22 / 12 / 2009, 50 : 08 PM
|
رقم المشاركة : [5]
|
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي
|
رد: لقاء مع ملك الموت .. رواية الأديب د. يوسف جاد الحق
خوف صاعق يلمُّ بي فيذهلني عما حولي، على الرغم مما يبذله ذلك الطبيب الكهل من محاولات لإدخال الطمأنينة إلى قلبي، مؤكداً لي بابتسامته الهادئة الرصينة أنها عملية سهلة لا خطر منها على الإطلاق. شعره الأشيب والسماعة الطبية تتدلى على صدره، ونظارتان ذهبيتا الإطار تبدو من ورائهما عينان واثقتان لمَّاحتان مما يضفي على سمته وقاراً، ويكسبه ثقة ومهابة. ها هو ذا ينبئني بأنه قد أجرى مئات العمليات الجراحية مثلها من قبل، وأن نسبة النجاح فيها ما كانت بأي حال لتقل عن تسع وتسعين في المائة..! عملية واحدة منها تحتمل الفشل. صحيح أن ذلك الواحد الأخير سوف يلقى حتفه، بيد أنها نسبة لابأس بها بالمعايير الطبية السائدة. المسألة عندئذٍ قدرية لا يد للطب فيها. بل إنه ـ الطب ـ يقف عاجزاً حيالها. هي قضاء الله الذي لا يرد كما ترى. ثم أردف قائلاً، وهو يقطب جبينه، محدِّقاً في وجهي بعينيه الضيقتين الواثقتين:
ـ نحن مؤمنون أيها السيد بالقضاء والقدر خيرهما وشرهما من الله تعالى. أليس كذلك..؟
ثم مضى.
لكم لمتُ نفسي. يا إلهي.. هل أراهن على واحدٍ في المائة فارقاً بين الموت والحياة؟ لا أدري لماذا داخلني التشاؤم عند ذكره الرقم تسعة وتسعين بالمائة. عندها ذهب بي التفكير إلى من ربط هذا الرقم بقضيتنا على أنه في يد السيدة أمريكا. وإلى أين وصل بنا الحال بسببه..! هذا نذير شؤم بحق. لمت نفسي حقاً. إذ وافقت على إجراء هذه العملية التي بتُّ أرى الآن أنها لم تكن ضرورة قصوى إلى حدِّ المخاطرة بحياتي،ولو بهذه النسبة الضئيلة للغاية، ولكنها قد تغدو، على الرغم من ضآلتها المؤكد الوحيد المرتقب. لقد يمَّمت شطر هذا المشفى طائعاً مختاراً، سعياً على قدميَّ هاتين، ومن تلقاء نفسي. ما من أحدٍ أكرهني على ذلك. إنه إذن قدري الذي ساقني إلى حتفي ها هنا، وإلا فكيف لي أن أفسِّر موافقتي المتسرعة الطائشة على اقتراح ذلك الجرّاح المتحمس لإجرائها، هكذا دونما تدبُّر أو تفكُّر؟ ألا تكون هذه ساعاتي الأخيرة على هذه الأرض؟ ألن أرى الشمس غداً ولا القمر؟ أيختفي هذا الكون بما فيه ومن فيه عني بعد الآن..!؟
عما قليل كان الأمر بيدي، أما الآن فها أنذا بين أيديهم، يملكون من أمر حياتي ما لا أملك.. هذا السرير البغيض،برغم نصاعته المراوغة، فكأنه يحدِّق فيوجهي شامتاً بعينين ماكرتين. النوافذ موصدة،والستائر محكمة الإغلاق، والإضاءة باهتة. آلات وأجهزة صمَّاء مخيفة.. مشارط ومقصات ومباضع ذات بريق مثير. هذه كلها تتأهب فرحة لتقطيع جسدي وشيكاً. وفي السقف عدد من العيون الزجاجية الضخمة، تشعُّ منها أضواء ساطعة، تبدو معادية متربصة. مزيج من روائح الأدوية والمعقمات ومواد التخدير توشك أن تكتم أنفاسي وتثير غثياني. تبّاً لي، ما هذا الذي صنعتهبنفسي..؟ وأيّ وبالٍ جلبته على الأولاد وأمهم.. إنهم هناك في الصالة ينتظرون مع الأصدقاء والأقارب وزملاء العمل والحرفة لا يحول بيني وبينهم غير هذا الجدار الفاصل بين عالمين مختلفين تماماً، وهذا الممر المفضي إلى حيث لا أدري. إنني الآن أحسدهم حيث هم. لكم أتمنى لو أكون بينهم. بعد ساعة أو اثنتين، وحين أغادر هذه المشرحة سوف يهبُّون وقوفاً وجلين مذعورين،يقومون قومة رجلٍ واحد، يهرعون نحو (النقَّالة) المتهادية بحيادية مثيرة عبر الطرقة من قبل أحدهم. يحبسون أنفاسهم المتسارعة، يحاولون الاقتراب للاستفسار في وجل، فتوقفهم نظرة صارمة من الطبيب المرافق لجسدي الهامد، وهم بعد لا يعرفون شيئاً عن نتيجة العملية.
التساؤلات في عيونهم الممتلئة رعباً وجزعاً، أملاً ورجاءً أيضاً. حيٌّ أم ميتٌ لا يدرون. عيونهم وآذانهم شاخصة معلقة على شفتي الطبيب ذي الأعصاب المفرطة برودة وحيادية. لكأن حياتي ومماتي لديه سيَّان. ولكن ما الفائدة الآن أيها المتذاكي دائماً.. يبدو أن السيف قد سبق العذل هذه المرة. كان عليك أن تكون أكثر فطنة. وكان حرياً بك أن ترفض مشورة ذلك الجرّاح الذي ربما كان دافعه غير بريء، إذ هو سوف يجري عملية يتقاضى عليها أجراً مجزياً، أيّاً كانت النتيجة المترتبة عليها. سوف يسرُّه نجاحها بلا ريب، بيد أنه لن يكترث كثيراً إذا لم يتحقق ذلك. والأطباء لا يسائلهم أحد في جميعالأحوال، حتى حين يخطئون، ولو كان الخطأ مميتاً، فالأعذار جاهزة، والمسوِّغات متوفرة، أسهلها (القضاء والقدر) و(الأعمار بيد الله)..! الشماعة التي يعلقون عليها أوزارهم. وقد عرف عنهم أنهم يشد بعضهم أزر بعض، فهم من ثم لا يخشون عقوبة ولا ينتظرون مساءلة أو محاسبة. كائناً من تكون أنت رقم مجرَّد ليس إلاَّ..!
