عرض مشاركة واحدة
قديم 01 / 03 / 2010, 13 : 02 AM   رقم المشاركة : [9]
عبدالله الخطيب
كاتب نور أدبي يتلألأ في سماء نور الأدب ( عضوية برونزية )
 





عبدالله الخطيب has a reputation beyond reputeعبدالله الخطيب has a reputation beyond reputeعبدالله الخطيب has a reputation beyond reputeعبدالله الخطيب has a reputation beyond reputeعبدالله الخطيب has a reputation beyond reputeعبدالله الخطيب has a reputation beyond reputeعبدالله الخطيب has a reputation beyond reputeعبدالله الخطيب has a reputation beyond reputeعبدالله الخطيب has a reputation beyond reputeعبدالله الخطيب has a reputation beyond reputeعبدالله الخطيب has a reputation beyond repute

رد: ((عائد الى حيفا)) للأديب الشهيد غسان كنفاني

[grade="ff0000 000000 008000 ff0000 000000"]عائد الى حيفا[/grade]
3
*
*
*

كانت لغتها الإنجليزية بطيئة ، وذات لكنة أقرب إلى الألمانية ، وتبدو ، إذ تتلفظ بها ، كما لو أنها تنتشل كلماتها من بئر غبار سحيقة الغور .

وانحنى سعيد إلى الأمام وسألها :

- "هل تعرفين من نحن ؟ ".

- وهزت رأسها بالإيجاب عدة مرات لتزيد الأمر الأمر تأكيداً ، وفكرت قليلاً كي تنتقي كلماتها ، ثم قالت ببطء :

- " أنتما أصحاب هذا البيت ، وأنا أعرف ذلك".

- " كيف تعرفين ؟ ".

جاء السؤال من سعيد وصفية في وقت واحد .

وزادت العجوز في ابتسامتها . ثم قالت :

- " من كل شيء . من الصور ، من الطريقة التي وقفتما بها أمام الباب . والصحيح أنه منذ انتهت الحرب جاء الكثيرون إلى هنا وأخذوا ينظرون إلى البيوت ويدخلونها ، وكنت أقول كل يوم أنكما ستأتيان لا شك ".

وفجاءة بدت محتارة ، وأخذت تنظر حواليها ، إلى الأشياء الموزعة في الغرفة وكأنها تراها لأول مرة ، ودون أن يقصد أخذ سعيد ينظر إلى حيث تنظر ، وينقل بصرة حيث تنقل بصرها ، وفعلت " صفية " الشيء ذاته ، وقال سعيد لنفسه :
" يا للغرابة ! ثلاثة أزواج من العيون تنظر إلى شيء واحد … ثم كم تراه مختلفا ! " .

وسمع صوت العجوز ، وقد صار الآن خافتا وأشد بطئا:
-" أنا آسفة ، ولكن ذلك كان ما . لم أفكر قط بالأمر كما هو الآن ".

وابتسم سعيد بمرارة ، ولم يعرف كيف يقول لها أنه لم يأت من أجل هذا ، وأنه لن يشرع في نقاش سياسي ، وأنه يعرف ان لا ذنب لها.
" لا ذنب لها ؟"
لا ، ليس بالضبط ! كيف يشرح لها ذلك ؟

إلا أن صفية وفرت عليه همه ، إذ سألت بصوت بدا بريئا بصورة مريبة ، فيما أخذ هو يترجم :
-" من أين جئت؟".
-" من بولونيا".
-" متى ؟".
-" في سنة 1948 ".
-" متى بالضبط؟".
-" أول آذار ، 1948".

وخيم صمت ثقيل ، وأخذوا جميعا ينظرون إلى حيث لم يكن من المهم لهم أن ينظروا ، وقطع سعيد الصمت قائلا بهدوء:
-" طبعا نحن لم نجيء لنقول لك أخرجي من هنا ، ذلك يحتاج إلى حرب…."

