22 / 12 / 2009, 21 : 09 PM
|
رقم المشاركة : [6]
|
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي
|
رد: لقاء مع ملك الموت .. رواية الأديب د. يوسف جاد الحق
وجهاً لوجه أجدني أمام كائن ضخم ذي هيئة عظيمة لا عهد لي بمثلها من قبل. منكبان عريضان على نحو غير مألوف في دنيانا. صدر هائل الاتساع يسدُّ الأفق من أمامي. لحية عريضة سوداء كثَّة، مكلَّل الرأس بهالة من شعر غزير طويل شديد السواد. أشيح بوجهي ذات اليمين فأراه وذات الشمال أراه. هالني مرآه حتى أوشكت أن يغشى عليّ. يحدجني بنظرات حادة، تطلقها عينان واسعتان على نحوٍ مرعب. يتفحصني جيداً من قمة رأسي نزولاً حتى أخمص قدميّ، لكأنني شيء يريد ابتياعه، ولكن بطريقة أشعرتني بأنني بضاعة رديئة لم تعجبه كثيراً..! غير أن ما خفف عني بعض ما انتابني من فزع أن بادرني،محاولاً أن يبدو باشّاً،وإن كان صوته انطلق هادراً كهزيم الرعد في ليلة عاصفة ليقول:
ـ مرحباً أيها الشاب..
رددت جزعاً أكاد لا أعي ما أقول والكلمات تخرج من فمي متقطعة، أو كأني غير قادر على النطق:
ـ أهلاً.. أه.. أهلاً بك يا عم..
ثم أردفت متلعثماً:
ـ هل لي، يا سيدي أن أتشرف بمعرفة من تكون..؟
أرسل ضحكة مجلجلة اهتزت لها الأرجاء قبل أن يقول، وفي لهجته نغمة سخرية بادية:
ـ ألم تعرفني يا هذا؟ حسناً كلكم هكذا لا تعرفونني إلا حين ألتقيكم عند نهاية حياتكم الأرضية.. ولكنكم معذورون، فهي مرة وحيدة أولى وأخيرة.. ها أنذا أقدم لك نفسي.. أنا ملك الموت..!
صحت مرتعباً وسخونة هائلة تجتاح جسدي:
ـ من..؟ من تقول..؟
ـ قلت لك وكفى..
ـ لعلك السيد عزرائيل كما أرى من هيئتك..
ـ أنتم تسمونني هكذا..
ـ يعرفك البشر بهذا الاسم.. أحقاً هو أنت..؟
ـ من تراك تحسبني أكون.. ابن عمه مثلاً..؟
وجيب قلبي أسمعه بأذنيّ. قلت والكلمات تتقطع على لساني:
ـ أهذه مناسبة للمزاح يا سيدي الفاضل..؟
ـ ليس كمثل هذا الجدّ جدٌّ يا هذا. إنها الحقيقة الأزلية الفريدة الوحيدة في حياتكم الأرضية. وأنتم تعمدون إلى تجاهلها طول حياتكم. تنسونها أو تتجاهلونها تماماً برغم معرفتكم بحتميتها وأن أحداً لم ينج منها. وإذا ما حانت ساعتكم التي لا بد أن تحين تصيبكم الدهشة والرعشة ويلمُّ بكم الروع وكأن الأمر جديد عليكم، أو كأن واحدكم لم يكن متوقعاً لها لأنه هو حالة استثنائية لا يجور عليها ما يسري على سائر خلق الله.. أو كأن قوافل الموتى التي شهد في حياته لا تعني شيئاً... لم تثر في عقله فكرة.. لم تنر بصيرته.. لم تقل له بعبارة جليَّة إن دورك قادم لا مناص ولا مفرّ..
ـ تأخذنا الغفلة ومشاغل العيش والحياة يا سيدي فننسى هذه الحقيقة.
ـ إلى أن آتيكم بغتة وأنتم عني غافلون..
ـ نتذكرك لماماً وفي حالات نادرة هي التي تذكرنا بسيادتك، كأن يقضي جارٌ لنا نحبه، أو يرحل عنا صديق، أو قريب نواريه التراب وندعو له بالمغفرة.. إذن أنت السيد عزرائيل أم تراني واهم أو في حلم..!
ـ بلى أنا من تقولون عنه عزرائيل. أنا ملك الموت..
ـ وما الذي جاء بك الآن يا سيدي ملك الموت..؟
ـ ومتى كنت تريدني أن أجيء..؟ بناء على موعد مسبق ربما.. أليس كذلك..؟
ـ في أوان غير هذا.. قد يكون مناسباً لي أكثر مما أنا عليه الساعة.
ـ ومتى تحسب أن الأوان يكون مناسباً..؟ هيه.. متى..؟
ـ لا أدري ولكن..
ـ مثل هذا الأوان كما تريده وعلى هواك أنت لن يأتي أبداً، ولو كان الأمر بأيديكم لأرجأتموه إلى ما لا نهاية.. بل إن ذلك الأوان ما كانليجيء عندئذ أبداً.
ـ على أية حال ليس الآن. سوف أخبرك في حينه.. أعني حينما أكون مُهَيّأً للقائك..!
ـ أرسل الكائن الماثل أمامي كالجبل ضحكة مدوية أخرى قبل أن يقول:
ـ إذن عليّ أن أنتظر ريثما تتصل بي.. أو لنقل إلى أن ترسل إليَّ بطاقة دعوة..!
أدركت أنه يتهكم على ما بدر مني، أو هو يسايرني ويأخذني على قدر عقلي، فهو يدرك دوافعي وأسبابي وأي نوع ينتاب المرء في مثل هذا الموقف وهذه الحال. غير أني ارتحت شيئاً ما لسبب لا أدريه. بل إن إحساساً خفيّاً ساورني بأني ربما أفلح في النجاة من براثنه لبعض الوقت، وإلا فلماذا يمضي في محاورتي، وهو الذي بوسعه إنهاء الأمر في لحظة خاطفة. بيد أنه بغتة عبس في وجهي وباتت هيئته مخيفة أكثر قبل أن يصيح بي بصوته المجلجل:
ـ ماذا يا هذا..؟ أتحسبني طوع بنانك..؟ أم تراك تحسب أنك أنت مَنْ يقرر في هذه المسألة..
ـ ولكنها حياتي يا سيدي.. أقول إنها حياتي أنا.. ألا أملك أمر حياتي..؟
ـ حياتك وموتك أمران لا يد لك فيهما على الإطلاق. قُدِّر لك أن تجيء إلى هذه الدنيا في زمن ما في مكان ما وعندما وعيت ألفيت نفسك موجوداً.. هنا.. هكذا.. وحسب. لم يكن لك رأي أو علم أو اختيار في المسألة. وموتك كذلك لن يكن لك فيه خيار أو رأي أو علم. ستجد نفسك أمامه في أي لحظة كما هو حالك الآن. حياتك كانت منحة إلهية وُهِبْتها حين شاء الله وستنتهي حين يشاء. أتفهم هذا..؟
ـ معذرة يا سيدي. أنا لم أقصد شيئاً مما ذهبت إليه..
ـ ما الذي قصدته إذن..؟
ـ ما عنيته هو أنني لست على استعداد للأمر الآن كما ترى. لقد فاجأتني تماماً. آخر ما كنت أتوقع قبل مجيئك هو مجيؤك هذه الساعة..!
ـ ستقول إنك كنت غافلاً ومغفلاً طول الوقت.. وأنك لم تؤدِّ واجباتك كما ينبغي.. وأنك لم تنجز أعمالك.. ولم تشبع هواياتك ورغباتك.. وأن لك ديوناً ترغب في تحصيلها.. وأنك كنت تنوي أن تعمل الصالحات فيما بعد عندما يعتريك الكبر. كنت تحسب أن العمر مديد أمامك ليتحقق لك ذلك كله.. أليس ذلك كذلك...؟
ـ بلى.. بلى.. إنه هذا الذي تقول. لقد علمتَ ما في نفسي وأصبت كبد الحقيقة..!
ـ لكنك تغفل عن حقيقة كونية أزلية هي أنك إن كنت تستطيع برمجة أمور حياتك المعاشية أو هكذا يخيل إليك، فأنت غير قادر بالقطع على برمجة موتك وتوقيت أوانه، إذ أنه لا يأتيكم إلا بغتة. متى؟ وأين؟ وكيف؟ بل إنك لا تدري بأي أرض تموت. أسئلة من هذا القبيل لا تملكون من أمرها شيئاً ولا تملكون الإجابة عنها برغم الشأو الذي قطعتم في كثير من العلوم، إلا هذه فلسوف تظل عصية عليكم معرفتها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. هي في علم الغيب وعلمه ليس متاحاً للبشر.. بل إنكم لفرط غفلتكم تأتيكم النذر فلا تأخذون منها عبرة. يلهيكم عنها تكاثر الأموال والأولاد ومتاع الدنيا بأشكاله وألوانه. ما الشيب الذي يخط فوديك، ثم تمتد ساحاته يوماً بعد يوم إلى أن يشتعل الرأس منك شيباً إلا نذير. وما عظامك التي تبدأ آلامها هينة أول الأمر، ثم تتفاقم إلى أن يهن العظم منك حتى لا تقوى على المشي أو الوقوف على قدميك إلا نذير. وما خفقات قلبك التي تتسارع حيناً وتتباطأ حيناً فيضيق صدرك حرجاً وتنبهر أنفاسك إلا نذير. تلك نذر وإشارات بادية مبكرة ومتأخرة تنبئك بأني في طريقي قادم إليك وأن أوان هذا القدوم يقترب مع كل ثانية تدور في عقرب هذه الساعة الذهبية في معصمك متخذاً منها حلية وهي التي تقص الزمن قصّاً. زمنك ذاته. إن واحدكم ليمضي سادراً في غيِّه وغفلته عن النهاية المقتربة حثيثاً حتى أمسي قاب قوسين منه أو أدنى. قد يذكر الموت أحدكم إذ يشارك في موكب جنازة، لكنه سرعان ما ينسى غبَّ الفراغ من مراسيم التشييع والدفن.
هنالك الميتة الصغرى تلمُّ بكم في نومكم في كل يوم تذكيراً بتلك الميتة الكبرى القادمة، فتمضون عن دنياكم كأن لم تكونوا فيها بالأمس. حتى ذكراكم تخفت عند من عرفكم من أهل وصحاب شيئاً فشيئاً إلى أن تتلاشى. تأتي أحقاب تنسون فيها تماماً. خيال مضى وانطوى كأن واحدكم لم يكن شيئاً مذكوراً.
ـ لقد أصبت يا سيدي كبد الحقيقة مرة أخرى. لكنها الحقيقة المرة التي تحزن النفس.. تدمي الفؤاد وتصدع القلب. لا يغضبنَّك هذا فما نحن إلا بشر.. ولا يؤرق نومنا ويقضُّ مضاجعنا شيء أكثر من تذكُّرك..!
