عرض مشاركة واحدة
قديم 27 / 12 / 2009, 26 : 02 PM   رقم المشاركة : [8]
طلعت سقيرق
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي


 الصورة الرمزية طلعت سقيرق
 





طلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: مدينة حيفا - فلسطين

رد: محرقة غزة ونهاية الأسطورة .. كتاب من تأليف د. يوسف جاد الحق

[align=justify] <H1 dir=rtl style="MARGIN: 5pt 0cm">الشعب الذي لا يقهر

لم تكن مجزرة غزة أولى المجازر الإسرائيلية، ولن تكون آخرها إلى حين. فمنذ وعد بلفور في الثاني من نوفمبر 1917 لم يتوقف الشعب الفلسطيني عن بذل الأنفس والأرواح والأموال في ثورات متعاقبة لم تتوقف أبداً. من أهمها ثورة البراق عام 1929 وثورة 1936 ــ 1939 التي تميزت في بدايتها بالإضراب العام الشهير الذي امتد لستة شهور متواصلة هزَّت حكومة الانتداب البريطاني، ومن كان في فلسطين من يهود، على قلتهم النسبية. وقد أوشكت تلك الثورة أن تحقق أهدافها لولا تدخل ملوك العرب وزعمائهم الذي أدى إلى وقفها، بدعوى أن بريطانيا تدخل الآن حرباً مع ألمانيا وإيطاليا (المحور) وعلينا ـ نحن العرب ـ ألا نطعنها في الظهر وأنها مقابل ذلك سوف تحقق لهم الاستقلال فور انتهاء الحرب. لنتصور هذا المنطق: بريطانيا المستعمرة الممالئة لليهود، صاحبة وعد بلفور ــ النكبة الأولى الأهم علينا (ألا نطعنها في الظهر..!!).
معظم الشعب الفلسطيني لم يكن راضياً عن ذلك التدخل العربي، مما دفع المتنورين والمثقفين من أبنائه إلى التعبير عن مواقفهم كتابة، سياسية حيناً وشعرية حيناً.
(إيه ملوك العرب لا كنتم ملوكاً في الوجود. أبو سلمى عبد الكريم الكرمي).
وقصائد للشاعر إبراهيم طوقان قبل ذلك، منها قصيدة الفدائي، وقصيدة الثلاثاء الحمراء بمناسبة إعدام الأبطال الثلاثة: الزير وعطا وجمجوم لحيازتهم سلاحاً بدائياً، لمقاومة الانتداب واليهود الذين شرعت هجراتهم تتدفق إلى فلسطين سرّاً حيناً وعلانية حيناً آخر.
توالت أعمالهم الإجرامية، يدعمهم البريطانيون، إلى أن جاءت المؤامرة الأكبر في عام 1948 بالتقسيم وتداعياته. بعد أن حنث البريطانيون بوعودهم للعرب. هبَّ الشعب الفلسطيني عن بكرة أبيه رافضاً التقسيم، وأعلن إضراباً عاماً شمل البلاد كلها، واشتعلت ثورة عارمة عبَّر أحد زعمائها عنها هو الشهيد عبد الرحيم محمود في قصيدة له منها:
سأحمل روحي على راحتي