وشدت " صفية " على يده ، كي لا يمضي في الحديث فانتبه ، وعاد يحاول الكلام مقتربا من الموضوع:
-" أقصد أن وجودك هنا ، في هذا البيت ، بيتنا نحن ، بيتنا أنا وصفية ، هو موضوع آخر، جئنا فقط ننظر إلى الأشياء، هذه الأشياء لنا ، ربما كان بوسعك أن تفهمي ذلك".
فقالت بسرعة :
-" أفهم ، ولكن …."

وفجأة فقد أعصابه :
-" نعم ، ولكن ! .. هذه ال " لكن " الرهيبة ، المميتة ، الدامية …."

وسكت تحت وطأة نظرات زوجته، وشعر بأنه لن ينجح أبدا في الوصول إلى مقصده. ثمة ارتطام قدري لا يصدق ، وغير قابل للتجاهل ، وهذا الذي يجري هو مجرد حوار مستحيل .

وللحظة رغب في أن يقوم ويمضي ، فلم يعد يهمه أيما شيء . ليكن خلدون ميتا ، أو حيا، لا فرق ، فحين تصل الأمور إلى هنا فليس ثمة ما يمكن أن يقال . وانتابه غضب مهيض ومر ، وأحس أنه على وشك ان يتفجر من الداخل .
وليس يدري كيف سقط نظره على تلك الريشات الخمس من ذيل الطاووس التي كانت مزروعة في الإناء الخشبي وسط الغرفة ، ورآها تتحرك بألوانها الفذة الرائعة ، التي لا تصدق مع هبوب نسمة من الهواء دخلت من النافذة المفتوحة . وفجأة سئل بفظاظة وهو يشير إلى المزهرية :

- " كان هنا سبع ريشات ، ماذا حدث للريشتين المفقودتين؟".

ونظرت العجوز إلى حيث أشار ، وعادت فنظرت إليه متسائلة ، وكان ما يزال يمد ذراعه باتجاه المزهرية ويحدق فيها مطالبا بالجواب ، وكان الكون كله يقف على رأس لسانها . نهضت من مكانها واقتربت نحو المزهرية وأمسكتها كما لو أنها تفعل ذلك لأول مرة ، ثم قالت ببطء:
-" لست أدري أين ذهبت الريشتان اللتان تتحدث عنهما ، ذلك شيء لا أستطيع أن أتذكره ، ربما كان (دوف) قد لعب بهما وضيعهما بعد ذلك حين كان صغيرا".

-" دوف؟؟".

قالاها معا ، سعيد وصفية ، ووقفا وكأن الأرض قذفتهما إلى فوق ، وأخذا متوترين ، ينظران نحوها ، فمضت تقول:
-" أجل دوف ، ولست أدري ماذا كان اسمه ، وإن كان يهمك الأمر، فهو يشبهك كثيرا…."



الآن ، بعد ساعتين من حديث متقطع ، يمكن إعادة ترتيب الأمور من جديد : إذا ماذا حدث في تلك الأيام القليلة التي امتدت بين ليل الأربعاء ، 21 نيسان 1948 حين غادر (سعيد س) حيفا على متن زورق بريطاني دفع إليه دفعاً مع زوجته ، وقذفه بعد ساعة على شاطئ عكا الفضي ، وبين يوم الخميس 29 نيسان 1948 ، حين فتح رجل من الهاغاناه ، معه رجل عجوز له وجه يشبه الدجاجة ، باب منزل (سعيد س) في الحليصة ، ووسع الطريق أمام ( إفرات كوشن ) وزوجته ، القادمين من بولونيا ، ليدخلا إلى ما صار منذ ذلك اليوم منزلهما المستأجر من دائرة أملاك الغائبين في حيفا .

لقد وصل ( افرات كوشن ) إلى حيفا ، برعاية الوكالة اليهودية ، قادماً إليها مع زوجته من ميناء ( ميلانو ) الإيطالي في وقت مبكر من شهر آذار . كان قد غادر وارسو مع قافلة صغيرة في أوائل تشرين الثاني من عام 1947 ، وأسكن في منزل مؤقت يقع في ضواحي ذلك المرفأ الإيطالي الذي كان آنذاك يضج بحركة غير عادية ، وفي أوائل آذار نقل بحراً مع عدد من الرجال والنساء إلى حيفا .