في كل مرة يفحمني.. بل يخرسني. ولكن فلأسايره قليلاً عسى أن أكسب ودَّه..! ولعلي من ثم أحتال على الأمر لكي ينصرف عني أو يرجئ مهمته إن لم تكن عاجلة ملحَّة.. قلت مؤمِّناً على أقواله من قبيل المجاملة، متظاهراً بالإعجاب بما يقول:
ـ ما تقوله صحيح تماماً يا سيدي.. بل هو جُماع القول الصادق الرصين. وها أنتذا تعرف مكنونات نفسي بحيث لا أستطيع أن أخفي عنك شيئاً. حقاً وصدقاً كنت أزمع التوبة والإنابة في بضع سنين. حبذا يا سيدي أن يتجلى كرمك في أن تمهلنيها...
ـ هه.. بضع سنين..! أمهلك بضع سنين.. يالجشعك أيها الرجل..!
ـ إنني ما زلت شاباً في مقتبل العمر، ولم أحسب أن الموت قريب هكذا وأنه سوف يداهمني دونما سابق إنذار في شرخ شبابي.
ـ هذا دأبكم أيها الآدميون. ولكن من تخادعون..؟ ما أراكم تخدعون إلا أنفسكم، تعلِّلونها بالأماني العذاب التي لا تنتهي والتي إذا ما تحقق بعضها فجلُّها لا يتحقق.. وأنتم لا تزهدون في الدنيا، إن زهدتم، إلا في أخريات أيامكم قبيل ارتدادكم إلى أرذل العمر. أي حين تزهد الدنيا نفسها فيكم. هي التي تنصرف عنكم عندما تفقدون القدرة على اجتناء ملذاتها وإشباع رغباتكم منها.
إذن عزرائيل هذا، ملك الموت، يعرف الكثير عني بوصفي من البشر،هؤلاء الذين لا يفتأ عن التحدث عن جوانب ضعفهم. رباه.. ماذا تراني فاعل إزاء هذا البلاء الذي ألمَّ بي على حين غرة؟ ما الحيلة في أمره.. إنه يسدُّ عليَّ الآفاق جميعاً فلا أجد لي مهرباً. كلما حاولت الفرار منه ألفيته يلاقيني. بيد أني كالغريق المتشبث بقشة في عباب بحر لجيّ متلاطم الأمواج علَّها تنجيه. بادرته قائلاً في وجل وضراعة، كرمية رامٍ قد تصيب ولا تخيب رغم بدوِّ المراوغة فيما أقول:
ـ ألا تكون يا سيدي قد أخطأت العنوان؟ قل لي أولاً كيف عرفت أن هذا هو عنواني، بل وعرفت أيضاً أني متواجد هنا الساعة..؟
ـ ليس مهماً أين تكون.. فإني ملاقيك أنَّى تكون..
ـ أأنت واثق أنك لا تريد جارنا أبا مهيب في الطابق الأعلى منا؟ أعذرك لو أخطأت وجهتك ففي مثل هذه المباني الشاهقة المكتظة بسكانها قد يخطئ المرء في العنوان.. من ذا الذي لا يخطئ يا سيدي هل أدلَّك على سكناه..!؟
وإذْ لم يحر جواباً وإنما طفق يحدق في وجهي بإمعان ألفيتها فرصة كي أحاول من جديد.. فلا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس يا هذا..! عدت إلى القول:
ـ أرأيت يا سيدي.. هو جارنا أبو مهيب إذن.. وأنا على أهبة وضع نفسي في خدمتك.. قد أصعد معك إليه.. سأقرع لك جرس الباب أيضاً.. لكم يسعدني ذلك..!
هنالك بادرني بقوله:
ـ ولماذا جارك هذا بالذات أيها المحترم..؟
ـ لسبب بسيط ومنطقي سوف تقرُّني عليه. هو مريض منذ سنين.. وهو شيخ هرم بلغ من العمر أرذله. بل ربما يتمنى الرجل أن يدركه الموت اليوم قبل الغد جرَّاء ما يعتريه من أسقام تنهش جسده وتنكد عليه عيشه.
ـ هب أن هذا الذي تقوله صحيحاً غير أن للرجل بقية من عمر على وجه من الوجوه يعيشه. ليس من حق أحدٍ إنهاء حياة لم يحن أجل صاحبها، والأجل في علم الغيب.
ـ صدقني أنك تسدي إليه جميلاً، بل خدمة جُلىَّ لو بادرت من فورك إلى نقله للعالم الآخر لكي يستريح ويريح. أما حرمه السيدة أم مهيب فقد لا يهمها كثيراً انتقاله إلى الرفيق الأعلى إذ إن لديها بوليصة تأمين على حياته توفر لها دخلاً جيداًتقيها الحاجة والعوز إلى أن تحظى بلقائك..! ناهيك عما يكبدها الرجل من عناء في خدمته..!
مضى يتأملني ملياً. فيما هو مطبق في صمته، فأردفت متشجِّعاً:
ـ أرأيت يا سيدي أن السيد أبا مهيب هو بغيتك في هذا المبنى دون غيره..؟ لن يتعبك الصعود إليه. هي بضع درجات إن لم تشأ استخدام المصعد، وهذا ما أنصح به،فهو كثيراً ما يتعطل..!
لا أدري لماذا يمعن التحديقفي وجهي هكذا. لكنه بغتة يقطب جبينه ويزمُّ ما بين حاجبيه بعينيه المرعبتين اللتين بدا لي أنهما غيرهما قبل ثانية، قبل أن يقول:
ـ أنا أعرف يا هذا من أريد تماماً. إني أريدك أنت بعينك. أنت بغيتي..
ـ ولكن مرضي ليس عضالاً. وحبذا لو أنك دعوت لي بالشفاء..!
ـ لتعلم أن شؤوناً كالمرض والسنّ ليست وحدها عامل تحديد ساعة الموت، أم تراك لا تعرف المثل الذي لا تنفكون عن ترديده: كم من حملٍ سبق أمه إلى المذبح؟ أو كأنك لم تقرأ أن لكلٍّ أجل كتاب.
ـ كنا نتحدث عن العنوان والمكان يا سيدي. الخطأ وارد ما دمنا نقطن في المبنى نفسه. ألا توافقني على ذلك..؟ جلَّ من لا يخطئ.. كلُّ ابن آدم خطّاء.. أليس كذلك..؟
ـ ولكني لست ابناً لآدم عليه السلام.
ـ أنا لا أقصد أن أنسب إليك الجهل وإنما الخطأ..!
ـ أترى الملائكة يخطئون أيها الأحمق، على أية حال عنوانك مرسوم على جبينك وليس على المبنى حيث تقيم..
تحسست جبيني مندهشاً.. فزعاً أيضاً.. لأقول فيما يشبه الاستنكار:
ـ عنواني على جبيني ولا أراه وأنا أنظر في المرآة كل صباح..؟ كيف..؟
ـ لن تراه.. فهو مرسوم بأشعة كونية لا ترى.. هي هالة من أشعة غير التي تعرفون من أنواعها في دنياكم وتعطونها أسماء عجيبة رونتجن.. جاما.. باتا.. هذه الهالة تحيط بجسدك كله تسجل عليك دقائق حياتك أياً كانت قولاً أو فعلاً أو نيَّة في سريرتك..
ـ وأين تكون تلك الأشغة.. داخل الجسد أم خارجه..؟ وكيف لا نشعر بوجودها معنا وفينا.. فضلاً عن أننا لا نراها ولا نحس لها أثراً في أجسادنا..!؟
ـ برغم خفائها عنكم.. لأن الله أرادها هكذا أن تكون. هي كتابكم الذي ينطق بأعمالكم يوم الحساب شاهداً عليكم. كتاب تراه بعد الموت مسطوراً..!
ـ عسير عليَّ يا سيدي فهم ما تقول.
ـ ما أكثر الأشياء التي لا تحسونها ولا ترونها مع أنها موجودة في عالمكم.. ومنها ما هو مؤكد الوجود أكثر من تلك التي تدركها حواسكم المحدودة.
ـ أليس غريباً هذا الذي تقول يا سيدي..؟ ولكن وعلى الرغم من عجزي المطلق عن الفهم.. قل لي ما كنهها..؟
ـ هي أشعة أثيرية كونية ترافق الجسد طول حياته على الأرض كي تسجل عليه كل شيء يأتيه.. يقوله أو يفعله كما أسلفت. ثم تنتقل مع الروح إلى العالم الآخر إثر مغادرة الروح للجسد بالموت. علماً بأن الروح تغادر الجسد في حالة النوم أيضاً لكنها حالة مؤقتة فتعود إلى صاحبها عند صحوه.. يبقى الأمر كذلك إلى أن يحين الأجل المسمى فتمضي عن صاحبها بلا عودة.
ـ أكذب عليك لو قلت لك أني فهمت شيئاً.
ـ سأعمل على تقريب المسألة إلى عقلك، خذ على سبيل المثال. الأثير الفضائي في كوكبكم. هذا الأثير ينقل إليك الصور والأصوات من شتى أطراف الأرض هل تراه أو تحسُّه؟ أنت تدرك أثره وفعله وحسب. وهذه الفيروسات والجراثيم التي تغزو جسدك وبعض منها هو الذي تسبب في مرضك أنت وفي موت بشر لا حصر لهم على مدى الزمان. هل رأيتها أو أدركت وجودها لولا اكتشاف العلم لفعلها ولأثرها على البشر؟ يقتل واحدكم الملايين منها كلما ألمَّ به عارض مرضي بما يتناوله من أدوية تحمل مسميات تبتكرونها لها، إلا أنها تتغلب على الأدوية والمضادة المعادية لها وتعود إلى قوتها.. وهي في نهاية المطاف أقوى منكم على صغرها المتناهي وضآلتها في نظركم إذ هي لا ترى من قبلكم. وهي سابحة فوق جلودكم مستكنَّة في حلوقكم. وهي متواجدة في سائر أرجاء كوكبكم برِّه ومائه وهوائه. كذلك حال الحشرات، منذ ملايين السنين وقبل تواجدكم عليه بأزمنة ودهور.. وهي التي تقضي على واحدكم إذا ما غزته جيوشها دون أن يستطيع لها دفعاً. وفي النهاية آتي لأجني حصاد عملها.. قبض روحه. قدره أن يموت هذه الميتة.. أرأيت كم أنتم ضعفاء أمام الموت.. إزاء هذه المخلوقات غير المرئية؟
هل أزيدك علماً..؟ أتدري أن هذه الجراثيم والفيروسات يمكنها العيش في درجات برودة بمئات تحت الصفر، وأن تعيش كذلك في حرارة فوق درجة الغليان..! أتستطيع أنت الكائن البشري الجبار ذلك..؟ ليذهب خيالك يا هذا إلى أنك وضعت في قدر ماء يغلي.. أو أنك غرست فوق ثلوج القطب عارياً مثلها فهي لا تعرف الكساء والغطاء مثلكم..! فأيكما الأقوى أيها السيد..؟ ألا إنكم أضعف خلق الله في حالات وأشدهم جبروتاً في حالات غيرها. في الأخيرة هي ما وهبتم من عقل وقدرة على التفكير والإدراك الذي يدلكم على الخالق ويهديكم إلى معرفته.
