عرض مشاركة واحدة
قديم 05 / 02 / 2010, 06 : 03 AM   رقم المشاركة : [6]
عبدالله الخطيب
كاتب نور أدبي يتلألأ في سماء نور الأدب ( عضوية برونزية )
 





عبدالله الخطيب has a reputation beyond reputeعبدالله الخطيب has a reputation beyond reputeعبدالله الخطيب has a reputation beyond reputeعبدالله الخطيب has a reputation beyond reputeعبدالله الخطيب has a reputation beyond reputeعبدالله الخطيب has a reputation beyond reputeعبدالله الخطيب has a reputation beyond reputeعبدالله الخطيب has a reputation beyond reputeعبدالله الخطيب has a reputation beyond reputeعبدالله الخطيب has a reputation beyond reputeعبدالله الخطيب has a reputation beyond repute

رد: نفحات من كتابات كنفاني

(5)

[grade="ff0000 000000 008000 ff0000 000000"]الذين هَرَبوا والذين تَقَّدَموا[/grade]
*
*
*

فرشت أم سعد راحتيها أمامي، ورأيت بين شقوقهما التي أهترأت مع التعب والعذاب، آثاراً حمراء
لخيوط من الجروح لم تلتئم تماماً بعد، فسألتها:
-ما الذي حدث يا أم سعد؟ هل اعتركت مع شجرة عليق؟
وعادت تدفع أمام وجهي راحتيها اللتين تشبهان جلد أرض يعذبها العطش، ثم قالت:
-لا، يا ابن عمي، لقد أمضيت ليلة أمس الأول ألم عن الأرض قطعاً حادة من المعدن..
-ليلة أمس الأول؟

..كانت أم سعد تعشي ابنها الصغير حين سمعت دوي الانفجار الأول. مخيم البرج لا يبعد كثيراً عن
المطار، ولأول وهلة قالت لنفسها: هناك من بكر بالاحتفال بعيد رأس السنة. ثم أصاخت السمع، فقد
قالت لها أحاسيسها أن الجو يحب بخطر أشد.
كان نهارها صحراء قاحلة من التعب المضني. منذ أبكر الصبح وهي تعتصر الملابس والمماسح، تنظف
الشبابيك وتجلو الأرض وتنفض السجاجيد )في بيوت الآخرين، طبعاً ، فبيتها في المخيم غرفة مشطورة
من النصف بحائط من التنك .(كانت متعبة، وقد أخذت تعشي ابنها الصغير لتضعه في فراشه وتنام، حين
سمعت دوي الانفجار الأول.
ولم تتردد لحظة حين سمعت الانفجار الثاني، فتركت صغيرها وعادت إلى الخارج، وفوق كثبان الرمل
الأحمر مضت نحو الطريق، وهناك استطاعت أن ترى أذريعة النار تغوص في غيوم الدخان الماضي إلى
العتمة.
وقفت أم سعد هناك حائرة، كانت تسمع الدوي وتسمع أزيزاً غامضاً، ولكنها لم تكن تعلم بالضبط ماذا
يتعين عليها أن تفعل.

-هل كنت وحدك هناك؟
-وحدي؟ ماذا تعتقد يا ابن العم؟ وحدي؟ كنا كالنمل. كل نساء المخيم وأولاده وشبابه خرجوا كأنهم
اتفقوا على ذلك سلفاً، ووقفنا جميعاً هناك. لا نعرف ماذا يتعين علينا أن نفعل. وفي الأفق كنا نرى
الحرائق، ثم سمعنا محرك طائرة يجرش عن قرب، فرفعنا رؤوسنا إلى فوق.

جاءت الطائرة، مطلية باللون الأسود، وحلقت على علو خفيض، وأخذت تزح رصاصها على الشارع،
وسمعت أم سعد صوتاً معدنياً كالرنين يملأ الطريق، وفي اللحظة التالية تقدمت نحو الإسفلت، ورفعت
بين أصابعها قطعة حديد ذات أربعة رؤوس مسننة.
قالت أم سعد لرفيقاتها:
-هذه الحدائد تفرقع دواليب السيارات
ودورتها بين أصابعها، ثم قالت:
-يا صبايا، لنلمها ونقذف بها إلى الرمل..
واندفعت النساء، ومن ثم اندفع الأولاد، إلى الطريق المظلم وأخذوا يجمعون قطع الحديد بأيديهم العارية
ويقذفون بها إلى الرمل، وبسرعة انتشروا، كالأشباح، على طول الطريق، ينظفونه من العراقيل، وفي كل
مرة كانت الطائرة تعود كانوا يقذفون بأنفسهم إلى الرمل، ثم يعودون إلى الطريق مع ذهابها.