كانت أوراقه معدة تماماً ، وحملته شاحنة صغيرة مع أشيائه القليلة عبر الميناء الصاخب ، المليء بالجنود البريطانيين والعمال العرب والبضائع ، عبر شوارع حيفا المتوترة ، والتي كانت تدوي فيها طلقات نارية متقطعة بين الفينة والأخرى ، إلى الهادار ، حيث أسكن في غرفة صغيرة من بناء مزدحم بالسكان .

وتبين ل ( أفرات كوشن ) بعد فترة ، أن جميع الغرف في البناء يشغلها مهاجرون جدد ، ينتظرون هناك نقلهم إلى أمكنة أخرى فيما بعد ، وليس يدري إن كانوا قد أطلقوا عليه اسم ( نزل المهاجرين ) وهم يلتقون كل ليلة لتناول العشاء ، أم أن ذلك الاسم كان معروفاً قبلهم ، وأنهم استعملوه فقط .

وربما كان قد نظر عدة مرات ، من شرفته إلى ( الحليصة )، إلا أنه لم يكن يعرف على الإطلاق ، أو حتى يخمن ، أنه سيجري إسكان هناك . وفي الواقع فإنه كان يعتقد أنه حينما تسوى الأمور فسينقل إلى بيت ريفي هادئ على سفح تله ما في الجليل : كان قد قرأ قصة ( لصوص في الليل ) لآرثر كوستلر حين كان في ميلان ، أعاره إياها رجل قادم من بريطانيا ليشرف على عملية التهجير ، وعاش فترة من الزمن في تلك التلال الجليلة التي جعلها ( كوستلر ) مسرحاً لروايته . وفي الحقيقة فإنه لم يكن ليعرف الكثير آنذاك عن فلسطين . وبالنسبة له كانت مجرد مسرح ملائم لأسطورة قديمة ، ما يزال يحتفظ بنفس الديكور الذي كان يراه مرسوماً في الكتب الدينية المسيحية الملونة المخصصة لقراءة الأطفال في أوروبا. إلا أنه بالطبع لم يكن يصدق تماماً أن تلك الأرض كانت مجرد صحراء أعادت الوكالة اليهودية اكتشافها بعد ألفي سنة . ومع ذلك فلم يكن هذا هو أكثر ما كان يهمه آنذاك ، وقد وضع في ذلك النزل ،وكان هناك شيء اسمه الإنتظار ، وقد اعتنقه هماً يومياً مثلما فعل بقية أولئك الذين كانوا معه .

وربما لأنه سمع أصوات الرصاص منذ أن خرج من ميناء حيفا في نهاية أول أسبوع من آذار 1948 ، فإنه لم يفكر كثيراً في أن شيئاً مرعباً كان يحدث آنذاك ، وهو - على كل حال - لم يقابل شخصاً عربياً في حياته كلها ، بل إنه صادف أول عربي في حيفا نفسها بعد إحتلالها بحوالي عام ونصف العام . وقد جعله ذلك الأمر يحتفظ طوال الأيام الحرجة بصورة فريدة وغامضة عما كان يجري حقاً . صورة أسطورية جاءت ملائمة تماماً لما كان يتصوره في وارسو وفي ميلان طوال 25 سنة من عمره ، ولذلك كانت المعارك التي يسمع أصواتها ثم يقرأ أخبارها في "بالستاين بوست" كل صباح ، إنما تجري بين بشر وبين أشباح ، ليس إلا .

أين كان بالضبط يوم الأربعاء 21 نيسان 1948 ، في الوقت الذي كان " سعيد س." ضائعاً بين " شارع اللنبي " و" حارة حلول " وكانت زوجته " صفية " تندفع من " الحليصة " نزولاً على حافة المركز التجاري باتجاه شارع ستانتون ؟.