وألقي بها في مهاوي الردى


فإما حياة تسر الصديق



وإما ممات يغيظ العدا


شرع اليهود في إقامة مذابح مدبرة ومخطط لها منها: دير ياسين، والطنطورة، واللد والرملة، وقبية، ونحالين، وخانيونس فيما بعد)، وغيرها كثير مما لا يتسع المقام لعرضه.
كشف أحد الأطباء اليونان ــ من أصل لبناني ــ النقاب عن الجرائم التي شاهد آثارها في غزة، بعد أن استطاع الدخول إليها بشق الأنفس، من معبر رفح وعن أنواع الأسلحة (المحرمة) التي كان يستعملها الجيش الإسرائيلي. يقول بعد دراسة اطلع عليها أن عدد المجازر التي ارتكبتها الصهاينة منذ قيام كيانهم فقط 3262 مجزرة، وعدد البيوت التي هدموها نحو 62 ألف بيت.
بيد أن المذابح ـ كمبدأ في الاستراتيجية الصهيونية ـ لم تتوقف أبداً. كانت ولم تزل من أهم أهدافها إثارة الرعب لدى الفلسطينيين، خوفاً على أعراضهم قبل أي شيء آخر، وحملهم من ثم على الرحيل والهجرة، بهدف تفريغ الأرض من أهلها، والحيلولة دون عودتهم إليها في أي ظرف وبأية حال. وها هو العدو يقوم أخيراً، وليس آخراً بمحرقته الهائلة التي لم توفر البشر ولا الشجر ولا الحجر.
في التعليقات والتحليلات السياسية العربية التي كانت تصدر عن محللين ومراقبين في معرض وصف ما يجري في غزة عبارة (إجرام غير مسبوق) دون تدبر لما يحمله هذا الوصف ربما عن غير قصد من تهوين شأن الجرائم الإسرائيلية السابقة. فالانطباع الذي يحدثه مثل هذا الوصف لدى المشاهد والمتابع، هو أن إسرائيل كانت فيما مضى أقل عدوانية. وهذا ليس صحيحاً على الإطلاق. صحيح أن هذا الذي جرى في غزة فريد في نوعه من حيث وسائل الدمار والقتل التي صبَّت على شعبنا هناك صبّاً. ولكنها في النتيجة قتل وتدمير، والقتل هو القتل في سائر الأحوال، وأياً كانت وسائله. ألا نذكر صنيع إسرائيل في الانتفاضة الأولى في عهد رئيس وزراء العدو (اسحاق رابين)؟ ألم يأمر جيشه بتكسير عظام أطفال وفتية لمجرد إلقائهم الحجارة على آليات العدو في غزة والضفة؟ ألم يشهد العالم جنوده وهم يكسِّرون أطراف أولئك بالهراوات أو بالحجارة أو بكعوب البنادق في وحشية مروعة..؟
والأمثلة على ما وقع إبَّان تلك الانتفاضة على أهلنا هناك من فظائع اشتملت على القتل والتعذيب، والاعتقالات التعسفية، التي لم توفر أطفالاً ولا نساء حوامل ومرضعات. رأى العالم نساء يضعن أحمالهن في السجون، وأطفالاً يسجنون مع أمهاتهم، ورجالاً يعذبون حتى الموت. وغير ذلك كثير مما لا ينبغي علينا نسيانه.
وفي الانتفاضة الثانية التي اشتعلت إثر تدنيس كبير مجرميهم (أرييل شارون) للحرم القدسي الشريف في تحدٍّ مقصود. وكان رئيس وزراء العدو آنئذ مجرم كبير آخر هو (إيهود باراك). ألا نذكر مأساة محمد الدَّرة، الطفل اللائذ إلى حضن أبيه. ينظر في هلع إلى فوهات البنادق مصوبة نحوه، وكأنه لا يصدق أنها قد تنطلق صوبه. كان الطفل يرتجف هلعاً، ولكن أولئك القساة العتاة لم يحجموا عن تصويب رشاشاتهم إليه ليمزقوا جسده وعيناه ترنوان إليهم في رعب مميت، لم يحرك فيهم ضميراً أو ومضة إنسانية. ألا نذكر كذلك كيف أن (شارون)([1]) بادر عام 2002 مع إعلان (المبادرة العربية) في مؤتمر القمة المنعقد آنذاك في بيروت إلى تحريك جيشه العرمرم إلى جنين وغيرها من بلدات ومخيمات الضفة في عملية حربية ضخمة، وكأنها تتقدم لمواجهة جيش دولة وليس أفراد مقاومة أقرب لأن يكونوا عزلاً من السلاح، وإلى مدنيين غير مقاتلين من أطفال ونساء وشيوخ.؟ وقاومت جنين الاجتياح بكل عنفوان وإباء، فأعجزت (الجيش الذي لا يقهر)، الذي أوغل في انتقامه من جنين وأهلها، فأوقع فيها من الدمار، ومن إزهاق الأرواح ما أثار عواصف استهجان واستنكار في حينه، في العالم كله. وعندما اضطرت هيئة الأمم المتحدة إلى إرسال ما يسمونه ـ ضحكاً على الذقون ـ (لجنة تقصي حقائق) ـ وكأن الحقائق خافية على أحد ــ لم يسمح السيد (شارون) لتلك اللجنة العتيدة بدخول جنين، اعتماداً على الدعم الأمريكي لمواقفه وتصرفاته، كائنة ما تكون، في ظل رئاسة صديقه الحميم (جورج بوش) ونائبه (ديك تشيني)، وعصبة (المحافظين الجدد) اليهود، المسيطرين على البيت الأبيض، والبنتاغون في شخص رئيسه مجرم أفغانستان والعراق وغوانتانامو وأبو غريب (دونالد رامسفيلد). هذا الآخر الذي كان يطلب إلى المارينز وشركات القتل (Black Water) وغيرها بالتفنُّن في تعذيب الأسرى والمعتقلين من العرب والمسلمين الذين يناصبهم العداء منذ القديم.
ولقد سمعه العالم كله في عهد الرئيس بوش الأب، حين كان وزيراً للدفاع في إدارته يعلن على الملأ بأن (العدو) لأمريكا والغرب بعد الاتحاد السوفيتي هو (الإسلام والمسلمون). كان الجنود الإسرائيليون في جنين يعدمون من شاءوا في شوارعها وأزقتها أمام أعين ذويهم.. هل ينبغي لأحد منا أن ينسى كل ذلك؟ وانصاعت المنظمة الدولية لرفض (شارون) فلم ترسل لجنة لتقصي الحقائق..!! وأسدل الستار على كل ما جرى وكأن شيئاً لم يكن..!! فلا من يحاسب ولا من يعاقب..!
ونذكر فيما نذكر من (مآثرهم) قصة (راشيل كوري) تلك الشابة الأمريكية اليهودية البيضاء أيضاً، التي عوقبت بإعدامها جهاراً وعمداً، بميتة بشعة قاسية. جريمتها (الكبرى) أنها وقفت إلى جانب المعتدى عليهم من الشعب الفلسطيني، لكي تبدي أن هناك أمريكيون ويهود غير راضين عن ممارسات إسرائيل في فلسطين، رافضين لسياسة حكومتهم المنحازة إلى الظلم والعدوان ومقترفي الجرائم. في رفح وقفت عند جدار منزل. جاءت جرافة مأمورة باقتحامه وهدمه فوق ساكنيه. هالها الأمر ولم تصدق، فوقفت هناك ظنّاً منها أن ما من كائن يحمل مواصفات الإنسان وشكله يمكنه أن يتابع مهمته تلك فيما هي هناك تقف في مواجهته كأمريكية، وكيهودية ذات حصانة بانتمائها إلى أولئك. ولكن البائسة ديست تحت جنازير الجرافة بغير رحمة فيما هي تحدق بعينها اللتين أوشكتا أن تخرجا من محجريهما،وسائق الجرافة (الأشم) ينظر في عينيها تماماً ضاحكاً منتشياً يهرس جسدها وروحها تحت جرافته، لتختلط أشلاؤها ودمها مع الحجارة والتراب والإسمنت، مشاركة العائلة العربية، بمن فيهم أطفال ونساء داخل منزلها مصيرها الرهيب. ماذا فعلت أمريكا (الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان!) لمن صنع هذا بابنتها الأمريكية؟ هل حوسب الجاني على جريمته؟ وماذا صنع المجتمع الدولي؟ وماذا صنع مجلس الأمن؟ أم تراهم خشوا اتهامهم (باللاسامية) هنا أيضاً ما دام الجاني إسرائيلي مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر عند سادته؟
أم ننسى (هدى خوجه) مع ذويها على رمال شاطئ (النصيرات). جلسوا هناك في نزهة بريئة (على قد حالهم) يتأملون الموج، يحلمون ربما بالعودة، أو بحياة قادمة أفضل قليلاً. بغتة تنقض الصواعق الإسرائيلية عليهم لتزهق أرواحهم جميعاً في لحظات خاطفة. تفقد الفتاة صوابها.. لم يبق سواها.. كانوا هنا الآن الآن.. أهذه الأشلاء المتناثرة لحماً ودماً وعظاماً هي هم؟ أهي أمي؟ أهذه الأشلاء هم؟ أهؤلاء كانوا أمي وأبي وأخواني وإخوتي؟ ألم يسمع العالم صراخها المروع يملأ أرجاء الكون؟ تناشد الأرض والسماء.. ضارعة إلى الله في غمرة جنونها أن يعيدهم إليها...