لا ريب إذن في أن العملية بالنسبة إليه تجارية بحتة، أم تراني نسيت تجاربي الكثيرة المريرة معهم؟ متى استشرت طبيباً ـ جرّاحاً على مدى السنين المنصرمة في شأن وكانت نصيحته شيئاً آخر غير إجراء عملية.. و.. (على الفور وقبل فوات الأوان..!؟)، حتى لو كانت اقتلاع ظفر..؟ بسبب من مخاوفي المفرطة آنذاك كنت أعمد إلى المراوغة أو إرجاء البت في المسألة متذرعاً بسفر طارئ مثلاً، تفادياً للوقوع في المحظور، ثم تمرّ الأيام، وتنسى المسألة برمتها، وكأن مرضاً لم يكن..! لماذا رضخت لرأي واحدٍ منهم هذه المرة إذن؟ أنا الذي لم يكفَّ يوماً عن المباهاة أمام أقرانه بفطنته وذكائه..؟ كانوا ينكرون عليَّ ما أزعم، وها أنذا الآن أجدني عند حسن ظنهم حقاً..! أهي المنية قادمة والتي إذا ما أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفع..؟
والدتي، رحمها الله، وأدخلها فسيح جناته كانت تقول لا يغني حذر من قدر. آه هذه هي المسألة. القدر. وقدر الإنسان أن يلقى الموت مهما امتد به العمر، فما أحياء اليوم، وأنا منهم حتى اللحظة ـ إلا أموات الغد، وأموات الماضي كانوا أحياء الأمس. ويمضي مركب الزمن فإذا الكل سواء: لقد تساوى في الثرى راحلٌ غداً وماضٍ من ألوف السنين. حكمة الشاعر هذه تنطبق عليَّ في السويعات القليلة القادمة.. كانت لأحياء الأمس تطلعات وأحلام وآمال مثلنا الآن تماماً. ثم مضوا حتى دون أن يدركوا أن ما عاشوه ما كان غير ركام من الأوهام الخادعة. سلسلة آمال متصلة ما إن يتحقق واحدها حتى تمسي واقعاً انتفت عنه صفة الأمل. وتمضي الحياة مع سلسلة الآمال المتصلة هذه منذ البداية حتى النهاية. نكدُّ ونكدح سعياً وراءها العمر كله.. ثم هي في النهاية ذلك الركام الخادع من الأوهام ما مضى من عمري أراه الآن سراباً.. هل عشته حقيقة أو تراني حلمت به..؟ أين هو ذلك العمر المزعوم..؟ قبض ريح.. سراب في سراب.. حلم يقظة كان أم تراه كان مناماً..؟ يا لوجودنا العارض على ظهر هذا الكون والذي سرعان ما يزول.وما بال الصراعات المحتدمة بين البشر مذ وجدوا. (كل صراع في هذه الدنيا يدور بين الموت والحياة.. بين الفناء والوجود.. وفوق هذا الوتر المشدود عاش البشر عبر القرون..).
هل للوجود الإنساني وجود حقاً؟ أم تراه عارض لا يلبث أن يزول..؟
ما العمر إلا ساعةً.. أو سويعات عابرة لكنها تمضي بسرعة الضوء.. يا إلهي.. لم أفكر هكذا من قبل. هذه المحنة خلقت مني فيلسوفاً.. أين مني سقراط وأفلاطون وأرسطو..؟ ولكن (فيلسوف) ما بعد فوات الأوان أيضاً..!
عندما يخرج الطبيب النطاسي ليقول لهم، بعد أن يهزَّ رأسه أسفاً، مرتين أو ثلاثاً.. متردداً في البداية.. متمهلاً.. متلعثماً.. ثم مغمغماً: (العوض بالله يا جماعة..!). وفي هنيهات انعقاد ألسنتهم سوف يضيف بثقة بالغة ونغمة متعالية ـ شأن الأطباء دائماً مع سائر خلق الله ـ (ألم أقل لكم منذ البداية الفشل وارد بنسبة واحد في المائة؟ هو ذا الواحد في المائة، وللمصادفة المحضة نصيب رجلكم. ألا تؤمنون بأن الأعمار بيد الله يا جماعة وأن لكل أجلٍ كتاب.!؟). سيقول ذلك وكأنه سعيد بتحقق نبوءته..!
تضجُّ الردهة دفعة واحدة عندئذ، بالصراخ والعويل، ويسود هرج ومرج، وهم ما بين مصدِّق ومكذِّب، بل إن صديقي طلعت يوشك أن يمسك بتلابيب الطبيب ناسباً إليه التقصير والإهمال. ويتحمس الصديق محمد بوصفه قانونياً فيعلن أنه سوف يقاضيه على جريمة قتل موصوفة "لقد كان صاحبنا قوياً كالحصان.. فما الذي حدث بربكم". أبداً لن يتوانى أيٌّ منهم في الحملة على الأطباء والمشفى أيضاً..! أتراهم يفعلون ذلك كله من أجلي..؟ مدهش هذا حقاً على الرغم من كل شيء. لسوف يدمغون إدارة المشفى أيضاً بالجشع والمتاجرة بأرواح العباد. ولكن ماذا يجديني كل ذلك؟ النتيجة هي هي.. وها أنذا أفارق الحياة والأحياء بهذه البساطة دونما سبب سوى غبائي وقلة حيلتي.. تسرعي وطيشي. ولكن ما نفع هذا أيضاً..؟ سوف أمضي للقاء وجه ربي وكأني لم أكن يوماً على ظهر هذا الكوكب. بل سوف أغدو نسياً منسياً في غضون أيام أو أسابيع قليلة. وشيكاً سوف أكون هناك في العالم الآخر، ويقوم بيني وبين أحبَّتي هؤلاء برزخ أزلي يستحيل على أيٍّ منا.. أنا وهم، عبوره نحو الآخر..!