ـ أحسنت يا سيدي بهذا المثل إذ تضربه.
ـ هذه الجراثيم تقاوم الفناء وتحرص على البقاء تدافع عن وجودها كدفاعك عن وجودك. أضف إلى علمك أنها حريصة على بقائها عن طريق التناسل والتكاثر إبقاء على الذرية التي تسعى دائبة إلى الفتك بكم..
ـ ألا إنك لتثير فضولي.. ألا منحتني وقتاً إضافياً يتيح لي تقصِّي هذه المسألة الهامة التي عرضت لها. ألا تذهب عني الساعة إلى حيث ينتظرك جاري أبو مهيب بفارغ الصبر . أو حتى أيّ أحد غيره إن شئت أو إن لم تكن حانت ساعته حسب رؤيتك.
ـ إنها المماطلة التي تلجؤون إليها.. أعرفها جيداً عنكم.
ـ إذن دعني وشأني.. جزاك الله عني خيراً.. وأحسن إليك..
ـ هذه الزيارة خاصة بك أنت كما أنبأتك لتوي فهيا بنا.. هيا بنا يا هذا بلا مزيد من وناء.. هيا..
قلت غاضباً إذ أدركت إخفاق سائر محاولاتي مما أفقدني أعصابي وأخرجني عن طوري وعن اللياقة في الخطاب:
ـ إذن لا أهلاً حللت ولا سهلاً نزلت ما دمت مصرّاً على موقفك مني ولم تُجْدِني شيئاً سائر توسلاتي إليك.
أثار دهشتي أنه لم يغضب. خيل إليَّ أنه ابتسم قليلاً ثم قال في هدوء وإن كان بلهجة تشي بالتأنيب:
ـ ألم يكن خليقاً بمثلك، من يزعم أنه مثقفٌ يفاخر بتمتعهبعضوية اتحادات عديدة أن يكون أكثر تهذيباً..؟ ألم يكن حرياً بك وأنت تزعم بأنك تكتب القصة وتقرض الشعر أن تستقبلني بطريقة أفضل..؟ أم هي كلمات أنتم قائلوها.. تلوكونها تجمُّلاً ومفاخرة ولا أثر لها ينعكس على سلوككم وأفعالكم..؟
ـ أوَ ينتظرمني أن أرحب بمن هو قادم لاستلاب روحي وإنهاء وجودي في هذه الدنيا.. أي بعبارة أكثر تحديداً.. قاتلي..!
ـ أنت تهذي لفرط جزعك.. أعهدكم على الدوام هكذا تفقدون صوابكم حال رؤيتي. استثني من ذلك الرسل والصالحين المؤمنين من عباد الله في كل عصر مرّ على أرضكم. بعضهم خيَّر بين البقاء في الدنيا ما شاء من الزمان وبين لقاء وجه ربه فكانت الأخرى خياره.. على أية حال إني أعذرك فأنت في حالة هذيان فلا تثريب عليك..!
ـ ومن ذا الذي يراك ويعرف ذلك الهدف البغيض الذي من أجله أتيت ثم لا يفقد صوابه..؟
ـ هل تحسب يا هذا أني أقبض روح أحدكم اعتباطاً من تلقاء نفسي ولرغبة ذاتية مني في ذلك. إنه أمر إلهي لا أملك سوى الانصياع إليه.. هذا هو عملي.. قل هي وظيفتي حسب مصطلحاتكم.
ـ لعلك تريد أن تقول أيضاً أنك تنال أجراً على عملك هذا..
ـ أجل فلكل عمل أجر.. إنما أجري ليس من نوع أجوركم..!
ـ لن تعدم عذراً على أية حال. شأنك شأن مقترفي الجريمة دائماً..! هم أيضاً يبتدعون المسوِّغات لأفعالهم. وسواء كانت مسوِّغاتهم وتبريراتهم وذرائعهم مقبولة أو مرفوضة فلن يغير ذلك من حقيقة الفعل شيئاً، فالقتل هو القتل مهما ابتكر له من أسماء ومسميات، أو حاول مقترفوه إضفاء الشرعية على مقارفته.كأولئك الذين يقيمون المذابح الجماعية ثم يسمون ذلك (تطهيراً)..!
شرع يتأملني بإمعان من جديد فيما مضيت أفكر في حيلة أخرى. خطر لي أنه ربما كان يعيد النظر في شأني، ولعله يرضى أن يرجئ الأمر إلى وقت آخر. بضعة عقود مثلاً. من يدري لعلي أفلحت في إقناعه وهو من هو. حبذا لو كان أصدقائي الغيارى هنا يشهدون الموقف بأم أعينهم لكي يروا قدرتي على الإقناع. وجودهم معي كان من شأنه أيضاً أن يشدَّ من أزري.. فالصديق وقت الضيق. لاحت صورهم أمامي للحظات خاطفة.. منهم من بدت عليه الشماتة. ومنهم من لاحت على محياه سيما العطف والتعاطف. ما لبثت وجوههم أن اختفت بمثل السرعة التي ظهرت فيها. ساءني ذلك. عراني إحباط وأسىوكآبة. بيد أني لن أتوانى عن المباهاة أمامهم بهذا كله عندما يحين أول لقاء لي معهم في مطعم المحاربين القدماء أو الرواق.. ولكن سرعان ما قطع عليَّ المشهد والتأملات معاً قوله فيما هو يهزُّ رأسه الضخم في شتى الاتجاهات، فتتمايل الجدران، وتموج الأرض من حولي. قال دون أن يرفع عني تلكما العينين الرهيبتين:
ـ لقد عرفت الكثير من هذه الحالات على مرّ العصور.
ـ على مرّ العصور.. نعم.. نعم.. كيف لا..؟
ـ أعني العصور كما تعرفونها أنتم معشر البشر وحدكم. أما الزمن فيما يعنينا نحن فلا حساب له بمقاييسكم أنتم. السنة الواحدة والألف سنة ليست سوى لحظة في زمن الكون. ألست تعلم هذا أيضاً؟ الأيام الكونية مختلفة المقاييس والمقادير والأعداد بعيداً عن مقاييسكم وحساباتكم بقدر ما أنتم مهيئون له خلْقاً. لكل فلك دورته من أيام الكون ما يقدر بخمسين ألف سنة من سنِّيكم التي تعرفون وتعدُّون. أعرف أنكم عاجزون عن استيعاب هذه الحقائق في حياتكم على الأرض. لكنكم ستعرفونها عندما ينكشف عنكم غطاء الجسد..!
ساورني الإحساس أكثر فأكثر برهبة الموقف. فالأمر جدٌّ وما هو بالهزل. أوشكت أن أدخل في عملية حسابية معقدة. ولكن عبثاً أحاول والكائن الضخم كما أراه أمامي يستعجلني. ليس لديَّ متَّسع من الوقت لهذا الترف. ثم إني لا أريد الانشغال عنه، ومن الخير لي المحاولة من جديد.. فلأْواصل محاولاتي البائسة لعلي أفلح في ثنيه عما يعتزم، ومن ثم إرجاء مهمته. قلت في تودُّدٍ أقرب إلى الملق:
ـ أوافقك تماماً على ما تقول. أعرف أن سائر الحالات في مثل هذا الظرف تمر بك بطبيعة الحال يا سيدي، ما دمت أنت الوحيد الذي يتمتع بهذه الصلاحية من غير حدود، تزهق فيها أرواح البشر في كل زمان ومكان دون أن يسعى أحد لمحاسبتك أو تقديمك إلى محاكمة جزائية أو حتى مدنية..!؟
ـ ماذا تقول يا هذا؟ هل ذهب الروع بعقلك يا غلام.؟ هل أفقدك الخوف رشدك..؟
ـ غلام..؟ أتدعوني غلاماً بعد أن تزوجت وأنجبت أولاداً.. بنات وبنين ... و..
قاطعني بحدة:
ـ كلهم للموت ذاهبون عندما تحين آجالهم.
ـ برغم ما أصابني من رعب فوق ما أنا فيه من قبل عدت أقول:
ـ لعلمك.. ولعلك تعلم من قبل أني رجل مرموق في المجتمع والأوساط العامة.. الثقافية على وجه الخصوص. لك أن تسأل عني من تشاء.. أوَ يقال لي برغم ذلك يا غلام..؟ ألا أنك لمجحف بحقي يا سيدي..
ـ لم أقصد إهانة رجل مرموق مثلك كما يرى نفسه.. أهذا يرضي غرورك..؟
ـ بلى هذا أفضل. ولكن قل لي كيف تعلمت هذه المهنة التي لاشك أنك تتقنها على نحو مدهش بحيث نرى لكل ميتة وسيلة مختلفة لا ينقص الكثير منها الابتكار والإبداع..!أم تراها موهبة..!؟
ـ الموت واحد في سائرالأحوال. المسألة هي مغادرة الروح للجسد لتنطلق إلى عالم الروح.
ـ لماذا تختلف طرائقه ووسائله إذن؟ إنا نرى لكل ميتة سبباً، وكل منها تختلف عن أختها. أليس هذا مثيراً للإعجاب..!؟ تماماً كما يفعل فنان في رسم لوحاته بحيث لا تأتي واحدة منها مثل الأخرى..!وقد يفعل ذلك عامداً خشية اتهامه بتكرار نفسه..
قال ساخراً:
ـ ثق أني لم أدرسها في معهد مختص.. ولا في جامعة. أنا لا أحمل شهادة في أي اختصاص..!! أتقن عملي بالفطرة.. بالسليقة إن شئت. قل بما علمني الله.
ـ ولكن هل أنت من يقرر طريقة موت هذا أو هذه أو موت ذاك أو تلك..؟
ـ لا.. فكيفية موتك أمرٌ مقضي منذ الأزل قبل خلقك. قبل مجيئك إلى هذا العالم..
ـ حسناً.. ولكن قل لي من فضلك. هل تجد متعة في عملك الكئيب هذا؟ أعني إماتة سائر المخلوقات بلا استثناء لكبير أو عظيم.. لحقير أو صغير فيما أنت تسلبها حياتها رغم أنفها في وقت ربما تكون حينها في أوج سعادتها وذروة عطائها حين يأتيها الموت على يديك!؟.
ـ تماماً كما تستمتع أنت بالاستماع إلى الموسيقى، أو بتأليف قصة ناجحة، أو مشاهدة فيلم سينمائي.
ـ ولكنها أشياء جميلة هذه التي تتحدث عنها.
ـ إنها وسائل تبتدعها مخيلاتكم احتيالاً منكم على الزمن الذي هو رصيد أيامكم المحدودة المعدودة.