أما الجناة.. فهناك يقبعون في زورقهم (الآمن) يرقبون الفتاة وما حولها من دماء وأشلاء في جذل، فرحين مرحين.. ألم يحققوا إنجازاً (ديمغرافياً..؟)
ماذا عن أمن هدى يا سادة..!؟ أم ترانا نسينا (إيمان الهمص) ابنة السنوات السبع، تعبر الطريق إلى مدرستها، تحمل بيمناها حقيبة دفاترها، وتمسد شعرها المتطاير مع نسمات الصباح الباكر بيسراها. بريئة تمر كالحلم، مسالمة ناعمة كالطيف ـ لا تعرف مصيرها وما ستؤول إليه بعد ثوان ـ لسبب بسيط ـ لكنه مصيري ـ هو مرورها قرب مجموعة من جنود (واحة الديمقراطية). يبادر أحد (أشاوسهم) هكذا ودونما سبب، سوى نزعة وحشية مجرمة تنطوي عليها نفسه الحاقدة إلى إطلاق رصاصهِ عليها.
لعله أراد أن (يتسلى) بعد أن ملَّ الوقوف هناك؟ تسقط الطفلة أرضاً مضرجة بدمائها.. تصرخ مرتاعة.. تنادي أمها.. يهرع ضابط المجموعة إليها. يحسب الجنود أنفسهم أنه يبغي إسعافها، لكنهم يفاجأون، هم أنفسهم أيضاً، عندما يرونه يخرج مسدسه ليفرغه في رأسها وسائر أنحاء جسدها.
مجلدات ومجلدات لا يسعها استيعاب ما اقترفت هذه الإسرائيل من جرائم في حق شعبنا المبتلى بها وبأمريكا وبريطانيا من قبل ومن بعد. ونسمع، فيما نسمع، عن جمعيات تحت مسميات مختلفة مثل (هيومان رايتس ووتش Human Rights Watch وأخواتها)..
على أن هذه المجازر، على هولها وفظاعتها لم يكن من شأنها غير اشتداد مقاومة شعبنا وترسيخ صموده في وجه العواصف الدهماء والأعاصير العاتية الهوجاء، تأتيه من كل مكان. لقد تألبت عليه أنظمة، وتداعت عليه الأمم من كل صوب، بما في ذلك أناس من بني قومه أنفسهم، الأمر الذي قلما شهد التاريخ له مثيلاً. لأي من شعوب الأرض. أوَ من قلة في تعداد العرب والمسلمين يحدث هذا..؟ بلى إنهم لكثير.. ولكن...
لم يفت في عضده كل ما حدث، وإنما زاده إيماناً بأن النضال والمقاومة في سبيل البقاء أولاً، ثم من أجل العودة واستعادة الحقوق. العودة والتحرير هما الحلم الذي يحيا من أجله شعب فلسطين.
رفض المهانة والخنوع والاستسلام الذي ما انفك الجبابرة عاملين على دفعه إليه.
كان في وسعه توفير ذلك كله على نفسه وذويه لو أنهقبل ـ مجرد قبول ـ بشروط العدو، والمتواطئين معه، بالعيش في المنافي والمخيمات وادعاً مسالماً لا يأتي بحراك حيال من اغتصبوا وطنه وأهدروا حقوقه وشردوه تحت كل كوكب.
كما أن الشعب الفلسطيني، برغم التشرد وشظف العيش والمعاناة في سائر صورها، لم يغفل جوانب حياته الإنسانية، فقد دأب على مواصلة تعليم أبنائه وتثقيفهم وإعدادهم لليوم الموعود.
فظهر فيهم الأدباء والأطباء والمهندسون، وسائر المهن الأخرى الضرورية لأي شعب يعيش ظروفاً عادية، غير ظروف الشعب الفلسطيني. حتى إن نسبة التعليم في صفوفه فاقت نسباً أخرى في أوساط أمته العربية. وهذا مما يزيد العدو حنقاً وغيظاً وعدوانية، فهو أمام شعب لا تقهره الظروف المثبطة المحبطة.ولا تخضعه قوى البطش والجبروت العاتية.
ففي مضمار الأدب والكتابة في شتى أجناسها وفروعها، ظهرت إبداعات كثيرة، من حيث الكم والقيمة الإبداعية المتفوقة، ا لتي بلغت روائعها آفاقاً عالمية. ولن نستطيع هنا أن نعرض لهذه الإبداعات، وأسماء أصحابها الكثر، فليس هذا هو موضوعنا. ولكن لا بأس من أن نأتي على ذكر نماذج من أولئك المبدعين، كمحمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد ومعين بسيسو وطلعت سقيرق ومريد البرغوتي وخالد أبو خالد ويوسف الخطيب. في الشعر، وغسان كنفاني وإميل حبيبي وجبرا إبراهيم جبرا وحسن حميد وسميرة عزام ورشاد أبو شاور ويحيى يخلف وكاتب هذه السطور في مضمار القصة والرواية والنقد.