أما العزاء فلسوف يقام في منزلي هذا المساء، ولثلاث ليالٍ متتاليات. منزلي هذا لن يتاح لي دخوله مرة أخرى ومنذ الآن. آه كم أشتاق إليه.. إلى غرفة المكتبة.. إلى تلك الكنبة التي اعتدت الاضطجاع عليها أتصفح ما أقرأ. ولسوف يغصُّ هذا المساء بالأقارب والصحاب. يجلسون هناك حيث كنت أجلس تماماً مع زواري ورفاقي الأدباء، بصورة خاصة، نمضي سهراتنا في سفسطة مستحبة، ومناوشات كلامية فارغة ـ لا تسفر عن طائل في المحصلة، بيد أنها كانت جميلة الآن.فقط أرى أنها كانت جميلة. أجل، يمكن الآن لأي كان، إلآَّي، أن يحظى بالجلوس في الصالة على الأرائك ذاتها التي دفعت ثمنها نقداً لا تقسيطاً. أنا الذي لم يدَّخر وسعاً في تأثيثه. لكأني فعلت ذلك من أجل هؤلاء ولا أكون بينهم. لسوف يمعن المعزُّون النظر إلى هذا كله بعيون ناقدة مدققة إبان صمتهم يستمعون إلى تلاوة الذكر الحكيم، من قبل رجل سوف يتقاضى أجراً على ذلك برغم صوته الأجش الذي لا يوحي بالخشوع الذي تقتضيه المناسبة. صمتهم المطبق يوحي للناظر إليهم بأنهم محزونون إلى حدٍّ كبير، فيما هم في واقع الحال ليسوا كذلك، إذ إن واحدهم يسرح بعيداً عن المكان، يفكر في شأنٍ ما، قد يكون لقاءً مع رفيق أو رفيقة، أو دعوة إلى غداء أو عشاء. لسوف يدور الحديث همساً فيما بين بعضهم حول الذوق الفني لمن اختار طلاء الجدران، أذكر أن (رشيدة) زوجتي هي التي فعلت، وعن سقم ذوق من اختار الستائر والمقاعد.. ذلك أنا العبد لله.. فأنا ملاقٍ وجه ربي وشيكاً وقول الحق حريٌّ بي الساعة..!
أنت في هذا الصباح حيٌّ ترزق.. تغادر منزلك هذا سعياً على قدميك، ولكنك في المساء ومنذ هذا اليوم ذاته، وقبل أن تغرب شمسه سوف تكون في رحاب الأبدية عند مليك مقتدر. أتُرى وجودك على الأرض كان بلا معنى؟ أوَلست أنت مجرد عابر سبيل مادام الموت هو المحطة الأخيرة؟ أترى هذا الذي كان حياتي أم كان حياة إنسان آخر تبددت كما الرؤى والأحلام..؟ أيهما هو الحقيقة؟ الواقع أم الأحلام..؟
حبذا لو أنهم درجوا على أن يدخلوا إلى القبر مع المتوفى مصباحاً يضيء ظلمته الرهيبة. سوف أقترح هذا لو استطعت أن أكلم اليوم إنسيّاً، فأكون أول المبادرين لهذا العمل الجليل لصالح موتى المستقبل..! ولسوف تحفظ لي الأجيال القادمة سبقي إلى هذا الابتكار المدهش.. أو قل الاختراع العظيم.. بماذا يفضلني نيوتن..؟ تفاحة سقطت عن شجرتها فصنعوا من الرجل أسطورة فذة لقوله إن سقوطها بفعل (جاذبية) للأرض..! يا سلام.. الإنسان الأول على ظهر هذه الأرض عرف هذه الظاهرة قبل نيوتنهم هذا. عرف أن الأرض تجذب إليها أي شيء يتنزل من الأعلى..!
أتراهم يبخلون عليَّ بهذا أيضاً بعد أن أفنيت عمري أحمل لهم الشمس على كفي..؟ ليتهم أيضاً يودعون القبر راديو (ترنزستور)، أو هاتفاً خليوياً يؤنس الميت في وحشته. ماركوني نفسه لم تخطر له هذه الفكرة الخلاقة الفذَّة..! ومن بعده المدعو بيل جيتس..! أتحسبهم وحدهم من يخترع..!؟ ولكن لماذا نتعب أنفسنا وهم موجودون!؟ حسبنا أن يفكروا نيابة عنا..!
صحيح أن هذا المكان مستقرٌّ لكل كائن في النهاية. ولكن أليس الوقت مبكراً..؟ أنت لم تحقق بعد من أحلامك غير القليل الذي لا يؤبه له حسب المعايير المعاصرة. البيت الجديد لن يتاح لك السكن فيه وما كنت تنتظر من فرحة الأسرة عند الانتقال إليه.. زفاف سلوى من المحتَّم أن يؤجل، وأنت السبب في تعكير صفوها وعريسها وآله وصحبه.. أليس الأولاد جميعاً مازالوا في حاجة لرعايتك؟ ألست أنت من اختار توقيت العملية والقرار المتعسِّف المتسرع بشأنها..؟آه.. لكم أتوق إلى تقبيل ياسمين قبيل ذهابها إلى المدرسة.. ياسمين أثيرتك التي تشيع في نفسك بهجة وحبوراً كلما أطلَّت عليك. تمكث على قلقك وتوترك إلى أن تعود.. وها هو ذا موعد فحوصها الوشيك.. من سوف يشاركها السهر هزيعاً من الليل غيرك..؟ أوَ نسيت الديون.. مالك وما عليك؟ الأولى سوف تضيع هباءً منثوراً بلا ريب. بدداً سوف تذهب. فرصة سانحة يعفي بعضهم نفسه منها، حامداً ربه على ما حلَّ بك. ولسوف يدَّعي سدادها في وقتها بما جبل عليه من صدق في أداء الأمانة لأهلها..! وأما الثانية التي لهم فلسوف يبادر أصحابها إلى المطالبة بها حتى قبيل انتهاء أيام العزاء، خشية ضياعها في خضم خلافات الورثة. ولربما ذهب الأمر بأحدهم أن أضاف إليها ما وسعته ذمته. وقد يذهب بعضهم إلى احتساب فوائد وغرامات لا أصل لها ولا حقيقة.. ترى لماذا لم أفكر في هذه القضايا قبل أن أبلغ هذا المكان اللعين..؟ لمَ أرجأت الكثير مما كان عليَّ إنجازه في وقته تحاشياً للمتاعب المرتقبة، وإثارة الخصومات بين خلفي وأيٍّ من خلق الله هؤلاء..!؟
وما شأن سيرتك الذاتية الحافلة بكل ما هو عجيب، التي كنت تنوي أن تتحف الأجيال الصاعدة بوقائعها المثيرة..!؟ روايتك الأخيرة التي تعكف على كتابتها ولم تنجزها بمماطلتك المعهودة.. والأمسية الأدبية القادمة؟ لسوف يعتذرون عنها للحضور بسبب من غيابك الطارئ. كنت تزمع أن تطبع أعمالك الكاملة فهي الآن ناقصة..! الكتابات النقدية الجمَّة والتقريظية حول أعمالك التي شقيت في جمعها بغية نشرها في أكثر من كتاب لتطبق شهرتك الآفاق..!أين أنت من ذلك كله الآن.؟ ألم تكن سباقاً إلى فكرة هذا النوع من النشر..؟ بيد أنك في ترددك أرجأت المبادرة إليها وكأنك تملك زمام الزمن القادم فجاء من سبقك إليها. أكان أولئك أقدر منك على التصرف أم كانوا أجدر..؟
وأين هي أحلامي في تحرير الأرض والعودة إليها مع الظافرين..؟ أيوارى جسدي في غير ثراها..؟ ألا ما أفظع هذا.. ما هو متاحٌ لغاصبها ليس متاحاً لي..يا لسخرية القدر.. أأمكث بعيداً عنها حتى في موتي.. وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها..!؟ عائدون عائدون.. أين ولَّت.. أناشيد العودة ومواويل الرجوع.. يا إلهي.. أتحرق شوقاً إلى يافا شجناً إلى بحرها عند شاطئ العجمي.. حنيناً إلى المنشية.. إلى النزهة.. ها هي ذي الأمواج الهائجة تتلاطم مندفعة نحو الشاطئ.. تبحث عنا.. لا تجدنا هناك فتنحسر خائبة منكسرة.. يافا أراك رأي العين.. عشت ما عشت من أجلك أرتقب لقياك.. حلمت طوال ما مضى من عمر بأني عائد إليك. لأرقد هناك.. عندك إلى جوار أبي.. حتى هذه.. أمنية الموت على ثراها يا مالك الملك لا تتحقق!!؟ رأيتك في اللاذقية وطرطوس وطرابلس وبيروت.. أناجي الموج القادم من هناك بعد أن قبَّل رمال شطآنك.. أستسلم سابحاً في عباب الموج مبتهجاً، أستقبل النسيم الغربي منتشياً.. تلامس الأمواج من لدنك جسدي بعد أن لامست رمال شاطئك.. تلال الذهب المتلألئة تحت أشعة شمس العصاري الواهنة..
