ؛ قيم العمل والاعتماد على النفس والحب والتماسك الأسريّ والعلم. ولكي يُجسِّد انتصاره لهذه القيم جعل خاتمـة رواية (ثم أزهر الحزن) مغلقة، وانتقل بالشخصيات من الحزن إلى الفرح، ومن الخوف إلى الأمن. ومهما يكن أمر الجانب المضموني في هذه القيم، فإن السؤال الفني الذي يهمّني هنا هو : كيف عبَّر فاضل السباعي عن القيم، أو : ما طبيعة الشكل الفنيّ الذي اختاره للتعبير عن القيم التي انتصر لها في بداية الستينيات ؟. ذلك أنه اختار أسرة من حيّ شعبيّ، وراح يمنحها ما يعتقده المجتمع المحيط بها ضعفاً، وهو وفاة عائلها مخلِّفاً وراءه خمس بُنيّات، كُبراهنَّ في الخامسة عشرة، وصغراهنَّ لم تُكمل السابعة. كما خلَّف جنيناً في بطن زوجه الشابة ذات الثلاثة والثلاثين عاماً، وراتباً تقاعديّاً بسيطاً لا يُقيم أود الأسرة. ثم عدل بمنظاره من رصد الأسرة كلها إلى رصد فرد منها، هو (هالة) البنت الثالثة التي توفّي والدها وعمرها أحد عشر عاماً. وجعل خاتمة الرواية خاتمة للأسرة عموماً وهالة خصوصاً، مُطلقاً على القسم الأول الخاص بالأسرة عنوان (الحزن)، وعلى الثاني الخاص بهالة عنوان (الحب)، وعلى الثالث الخاص بهما معاً عنوان (الفرح)، منطلقاً في اختيار العنوان من طبيعة الحوادث المعروضة في كلّ قسم من الأقسام الثلاثة، محافظاً في أثناء ذلك على ارتباط الحوادث الروائيّة وسببيّتها.
وميزة فاضل السباعي الفنية هنا كامنة في مخالفته السائد آنذاك في الرواية العربية السورية. إذ لم يلجأ إلى الحبكة التأريخيّة التي تضمن عرض الحوادث من بدايتها إلى نهايتها مروراً بأزمتها وتعقُّدها، بل لجأ، أول مرة في الرواية العربية السورية، إلى جعل الرواية تبدأ من الثلث الثاني للرواية ؛ ذلك الثلث الذي عنونه بالحب، ثم رجع إلى البداية التأريخيّة وراح يعرض الحوادث مرتَّبةً ترتيباً زمنياً وسببيّاً، حتى إذا غطّى ما وقع في الثلثين المذكورين ووصل إلى الحاضر الروائي تابع النسق الزمنيّ الصّاعد إلى نهاية الرواية المغلقة على تتويج الأم كوثر أمّاً مثلى، وفوز هالة بسمير بعد حبّ وفراق ولوعة. وهكذا كان في (ثم أزهر الحزن) نسقان : صاعد وهابط
صاعد.gif
ولم يكتف فاضل السباعي بالنسقين الهابط والصاعد في أثناء تقديمه الحوادث الروائيّة، بل ابتعد عن الرواية تاركاً لإحدى شخصياتها فرصة سرد الحوادث سرداً مباشراً بضمير المتكلّم بدلاً من ضمير الغائب الأثير لدى الروائيين السوريين آنذاك. ولو دقّقنا في شخصية هالة، وهي الراوية المختارة لسرد الحوادث، للاحظنا أن (أناها) الروائيّـة نوعان أو نمطان : نمط الأنا الشاهدة ونمط الأنا المشاركة. فبوساطة الأنا الشاهدة سردت هالة الحوادث التي راحت تترى على أسرتها، وبوساطة الأنا المشاركة راحت تسرد علاقتها بسمير ودراستها وعملها وكلّ ما يتعلّق بأحاسيسها ومشاعرها. وقد بدأت الرواية بالأنا الشاهدة، واستمرّت هذه الأنا قويّة طوال القسم الأول (الحزن)، ولكنها بدأت تضعف في القسمين الثاني (الحب) والثالث (الفرح) لتحلَّ الأنا المشاركـة محلَّها، وكأنّ مرتكز الرواية انتقل من الأسرة إلى فرد واحد فيها، كما انتقلت الأسرة نفسها من البيئة الشعبيّة ودار الأحزان إلى بيئة حديثة ودار ممهِّدة للأفراح.