ـ وهذا شيء جميل أيضاً.. أعني أن تستمتع بإزهاق أرواح البشر. شيء يدعو إلى البهجة..! أليس كذلك يا سيدي..؟
ـ إنه عملي يا هذا.. وإن الله يحب من المرء أن يتقن عمله..؟ أتراك لا تحب عملك..؟
ـ كيف لا..؟ غير أني أملك من الأسباب الوجيهة ما يدعوني إلى محبته، ليس بينها إزهاق الأرواح..!
ـ بلى.. إنك تزهق أرواحاً بلا عدد في كل حين دون أن تدري أو تدرك.. بل لعلك تدري أحياناً.
ـ هذه تهمة ظالمة.. لا أذكر أني أقدمت على عمل من هذا القبيل.
ـ ماذا إذن عن الحشرات والجراثيم؟ ألست تقتلها عامداً في كل حين؟. بل وأنت تقتل الحيوانات الأليفة التي تتخذ من لحومها وشحومها غذاء لجسدك. وقل مثل ذلك في الطيور والدواجن والأسماك. ومنها ما تذبحها ذبحاً دونما رحمة لكي تقتات عليها وتولم لضيوفك المقربين زلفى ومباهاة ادعاء الكرم والجود..! أرأيت يا من يزعم المثالية وحسن الطوية إلى أي درك تذهب بكم شهواتكم..؟
أحسست أني قد أسقط في يدي. وفيما كنت أفكر بحثاً عن مخرج باغتني بقوله:
ـ أرأيت كم أنتم قساة نحو مخلوقات الله هذه. ولا تنسَ كذلك، وهذا هو الأدهى والأمر، أنكم تقتلون بعضكم بعضاً أيضاً منذ قتل قابيل أخاه هابيل مروراً بسائر الحقب والعصور وحتى ساعتك هذه. ومن البشر الذين عاصروا رسلاً وأنبياء من قتل الرسل والأنبياء.
ـ كان ذلك فظيعاً حقاً: قتل الأنبياء الذين ما جاءوا إلا لهدايتهم والأخذ بأيديكم إلى سبل الخير والرشاد.
ـ قتل جماعة منهم نبياً. ثم قدموا رأسه على صينية من ذهب تنفيذاً لأمر سيدهم من أجل راقصة تصور أيها الآدمي أي نوع من البشر عاشوا بين ظهرانيكم.. رأس نبي من أجل نزوة عابرة.. رخيصة ودنيئة...
ـ تعني سالومي الراقصة وجماعتها اليهود يا سيدي. أنت على حق في كل ما ذكرت عدا ما جاء على لسانك في شأن حيوانات البر والبحر فهذه حلَّلها لنا الله سبحانه. أليس كذلك..؟
ـ ومن أدراك أن لحومكم ليست حِلاًّ للضواري والكواسر..؟ على أية حال هذا لا ينفي نزعة العنف والقسوة لديكم، في حين سوف ترى، وقد تعلم هذا من قبل، ما ينطوي عليه عملي من إيجابيات ليس وسعكم نكرانها. كما أنه لا يخلو من الرحمة في جوانب منه.
يحدثني عن الرحمة..! وانطواء الموت.. الموت ذاته على إيجابيات.. هذا منطقه.. أليس هو عزرائيل..!؟ على أية حال هذا مدخل مناسب لمخاطبة عواطفه علها تنطوي على قبس من رحمة كما يقول. فلأحاول متوكلاً على الباري عزَّوجل. لن أيأس مادمت حيّاً. وأنا حيٌّ حتى الساعة، وهاهي عروقي ما برحت تنبض كما لم تنبض من قبلوخفقات قلبي تتسارع كما لم تتسارع من قبل. ولكن كيف؟ ماذا عساي أن أقول؟ ماذا أفعل؟ من أين أبدأ ثانية؟
قلت: مادمت تتكلم عن الرحمة فهل لي أن أرجوك الرأفة بأسرتي.. ابنتي لمى لعلك تعرفها.. من يدريني.. هي ابنة سنتين وشهرين، شديدة التعلق بي إلى درجة أتصور معها أن غيابي آهٍ آه.. وأي غياب.. إن موتي يا سيدي سوف يفضي بها هي الأخرى إلى موت محقق.. وعلى يديك..
ـ سائر الآباء يرون هذا في أبنائهم. لو كنت سأقبل عذراً من هذا القبيل لما قبضت روحاً لأبٍ أو لأم..
ضجراً قلت وقد أعيتني الحيل:
ـ أما من سبيل قط لإرجاء مهمتك لديّ إلى وقت آخر..؟ ماذا يضير هذا الكون العظيم لو أنك غضضت الطرف عني زمناً..؟
ـ لا مندوحة عن إنهائها الساعة ما لم يردني في شأنك أمر بغير ذلك..
ـ ألا ترى أن صنيعك هذا من القسوة بمكان..؟
أوشكت أن أضيف: وأحملك المسؤولية عما سيحدث للمسكينة لمى فيما لو نفذت بي مهمتك. لسوف تلحق بي الصغيرة البائسة في وقت ليس ببعيد لوعة وأسى. ولكني سرعان ما أحجمت عما أزمعت قوله تفادياً لمزيد من الإشكالات المحتملة التي قد تحدث للأسرة من بعد.
لم ينقطع في هذه الأثناء عن التحديق في وجهي فيما هو يهز رأسه، ويمسِّد شعر لحيته الكثَّة. مضيت أتفحصه من جديد بمزيد من الهلع والرهبة إلى أن قال، كمن يحدث نفسه، فيما هو يمطُّ شفتيه الغليظتين امتعاضاً:
ـ ما يصدر عنك وما أراه قد حل بك من روع ليس جديداً عليّ. كما قلت لك من قبل، لن أؤاخذك على ما يبدر منك فلقد عرفت هذه الحالة فيكم مذ أنشأكم الله في الأرض. كأني بواحدكم يحسب أنه سيخلد أبد الدهر حيّاً على ظهر هذا الكوكب. لكأنه ملكيته الخاصة، فكيف له أن يرضى عن مغادرته..؟ هل تساءل أحدكم عما إذا كانت الطيور تملك السماء أو تدعي ملكيتها، أو كانت البحار ملكاً للأسماك..؟ ما أنتم على الأرض إلا ضيوفاً عابرين. خيالات وظلال ليس إلا.. تماماً كظلال الأشجار تحتفي غبَّ انحسار الشمس عنها.
وإذ رآني أغرق في صمت مهيب كئيب أتملّى أقواله الحكيمة.. بيد أنها لا تلقى لدي قبولاً برغم حكمتها.. عاد إلى مواصلة ما انقطع من خطابه وكأنه لا يتحدث إليّ:
.. ألا يكفي واحدكم أن يمضي عمره، طال أو قصر ينال من خيرات الأرض طعاماً وشراباً، ويحظى مجاناً بنور الشمس ودفئها.. بضوء القمر والنجوم والكواكب.. بالمطر يتنزل من السماء.. بالبحار والمحيطات يمخر عبابها طولاً وعرضاً يغترف من خيراتها طعاماً ولآلئ وزينة.. بالهواء يتنفسه.. بالفضاء يطير في أجوازه.. تستخرجون من الأرض معادن شتى من عناصرها، وشجر وحجر تصنعون منها مساكنكم وسائر شؤون حياتكم وأدوات زخرفها وزينتها. ألا تتفكرون في آلاء الله وأنعمه هذه التي أفاء عليكم..؟ ألا تلقون بالاً إلى صنع الله الذي أتقن كل شيء..؟
ألا أضرب لك مثلاً آخر مما منَّ الله به عليكم ولا تكادون تأبهون لها أو تدركون قيمتها لا لشيء سوى أنها في متناولكم فغدت وكأنها تحصيل حاصل. إليك الحديد مثلاً.. أتعرف شيئاً اسمه الحديد..؟ قل لي إنك لا تعرفه..!
صحت مستغرباً دهشاً:
ـ الحديد؟ وما شأن الحديد بنا وفي هذا المقام..؟ لعلك تحدثني، بعد الحديد، في شأن النحاس والزنكوالخشب والألمنيوم..!؟
ـ الحديد الذي أنزل من السماء على أرضكم. ترى هل فكرتم كيف يكون حالكم لو خلت أرضكم منه؟ كنتم ستعيشون في العراء بلا بنيان أو عمران، بلا مركبات في البر أو البحر أو الفضاء، بلا طرقات ووسائل اتصال، بلا أدوات ولا أنوار كهرباء. هو عنصر أول وأساس في خدمتكم لعيشكم وبناء مدنيَّتكم وحضارتكم، بل لوجودكم عينه. ولعل بعضكم يسخر إذا ما ذكِّر بقيمته ونفعه، وفي سوء الحال والمآل لو لم يكن له وجود في الأرض، إذ لا تُعرف قيمة الموجود إلا حال فقده.. الذين يفاخرون بناطحات سحاب كما يسمونها هل بوسعهم إشادتها من دونه..؟ أأذكرك بالطائرات والسيارات..؟ ولكن بعضكم أساء استخدامه إذ حوله إلى أدوات فتك ببني جنسه فيما يصنع من سلاح وآليات تدمير.. ألم أقل لك أنكم تجحدون أنعم الله عليكم..؟ بل هو من عناصر تكوين أجسادكميجري في دمائكم..!
ـ حقاً يا سيدي إن الكثير من البشر منصرفون عن التفكير في مثل هذه الشؤون برغم أهميتها وعظمتها والتي هي مقوِّم حياتنا نفسها. ولكن يبدو أننا كذلك لأننا اعتدناها فأمست بدهيات غير ملفتة للنظر، يراها البصر ولا تدركها البصيرة. ماذا نصنع يا سيدي إذا كانت قلوب الناس التي في صدورهم هي التي عميت..!؟
ـ كفى بكم أن تأخذوافي الحسبان لو أن أحداً يتقاضاكم ثمناً لنور الشمس الذي يضيء دنياكم كما تفعل شركات الكهرباء على ضعفها ومحدوديتها ووهنها أمام نور الشمس الساطع الدافئ. أو أن أحداً يطالبكم بثمن لضوء القمر، وثمنٍ للهواء الذي تتنفسون، وثمنٍ للماء الذي يتنزل عليكم مدراراً من السماء ينبت في الأرض زرعاً من كل لون بهيج، فضلاً عن أن يسقيكم أنتم وأنعامكم وحدائقكم ويسهم في إنشاء بنيانكم وعمرانكم.. لو أن أحداً طالبكم بتسديد فواتيره ووضع لكم على مصادره السماوية عدادات تحاسبكم عليه بالمكيال والقسطاس.
حقاً أقول: لولا ما أنا فيه من كربٍ شديدٍ ووصب عظيم لاستدعت أقواله هذه الكثير الكثير من التفكير والنظر والاعتبار. يا إلهي كيف تغيب عنا هذه الحقائق في غمار انغماسنا في معترك الحياة. لو أنا عددنا نعمة الله أكان في وسعنا أن نحصيها. إنها أعظم شأناً وأبعد مدى من قدرات عقلنا البشري على الإحاطة بها.