أما في مضمار الأبحاث والدراسات والنقد فأصحابها أكثر من أن يحيط بهم حصر أمثال: د. إحسان عباس ود. وليد الخالدي ود. هشام شرابي ويوسف اليوسف ود. فيصل دراج وغيرهم.
وكذلك الأمر في الفنون كالفن التشكيلي في الرسم (اسماعيل شموط، ومصطفى الحاج، والعدوي، وأبو راشد وغيرهم كثير. وفي التمثيل السينمائي والتلفزيزني والمسرحي و... الخ.
بل ها نحن نرى في غزة، والضفة أيضاً واحدة من الأعاجيب المدهشة والمثيرة التي تدعو المرء إلى أن يتساءل: كيف استطاع أهل غزة إنتاج أسلحة يمكنها مواجهة الأعداء برغم إمكاناتهم الهائلة وقواهم الجبارة؟ لاسيما أنهم في وضعهم البائس، محاصرون من كل جانب، لا تصلهم حبة الدواء أو رغيف الخبز و حليب الطفل الرضيع إلا بشق الأنفس. كيف تسنى لهؤلاء المحرومين من كل شيء أن يصنعوا.. (صواريخ)؟ وما أدراك ما تتطلبه صناعة كالصواريخ. العلم التخصصي قبل كل شيء. ثم المواد الخطرة والممنوعة، غير المتاحة عندهم بسبب الحصار أنى لهم العلم بكيفية صنعها، ناهيك عن قدرتها على الوصول إلى أهدافها المحددة. إن دولاً تملك إمكانات الدول المفتوحة على العالم، والقادرة على التمويل، في وسعها أن تغرف من المقومات والعناصر والأدوات ما تشاء، لم تصل ـ مع ذلك ـ إلى صنع الصاروخ أو حتى الرصاصة، أو القنبلة اليدوية.
بلى إنهم صانعو المستحيل.
فأي شعب هو هذا..!؟
وهو يعلم أن صواريخه ليست على مستوى (سكاي هوك وماك وباتريوت) الأمريكية، أو (جراد وسكود) الروسية. إلا أنها صواريخ على أية حال، أعدت في ظروف تشبه المستحيل. أرهبت العدو. وإذا ما قيست الإمكانات والظروف بين الجانبين لزمنا أن نقر بالعبقرية الفذة التي يملكها شعبنا.
هو إذن صمود الجبابرة، وصنيع العمالقة. هو صبر الصابرين، هو يقين المؤمنين. أمور لها قوة الحسم، والإقدام في المواجهات الضارية يفتقر العدو إليها. هي جنود الله التي لا يراها العدو ولا يدركها، والتي من شأنها أن تمكِّن فئة قليلة أن تغلب جيشاً صنِّف كأقوى جيش في المنطقة ولعله ثالث جيش عتاداً في العالم. والفضل لمن هم وراءه بطبيعة الحال.
كما إنها سر الظاهرة التي طالما حيّرت العدو وأربكته، دون أن يجد لها تعليلاً وتفسيراً ناهيك عن أن يستطيع فهمها واستكناه خفاياها.
(الشعب الفلسطيني الذي لا يقهر) مصطلح صادق وحقيقي أكدته الوقائع وأثبته تاريخ طويل من الكفاح والنضال والقتال. مصطلح نطلقه الآن يلغي مقولتهم الباطلة الزائفة عن (جيش إسرائيلي لا يقهر). كما أنه يلغي مقولات أخرى حاولوا ترسيخها في الأذهان، كقولهم المفترى بأن فلسطين (أرض بلا شعب)([2]). وقولهم بأنه (لا وجود لشيء اسمه الشعب الفلسطيني)([3]). وقولهم بأن (الكبار الذين غادروا فلسطين يموتون مع الزمن وأن الصغار لا يعرفون ولا يأبهون)([4]) ومن ثم سوف تخلو لهم الأرض وما عليها، فلا من يطالب ولا من يحاسب بعد ذلك. أقنعوا أنفسهم بهذه الأوهام فجاءت الأيام لتبدد أوهامهم وتطيح بأحلامهم. لقي الكثير من الكبار وجه ربهم ولكن من جاءوا بعدهم لم يكونوا أقل منهم عناداً وتمسكاً بحقوقهم، بل لعلهم ـ فيما نرى اليوم ـ جاءوا أشد مراساً وأقوى شكيمة وأشد رغبة في العودة إلى ديار الآباء والأجداد.
انعكاسات المحرقة على الانتخابات الإسرائيلية