على أن هذا الانتقال كان كبيراً بالنسبة إلى أسلوب عرض الحوادث. ذلك أن الأنا الشاهدة رصدت الأسرة في القسم الأول (الحزن) ضمن بيئتها الشعبيّة، مشيرة إلى تعدُّد الزوجات وصراع الضرات وعلاقات الجوار والموقف الاجتماعيّ العامّ من الأسر التي لا عائـل لها، فضلاً عن عادات الأسرة وتقاليدها الخاصة بالإنجاب والعمل والعلم. ولكنّ أسلوب العرض في القسم الثاني (الحب) أضعف الأنا الشاهدة حين قصرها على الأسرة دون عادات البيئة الحديثة وتقاليدها، وكأنّ الأسرة سكنت (طابقاً) في بناء خال من السكَّان بعيد عن العمران. ومسوّغ الرواية في ذلك واضح، هو التركيز على (هالة) انطلاقاً من أنها موئل التغيير في المجتمع الروائي، المعبِّرة عن حقوق القلب وعمل المرأة وصورتها الداخليّة، بدلاً من حقوق المجتمع وصورته الخارجيّة.
ومهما يكن أمر الأنا الروائيّة فإنها بنمطيها صوت واحد وحيد في الرواية، هو صوت شخصية هالة الذي رافق القارىء المتلقي ابتداءً من السطر الأول وانتهاءً بالسطر الأخير، وقدَّم له الحوادث في شكلها الخارجيّ وانعكاساتها الداخليّة. والميزة الفنيّة التي أتاحها استعمال نمطين للسرد نهضت بهما راويـة واحدة، هي الاكتفاء بالرصد الخارجيّ في أثناء استعمال الأنا الشاهدة، ومزج الرصد الخارجيّ بالداخليّ في أثناء استعمال الأنا المشاركة، تبعاً لكون هالـة تعرف عن نفسها ما لا يعرفه الآخرون عنها ؛ ولأنها ترى ما يحدث لأسرتها وتشارك فيه. ومن ثَمَّ توسَّل أسلوب العرض برؤيتين : رؤية من الخارج اصطنعتها الأنا الشاهدة، ورؤية (مع) اصطنعتها الأنا المشاركة لتسرد الحوادث التي تخصُّها وحدها.
وعلى الرغم من أن هالة، وهي الشخصية المحوريّة في (ثم أزهر الحزن)، كانت فرداً من أفراد الأسرة في القسم الأول، فإن رصدها كان عاماً شاملاً أفراد أسرتها ولم يكن مقصوراً على فرد دون آخر. وقد عكست الأمر في القسم الثاني، فسلَّطت الضوء الروائيّ على نفسها وجعلته باهتاً في الأمور المتعلِّقة بأسرتها. وإذا كان اعتماد الأنا الشاهدة والأنا المشاركة اعتماداً وظيفيّاً وليس مجرّد تقنية روائيّة شكليّة، فإن الفرصة التي ضيَّعها فاضل السباعي هي تعدُّد الأصوات الروائيّة القادرة باختلافها وتباين وجهات نظرها ورؤاها على خلق عالم روائيّ يوازي العالم الحقيقيّ ويُوهم به. أما اختزال الأصوات الروائيّة في صوت واحد فقد وفَّر له فرصة خلق شخصية هالة، ولكنّه في الوقت نفسه ترك القول السرديّ يتنازل عن ديمقراطيته وانفتاحه على الشخصيات الروائيّة الأخرى بغيـة معرفة منطوقها وآرائها(9) وعلاقاتها، فضلاً عن أفكارها وأحاسيسها وما يقود إلى تناقضها وصراعها مع بعضها بعضاً أو مع المجتمع المحيط بها. وهذا هو السبب الذي جعل المرء يلاحظ أن رواية (ثم أزهر الحزن) لا يميزها الصراع، بل تميّزها الحكائيّة التي تُعبِّر عن وعي هالة، وهو وعي ذاتي للمجتمع الروائيّ وليس وعياً موضوعيّاً له.
ولا أشكُّ في أن جوهر الصوغ الروائيّ يكمن في طبيعة علاقات الراوي بالشخصيات(10). ولأن رواية (ثم أزهر الحزن) تضمّ علاقة اتحاد بين الراوية وشخصية هالة، فإن البناء الزماني فيها ارتبط بتطور وعي هالة لذاتها. فقد بدأت تسرد حوادث الرواية وعمرها اثنان وعشرون عاماً، بعد تخرُّجها في الجامعة وتطوُّر علاقتها بسمير وزواج أختيها سليمى ورابعة. فزمن القصّ، إذاً، هو الحاضر الروائيّ، ولكنّه حاضر مجمَّد ؛ لأن الراوية تركته عائدة إلى ما قبل أحد عشر عاماً لتسرد الحكاية من بدايتها. وكان تقديم الماضي نوعاً من المذكِّرات المسرودة بوعي الحاضر ونضج هالة فيه، ولم يكن تقديمه بالوعي الذي كانت الشخصية نفسها تملكه وهي، بعدُ، صغيرة لا تجاوز أحد عشر عاماً. ولا تعليل لذلك غير الاهتمام بالتعاقب التاريخيّ لحوادث الحكاية، وهو تعاقب واضح جداً مؤرَّخ بالأعوام والشهور وفصول السنة تأريخاً دقيقاً ينم على تصميم زمنيّ محكم .[/align][/cell][/table1][/align]