لم يعد من الممكن الآن تذكر الأمر تماماً ، بتفاصيله ، ومع ذلك فإنه يذكر أن الهجوم الذي بدأ صباح الأربعاء ظل مستمراً حتى ليل الخميس ، وصباح الجمعة فقط ، 23 نيسان 1948 ، تأكد تماماً أن الأمر في حيفا قد انتهى ، وأن الهاغانا سيطرت على الموقف كلياً . وهو لم يعرف بالضبط ماذا حدث على وجه الدقة : لقد بدا القصف من الهادار ، وتكومت التفاصيل لديه من الراديو ومن أخبار القادمين بين الفينة والأخرى ممتزجة بصورة تستعصي على الاستيعاب . إلا أنه كان يعلم أن الهجوم الشامل الذي بدأ صباح الأربعاء قد انطلق من ثلاثة مراكز وأن الكولونيل " موشيه كارماتيل " كان يضع يده في تلك اللحظة على ثلاث كتائب يحركها من هادار هاكرمل ومن المركز التجاري ، وأن واحدة من هذه الكتائب كان عليها أن تكتسح الحليصة ، فالجسر ، فوادي رشميا نحو المرفأ . في حين تضغط كتيبة أخرى من المركز التجاري لحصر الهاربين في ممر ضيق ينتهي إلى البحر . ولم يكن "ايفرات" يعرف على وجه التحديد مواقع هذه الأمكنة التي حفظ أسماءها من فرط التكرار . وقد كان ثمة ارتباط ما بين كلمة " ارغون " وكلمة " وادي النسناس"، مما جعله يفهم أن العصابة تلك كانت مكلفة بالهجوم هناك .

ولم يكن " أفرات كوشن " بحاجة إلى من يؤكد له أن الإنجليز مهتمون بتسليم حيفا للهاغاناه ، فقد كان بوسعه معرفة أنهم كانوا وما زالوا يقومون بدوريات مشتركة ، وقد رأى ذلك بنفسه مرتين أو ثلاث مرات . ولا يذكر الآن كيف حصل على معلوماته عن دور البريجادير ستوكويل ، ألا أن ذلك بالنسبة له كان مؤكدا ، وكان الهمس يدور في كل زاوية من " نزل المهاجرين " أن البريجادير ستوكويل إنما يرمى بثقله مع الهاغاناه ، وأنه في الحقيقة كتم الخبر عن موعد انسحابه ولم يسر به إلا للهاغاناه . فأعطاهم بذلك عنصر المفاجأة في اللحظة المناسبة ، وذلك في وقت كان يحسب فيه العرب أن تخلي الجيش البريطاني عن السلطة إنما سيتم في وقت لاحق.

وظل طوال يومي الأربعاء والخميس في ( النزل ) ، وكانوا كلهم قد تلقوا التعليمات بألا يغادروا المكان . ويوم الجمعة بدأ بعضهم يخرجون ،إلا أنه لم يخرج من النزل حتى صباح السبت . وأدهشه للوهلة الأولى أنه لم يجد سيارة ، لقد كان سبتا يهوديا حقيقيا . وابتعث ذلك شيئا من الدموع في عينيه لسبب لا يستطيع تفسيره. وحين رأته زوجته كذلك فوجئ بها تقول له - والدموع في عينيها- :
-" إنني أبكي لشيء آخر، إنه سبت حقيقي، ولكن لم يعد ثمة جمعه حقيقية هنا، ولا أحد حقيقي."

ذلك كان مجرد البداية ، فللمرة الأولى منذ جاء زوجته أمامه باختصار شيئا مقلقا لم يكن يحسب حسابه ولم يفكر فيه. وفجأة أخذت آثار الدمار ، التي بدأ يلاحظها ، شكلا جديدا ومعنى آخر ، ولكنه رفض بينه وبين نفسه أن يجعل من ذلك مبعثا جادا للقلق ، أو حتى للتفكير.