قالت أم سعد:
-كانت الطائرة تحلق على علو منخفض جداً، تكاد تمس رؤوسنا، وفي مرة كانت قريبة منا إلى حد
اعتزمت أن اقذفها بحجر، ولكنها مضت مسرعة، بعد أن رمت حفنة جديدة من تلك الحدائد الشيطانية،
ولكننا أسرعنا فلممناها.
-لقد نظفتم الطريق إذن؟
-في اللحظة ذاتها. كنا كالعفاريت، ولكن السيارات التي تركها أصحابها مع الغارة في منتصف الطريق
كانت في وضع غير مناسب، وقد حاولنا أن ندفشها إلى اليمين، أو إلى اليسار، إلا أنها لم تتزحزح، ثم
خفنا أن يرانا أصحابها فيقولون إننا كنا نحاول سرقتها.
-ولو! ولو يا أم سعد؟
-أجل. أنت لا تعرف شيئاً..ما الذي أستطيع أن أفعله حين يؤشر صاحب سيارة عليّ، وأنا في ملابسي
الرثة وشعري الذي طير ريح الطائرة غطاءه، ووجهي الملطخ بالرمل والعرق..ويقول: رأيتها تسرق
سيارتي؟
-غلطانة يا أم سعد. أنت كنت تقومين بعمل عظيم ..
-اعرف، ولكنني يا ابن العم لا أستطيع أن أثق برجل ترك سيارته في عرض الطريق، تسد الدرب،
وهرب..في لحظة مثل تلك اللحظة..لا، لا أستطيع أن أثق.!
***
هدأت النار، وظل الدخان يطرش الأفق، ووقفت أم سعد على الرمل تنظر إلى كفيها المجرحتين، وبدأ
الأطفال يعودون إلى بيوتهم.
وأخذت لبرهة، تفكر بسعد وأحسته في جسدها كما كان يوم أن ولد، يرجها بمشاعر لا تستطيع أن تعرف
طبيعتها، يملؤها بنوع مذهل من الثقة بالمستقبل ومن الأمل فيه.
في مكان ما، قالت لنفسها، يقف سعد الآن تحت سقف من الدخان، ثابت الساقين كما كان دائماً، كأنه
شجرة، كأنه صخرة، يقبض بسلاحه ثمن ذلك الدخان كله.
***
عادت أم سعد، ففرشت راحتيها أمامي، كانت الجروح تمتد فوق خشونتها انهراً حمراء جافة، تفوح
منهما رائحة فريدة، رائحة المقاومة الباسلة حين تكون جزءاً من جسد الإنسان ودمائه.
قلت لها :لا عليك..إنها جروح بسيطة..
-هذه؟ طبعاً، ستمحى. ستمحوها الأيام. سيملؤها غبار التعب، سيتراكم فوقها صدأ الأواني التي أغسلها،
وذرات البلاط الذي أمسحه، ورماد المنافض التي أنظفها، وعكورة المياه التي أغسل بها .. اجل يا ابن
العم، أجل.. ستغرق هذه الجروح تحت سواقي التعب، يجففها اللهاث، وتغتسل طوال النهار بالعرق
الساخن الذي أعجن فيها خبز أولادي..نعم يا ابن العم..ستضع الأيام الذليلة فوقها قشرة سميكة،
وسيضحى من المستحيل على أي كان أن يراها، ولكنني أعرف، أنا التي أعرف، أنها ستظل تحزني تحت
تلك القشرة. أعرف !
*************************

يُتبع
توقيع عبدالله الخطيب
 [frame="3 98"][frame="2 98"]
لاَ تَشك ُ للنّاس ِ جرحا ً أنتَ صاحبُه .... لا يُؤْلم الجرحُ إلاَّ مَنْ بهِ ألم
don't cry your pain out to any one
No body will suffer for you
You..! who is suffering
[/frame]
[/frame]
الثورة تتكلم عربي
عبدالله الخطيب غير متصل   رد مع اقتباس