أسفرت محرقة غزة عن أوضاع لدى العدو اضطرته إلى الإسراع في إجراء انتخابات عامة يتحدد على ضوئها الكثير من استشرافات المستقبل وآفاقه. دفعته إلى المسارعة لإجرائها هذه الهزيمة التي حاقت به على مشارف غزة، إضافة إلى ما بين قادة الكيان الصهيوني من تنافس وتكالب على منصب رئاسة الوزارة والوزارات الأساسية([5]) الأخرى.
فماذا كانت النتيجة؟
المزيد من التخبط والارتباك لدى الصهاينة حكومة وشعباً في غمار سعيهم إلى تحقيق أهداف بعينها منها:
ـ الحفاظ على الوجود في حد ذاته أمام تحديات المستقبل التي أصبحت بادية للعيان في ظل المتغيرات الدولية وتصاعد ظاهرة المقاومة واتساع أمدائها.
ـ تأمين الاستقرار وحماية الأمن.
ـ تحقيق مكاسب ومنافع على الأرض الفلسطينية أهمها إقامة المزيد من المستوطنات في الضفة الغربية وتسخير السلطة هناك لخدمة الأهداف الإسرائيلية على حساب شعبها وقضيتها الوطنية.
ـ محاولة القضاء على الوجود الفلسطيني في (دولة يهودية) عنصرية دينية متطرفة تلمودياً.
أهداف واضحة. ولكن التخبط وعمى الرؤية يكمن في السؤال القائم الذي لا يجدون له جواباً شافياً هو:
كيف السبيل إلى تحقيق ذلك والفلسطينيون يقفون لهم بالمرصاد، لا يكلون ولا يملون ولا يثنيهم عن مواقفهم ومبادئهم القتل و الحصار، ولا التآمر مع غرب وشرق، أو عرب أو عجم..؟ هم صامدون لا سبيل إلى زحرجتهم عن مواطئ أقدامهم. ناهيك عن مسألة وجودهم المتجذر في الأرض. أمور لم تؤخذ في الحسبان عندما سعوا إلى إقامة الكيان الصهيوني، وها هم يواجهونها أمامهم سدّاً منيعاً أقوى من جدرانهم العازلة، فتلك جدرٌ من إسمنت وحجارة وطين يطاح بها إذا ما هبت رياح عاتية، وعواصف هوجاء، في حين أن السد المنيع القائم لدى الفلسطينيين مقيم في دواخلهم، في قلوبهم وأرواحهم وضمائرهم إيماناً وطيداً، صارماً حازماً، لا سبيل إلى اجتثاثه. عند أولئك زبد سيذهب جفاء، ولدى هؤلاء ما سوف يمكث في الأرض.
جاءت نتائج انتخاباتهم لتضعهم في مزيد من التخبط الذي هم عليه، هم الآن في مأزق حقيقي، يدركون أن الأمور تتغير على كل صعيد، في تسارع رهيب لم يكن منتظراً أبداً، يشعرهم بالخوف،بل بالفزع على المصير. لقد تنافسوا على الحكم والمناصب، بعد أن وضعوا الدم الفلسطيني في صناديق الانتخاب، ولكن لا الجناة أنفسهم حققوا فوزاً حاسماً، كما لم يحقق من هم أكثر منهم تطرفاً وإجراماً ذلك الفوز. لقد أفقدتهم المقاومة وشعبها في غزة القدرة على الرؤية الواضحة والحكم السليم على الأمور.
قالت الانتخابات كلمتها، وهي ما سبق أن قلناه من أنهم جميعاً سواء، اليمين واليسار والوسط وما إليها من تسميات يبتكرونها، ويتفننون في تصانيفها، فيما هي واحدة في نهاية المطاف. هي اتفاقهم على أمر واحد هو ما سبق أن ذكرناه من قبل:يهم الأقدر على إيقاع الأذى الأكثر بالفلسطينيين). هذا تحديداً هو ما عزَّز حالة الانقسام المتفاقمة بينهم.