على أن الأمر لم يكن كذلك لميريام ، زوجته ، إذا أنها تغيرت تماما ذلك اليوم ، وجاء التغير حين شهدت ، وهي تدور قرب كنيسة بيت لحم في الهادار . شابان من الهاغانه يحملان شيئا ويضعانه قي شاحنه صغيره كانت واقفه هناك ، واستطاعت في لحظة كانخطاف البصر أن ترى ما يحملانه ، فأمسكت بذراع زوجها وصاحت وهي ترتجف:
-" أنظر!"

إلا أن زوجها حين نظر حيث كانت تشير ، لم يرى شيئا ، كان الشابان يمسحان كفيهما على طرفي قميصيهما الخاكيين ، وقالت زوجته :
" كان طفلا عربيا ميتا ، وقد رأيته مكسوا بالدم ".

وأخذها زوجها إلى الرصيف الآخر وسألها :
-" كيف عرفت أنه طفل عربي؟"
-" ألم تر كيف ألقوه في الشاحنة كأنه حطبه ؟ لو كان يهوديا لما فعلوا ذلك".

وأراد أن يسألها لماذا ، إلا أنه لحظ وجهها وصمت .

كانت " ميريام" قد فقدت والدها في " أوشفيتز" قبل ذلك بثماني سنوات . وقبل ذلك ، حين دهموا المنزل الذي كانت تعيش فيه مع زوجها ، ولم يكن عند ذاك فيه ، التجأت إلى جيران كانوا يسكنون فوق منزلها . ولم يجد الجنود الألمان أحداً ، الا انهم في طريق نزولهم على السلم صادفوا أخاها الصغير قادما إليها ، كان عمره عشر سنوات ، وقد جاء آنذاك ليخبرها -أغلب الظن - أن والدها قد سيق إلى المعتقل وأنه الآن صار وحده . إلا أنه حين رأى الجنود الألمان استدار وأخذ يعدو هاربا . وقد استطاعت أن ترى ذلك عبر تلك الكوة الضيقة التي تتيحها المسافه الصغيرة المتروكة بين مجموعة السلالم ومن هناك شهدت كيف أطلق عليه الرصاص.


وحين عاد " إيفرات كوشن" مع ميريام إلى نزل المهاجرين كانت " ميريام" قد قررت العودة إلى إيطاليا . ولكنها لم تفلح طوال تلك الليلة ، ولا في الأيام القليلة التي أعقبت ذلك اليوم ، في إقناع زوجها بذلك ، وكانت دائما تخسر النقاش بسرعة ، ولا تستطيع إيجاد الكلمات التي تعبر عن رأيها ، وتشرح حقيقة دوافعها .

ألا أن الأمور عادت فتغيرت بعد ذلك بأسبوع واحد ، فقد عاد زوجها من زيارة لمكتب الوكالة اليهودية في حيفا بخبرين مفرحين: لقد أعطي بيتا في حيفا نفسها، وأعطي مع البيت طفلا عمره خمسة شهور!

مساء يوم الخميس ، 22 نيسان 1948 ، سمعت " تورا زونشتاين " المرأة التي كانت تسكن مع ابنها الصغير بعد أن طلقها زوجها ، في الطابق الثالث ، بالضبط فوق بيت " سعيد.س" ، صوت بكاء طفل واهن منطلق من الطابق الثاني.

ورغم أنها لم تصدق في بادئ الأمر ما ذهبت إليه أفكارها ، الا أنها تحركت من مكانها بعد أن استطال البكاء الواهن ، ونزلت إلى الطابق الثاني وأخذت تقرع الباب.
واخيرا اضطرت إلى تحطيم الباب، وكان الطفل في سريره منهكا تماما ، فحملته إلى بيتها .