سرت إلى أعماقي نفحات روحية تشرح الصدر وتنعش الفؤاد، بيد أنها لم تلبث طويلاً، إذ سرعان ما ألفيتني أعود إلى ما كنت فيه. أحسست بغتة بانقباض ثقيل يجثم على صدري كالصخر، ومزيد من الخوف يكتنفني من شتى أقطاري حرارة لاهبة.. وعرق يتصبب من سائر أنحاء جسدي. حلقي يزدد جفافاً.. أوشك أن أختنق. قلت في نغمة تشي بالاعتذار عسى أن تجدي في تحسين موقفه إزائي، ناسياً أنه عزرائيل وكأني أحاور إنساناً:
ـ عذراً يا سيدي على ما بدر مني، ولكنك أثرت حنقي إذ قلت عما قليل أن عملك الذي هو إزهاق للأرواح دون الأخذ بعين الاعتبار لأي من حالات خاصة كحالتي، ثم تقول بعد ذلك أن ما تقوم به ينطوي على رحمة ورأفة.. وسعادة ربما تقول..! كيف؟ قل لي بالله عليك..؟ عندنا يرفضون ما أسموه القتل الرحيم. فكيف يمكن الجمع بين القتل والرحمة إذن..!؟
ـ أفلا تصدق يا هذا..؟ إنني أعني ما أقول. نحن الملائكة لا نلقي الكلام على عواهنه جزافاً مثلكم. في وسعي أن أثبت لك، مع أني لست مضطراً إلى ذلك، بأن ما أقوم به ينطوي على ما لا حصر له من الإيجابيات، طبقاً لمصطلحاتكم، بل إنه عين الرأفة بكم معشر البشر..!
حاولت مقاطعته إلا أنه استرسل في طرحه غير آبه لاعتراضي أو توسلاتي، فمضى يقول:
ـ حسبك أن تتصور كيف يكون عليه حال عالمكم هذا إذا ما تراكم الأحياء فوق ظهر كوكبكم. على مدى العصور والأحقاب، ومنذ هبوط أبويكم إليها، ما الذي كان يمكن أن يفضي إليه؟ هل كان ممكناً أن يحيا أولئك كلهم معاً من قبل ثم معكم أنتم اليوم؟. مَنْ عاشوا قبل آلاف السنين بل مئات آلافها يعيشون حتى الآن.. أي معك أنت وأضرابك من الدواب فوق الأرض..!؟ حسبك أن تتصور هذا يا هذا..
ـ دواب يا سيدي..؟ أيليق بك وصفنا بالدواب..!؟ أليس هذا هو الشطط في القول..؟
ـ ما الغريب في الأمر؟ كل من يدب على الأرض دابة..؟ أتجهل ذلك أيضاً..؟
ـ لن أختلف معك حول هذه المسألة، ولكن دعني أستوضحك إن شئت. هل تعني أن أرضنا ما كان لها أن تتسع لنا عندئذ؟ أو أن مواردها ما كانت لتكفينا طعاماً وشراباً وكساءً وما إلى ذلك من أسباب الحياة إذا ما انتفت مسألة الموت..؟
ـ يا للسذاجة.. أو تحسب أنه من أجل هذا يقصف الله أعماركم بالتعاقب؟ ألم ينبئكم أنبياؤكم بأن مصدر رزقكم في السماء وما توعدون..؟
ـ حسبتك تذهب إلى شيء من ذلك.
ـ ليست هذه هي المسألة الأهم، ففي الأرض برّها وبحرها وفضائها من الموارد ما يفي بحاجات أهلها ويفيض لو أنهم استخدموا عقولهم جيداً. أتعلم أنكم لا تستخدمون من قدراتكم العقلية أكثر من عشرة في المائة؟ بل إن عباقرتكم الأفذاذ لم يستخدموا عقولهم بأكثر من ضعف هذا الرقم وفي حالات نادرة جداً..؟ لو أن البشر يعيشون بطريقة أخرى. لو أنهم تعاملوا فيما بينهم بنهج يختلف عما عهد عنهم في سائر الحقب والعصور. إذن ليست هذه هي المسألة.
ـ لست أفهم ما ترمي إليه يا سيدي.
ـ أليس بينكم من يقضي نحبه جوعاً في وقت يقضي فيه آخرون نحبهم شبعاً؟ ألا ينفق بعضكم من المال على أدوات القتل لبشر من غير جنسه أو لونه أو انتمائه والتدمير لمحيطه ما لو قُدِّم لأولئك البؤساء لاختفى كل ما عليها من بؤس وفاقة وانتفت بالتالي حروب تفتك بالبشر وعداوات وصراعات لا داعي لها لو أنصفوا واتقوا ربهم في إخوة لهم ينحدرون من عين الأبوين آدم وحواء. المسألة هي سوء توزيع وسوء استخدام لموارد الرزق، ما تصطلحون على تسميته بالبيئة في زمنكم الراهن.
ـ إذا كانت هذه ليست هي المشكلة فما هي إذن..؟
ـ أرأيت..؟ ها أنتذا تقرُّ بجهلك من تلقاء نفسك. ألا إنكم لتجهلون الكثير من الحقائق جهلاً مخجلاً، ولكنكم تحسبون أنكم على معرفة بكل شيء. بل إنكم تجهلون أنفسكم التي بين جوانحكم ربما أكثر من جهلكم لأي شيء آخر في الكون. بلى أنتم لا تعرفونها حق المعرفة، كما لا تعرفون عن أجسادكم ذاتها وماهيتها الحقيقية إلا السطح الظاهري المرئي. من ثم فها أنتم أولاء تغوصون إلى أعماق البحار، وتعبرون أجواز الفضاء وتحاولون النفاد إلى أقطار السموات.. ذلك كله تلجؤون إليه بحثاً عن أنفسكم في واقع الأمر، ثم لا تعودون من وراء ذلك بطائل. تهربون من ذواتكم إذ تجهلون كنهها. إن أنفسكم أخفى عليكم من أي شيء آخر كما سبق أن قلت لك أيها المكابر.. إن أكثر الحالات إزعاجاً للإنسان هي ساعة اختلائه بنفسه. ساعات الوحدة ومواجهة الذات هي الأشد على المرء عسراً. قد تهون على المرء مواجهة الضباع والسباع دون مواجهتهلنفسه وحيداً. يعرف ذلك جيداً من أجبرتهم ظروف معينة على الاختلاء بأنفسهم كما في غياهب السجون على سبيل المثال أو الانقطاع عن بني جنسه في صحراء شاسعة أو جزيرة نائية كما حدث للبائسين روبنسون كروزو وحي بن يقظان..!!
ـ لقد زدتني حيرة على حيرتي يا سيدي الفاضل، فما هي المشكلة إذن في بقاء البشر أحياء ما دام في الأرض متسع للجميع من مكان شسيع ورزق وسيع؟ أليس من شأن هذا أيضاً أن يعفيك ويريحك من مهامك الإماتية..!!
ـ هناك أيها الآدمي ما هو أهم مما تقصر عليه فكرك وتضيق عليه آفاقك. إليك مسألة التجانس الفكري والتوافق الاجتماعي والانسجام المسلكي، وإمكان التعايش معاً مع ذلك التفاوت بين الأجيال والأعمار هل هذا ممكن أيها السيد؟ هي قضايا تستحيل معها حياة الأجيال المتعاقبة في وئام وانسجام. وأنت ترى الحروب الفعلية والحروب الفكرية بين ما تسمونها الحضارات حتى بين معاصرين لاختلاف في الجنس أو الدين أو الموقع أو المصلحة، فما بالك لو أضيف إلى مثل هذا الواقع آخرون أعمارهم آلاف وآلاف من السنين..؟ أما عن إراحتي فلا تسل عافاك الله..!
ـ أقول لك الحق إني لا أفهمك. إنك تعمد إلى الخوض في ما يشبه الألغاز والأحاجي شأن من يصدعون رؤوسنا أناء الليل وأطراف النهار وعلى مدار الساعة على شاشات الفضائيات، وفي الصحف والكتب أيضاً أولئك يتكلمون كثيراً، وهؤلاء يكتبون أكثر دون أن يفقه أحد شيئاً في النهاية.
ـ معك الحق في هذه.. الإنسان.. وأنت من هذه الفصيلة، كائن ثرثار بطبعه وطبيعته. يتميز على سائر المخلوقات بقدرته الفائقة على الثرثرة والمماحكة. أنتم الوحيدون من يملك هذه الخصال أرأيت في حياتك أبقاراً أو أغناماً تفعل ذلك..؟ الببغاوات وحدها حاولت تقليدكم غير أنها لم تفلح فبقيتم ملوكاً على عرش الثرثرة..!!
ـ اعتدنا هذا كله على مر الزمان. وعلى الرغم من كل ما ذكرت أؤكد لك أن في وسعنا أن نستمر على هذه الحال إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها لولا تربُّصك بنا الدوائر..!
ـ كنتم عندئذ ستطلبون الموت لأنفسكم من تلقاء أنفسكم. لسوف تضيقون بالعيش على أرضكم، وسيغدو الموت أمنية مبتغاة وحلماً مرتجى تطلبونه فيعزُّ عليكم نواله. عندها تجدون أنفسكم في مأزق ما بعده مأزق..! هل أضرب لك مثلاً من واقع تعيشه أنت، عسى أن تتضح الصورة أمام عقلك هذا..!
ـ تفضل.. أرشدني.. أحسن الله إليك وبوَّأك موقعاً أرفع..!
ـ انظر إلى الخلاف القائم الآن بينك وبين أخيك الذي يكبرك ببضع سنين.
ـ ما بال أخي وحول أي شيء كان خلافنا؟ لعلك تقصد تركة أبينا. نعم نحن نتقاتل عليها. إن كانت هذه هي المسألة ففيها الرد على وجهة نظرك.
كأنه يضحك ساخراً، ناظراً إليَّ باستخفاف نظرة راشد إلى يافع غرّ مما شجعني على المتابعة:
ـ أقول لك إن هذا ما كان ليحدث أصلاً لأن أبانا ما كان ليترك وراءه عندئذٍ ما يورث لو أنه لم يمت.. بمعنى أدق إذا كان الناس لا يموتون فلن تكون هناك قضية اسمها إرث ووراثة.. وما إليها.. ولن تكون هناك فرص يكذب فيها أحياء على أموات..!
قال في حدة ظاهرة:
ـ كرة أخرى أقول لك إن هذه ليست هي المسألة.
ـ ما المسألة إذن..؟
ـ هي الأفكار التي يحملها كل منكما. هي الآراء والمفاهيم والقناعات التي لكل منكما برغم الفارق الضئيل في العمر بينكما. هذا الفارق يثير بينكما من الشحناء والخصومة ما علمت وخبرت فأحدكما يعجز عن فهم الآخر لكأنما جئتما من كوكبين مختلفين برغم أنكما من ذينك الأبوين..!