حلم ساعاتي الأخيرة تراه أم هي روحي محلِّقة هناك..؟ أتراها بوادر اللقاء الوشيك..!؟
حركة دائبة ما برحت قائمة في الردهة وغرفة العمليات.. يخرج الطبيب.. تدخل الممرضة.. يدخل آخر يرتدي زيّاً أخضر اللون، فاقعاً مثيراً للكآبة.. يغادر فتدلف ممرضة أخرى. تلقي نظرة حائرة هنا وهناك ثم تمضي.. ترى ماذا عساهم ينتظرون؟ ربما نتيجة الفحص المخبري لدمي، كما يقولون، أو تقرير ما يسمونه (المرنان المغناطيسي).. علمت من آخر ممرضة أطلَّت أن التقرير الأخير لم يعجبهم، ومن ثمّ سوف تتأخر العملية بعض الوقت ريثما تعاد الفحوص..
آه لكم أتوق إلى لقيا الأصدقاء جميعاً.. حتى أولئك الذين كنت أستثقل ظلَّهم دون أن أفصح لهم عن شعوري نحوهم.. لسوف تكون فرصة مواتية لهم للتعبير عن عواطفهم الجياشة نحوي.. ولن يتوانوا عن تدبيج مقالات تليق بالمناسبة، واختيار مفردات وعبارات رصينة للرثاء اجتذاباً للتصفيق.. وربما الهتاف..! كلمات كنت أحبذ لو أني حظيت بها من قبل لما تحفلبه من أوصافٍ يضفونها على شخصي. أما في حفل التأبين، بمناسبة الأربعين، فلسوف يتداعى الأصدقاء وآخرون للتباري في تعداد مناقبي التي أشك في أني كنت أملكها. بعض (الآخرين) هؤلاء لم يسبق له معرفة بي قط. ولكن لابأس فهي فرصة مجانية متاحة، عليه أن يهتبلها، لكي يقف ـ ربما لأول مرة ـ على منصَّة، متصنعاً الحزن، متهدِّج الصوت، من غير مبرر في الحقيقة، سوى الرغبة في الظهور، وإضفاء قدر من الأهمية على شخصه هو أكثر منه على المناسبة في حدِّ ذاتها وصاحب الشأن فيها.. فقيد الأمة..! لسوف يتمُّ هذا على حسابي أيضاً، ولن يسع ذويّ إلا أن يزجو له الشكر العميم عرفاناًبالجميل..!
بعد أن ينفض السامر سوف يعمد هؤلاء، ولبضعة أيام إلى الحديث عما جرى في المناسبة، وليس عن الفقيد الذي لابد أن ينسى تماماً قبل صياح الديك.!
قد يشيدون بكلمة الصديق أمين في حضوره على أنها "كانت رائعة.. حافلة بالصور الجمالية واشتقاق المفردات اللغوية.." وفي غيابه سيقولون فيها ما قال مالك في الخمر..! أما الرفيق حكمت فقد كانت قصيدته ـ هكذا يقولون ـ "فياضة بالمشاعر الحزينة الدفينة المفجعة الموجعة، ولولا أنها كانت عمودية مقفاة لقلنا أنه بزَّ السيّاب ودرويش معاً..". أظلَّهما الله برحمته وأسكنهما فسيح جنَّاته. هذا في حين جاءت قصيدة الشاعر ناظم من البحر الطويل بقوافيها العويصة المقحمة، وقد ذكرتنا بأبي العتاهية والحطيئة وصفيّ الدين الحليّ. ولقد نيَّفت على المائة بيت أو تزيد، في تعداد مناقب الفقيد وسجاياه الحميدة، التي ندر أن تحلى بمثلها أحد في أيام القحط الأدبي والإدقاع الفني التي نعيش.. ولما كان الصديق حسنلا ينظم شعراً ولا زجلاً فقد ألقى كلمة ".. جامعة مانعة في الأدب والسياسة المحلية والعالمية ومشكلة (كلينتون) مع اليهودية (ليفنسكي) وعنجهية المتصهين (جورج بن جورج بوش)..!! ناهيكم عن عدد آخر من الرفاق والأصدقاء مثل صالح والياس وخليل، وقد تناول هؤلاء شؤون البيئة وطبقة الأوزون وما لهذه من آثار سلبية حتمية على العمليات الجراحية، التي لابد أن لها دوراً كبيراً فيما حلَّ بفقيدنا الغالي.!. أما ذلك الرجل المجهول الذي برَّح به الوجد إلى حدّ أن يمضي مبشِّراً الجمع باحتمال رجوعي إلى هذا العالم في وقت ليس ببعيد عن طريق الاستنساخ والـ DNA بعد أن تطور العلم إلى حدود غير مسبوقة، وأنه من الحريّ بهذا الحشد من أصدقاء وأهل وورثة أن يحتفظوا بقطعة من جلد الفقيد كمصدر للخلايا والحمض النووي والجينات وما إليها حين تدعو الحاجة لاستعادة نسخة من الفقيد يزدهي بها الوجود من بعد..! ومن يدري فقد تكون عودته مقدمة لظهور المهدي المنتظر..!!
