عرض مشاركة واحدة
قديم 05 / 02 / 2010, 43 : 02 AM   رقم المشاركة : [5]
عبدالله الخطيب
كاتب نور أدبي يتلألأ في سماء نور الأدب ( عضوية برونزية )
 





عبدالله الخطيب has a reputation beyond reputeعبدالله الخطيب has a reputation beyond reputeعبدالله الخطيب has a reputation beyond reputeعبدالله الخطيب has a reputation beyond reputeعبدالله الخطيب has a reputation beyond reputeعبدالله الخطيب has a reputation beyond reputeعبدالله الخطيب has a reputation beyond reputeعبدالله الخطيب has a reputation beyond reputeعبدالله الخطيب has a reputation beyond reputeعبدالله الخطيب has a reputation beyond reputeعبدالله الخطيب has a reputation beyond repute

رد: نفحات من كتابات كنفاني

(4)

[grade="ff0000 000000 008000 ff0000 000000"]في قَلبِ الِدرع[/grade]
*
*
*

كانت الضحكة تملأ وجهها كما لم أرها أبدأً، ووضعت أم سعد أشياءها الفقيرة في الزاوية، وقالت:
-جاء سعد.
وحومت في الغرفة فيما كان الدوي في الخارج يستقبل مجيء العيد، وجلست، واضعة كعادتها كفيها في
حضنها مطويتين إلى بعضهما على تلك الصورة الفريدة التي تشبه عناقاً حميماً، وأمامي برقت عينا سعد
وراء مدفعه القصير، قادماً وهو مضرج بالتراب من وراء الليالي الطويلة التي غابها، وسألتها:
-لقد غاب سنة.
-كلا. تسعة شهور وأسبوعان، جاء أمس.
-سيظل؟
-لا.. قطبوا له ساعده، كانت رصاصة قد..
وشمرت عن كمها، وأرتني كيف شقت الرصاصة لحم الساعد من الرسغ إلى الكوع، وفي ساعدها
الأسمر القوي الذي يشبه لونه لون الأرض، رأيت كيف للأمهات أن ينجبن المقاتلين، وخيل الي لوهلة
إنني أرى أثراً لجرح عتيق، ملتحم ولكنه كامن، يمتد من رسغ أم سعد إلى كوعها، وقلت:
-أنت أيضاً.
-أنا؟ آه، ذلك جرح عتيق، من أيام فلسطين..سرق الواوي دجاجة فسحبته من تحت سلك شائك وطققت
له رقبته، جرحني السلك يومها.
-وسعد؟
-يقول انه سيرجع حين يلتئم الجرح.
ولاحظت، لنفسي، كيف قالت أنه " سيرجع " ولم تقل انه " سيذهب "، ولكنني لم أفكر كثيراً، كانت أم سعد
علمتني طويلاً كيف يجترح المنفي مفرداته وكيف ينزلها في حياته كما تنزل شفرة المحراث في الأرض،
وقالت:
" -أسم الله عليه، انه يحمل ساعده كما يحمل النيشان، قال انه صار قائد فرقته، وانهم يسألونه دائماً:
لماذا، يا سعد توسع خطواتك؟ انه في الأمام، وقلت له: أبن أبوك".
-اشتاق لك كثيراً؟
" -من؟ سعد؟ يخزي العين .عبطني لحظة واحدة وتركني، فقلت له: ولو يا سعد؟ إلا تعبط أمك وتبوسها
بعد هذا الغياب؟ أتعرف ماذا قال؟ قال: ولكني رأيتك هناك. وضحك."
-كيف رآك هناك؟
-قال انه كان في فلسطين. غرب كثيراً، وظل يمشي جمعة أو أكثر مع أربعة من رفقائه. قال انه قرب
كثيراً من البلد، ثم اختبأوا في الزرع، لم أفهم لماذا، كان يحكي وكنت انظر في عينيه، يا عيني عليه، يا
عيني عليهم كلهم، كان يحكي وكنت أقول لنفسي: كان هناك، فلم افهم لماذا اختبأوا في الزرع..قال
انهم جاعوا، وأخذت السماء تزخ. حين يسقى فولاذ الرشاشات تضحي له رائحة الخبز، هكذا قال سعد.
كانوا قد حوصروا، إلا انهم احتفظوا بمكمنهم هادئين، وقدروا أن الحصار سينفك بعد ساعات. امتد
الحصار أياما حتى أنهكهم الجوع، وأخيراً وصلوا إلى باب خيارين: أن يظلوا كامنين، طاوين أنفسهم
على عذاب أخذ يشتد ولا يعرفون متى يمضي، أو أن يتركوا لاحدهم أن يجرب مغامرة الذهاب إلى القرية
القريبة.
كان الخيار صعباً، قال سعد، وقرروا الانتظار حتى المساء قبل أن يعقدوا العزم على قرار.
وعند الظهر قال سعد لرفاقه: ها قد جاءت أمي!
ونظر الرجال إلى رأس الطريق المنحدر كالثعبان من التلة، وهناك رأوا امرأة في ثوبها الريفي الطويل
الأسود تنزل قادمة صوبهم. تحمل على رأسها بقجة، وفي يدها رزمة من العروق الخضراء.
وبدت لهم عجوزاً، في عمر أم سعد وفي قامتها العالية الصلبة، ومن خلال الصمت المخيم كصمت
الموت، كان صليل الحصى تحت قدميها العاريتين يسمع كأنه الهمس.
وقال أحد الأربعة:
-أمك؟ أمك في المخيم يا أخوت..ضربك الجوع بالعمى!
وقال سعد:
-انتم لا تعرفون أمي..إنها تلحق بي دائماً، وهذه أمي.
وصارت المرأة في محاذاة مكمنهم، وباتوا يسمعون حفيف ثوبها الطويل المطرز بالخيوط الحمراء،
ونظر إليها سعد، من خلال أشجار العليق التي تسد مكمنه، وفجأة ناداها:
" -يما يما."
-وتوقفت المرأة لحظة، وأدارت بصرها في الحقول الصامتة حولها، وظلوا يراقبونها صامتين فيما
أمسك أحدهم بذراع سعد وضغط عليها محذراً، لحظة، لحظة أخرى، احتارت المرأة، ثم عادت تسير.