كانت تورا تحسب أن الأمور ستعود إلى ما كانت عليه بعد فترة وجيزة . إلا أن ذلك الحسبان ما لبث أن سقط بعد يومين اثنين ، حين اكتشفت أن الأمر يختلف تماما عما كانت تحسب . ولم يكن من المعقول الاستمرار بالاحتفاظ بالصبي، فحملته إلى الوكالة اليهودية في حيفا وهي تتصور أن شيئا ما يمكن أن يقام به لحل تلك المشكلة .

وهكذا فقد كان من حظ " ايفرات كوشين" أن جاء بعد ذلك بفترة وجيزة إلى مكتب الوكالة اليهودية ، وحين تبين المسؤولون هناك من أوراقه انه لم ينجب أولادا ، عرضوا عليه بيتا في حيفا نفسها ، كامتياز خاص ، إن هو قبل بتبني الطفل.

ولم يكن هذا العرض الا مفاجئة مدهشة لايفرات ، الذي كان يتحرق لتبني طفل بعد أن تأكد كليا من أن ميريام غير قادرة على الإنجاب . بل أنه مضى إلى حد اعتبار الأمر كله بمثابة هبة إلهية لا تكاد تصدق تأتي بخيراتها دفعه واحدة . إذ لا شك أن طفلا يعطى لميريام سيجعلها تتغير تماما ، وتكف عن ذلك الشيء الغريب الذي بات ينتاب أفكارها منذ رأت ذلك الطفل العربي القتيل يلقى في شاحنة الموت كقطعة خشب رخيصة .

وكان ذلك اليوم يوم خميس، الثلاثين من نيسان 1948 ، عندما دخل أفرات كوشين وزوجته ميريام برفقة موظف من الوكالة اليهودية له وجه يشبه الدجاجة ، ويحمل طفلا عمره خمسة شهور ، إلى بيت سعيد س. في الحليصة .


أما سعيد س. وصفية فقد كانا في ذلك اليوم بالضبط يبكيان معا ، بعد أن عاد سعيد للمرة الثالثة فاشلا ، عاجزا عن الدخول إلى حيفا ، لينام بعد قليل مرهقا ممزقا شبه غائب عن الوعي من فرط التعب ، في الغرفة التي كانت صفا سادسا بمدرسة المعارف الثانوية ، مقابل جدار السور الذي يحمي سجن عكا الشهير ، على شاطئ البحر الغربي.

ولم يتناول سعيد س. قهوة ميريام ، واكتفت صفية برشفة واحدة ، تناولت معها قطعة من البسكوت المعلب كانت ميريام قد وضعته ، دون أن تكف عن الابتسام ، أمامهما .

وظل سعيد س. ينظر حواليه وقد تضاعفت حيرته بعد أن أستمع إلى قصة ميريام نتفة وراء الأخرى ، طوال زمن بدا له طويلا ، ولفترة ما ظلا ، صفية وهو ، جالسين على مقعديهما كأنما سمرا هناك ، ينتظران شيئا مجهولا لا قدرة لهما على تصوره .

ومضت ميريام تذهب وتجيء . وحين كانت تغيب وراء الباب كانا يوصلان الاستماع إلى خطواتها البطيئة تجر نفسها جرا على البلاط ، بل كان بوسع صفية حين تغمض عينيها قليلا أن تتصور بالضبط كيف كانت ميريام تعبر الممر المؤدي إلى المطبخ ، وعن يمينها كانت غرفة النوم ، ومرة واحدة فقط سمعت اصطفاق الباب ، فنظرت نحو زوجها وقالت له بمرارة : -" كأنها تتصرف في بيتها ! تتصرف وكأنه بيتها !"