.. هذا ما سوف يحدث.. أو ما هو من قبيله. وإن ينسى الأصدقاء فلن ينسوا آخر غداء لهم مع الفقيد، أو آخر سهرة لدى أحدهم. يذكرون ذلك فيما هم يتناولون القهوة، وربما (النسكافيه) الأثيرة لبعضهم،وفيما هم يتسلَّون بتناول المكسَّرات من لوز وجوز وبندق.. إبَّان ذلك لن يفوتهم أن يمطُّوا شفاههم بين الرشفة والأخرى، تعبيراً عن الحزن والأسى، وما يسمونه كأدباء بلغاء (الإحساس بالفقد والشعور بالفراغ) للراحل العظيم. (سأصبح هكذا بعد أن فارقتهم)..!
ولن يكون بدعاً من القول أن يشير أحدهم إلى أنه كان يفضِّللو أني قضيت شهيداً بانفجار سيارة مفخخة أسوة بما حدث للزميل المرحوم غسان، شهيد الكلمة والرأي، عوضاً عن الموت على فراش وثير في مشفى يغصُّ بالممرضات الجميلات وأجهزة التكييف الحديثة. هذا النوع من الموت الرهيف المترف الممتعلا يليق بمغترب عن وطنه السليب..!
وأنت يا ليلى.. سكرتيرة المكتب.. لك الله.. لا جدال في أن ليلى سوف يُمضّها الحزن ويبرِّح بها الوجد، إن لم يكن من أجلي شخصيّاً، فمن أجل عملها الذي سوف تخسره، هي التي تعيل أسرة من سبعة أنفس.. من لهم غير الله أيضاً..؟ بيد أنهملن يتضوروا جوعاً أبداً، فهي جميلة بحق ولن تعدم مَنْ يلحقها بعمل عنده، إن لم يكن من أجل كفاءتها فلجمالها الذي يضفي على المكان حيثما حلَّت رونقاً وبهجة، الأمر الذي لابدَّ أن يسفر عن زيادة ملحوظة في أعداد عملائه..!لسوف أفتقدك يا ليلى حقاً. يقيناً سوف أشتاق إليها هناك وقد أتمنى أن تلحق بي سريعاً كي تكون في رفقتي في عالمي الجديد.!. لكم أتوق لفنجان القهوة إياه من يدها الآن وراء مكتبي، فيما شعرها المرسل حول جيدها ومحياها ينسدلعلى ظهرها وكتفيها. لكم أحنُّ إلى مكتبي نفسه. لم أدرك قبل الآن أن جلستي هناك، في حدِّ ذاتها، كانت شيئاً رائعاً. ربما كان يحسدني عليها كثيرون دون أن أدري، لاسيما جاري بائع الملابس الرياضية. لا أدري من ذا الذي تفلسف ذات يوم فقال بأننا لا ندرك قيمة الأشياء قبل أن نفقدها. وقول آخر بأن الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى.
ولكن بارقة أمل تلوح لي مقتحمة عليَّ تصوراتي الكئيبة. لم لا أنتظر الاحتمال الآخر.. نجاح العملية (واحداً) من الـ 99% هذه. ومن ثم خروج الطبيب إليهم مبشِّراً ومهنئاً، على سيماه معالم الفرح بالنجاح، فيهبون جميعاً يرقصون فرحاً ويشدون طرباً، يشكرون ذلك الجراح الفذ (هكذا سيكون في نظرهم). وربما أنقض عليه من بينهم مَنْ يوسعه قبلاتٍ ودعواتٍ بطول العمر ومزيد من النجاح والفلاح..! والمكتب يفتح أبوابه، والآنسة ليلى فرحة بعودتي إليها سالماً غانماً. سأحدثها والآخرين عما حدث لي وكيف واتتني الشجاعة في مواجهة موت كان أقرب إليَّ من حبل الوريد..! يتقاطرون فرادى وجماعات يحملون باقات الزهور أو علب الشوكولا.. نقدم لهم المرطبات والحلوى.. نضيء الشرفات، ونعلق حبالاً من المصابيح حول مدخل البناء. تماماً كما يفعل الحجيج لدى عودتهم من الديار المقدسة..! هذا إضافة إلى تكليفنا اختصاصياً بتشغيل أجهزة (ستريو) على الشرفة تصدح بأغاني أم كلثوم... (عادت ليالي الأمل)، وعبد الوهاب (هليت يا ربيع هل هلالك).. و(رجعت ليالي زمان).. وغيرها وغيرها فيبدو الشارع حيث نقيم شعلة من النور، يذكر بعروض الصوت والضوء عند الأهرامات في مصر الحبيبة، حيث درست سنواتي الأولى في جامعتها. صورة مبهجة حقاً. ألا ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل..!
أقول الحق، اعتراني إحساس غريب وممض بالخجل من نفسي ذاتها لما سبق أن اكتنفني من روع وفزع.
فها أنذا يتحقق فيَّ قول ذلك الشاعر العتيق: إذا لم يكن من الموت بدٌّ / فمن العار أن تموت جباناً..! ألا يتربص الموت بنا في كل لحظة من حياتنا؟ مع كل حركة وفي أي مكان وزمان حتى ونحن رقود في مضاجعنا. تنقطع كهرباء القلب لثوانٍ فنموت وقد كنا في أحسن حالاتنا صحة وعافية. تهيم الروح في عوالمها إبَّان نومنا ولا تعود فنموت.. كيف نسيت حوادث الطرق على هولها وقد أوشكت أن تنقلني إلى العالم الآخر، مرات ومرات، لولا سنتمترات في المكان أو ثوانٍ من الزمن حالت دونه؟ وكيف نسيت تلك الطائرة comet التي سقطت بنا فوق مدرج مطار هامبورغ إثر عاصفة هوجاء مفاجئة أرغمتها على العودة قبل بلوغها مرساها في فرانكفورت؟ وفي فندق مطارها كانت ليلة كرنفال ليلاء.. شاركنا الساهرين احتفالهم.. شهدنا عجباً.. معانقات وقبلات ومخاصرات.. وغمزات وهمزات وقد نالني ورفيقي نصيب منها دونما جهدٍ أو عناء.. وهل نسيت حادث الباخرة concord في مرفأ بورسعيد، حين أوشكت على الغرق لولا أن لك عمراً تعيشه.. ربما حتى هذه الساعة فقط. لقد ذهبت نفسي شعاعاً يومذاك. وأوشكت أن أقضي نحبي رعباً وهلعاً.. أجل لقد بلغت روحي الحلقوم ساعة أعلن كابتن الباخرة أمره لركابها بالاستعداد للهبوط إلى زوارق النجاة.. زوارق الموت..!