ـ ولكن من أدراك بما يقع بيننا أيضاً..؟
ألم تتخاصما بالأمس حول ذهابك إلى السينما مع صديقة لك تدعى هيفاء؟ ألم ينعتك الأخ الأكبر بالطيش والمراهقة فيما وصفته أنت بالرجعية والتخلف والانغلاق..؟ فكيف يكون الحال لو أنك عايشت أجداداً لك بلغوا من العمر آلافاً من السنين..؟
ـ حدث ذلك بيني وبين أخي حقاً، إلا أنني في نهاية الأمر حققت ما أردت.. وضعته أمام الأمر الواقع كما تفعل دول في هذه الأيام، ثم ذهبنا معاً هيفاء وأنا إلى حيث شئنا.
ـ ولكن المشكلة لم تنته يومئذ. لعلك تنكر ذلك أيضاً. مثال واحد سقته إليك عسى أن تدرك ما رميت إليه. بالمناسبة أعلمك بأني سوف أقبض روح هيفائك عما قريب..!
ـ ماذا؟ تقبض روح هيفاء..؟ وماذا فعلت المسكينة لكي تزهق روحها هي الأخرى..؟
ـ ألا يموت المرء إلا إذا فعل ما يستحق عليه الموت..؟ يمكن أن يكون الأمر كذلك في حالات معينة تستوجبه.. يحدث هذا. العجيب أنكم تنظرون إلى الموت وكأنه عقوبة في حدِّ ذاته، مع أنه الأمر الطبيعي كما الشمس والهواء. إنه الطرف الآخر في ثنائية الحياة والموت. حياة ثم موت ثم حياة.. حلقة لا تنتهي إلا حين يشاء الله.
ـ المهم.. لماذا خطر لك الآن أن تقبض روحها.. وعما قريب كما تقول.. ما أحسبك جادّاً فيما قلت.. أليس كذلك..؟ لعلك تبغي إخافتي وحسب.. أنا أقرُّ لك يا سيدي أنني سأموت رعباً حتى قبل أن تعنِّي نفسك بالإقدام على إزهاق روحي..
يهدر بصوته المجلجل مردداً صداه في شتى الآفاق وكأني به يقول:
ـ أولاً.. لا مزاح لدي مع كائن مثلك. ثم إني لن أقبض روحها هكذا اعتباطاً ودونما أسباب موجبة. إن دافعها ذاتي محض.. هي التي سوف تستدعي ملك الموت من تلقاء نفسها..!
ـ ماذا تعني..؟ أنا أعرف هيفاء المفعمة بالأمل في حياة طويلة عريضة قادمة.. في مستقبل زاهر باسم.. بل إنها من النوع الذي ربما لا يخطر له الموت ببال..
ـ قد يكون صحيحاً بعض ما تقول ولكنك نسيت أنك أنت مقضيٌّ عليك بالموت وشيكاً.
ـ عدنا.. وما شأن هذا بهذه..؟
ـ هذه الهيفاء لأنها بلهاء حقيقية تزمع أن تنتحر من أجلك أنت حين يبلغها نعيُك..!
يا إلهي.. هيفاء حلوتي الرشيقة الرقيقة.. المتدفقة حيوية ونشاطاً.. متوقدة الذكاء.. خفيفة الظل.. بهية الطلعة.. بارعة الجمال.. هيفائي الحبيبة. ضربنا معاً موعداً ليوم قادم في آخر مرة التقينا فيها، وها إننا لن نلتقي.. لماذا أنت أيتها المسكينة؟ ماذا عن تخرجك القريب في الجامعة..؟ والأفراح التي تنتظرين..؟ العرس.. البيت.. الأولاد.. ألن يكون لك شهر عسل..؟ زهرة تقطفين قبل الأوان.. تغادرين الحياة قبل أن تحققي من أحلامك شيئاً.. أي شيء. ولكن.. لعل هذه الـ (عما قريب) التي أومأ إليها تعني قريبه هو وليس قريبنا نحن.. ستعني عندئذ عقوداً من السنين على أية حال عليَّ أن أحذِّرها.. سأنبهها إلى ما ينتظرها.. سريعاً سريعاً سوف أفعل.. لكن ها هو ذا أمامي يحجب عني الأفق.. يقترب مني أكثر.. يحدجني بنظراته المرعبة التي حسبت للحظات أني ألفتها. عدت أحاوره وأداوره في عزم من لا يعرف القنوط إلى قلبه سبيلاً. قلت له دون أن أجرؤ على النظر إليه:
ـ لكن الفتاة ليست مريضة.. وهي لا تشكو من علة.. إنها قوية فائرة كالمهرة النافرة.. فهل مثلها تنتحر..؟ ثم هي فتاة عاقلة ومؤمنة أيضاً.. ليس مثلها من يقدم على ذلك..!
ـ هذا ما تظنه أنت.. عندما يقدم امرؤ على الانتحار يكون قد فقد رشدهوإيمانه وثقته في نفسه فاختلت عنده الموازين واضطربت الحسابات. ثم لا تنس ما يوسوس به الشيطان للإنسان فيدفعه إلى إيقاع الأذى بنفسه دون أن يدري، ولربما يحسب أن يحسن صنعاً.
ـ إذن سوف أبادر إلى تحذيرها..
ـ لن يجديها تحذيرك إذا ما وطدت نفسها على أن تنتحر.. ثم أين هي منك الآن.. وأين أنت منها؟
رباه.. أي مأزق هذا..؟ ماذا يمكنني أن أفعل للخروج من هذه الورطة..؟ أنفاسي تضيق.. أختنق.. كأن أحداً يقبض على عنقي.. يجثم على صدري.. قشعريرة تسري في كياني كله. بمن أستغيث..؟ لمن ألجأ..؟ رباه.. كم أنا الآن بحاجة إلى عنايتك.. أفْرِغ اللهم عليَّ صبراً..
ـ الآن عرفت مدى حاجتك إليه..؟ هي كلمة أنت قائلها.. هل عرفت الآن لماذا كان الموت رحيماً بكم.. وكان ضرورة لا غنى لكم عنها..؟
قال ذلك وهو يهزني من كتفي. قلت في إعياء واضح وكأني أدلي بكل ما لدي:
ـ على أية حال.. أيَّاً كانت خلافاتنا وتناقضاتنا ففي وسعنا إيجاد الحلول الملائمة لها دون تدخل من سيادتك..! أليس من حلٍّ لأزماتنا سوى الموت..؟ أهذا ما تعنيه في نهاية الأمر..؟ أهو الخلاص الأخير..؟
ـ أنت الذي يقول هذا. كأنك لم تقرأ تاريخاً للبشر على ظهرها حفل على مدى الزمان بالحروب المدمرة الظالمة غالباً، لأسباب جديرة بالاعتبار حيناً كالدفاع عن نفسٍ أو وطن أو مبدأ أو عقيدة، ولأسباب واهية لا معنى لها في أحايين كثيرة. ناهيك عن أسبابٍ منشؤها خلافات فكرية وثقافية وحضارية وما إليها.. أليس هذا هو دأبكم..؟ لعلّها سنة الحياة على ظهر هذا الكوكب الشقي ولسوف تظل كذلك ما بقي لكم عيش فيه.
ـ ألا ترى أنك تبالغ يا سيدي..؟
ـ بلى إنها الحقيقة.. بل إن من الحروب ما يقع لا لشيء سوى استقواء طرف على آخر حيناً بالعدد البشري المتفوق فيذهب هذا الفائض بدداً يشغلني جمعه زمناً مضافاً إليه ما يماثله، أقل أو أكثر من الطرف الآخر. ومنها حيناً آخر استعراض القوة بالسلاح الذي يتفنن طرف في إيجاده ليحقق مزيداً من الفتك والتدمير، بل ومباهياً بصنيعه الشرير هذا.. ومنها ما يصدر عن رغبة في استبداد أناس بأناس آخرين.. ومنها ما يجري افتئاتاً واغتصاباً لحقوق الغير ظلماً وعدواناً وغطرسة، أو جشعاً وطمعاً فيما لدى آخرين بدافع الحسد والأثرة والأنانية المفرطة.
ـ لا تؤاخذني يا سيدي لو أنني قلت بأني ما زلت عند موقفي منك وهو أن كل شيء يهون أمام الكائن منا دون رؤية وجهك الكريم تحديداً. حتى أولئك الذين يثيرون الحروب يظنون أنهم يدفعون الموت عن أنفسهم بإماتتهم الآخرين كي تظلأنتبعيداً عنهم.
ـ ملك الموت يا هذا لا مفر لهم من مواجهته، عاجلاً أو آجلاً.. ألتمس لك العذر على أية حال فما أنت إلا شاب لم تعركه الأيام بما فيه الكفاية.
ـ لم تقل يا سيدي ما هو أبلغ من هذا حقّاً. إذن دعني وشأني إلى أن تعركني الأيام جيداً. امنحني فرصة إذن لذلك، وستجدني عندئذ كما تحب وترضى إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً. أجل يا سيدي إن الأيام لم تعركني جيداً إذ إني مازلت في ميعة الصبا وريعان الشباب.. ها أنت ذا تقولها بلسانك.
ـ ألم أقل لك أنك فتى يتميز بضيق الأفق..وإن تكن ذلق اللسان!؟
ـ لن أستجيب لدواعي الاستفزاز هذه. بل سأتحلى بضبط النفس، ملتزماً وصايا بعضهم الحكيمة السائدة في زمننا الراهن مادمت تزمع صرف النظر عني في الوقت الحاضر وإلى أجل مسمى أو غير مسمى يأتي فيما بعد.. هل أقول أننا اتفقنا على هذاأيها الملاك الكريم..!؟ هل نتعاهد على هذا..!؟
يردُّ هازئاً وحاسماً في الوقت عينه قائلاً:
ـ لم نتفق على شيء.. أتحسب يا هذا أنك ندٌ لي يحاورني طمعاً في ثنيي عن أداء مهمتي..؟
ـ معاذ الله أن تذهب بي الظنون في هذا المنحى فمن أنا لكي أقدر على الحؤول بين ملك الموت وأداء عمله..؟ لكننا نحن البشر، كما لا ريب تعلم نحب أن تطول أعمارنا، وإنا لنمضي العمر كله لا شغل لنا غير الحفاظ على ذواتنا وإبعاد حضرتك عنها. بل قل إننا لا نرغب أن يدركنا الموت إطلاقاً. هذه الظاهرة هي العامل الأكبر في تنغيص عيشنا، سواء للميت نفسه أو لمن يخلِّفهم وراءه. صفوة القول إننا لا نحب أن نحظى برؤيتك أبداً..!