وابتسما بصمت ، وعاد يشد راحتيه على بعضهما بين ركبتيه دون أن يستطيع التوصل إلى قرار ، وأخيرا جاءت ميريام ، فسألها :
-" ومتى سيحضر ؟"
-" وقت أوبته الآن ، ولكنه قد يتأخر قليلا . لم يلتزم طوال عمره بموعد لعودته إلى البيت ، إنه مثل أبيه تماما …. كان …"

وصمتت وهي تعض قليلا على شفتيها وتنظر نحو سعيد الذي أحس ببدنه يرتجف للحظة وكأن تيارا كهربائيا مسه . "مثل أبيه !" وفجاءة سأل نفسه : " ما هي الأبوة ؟" وكان مثل من فتح مصراعي شباك إعصار غير متوقع . فأخذ رأسه بين راحتيه وحاول أن يوقف ذلك الدوران المجنون للسؤال الذي كان كامنا في مكان ما من عقله طوال عشرين سنة ، دون أن يجرؤ على مواجهته ، أما صفية فقد أخذت تربت على كتفه ، لقد فهمت بصورة غريبة ذلك الارتطام الذي لا يصدق ، والذي يمكن للكلمات أحيانا أن تفعله على حين فجأة ، ثم قالت:
-" أنظر من الذي يتحدث ! إنها تقول (مثل أبيه)! وكأن لخلدون أبا غيرك !".

إلا أن ميريام تقدمت الى الأمام ، ووقفت معدة نفسها لتقول شيئا صعبا . ثم ببطء أخذت تنتزع تلك الكلمات التي تبدو وكأن يدا ما تنتشلها من أعماق بئر محشو بالغبار :
-" إسمع يا سيد سعيد . أريد أن أقول لك شيئا مهما ولذلك أردتك أن تنتظر دوف ، أو خلدون إن شئت ، كي تتحدثا . وكي ينتهي الأمر كما تريد له الطبيعة أن ينتهي ، أتعتقد أن الأمر لم يكن مشكلة لي كما كان مشكلة لك ؟ طوال السنوات العشرين الماضية وأنا محتارة ، والآن دعنا ننتهي من كل شيء . أنا أعرف أبوه ، وأعرف أيضا أنه ابننا ، ومع ذلك لندعه يقرر بنفسه ، لندعه يختار . لقد أصبح شابا راشدا ، وعلينا نحن الإثنين أن نعترف بأنه هو وحده صاحب الحق في أن يختار ... أتوافق؟".

وقام سعيد عن مقعده واخذ يدور في انحاء الغرفة ثم وقف امام الطاولة المنقوشة بالصدف وسط الغرفة واخذ ، مرة أخرى ، يعد ريشات الطاووس في المزهرية الخشبية الجاثمة هناك ، الا انه لم يقل شيئاً . وظل صامتاً كأنه لم يسمع حرفاً . وكانت ميريام تنظر اليه متحفزة ، واخيراً التفت الى صفية وشرح لها ما قالته ميريام ، فقامت من مكانها ووقفت الى جانبه ، ثم قالت بصوت مرتجف:

- "ذلك خيار عادل ... وانا واثقة ان خلدون سيختار والديه الحقيقيين . لا يمكن ان يتنكر لنداء الدم واللحم ".

وفجأة أخذ سعيد يضحك بكل قوته ، وكانت ضحكته تعبق بمرارة عميقة تشبه الخيبة :

- " أي خلدون يا صفية ؟ أي خلدون ؟ اي لحم ودم تتحدثين عنهما ؟ وأنت تقولين أنه خيار عادل ! لقد علموه عشرين سنه كيف يكون . يوماً يوماً ، ساعة ساعة ، مع الاكل والشرب والفراش .. ثم تقولين : خيار عادل ! ان خلدون ، أو دوف ، أو الشيطان ان شئت ، لا يعرفنا! أتريدين رأيي ؟ لنخرج من هنا ولنعد الى الماضي . انتهى الامر . سرقوه".
************************

يُتبع
توقيع عبدالله الخطيب
 [frame="3 98"][frame="2 98"]
لاَ تَشك ُ للنّاس ِ جرحا ً أنتَ صاحبُه .... لا يُؤْلم الجرحُ إلاَّ مَنْ بهِ ألم
don't cry your pain out to any one
No body will suffer for you
You..! who is suffering
[/frame]
[/frame]
الثورة تتكلم عربي
عبدالله الخطيب غير متصل   رد مع اقتباس