أذكر أني قلت لرفيقي وفيق يومئذ: هوِّن عليك يا صديقي. كل ما في المسألة أنك سوف تموت، ولسوف تحظى غداً باهتمام لم تحظ بمثله طوال حياتك الماضية. غداً يتبوأ اسمانا الصفحات الأولى للصحف المحلية، وربما العالمية، في مانشتات حمر تعلن أن باخرة غرقت في البحر المتوسط كان بين ضحاياها عربيان من عندنا يدعيان وفيق ورفيق.. هي فرصة لظهورك اللافت في وسائل الإعلام.. أليس كذلك..؟ صاح بي وهو ما انفك يرتجف هلعاً.. اغرب عن وجهي نذير الشؤم أنت..! أهذا ما فتح الله به عليك..؟ أفرحني انفعاله فأردفت قائلاً: هكذا نحن البشر لا شيء يغضبنا أكثر من قولة الحق فضلاً عن مواجهة الحقيقة..!
أوشكت هذه الذكرى أن تضحكني برغم ما أعاني من كرب.. ألا إن من أمور الحياة ما يبكي ويضحك في آن معاً يا هذا..
لو عرف عني ذلك في حينه لوصفت بالجبن في مواجهة موت سياحي رهيف في الوقت الذي نرى رجالاً لا يرهبهم الموت الزؤام المخيف، بل هم يسعون إلى مواجهته غير هيابين من أجل أوطانهم. تذكرت عدداً ممن أعرف استشهد في مواجهة مع الأعداء في مناسبات مختلفة، وآخرين قضوا ظلماً وعدواناً على أيدي أدعياء الحضارة، الذين لم يبرعوا في شيء قدر براعتهم في اختراع جديد في كل آن من أدوات الفتك بالبشر ووسائل التدمير الأخرقحضارة تعذيب الإنسان حتى الموت.. وماذا يكون موتي إذن إزاء الآلاف المؤلفة من هؤلاء الذين لاقوا وجه ربهم هنا وهناك في كل مكان من بلادنا الممتدة ما بين المحيط والمحيطبل سائر أرجاء المعمورة.
بيد أني، وربما من قبيل التخفيف من عاصفةاللوم التي اجتاحتني وأشعرتني بالصَّغار، لاحت أمامي صورة صديقي فهمي الذي طالما جاهَرنا بإعلان خوفه على الملأ،غير هيَّابٍ ولا وجل. كانت له فلسفته الغريبة.. وربما المنطقية.. ما من أحد في وسعه أن يقطع برأي حاسم في المسألة. كنا نعيِّره بخوفه الذي اشتهر بهفي مناسبات لا حصر لها، واصفين مواقفه بالجبن المفرط،والحرص الشديد على نفسه اتقاء خطر الموت الذي كان هاجسه على الدوام في كل آن ومكان. فإذا ما قيل لصديقنا فهمي بأن الموت هو النتيجة الطبيعية والحتمية لكل كائن حي على ظهر البسيطة،وأن المرء محكوم بالإعدام منذ ولادته،وكل ما في الأمر أنه يجهل ساعة التنفيذ. رد عندئذٍ قائلاً: هذا هو ما يحزنني بالذات. لماذا نموت بعد أن جئنا إلى هذا العالم، بهذه البساطة والسرعة أيضاً، فما إن يعي أحدنا بعض حقائق الكون والحياة حتى يدهمه الموت طال الوقت أو قصر. ولكن الموت يا أخانا أبا الفهم لا يأتي إلا مرة واحدة.. أنت لا تموت مرتين.. هي مرة واحدة فلم هذا الجزع أيها الحبيب..؟ يرد منفعلاً بأن هذا السبب بالذات هو ما يزيد من عدائه للموت.. لو كان للمرء أكثر من عمرٍ واحد لهان الأمر.. لو كان للإنسان فرصة للحياة مرتين أو ثلاثاً لما خشينا الموت، لضحَّينا بالمرة الأولى لأن هناك عودة. مادمت سوف تعيش مرة واحدة فعليك أن تحرص بأقصى ما تستطيع على تجنُّب الموت، الذي حين يحدث فلسوف يلغي وجودك مرة واحدة وإلى الأزل. فرصة الحياة الوحيدة هذه عليك أن تعض عليها بالنواجذ..! من ثم كان الرفاق يتندرون على فلسفة صديقنا فهمي.. وجبنه المفرطكلَّما التأم جمعهم.
بيد أن صديقنا فهمي لا يسلِّم ولا يستسلم فيضيف شارحاً بإسهاب يُحسد عليه قوله:
حين نبلغ من العمر أرذله تكون عقولنا في ذروة نضجها وخبرتها وحكمتها ويمكن لعطائها عند ذاك أن يكون باهراً إبداعياً أو نافعاً علميّاً.. عندها، يا سبحان الله، تكون أجسادنا وسائر أعضائنا الفيزيولوجيةفي تدهور وانحدار
نحو النهاية. أي أننا حينما نغدو أحوج ما نكون إلى ذلك العقل العظيم، بعد ذلك العمر المديد ومنجزاته ومكتسباته ومحصلاته يخذلنا الجسد.. يذوي فيموت ليضيع ذلك كله أدراج الرياح.. إذن ذهب العمر سدى بكل ما جنى ثم تطلبون إليّ ألا أبالي بالموت..؟هو ذلك الثالوث الخصم لنا نحن البشر التعساء: الحياة والقدر والزمن أنا أعرفكم جيداً تعجبون بالشعارات الطنَّانة حتى تلك الخطيرة منها على الحياة نفسها، كقول أحدهم غير مبالٍ بالحياة: لنا الصدر دون العالمين أو القبر.. القبر يا هذا..! القبر يا أصدقائي وما أدراكم ما القبر.. معذورون لم تجربوه..!
يأخذ اليأس منا مأخذه مع صديقنا الأثير فنسكت عن الكلام المباح تماماً كالسيدة البارعة شهرزاد مع أميرها الصموت شهريار عندما أدركها الصباح..!