لكأن الوضع الفلسطيني هو الذي سيطر على تلك الانتخابات فشتتت الأصوات وبعثرها في شتى الاتجاهات، بحيث لا تجمع على شيء: )تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى..( وإلا فما معنى أن تأتي نتائجها على هذا النحو في الكنيست:
28 مقعداً حزب (كاديما) برئاسة عضو الموساد، مجرمة العصر (تسيفي ليفني).
27 مقعداً حزب (الليكود) يرئسه مجرم عريق هو (بنيامين نتنياهو)([6]). هذا الذي سبق له أن هدد الرئيس (بيل كلينتون) بأن في استطاعته (حرق الأرض) تحت قدمي كلنتون فيما لو حاول فرض رأيه ورؤيته عليه. كان يومئذ رئيساً لوزراء (إسرائيل) عام 1996 وكان يومها في زيارة لكلينتون في عقر داره نيويورك.
16 مقعداً حزب (إسرائيل بيتنا) برئاسة (أفيغدور ليبرمان)([7]).
14 مقعداً حزب (العمل) برئاسة (إيهود باراك)([8]) وزير الدفاع في حكومة، (أولمرت) الحالية وهو (الجنرال) أحد ثلاثي العدوان الأخير على غزة.
أما الأحزاب الأخرى فلم تكن ذات شان كبير، عدا حزب (شاس) الديني الذي حصل على أحد عشر مقعداً، وهو من أكثرهم غلواء وتطرفاً في عدائه للفلسطينيين خاصة، والعرب والمسلمين عامة.
وها نحن نرى الآن كيف احتدم الصراع، فور ظهور نتائج الانتخابات عندهم، بين قادة تلك الأحزاب على المناصب في واقع الأمر. ولكن كلاً منهم يحاول تبرير حملته، أو لنقل معركته، بحرصه على المصلحة العامة، وبتمسكه بسياسة معينة سوف ينتهجها نحو الفلسطينيين والعرب وإيران، فضلاً عن رؤيته للطريقة الأفضل التي ينبغي العمل بها لتحقيق (الأمن) لإسرائيل (دولة) وللإسرائيلي (مواطناً ومستوطناً).
إلا أن الأمور وقد آلت إلى هذا الوضع المعقد أكثر من ذي قبل لا تبشر إلا بمزيد من السوء بالنسبة لنا.
ذلك أننا اعتدنا من هؤلاء ألا يتفقوا إلا على حسابنا. كما اعتدنا منهم اللجوء إلى تصدير مشاكلهم الداخلية إلى عدوهم الأزلي الفلسطيني، والعربي الآخر المقاوم، في أي مكان من الأرض العربية، ليس من المستبعد، والحالة هذه، أن يعمد هؤلاء في خضمِّ صراعهم إلى التفريج عن أزماتهم بالهروب منها باتجاه غزة تحديداً أو ـ إلى حد ما لكنه محتمل ـ حزب الله في الجنوب اللبناني. وربما الضفة أيضاً. وقد تأخذ المغامرة منحى واتجاهاً أبعد إلى حد الذهاب إلى شن حرب خاطفة على مواقع مفاعلات إيران الذرية. وإن كانت هذه الأخيرة لا تتم دون موافقة أمريكية. وأمريكا اليوم غيرها في عهد سيئ الذكر (جورج بوش) وزمرته ناهيك عن انشغال مسؤليها بأزمات داخلية خطيرة تحول بينهم وبين التفرغ لتحقيق رغبات إسرائيل واللوبي اليهودي، كما كان يحدث من قبل، لاسيما في عهد جورج بوش وديك تشيني.
لا يبقى أمامهم إذن سوى غزة كاحتمال أكبر. وهم عودونا كذلك أن يقدموا على مغامراتهم دون حساب للنتائج التي قد تترتب عليها في مدى أبعد من الراهن المقتضي الإقدام على مغامرة حربية هنا أو هناك، برغم احتمالات انطواء تلك المغامرة على هزيمة أخرى أسوأ من سابقاتها في نتائجها عليهم.