خطوتان، ثلاث خطوات، واعاد سعد نداءه:
" -يا يما ، ردي علي" !
مرة أخرى وقفت المرأة، ونظرت حولها محتارة، وحين لم ترى شيئاً أنزلت الصرة عن رأسها ووضعتها
على الأرض وأراحت فوقها رزمة العروق الخضراء، وحطت كفيها على خاصرتيها وأنشأت، بعينيها،
تنقب في دغول العليق حولها.
وقال سعد:
" -أنا هون يما!"
والتقطت العجوز مصدر الصوت، فتأملته برهة إلا أنها لم ترى شيئاً، وأخيراً انحنت فلمت قضيباً مشقت
عنه أوراقه وخطت نحوهم خطوتين، ثم وقفت ونادت:
" -لماذا لا تخرج وتريني نفسك؟"
ونظر الرجال نحو سعد الذي تردد برهة، ثم علق رشاشة على كتفه، وسار بهدوء نحو المرأة:
" -أنا سعد ، يا يما ، جوعان!"
وسقط القضيب من يد الفلاحة العجوز وهي تحدق الى الشاب الذي ولده الدغل الشائك ينحدر نحوها
بالكاكي وبالرشاش على كتفه، أما رفاقه فقد هيأوا بنادقهم، فيما أخذ سعد يقترب من العجوز.
وقالت المرأة:
" -يجوع عدوينك يا ابني..تعال لعند أمك"
وأقترب سعد أكثر، كانت خطواته مطمئنة وكان رشاشة ما زال يتأرجخ على كتفه من غير اكتراث،
وحين صار على بعد خطوة منها فتحت ذراعين واحتضنته: " يا حبيبي..يا ابني..الله يحميك."
وقال سعد:
" -يا يما، بدنا أكل"
وانحنت المرأة فناولته الصره، وحين أخذها رأى عينيها تدمعان، فقال لها:
" -حلفتك بالنبي لا تبكي يا يما"!
قالت العجوز:
" -معك بقية الأولاد؟ أطعمهم. في المغرب سأمرق من هنا واضع الزوادة على الطريق..الله يحميكم يا
أولادي"
وعاد سعد بالزوادة، ولم يلحظ رفاقه أية دهشة في ملامحه. أكلوا، وقال أحد رفاقه:
" -لنغير مكاننا، فقد تعود بالعسكر"
إلا أن سعد لم يرد، وبعد قليل قال لهم:
-إنها أمي، وقد رأيتم ذلك بأنفسكم، فكيف تعود بالعسكر؟"
وفي المساء جاءت العجوز فوضعت الزوادة، ووضعتها هناك فجر اليوم التالي، وفي كل مرة كان سعد
يناديها من وراء الدغل:
" -يسلموا ايديكي يما"
ويسمعونها تقول:
" -الله يحميك يا ابني"

قالت أم سعد: تلك المرأة العجوز ظلت أيام خمسة تطعمهم..قال لي سعد إنها لم تتأخر ساعة واحدة،
حتى انفك الحصار، جاءت فوضعت الزوادة ونادت: " العسكر راحوا..الله يوفقكم.."
وعادت أم سعد فطوت راحتيها على حضنها كما يتعانق مخلوقان لا فصام بينهما، وقالت: سعد يقول انه
رآني هناك، وانه لولا أن أطعمته لمات جوعاً، ولولا أن دعوت له لقتلته الرصاصة التي شطفت لحم
ساعده.
وقامت، ففاحت في الغرفة رائحة الريف الذي كمن فيه سعد، محاطاً بذلك الدرع الذي لا يصدق، وقالت:
" -سيرجع بعد أن يلحم جرحه، قال لي ألا أشتاق له كثيراً فهو يراني هناك دائماً..ماذا تريدني أن أقول
له؟ قلت له: الله يكون معك ويحميك".
واستدارت، خطوة، خطوتين، وفجأة سمعت نفسي أنادي:
" -يا يما"
فوقفت.
***********************

يُتبع
توقيع عبدالله الخطيب
 [frame="3 98"][frame="2 98"]
لاَ تَشك ُ للنّاس ِ جرحا ً أنتَ صاحبُه .... لا يُؤْلم الجرحُ إلاَّ مَنْ بهِ ألم
don't cry your pain out to any one
No body will suffer for you
You..! who is suffering
[/frame]
[/frame]
الثورة تتكلم عربي
عبدالله الخطيب غير متصل   رد مع اقتباس