غير أن هذه الأفكار المريحة نسبياً سرعان ما تختفي ليعود إليَّ قلقي.. هواجسيوأفكاري الأكثر سواداً من ظلمة الليل البهيم. لكأن هاتفاً في داخلي يقول لي ساخراً: أنت يا هذا توحي إلى نفسك بما يريحها، بيد أن ساعتك قد حانت. إذ ليس من قبيل المصادفة أن توافق أنت، بل أن تسعى أنت سعياً لإجراء عملية غير ضرورية.. ظروف عديدة تضافرت من حولك كي تصلإلى حيث أنت الساعة.
أوشك أن أجهش باكياً فأنا ما زلت في شرخالشبابفي ربيع الحياة.. أجل أنا لم أبلغ الثمانين التي تسوِّغ لي التأسي بقول ذلك الشاعر سئمت تكليف الحياة فمن يعش ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم. مع أني وأيم الله لن أسأمها حتى لو عشتها ثمانيناً ومائة فوقها..! بل إني لفي دهشة من قول آخر (يا موت زر إن الحياة ذميمة..) فلو أنه مرَّ بمثل ما يمرُّ بي الساعة لأقلع عن هذا القول يقيناً.. ما نفع هذا كله ومنهو ذاك الذي أعلن بأنه غير مجدٍ في ملَّته واعتقاده نوح باكٍ مثلي.. وأين هو ذلك الشادي المترنِّم..!
هذا السرب من الممرضات.. ما انفككن غاديات رائحات دون أن أرى أياً منهن تصنع شيئاً.. كلما مضى الوقت خلتُ العاملين هنا يعدُّون لمذبحة حقيقية. العيون الزجاجية ما برحت ترمقني بحيادية صارمة كأنها تهزأ بمخاوفي.. تقول لي ما أنت سوى واحدٍ من بين أعداد لا حصر لها مرَّت من هنا. بعضها مضى إلى غير رجعة، حيث يستقر بها المقام في رحاب منزل دائم لسكنٍ أبدي تحت الثرى. هو النزل الحقيقي.. المقر الأخير للإقامة الدائمة. عنَّ لي بغتة أن أنفض عني تلك الأردية البيضالبغيضة لأنطلق عدواً في الممر، فالردهة، فإلى الشارع، فإلى الفضاء العريض. لكني تذكرت أولئك القاعدين هناك، فأحجمت سريعاً خشية نظراتهم المندهشة، ناهيك عن فيض من الظنون التي سوف تساورهم في أمري، حتى الزوجة والأبناء خشيت سوء ظنهم في شجاعتي. هؤلاء إذن.. أحبائي أولئك هم الذين يرغمونني، من حيث لا يعلمون، على مواصلة السير حثيثاً نحوالنهاية. ولكن أيفقد المرء حياته هكذا من أجل اعتبارات كهذه ينبغي ألا يؤبه لها، وإلا فقل لي بربك أي شيء آخر يرغمني على ألا أفعل!؟
اقتحمت ذاكرتي قراءاتي فيما مضى في شأن الروح عقب الموت ومغادرتها الجسد الفيزيقي ـ الأرضي. تشبثت بما أسعفتني به الذاكرة لتوِّي وكأنه جاءني في الوقت المناسب كيما أعرف مصيري المرتقب وشيكاً. يقول هؤلاء الذين جابوا تلك الآفاق بأن الموت كما نعرفه بالمشاهدة العيانية حالة عابرة ليس إلا. هي انتقال الروح إلى عالم آخر. ذلك العالم واضح المعالم بالنسبة للروح إذ تنتقل إليه، له ذبذبات أثيرية خاصة أعلى من ذبذبات الأثير التي تكوِّن عالمنا. الاهتزازات الأثيرية تحسب بالملايين في الثانية الواحدة. وهو غير الأثير الذي نصطلح عليه، ويستخدمه البشر في الاتصالات اللاسلكية والفضائية وما إليها. الكون كله مكوَّن من ذبذبات أثيرية مختلفة السرعات بحيث تجعله يبدو صلباً محسوساً في كل من تلك السرعات ولمن هم في كنفه كما نراه نحن بالنسبة لعالمنا وفي درجة اهتزازه وهو سبع درجات متداخلة كما يعرِّفها ألبرت آينشتاين. إذن العالم الآخر الذي يلي عالمنا بذبذباته الأثيرية الأعلى هو المكان الذي تذهب إليه الأرواح البشرية غبَّ الموت، أي عند مغادرتها الأجساد الترابية. لم أكن قادراً على فهم ما يقولون أو إدراك أغواره. لكن هذا ما يقولون بوصفه علماً قائماً بذاته. وهم يقولون أيضاً أنه ليس من اليسير علينا بالفعل إدراك هذه الحقيقة بعقولنا المحدودة، بيد أنه ليس شرطاً لازماً بالضرورة أن كل ما لا نستطيع إدراكه غير موجود في عالمه وواقعه. والروح في عالمها الجديد تستقبلها أرواح الذين انتقلوا إلى ذلك العالم من بين أقاربهم ومعارفهم ممن هم في نفس المستوى الأثيري. وفي الوقت الذي يملأ أقارب الميت عندنا وذووه الدنيا حزناً وصراخاً وعويلاً، وربما لطم خدود وشقّ جيوب لرحيل عزيزهم المجتبى، تحلُّ على الأرواح المستقبلة هناك سعادة وبهجة بمجيء الروح الوافدة التي سوف تمضي بعض الوقت حتى تتكيف مع وضعها الجديد وتتفهمه. يحدث هذا تماماً كما في حالة السفر والفراق في عالمنا الراهن. المودعون في مطار المغادرة يذرفون الدموع في حين يفرح المستقبلون في مطار الهبوط ويقبلون على القادم مهللين مبتهجين يوسعونه عناقاً وقبلات.
ترى لماذا جيء بنا إلى هذا العالم ما دمنا مجرَّد عابري سبيل إلى عالم هو بدءٌ لحياة جديدة خالدة، مع اختلاف المصائر طبقاً لما كان عليه كل منا في عبوره الخاطف لحياته الأرضية؟ اللهم لا اعتراض على أحكامك وسننك في كونك وكائناتك.. هي تساؤلات وخواطر تقتحم عقولنا..؟ ولا جواب عنها لديها؟ عبور يحولنا إلى تراب تذروه الرياح أو تدوسه الأقدام أو يسهم في بناء سكن مشاد نظل بشراً آمنين ينامون ملء جفونهم لا يدرون أن ذراته بقايا أجساد بشر عابرين.. ويلاه من هذا المصير.. ولكن ما الضير في أن يحدث هذا لأجسادنا المتحللة.. فهل لجرح بميت إيلام مادمنا قد فقدنا الإحساس والشعور.. والحياة.. وهل يضير النعجة سلخها بعد موتها!؟ "يخيل إليَّ أن الحياة ما هي إلا مدرسة تأتينا مع مشرق كل شمس بجديد من الدروس. وأننا لا نغادر مقاعد الطلبة إلا عند التخرج.. والتخرج هو مغادرة المدرسة ـ الحياة.. وما المقبرة إلا قاعة الخريجين..! نموت ببطء نضمحل بالتدرج معتقدين أننا نحيا".