([1]) أعلن شارون يومئذ أنه سينهي المقاومة في مائة يوم...!

([2]) عن تيودور هرتسل.. ثم حاييم وايزمن، والممول للمشروع الصهيوني الملياردير روتشيلد..

([3]) عن جولدا مائير الرئيسة السابقة للكيان الصهيوني وفي عهدها وقعت حرب 1973 التي أوشكت على القضاء على الكيان الصهيوني لولا ما حدث على الجبهة المصرية من تحول في السياسة نحو العدو.

([4]) عن دافيد بن جوربون أول رئيس لوزراء الكيان.

([5])تعرف في المصطلح السياسي بال (وزارات سيادية).

([6])صاحب كتاب عنصري النزعة بعنوان (مكان في الشمس).

([7]) هذا القادم من (ليتوانيا) بالأمس فقط يزعم أن فلسطين (بيته) اليوم. فأي صفاقة لص يتمتع بها هذا الآفاق الزنيم. سبق له أن أعلن عن رغبته في ضرب السد العالي بالقنابل الذرية (برغم ما بين مصر والكيان من معاهدات). نخشى على الشقيقة مصر حقاً فيما لو صعد الرجل بحزبه إلى سدة الحكم هناك ذات يوم (بالمناسبة كان المذكور يعمل حارساً ليلياً في ملهى هناك قبل مجيئه إلى فلسطين لكي (يتمرجل) هنا بين مهاجري روسيا وشرق أوروبا الغازية لديارنا.

([8]) شغل منصب رئيس وزراء العدو في عهد الرئيس كلينتون. وهو قاتل الشهيد محمد يوسف النجار وزميليه الشهيدين كمال ناصر وكمال عدوان في فردان ببيروت عام 1972 فاعتبروه يومئذ (بطلاً)..! ثم أثبت (بطولته) بعد ذلك عند هروبه بجيشه تحت جنح الظلام عام 2000 من الجنوب اللبناني تحت وطأة ضربات المقاومة الباسلة لحزب الله.


[/align]
</H1>
طلعت سقيرق غير متصل