بعد فترة صمت خلت إبّانها أنه يعمل فكره بحثاً عن رد مفحم آخر بادرني بقوله:
ـ هب أنك أعفيت الساعة من مغادرة روحك لجسدك. هب أنك منحت مائتي سنة تعيشها منذ الآن. قل لي ماذا أنت فاعل بذلك العمر الطويل غير فيض هائل من تفاهات وحماقات لا حصر لها، غير سعي وراء سراب كاذب وآمال خائبة.. غير دأب على جمع المال الذي تحبونه حباً جماً.. تكدسونه بغير داعٍ وحاجة. تحسبون أنكم مخلَّدون وأنتم تعرفون أنكم لا محالة ميتون.. مخلِّفون ما جمعتم وراء ظهوركم. وهناك تحاسبون عليه حساباً عسيراً..؟ وستكوى جباهكم على ما كنزتم، إذ كان حرياً بكم توظيفه فيما ينفع الناس. في جعله دولة بينكم. هاه قل لي أيها المناكف ماذا أنت صانع بعمر إضافي تُمنَحه..؟
قلت في لهفة وكأن هذا سوف يحدث بالفعل:
ـ لنجرب يا سيدي. ولسوف ترى مني ما يسرك..!؟
ـ وهل في وسعك قضاء هذه السنين متحملاً وعثاء الحياة ومتاعبها التي لا تنتهي..؟
ـ لمَ لا..؟ سوف أتكيَّف مع كل جديد وأتأقلم مع كل طارئ. أعطني المائتي سنة هذه وارتقب ما أنا فاعل فيها..!!
ـ ليس هذا صحيحاً. يقيني أن البشر لو أنصفوا لأقاموا للموت الأفراح والليالي الملاح كلمَّا ألمَّ بواحدٍ منهم تماماً كما يفعلون في حفلات الزواج وأعياد الميلاد، بدلاً من النواح والنحيب، وشق الجيوب ولطم الخدود، برغم أنهم يعرفون بالتجربة أن ذلك لن يجديهم نفعاً. هل حدث، ولو مرة واحدة في عمر البشرية أن أعاد ذلك روحاً واحدة إلى جسد ميت واحد..؟
ـ ما من أحدٍ سوف يقتنع بأن في الموت خيراً يمكن أن يجنيه لنفسه، أو لذويه وأحبائه وخُلَصائه..
ـ الشهداء يفعلون.. بل تراهم فرحين بلقاء ربهم.
ـ ولكني وها أنتذا أمامي لن أموت شهيداً كما ترى.
ـ ولن تكون شهيداً يا هذا.. لسوف تموت على فراشك هذا الوثير كما يموت البعير..
ـ يا للتشبيه الوجيه المثير..! ولكن البعير، وإن لم يعجبني التشبيه لا يموت في المشفى عادة.
ـ في هذا امتياز للبعير..!
ـ يبدو أن الأمر كذلك. فهذه المخلوقات تعيش حياتها مع الطبيعة إلى أن تموت بين أحضانها لا تذهب إلى مشفى ولا تقصد عيادة طبيب أو مستوصفاً حكومياً قد ينشر الأمراض، بدلاً من القضاء عليها، بالحقن الملوثة تارة، والبكتريا والجراثيم المعششة في أرجائه تارة أخرى.
ـ ها أنتذا تتحدث بحكمة وقلَّما تفعل..!
ـ ستُنظرني إذاً.. ولن آلو جهداً وراء مطلبي إلى أن تستجيب لي مشكوراً..
ـ لن يجديك نفعاً أن تكون من المنَظرينإبليس وحده كان من المنظرين. كما لن تجديك المماطلة مهما تعددت أساليبك وإن طال مسعاك إلى مبتغاك. أولاً وأخراً لا يسعني إلا أن أبادر إلى استلال روحك من بين جنبيك شئت هذا أم أبيت. لا حيلة لك في الأمر ولا مفرّ.. فإلى أين المفر..؟
ـ أجزم بأنك اتخذت مني موقفاً يدفعك إلى إزهاق روحي بسبب من معارضتي لك في الرأي..
ـ لك أن تفسر الأمور كيفما تشاء ولن يغير هذا في النتيجة النهائية شيئاً، سيما إذا كان الأمر بشأنك مبرماً.أوَ تسمي هذرك هذا رأياً..!؟
ـ ألا يكفينا ما نعاني من ذلك في حياتنا اليومية..؟ أعني مسألة عدم القبول بالرأي الآخر..؟ أفلا تتقبل أنت أيضاً، وأنت ملاك لا بشر، النقاش بروح رياضية ورؤية موضوعية دون أن تقحم في المسألة الناحية الشخصية؟ ألا ينبغي ألا يفسد الخلاف بيننا للودّ قضية..!؟
ـ هوِّن عليك يا هذا، فأنا لست آدميّاً كي أتصرف كما يتصرف الآدميون، إذ لا يبغي واحدكم في خضم معركة النقاش مع الآخر سوى إثبات قدرته وتفوقه على ذلك الآخر في القول والكلام والمماحكة، وليس من أجل الدفاع عن حقيقة أو قضية. هي معركة لابد له أن ينتصر فيها إثباتاً للذات، حتى لو كان الطرف الآخر هو الذي على الحق. ولكن الحقيقة أو القضية في النهاية هي الضحية.
ـ على الرغم مما أسلفت من قول ما أراك إلا متحاملاً، فأنت لا تنفك عن التعريض بالآدميين كما يحلو لك أن تسميهم استهانة بأمرهم، وها أنتذا تصنع صنيعهم أيضاً.. وإلا فأين هو الفرق..؟
ـ الآدميون هم الذين يبيحون لأنفسهم سفك دماء بعضهم بعضاً على خلفية فكرية، برغم معرفتهم اليقينية بأن فكر الإنسان لا سلطان لأحد عليه. تستطيع أن تقطع الرأس ولكنك لا تستطيع التحكم بفكرة داخله. بل إن أحداً، أيّاً ما ملك من سلطان لا يقدر على معرفة ما يدور في رأس آخر على وجه اليقين. وهذه من حكم الله في خلقه.
ـ إذا كانت هذه ليست هي المسألة فلمَ تبغي القضاء عليَّ إذن وبإصرار لا هوادة فيه؟
ـ هذه مسألة أخرى. إنها ساعتك التي أزفتأيها الرجل وروحك التي حان وقت قطافها ليس لأي سبب آخر.
ـ ولكن لماذا يجب أن تحين ساعتي الآن والآن تحديداً..؟ وعن قطافٍ لروحي وكأنها ثمرة جنيَّةتثير الشهية..!؟
ـ ذلك سرٌّ غيبي ليس في وسعي إطلاعك عليه.. سرِّي للغاية..!
ـ ترى أيضير الكون شيئاً لو أرجئ الأمر فيما يتعلق بي ردحاً من الزمن..؟ لعلي قلتها من قبل..؟ ما أنا سوى واحدٍ من بين مليارات عديدة على وجه الأرض، فماذا يعنيها إن مكثت حيّاً على ظهرها أو ووريت ميتاً في أعماقها..؟
ـ وماذا يضير الكون لو أنك غادرت الحياة الدنيا الساعة؟ أتحسب أن الشمس لن تشرق غداً؟ أم تحسب أن القمر سيمتنع عن الظهور؟ أم أن الأرض ستكف عن دورانها. أما إخوتك من بني آدم فلسوف يواظبون على أعمالهم المعتادة فيملأون الطرقات والأسواق والمصانع والمزارع، ويصنعون أزمات السير في الشوارع ويقفون طوابير طويلة ـ متشاجرة ـ أمام المخابز والاستهلاكيات. أما التلاميذ فلسوف يواظبون على تلقي دروسهم وانتظار امتحاناتهم. ما من شيء سوف يتغير على الإطلاق. وجودك كعدمه سيان فيما يتعلق بالناس والأشياء ومجرى الحياة ما شاء لها الله.
ـ وهل يضيع سدى ما خططت لمستقبلي؟ أنت الآن تقضي على ذلك المستقبل الذي ما برحت أعدُّ نفسي لبلوغه، وأمنّيها ببوارق نجاحه.
ـ يا لكم من جهلة. عن أي مستقبل تتحدث يا هذا؟ ما المستقبل..؟ الموت مستقبل كل حيٍّ..! إن واحدكم لا يملك غير اللحظة الراهنة التي هو فيها.. حينما يأتي الغد يصبح اسمه اليوم.. الحاضر.. وحين يمضي اليوم يصبح أمساً ماضياً. يكون أحدكم صحيحاً معافى وفي جزء من الثانية التالية يصبح في العالم الآخر ألا ما أقربكم من ذلك العالم، والانتقال إليه أسرع من أي وسيلة اتصال عرفتموها أيها البشر. قد يموت أحدكم قبل أن يزدرد اللقمة التي بين أصابعه، أو يموت قبل أن يقوم من مقامه أو قبل أن يرتدَّ إليه طرفه. حلقة من سلسلة من اللحظات المتوالية هي حياة واحدكم إلى أن آتيه لأوقفها تماماً. عدد محدد من الساعات والدقائق والثواني هي. ما حياتكم نفسها سوى مسرحية يؤدي كل منكم فيها دوراً مرسوماً له منذ الأزل على ظهر الأرض. ثم يمضي عند انتهاء دوره نزولاً عن خشبة المسرح. أفهمت؟ لعلك قد فهمت.. وعند انتهاء دوره ـ كما على المسرح تماماً ـ ينال الاستحسان أو الاستهجان حسب أدائه ثم يمضي وكأنه خيالاً كان أو وهماً. أفهمت؟
ـ وما فائدة أن أكون قد فهمت..؟ هل سيغيّر ذلك في الأمر شيئاً. أعرف أن أيامنا كأوراق الخريف تذبل ثم تتساقط متكسرة تحت ضوء الشمس.
ـ أحمد الله يا هذا أن خلقك إنساناً سويّاً وكان يمكن أن تكون خلقاً آخر.
ـ أكان ذلك وارداً..؟ أعني ألا أكون إنساناً خلقت..؟
ـ ما الذي كان يمنع؟ هب أنك خلقت حيواناً مفترساً في غابة، أو أليفاً في حقل يجري عليه الذبح ليغدو طعاماً يتغذى عليه الإنسان.. أو حتى كلباً أو قرداً. ما عساك كنت فاعلاً. هل كان في وسعك أن تغير واقع خلقك الأدنى إلى خلق أرفع.. إلى الإنسان في أحسن تقويم؟ ما كان لك عندئذ إلا أن ترضى بما أنت عليه مثلها تماماً لأنك لن تعي غير ذلك أصلاً.. وهي لا تتمنى من جانبها أن تكون إنساناً.. هي لا تعرف ما الإنسان غير هذا الشكل الذي ترى أمامها شأنه شأن المخلوقات الأخرى التي تقع تحت بصرها. لا ترى البقرة فرقاً بين الإنسان وأي حيوان إلا في الفارق بين الشكل والشكل..!! وقد يرى القرد نفسه خيراً منك خَلْقاً..! وقد يعجب لتصرفاتك التي قد تبديك أبله في نظره. ما هذا الهباب الذي يخرج من خياشيمكإذ تضع في فيك أنبوباً محترقاً يخرج دخاناً..؟ ما هذه الأدوات المعدنية التي تغرسها في محتويات وعاء ثم تدفعها إلى جوفك؟ أشياء كثيرة تفعلها قد تثير استغرابه.. وربما اشمئزازه..!