إذا حدث ما أتخوف منه سأراهم قريباً إذن.. إذا ما كان لهذه المسألة من حسنة فهي أني سوف ألقى والديَّ وأخويَّ ورهطاً من أصدقائي الراحلين وشيكاً. لسوف نسعد معاً باللقاء.. ترى كيف يعبِّرون عن الأفراح هناك!؟ ولكن.. ولكني لست في عجلة من أمري لو أمكنني إرجاء ذلك اللقاء، فهو حتمي الوقوع أولاً وأخيراً فلمَ تعجُّله..!؟ سوف يأتي يوماً.. شهقة هي الفاصل ما بين العالمين.. شهقة تغادر معها الروح دنيانا إلى عالم رحب بلا حدود ولا قيود ولا حواجز ولا موانع ولا جوازات مرور ولا موافقات سلطات.. يا إلهي إنها الحرية المطلقة إذن.. أنخشاها تشبثاً بهذا العالم البائس؟ أم ترانا ألفنا سجن دنيانا الكبير أم ترانا أدمناه..؟ أليست أرواحنا الأثيرية حبيسة في أجسادنا الترابية؟ أترانا نخشى الحرية لأرواحنا..؟ أم ترى أن خوفنا الدائم مما هو قادم عوَّدها الإلفة والرضى حتى عن سجنها..؟ ولكن برغم هذا ما أشد رغبتي بالبقاء فيه زمناً أطول.. يا لتناقضي العجيب.. ترى ما الذي دهاني ؟ دوائر رهيبةمتشابكة.. خوف ماحق ساحقيكتنفني من سائر أقطاري..
قطع عليَّ تأملاتي الروحية التي أوشكت أن تخفف عني بعض ما بي مجيءالطبيب المباغت، وفي أثره تدلف الممرضة الرشيقة إياها. كان هادئاً تماماً، فيما بدا لي، لا يساوره خوف أو قلق. ولكن علام يخاف الرجل فليست روحه هي المعلقة بين الاحتمالات التي ربما كان أحدها الموت الزؤام، الأمر الذي تعوَّده فأمسى لديه هيِّناً عادياً غير ذي بال. هذه هي مهنته التي يكسب من ورائها عيشه ويكوِّن بفضلها ثروته، ولو كان عليه أن يحمل همَّ كل مريض مثلي لهجر مهنته هذه، ولربما أحجم عن الإقبال عليها منذ البداية وأنشأ مكتباً عقارياً يدر عليه ربحاً وفيراً لقاء جهدٍ يسير، وربما دون جهد يذكر. حتى لو كان أميّاً كما هو حال بعض أصحاب هذه المكاتبمن العاطلين العاجزين عن القيام بأي عملٍ مجدٍ..! مرضاه ليسوا أكثر من حالات عابرة. عمله هذا.. حياته هذه يمضيها بين أناس تكتب لهم النجاة وأناس يلقون وجه ربهم. الناس عنده مجرد أرقام.. أجساد ملقاة على أسرة تحمل أرقاماً قلما يعرف أسماءهم أو حالاتهم الأسرية والمجتمعية.. كأنهم ليسوا بشراً يحلُّ اليتم بأبنائهم، والترمُّل بنسائهم، والثكل بوالديهم حينما يقضون نحبهم بين يديه، وأمام ناظريه، دون أن تطرف له عين،أو يرف له جفن،أو تتحرك في صدره نبضة حزن،أو ومضة إحساس بالأسى.
برغم تقديري هذا لظروفه وحالته التي هو عليها فقد غاظني منه ذلك الهدوء المثير البادي على وجهه وفي حركاته. انتابني الإحساس بغتة بعداء حقيقي نحوه. قلت في نفسي: هذا وأضرابه جزَّارون حقيقيون ولكن للبشر وليس للخراف والعجول.. جزَّارون ولكن بموجب رخصٍ حكومية، وشهادات أكاديمية يفاخرون بها أيضاً، ويعلِّقونها على الجدران في عياداتهم ومنازلهم كإعلانات عن بضاعتهم وتجارتهم التي لن تبور!!. فيا لبجاحة هؤلاء..!!
لكأنما أدرك الطبيب بحدسه، أو بخبرته المديدة ما يدور في خلدي، فرأى بثاقب بصره أن يريحني منها دونما ريث أو إبطاء. همس بكلمات تعمَّد ألا يسمعنيها في أذن الممرضة التي لاحظتُ ـ على الرغم مما أنا فيهمن كربـ أنها جميلة بلونها الحنطي، وتقاطيعها الدقيقة، وجسدها الرشيق. لم يفتنيكذلكأن ألحظ ما تملكه من قوام بديع التكون، وعينين سوداوين يشع منهما بريق ساحر، حتى أنني رحت أحسد ذلك الطبيب حين راح يحدثها عن قرب، وبحميمية مشهودة وقد أوشكت شفتاه أن تلامسا خدها وشعرها. تمنيت لو أني درست الطب وليس الأدب حيث يحظى هؤلاء بهذا النعيم المقيم، فضلاً عما تضفيه مهنتهم على أشخاصهم من وقار ومهابة لا أدري ما الباعث عليها. لم يفتني أيضاً أن أحسده على إجرائه العمليات المميتة أحياناً للآخرين ولا تُجرى له.. ناهيك عما تدرُّه عليه المهنة المرموقة من أرباح لا يتسنى لأمثالنا أن يحلموا بها.. لا بل هم يحلمون بها في حقيقة الأمر..!
ما لبثت الممرضة أن اختفت لدقائق معدودة بدت لي ثقيلة طويلة. عادت لتقترب مني في رشاقة مدهشة.. بيدٍ خفيفة تحقنني في الوريد، فيما يشرق محياها الهادئ بابتسامة بارعة، مغمغمة بكلمات لم أفهمها. أتواهن فتوراً.. أمضي الهوينى بعيداً.. إلى آفاق ضبابية سحيقة المدى...
|
|
|
|