ـ يا سلام.. ما شاء الله.. أحسنت التشبيه يا سيدي..!
ـ قد تحسب أن هذه المخلوقات لا تحس بوجودها فلتعلم أن لكل منها جسداً وروحاً وحسّاً.. إنها تتألم وتشقى، تفرح وتحزن، تحب وتكره، تجوع وتعطش مثلك تماماً، تتواصل وتتناسل وتمارس وظائفها الحيوية والبيولوجية كما تسمونها، كاملة كالكائنات البشرية مع فوارق تفرضها الطبيعة حسب التكوين الخاص بكل من الإنسان والكائنات الأخرى... حتى الحشرات والجراثيم تدرك كينونتها وتحس بوجودها. تدافع عنه إزاء خصومها والمعتدين عليها ولكنها لا تتكبر ولا تتجبر مثلكم معشر البشر، إلا أنها لا تتوانى في سعيها للبقاء عن غزو أجسادكم كي تستمد نسغ الحياة من دمائكم وجلودكم وطعامكم الذي تسبقكم إليه ثم تعبر معه إلى داخل بطونكم مستمتعة بالعيش هناك..! هب يا هذا أنك خلقت من صنف هذه أو تلك وهي تعد بالمليارات على وفي جسدك وحده..! ماذا تراك كنت فاعلاً..؟
ـ رحماك يا سيدي.. لمَ تضعني في هذه المتاهة مما يسلبني القدرة على التفكير والتدبير..؟
ـ هل أزيدك علمِّا؟ لعلك لا تدري أن الكائنات جميعاً حتى الشجر والنبات والحجر تدافع عن بقائها. الشجر والزرع والأزهار تقاوم عناصر الفناء والعدم، فتكافح جاهدة بمدِّ جذورها في باطن الأرض تستمد نسغ الحياة من التربة الرطبة والماء النمير. وتمدُّ أغصانها وأوراقها وسنابلها إلى الفضاء اجتناءً لنور الشمس وأشعتها، والهواء بمكوناته وعناصره. حتى الحجر يا هذا يدافع عن نفسه. سلاحه في صلابته فيضنيكم كسره بغير قوة وأدوات تعينكم عليه. وكم من حجر أودى بحيوات بشر في المعركة بين طراوة الإنسان وصلابة الصخر والحجر..؟
ـ هب أن ما تقوله حق لا يأتيه الباطل من أي جانب، أتحسب أنه يعفيني من همّ التفكير في أمر أسرتي من بعدي..؟
ـ أسرتك..؟ إن بارئ الكون يتدبر الخلق جميعاً، وأسرتك ليست استثناء.. ثم من أنت حتى تحمل هموم أحياء في الأرض من خلق الله بعدك؟
ـ أعني أمر معيشتهم وتدبير شؤونهم.
ـ هذه ليست مشكلتك. دورك نحوهم إذ تغادرهم ينتهي تماماً. ولن يطول الوقت قبل أن تغدو نسياً منسيّاً، اللهم إلا إذا خلَّفت وراءك آثاراً بيِّنات وأعمالاً صالحاتٍ ذات نفع للبشرية. وما أراك من هذا القبيل..
يا إلهي.. ما العمل؟ إنّه يوصد في وجهي الأبواب، ويسدُّ علي المنافذ جميعاً. أوشك على استنفاد قدراتي كلها. لا طاقة لي باحتمال ما يجري لي. بين اليأس والرجاء جزعاً غاية الجزع أجدني أبادره متسائلاً في نبرة لا تخلو من استياء ورجاء:
ـ أليس لديك من عمل غيري اليوم يا سيدي وأنت المكلف بملايين من البشر تقطف أرواحهم كما الأزهار اليانعة؟
ـ أإلى هذا الحد تبلغ بواحدكم الرغبة في التشبث بالحياة وهي فانية في سائر الأحوال..؟ وأنتم تعرفون ذلك حق المعرفة..؟ كم من مرة عليَّ أن أذكرك بهذه الحقيقة..؟
ـ أنت تسألني.. والمسؤول عنها ليس بأعلم من السائل.
ـ سؤالي استنكاري وليس استفسارياً، فأنا لا أجهل ما تعانون، أو أنكم لا تكفّون عن الشكوى والتذمر ما حييتم. الشكوى من الحياة نفسها، بالحق حيناً وبالباطل أحياناً. وإن منكم من يطلب الموت بلسانه.
ـ أوَتظننا نعني ما نقول دائماً. هل رأيت بخبرتك الطويلة.. طول الدهر نفسه، إنساناً واحداً عشق الموت.. وأحب لقاءك..!؟ ما عهدت البشر يكرهون أحداً مثل كرههم لك حتى أولئك الذين يقدمون على الانتحار لا يقبلون عليه عن رغبة فيه، وإنما يدفعهم إليه ضيق العيش من غير أمل غالباً.
ـ بلى. وإن منكم من لا يطيق الصبر على الحياة ريثما تحين ساعته. ومن هؤلاء من يستدعيني على عجل كي أعمل على تخليصه منها. إنه لا يبغي سوى الانسحاب، بل قل الفرار من حياته.
ـ لم يبقَ إلا أن تقنعني بهذا. أعرف أن الناس تستدعي فرقة الإطفاء إذا ما شبَّ حريق، عربة إسعاف إذا ما وقع حادث. وهم إنما يفعلون هذا لكي تبقى بعيداً عنهم.. أي تفادياً للوقوع بين يديك..
ـ أولئك أكثر مما يخيَّل إليك.. وهم يسببون لي ضيقاً وعنتاً بمسلكهم الأهوج. يحدث أن يقدم أحدهم على الانتحار في موطنه في مكان قصيٍّ في مشرق الأرض بينما أكون في أقصى مغربها أقوم بواجبي في القضاء المبرم على مجموعة بشرية هناك بسبب إعصار أو زلزال أو طوفان أو انفجار بركان.. أو في ميدان حرب أضرم أوارها غبيَّان أو عاقلان دفعا بقطعان من البشر لكي يفتك بعضهم بالبعض الآخر. أجدني عندئذ بحاجة إلى عبور الفضاء بين طرفي الأرض لأقبض روح ذلك المنتحر الفرد الأحمق..!
ـ أيضايقك ذلك حقّاً..؟
ـ ربما.. أنا أعمل عادة حسب قوائم منظمة معدة سلفاً. كما يضايقني أيضاً ما قد يحدث مثلاً عند حالة ولادة متعسرة في مشفى حكومي تفضي إلى وفاة الوالدة أو المولود أو كليهما بسبب تهاون ممرضة مهملة أو طبيب مستهتر. أو ما يحدث من سائق متهور يدوس طفلاً في طريقه إلى المدرسة، أو ما يصدر عن جندي جبان يخشى على نفسه وهو محصَّن في دبابة فيقتل طفلاً أصاب آليته بحجر..! أو معتوهة برَّح بها الوجد لموت مطربٍ مكرب أو ممثِّلٍ مارق فألقت بنفسها من شاهق هاتفة باسمه أو بمقطع من إحدى أغنياته.. وقد يأتي غبيٌّ بعدئذٍ ليطوِّبها شهيدة للفن..! بعضهم يسترخص الشهادة على هذا النحو..بلى إنكم لتسترخصون الشهادة. في الحروب يسمي كل فريق قتلاه شهداء وقتلى الفريق الآخر صرعى معتدين. وإذا ما مات ذو مكانة ـ في فراشه الوثير ـ منحوه صفة الشهادة كذلك فيما الشهيد هو المدافع عن حق أو وطن أو عرض أو مدافع عن النفس أو ساعٍ في طلب الرزق وما إلى ذلك من دواعي سامية رفيعة.
بغتة ينقض عليَّ انقضاض من لا يبغي سوى القضاء المبرم عليّ. لكن المفاجأة كانت أن جذبني إليه وهو يقول بلهجة مختلفة عن ذي قبل:
ـ تعال معي يا هذا. لسوف أريك في ملكوت الله ما لم تره عيناك من قبل ولا سمعته أذناك قط، ولم يخطر على بالك في حياتك الدنيا.. هلمَّ معي.. هلم..
ـ هلم إلى أين..؟ رويدك.. رويدك إلى أين أنت ماضٍ بي.. وما بال العودة حيّاً إلى بلدي يا سيدي.. لم أحدثك عنها.. عشت طويلاً سائر أيام الغربة أحلم يقظاً وفي نومي بالعودة إليها.. وما أرى إلا وقد حمَّ القضاء الآن قبل أن يتحقق الحلم..
ـ ستعود إليها ولكن بالروح لا بالجسد.. أبناؤك سينوبون عنك بالعودة جسداً وروحاً.
ـ أليس ظلماً فادحاً ألا أعود. ألم يخرجنا الغرباء عنها عنوة..؟ وهل تغني عودة أبنائي إليها عن عودتي؟ وأولئك الدخلاء الذين يحولون بيني وبينها عنوة وظلماً ترى ما شأنهم في نهاية المطاف..؟
ـ تجمّعهم فيها إذ يأتونها لفيفاً من كل مكان يعني تحقق الجزء الأول من النبوة توطئة لتحقق جزئها الأخير. من ثم أطمئنك بأنهم لن يمكثوا فيها طويلاً..
ـ كيف؟ قل لي بربك..
ـ لسوف يخرجون منها مذمومين مدحورين. ذلك وعد ربك. ألم تقرأه فيما تنزَّل من السماء على الأنبياء..؟
ـ ولكن ماذا يجديني هذا بعد أن تنقلني إلى العالم الآخر..!؟
ـ أبناؤك سوف يقومون مقامك.. يحررونها ثم يدخلونها آمنين.. ذلك وعد ربك.. ووعد ربك الحق.
ـ أبنائي..؟
ـ أبناؤها جميعاً.. أما أنت فسوف تفعل ذلك للتو.. روحك التي سأقبضها في وسعها التحليق في سمائها وحيثما شئت منها بُعيْد لحظات..!
ـ لكم هفا قلبي إليها على مدى ما مضى من سنيِّ حياتي.. يكاد الآن أن يذوب القلب شوقاً إليها. أريد أن أتنسم هواءها.. وأطعم من خيراتها.. أستظلُّ فيء شجرها.. أسبح في موج بحرها.. أستلقي على رمال شطآنها.. حنيني إليها لظى يستعر في أحشائي لا انطفاء له مذ غادرتها على مرِّ السنين.
ـ هلم إذن ودعني أنهي مهمتي لتراها.. لدي الكثير من أمثالك في سائر أقطار الأرض تنتظرهم مصائرهممرتقبون.
|
|
|
|