عرض مشاركة واحدة
قديم 21 / 03 / 2010, 06 : 02 AM   رقم المشاركة : [47]
رشيد الميموني
أديب وقاص ومترجم أدبي ويعمل في هيئة التدريس -عضو الهيئة الإدارية / مشرف عام على المنتديات والأقسام / نائب رئيس رابطة نور الأدب


 الصورة الرمزية رشيد الميموني
 





رشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: المغرب

رد: عش رشيد الميموني الدافئ

26

[align=justify]

يبدو أن الإقامة عند غادة صديقي قد استهوتني ، واستعذبت حالة الركود الجسدي و النفسي .. لكن شيئا بداخلي كان يدفعني للرحيل من جديد .. تاقت نفسي للانطلاق عبر الأحراش و الوديان .. وهفت نفسي لمعانقة الغابة وأنسام سندياناتها و صفصافها .. واشتقت للمسير عبر الأودية والجلوس لحظات على ضفاف الغدران ، خاصة و أني بدأت أشعر بأن الجو بدأ يتغير مع أولى تباشير الربيع التي تلوح في الأفق .
ومع كل ما كان يعتلج في نفسي من لهفة لمغادرة البلدة الوديعة و أهلها الطيبين ، فإن شعورا بالذنب كان يقض مضجعي و أنا أتخيل صديقي في محنته .. وكثيرا ما كنت أمني النفس بالتسلل ليلا إلى منزله و مسامرته في غرفته الأنيقة أو اللحاق به في الكوخ .. لكني أتراجع خشية أن أزعج النائمين أو أن أسبب لهم قلقا حين يستيقظون صباحا و لا يجدونني في فراشي .
لاحظت حليمة سهومي و تطلعي نحو البروة المقابلة للمنزل حيث يسكن صديقي لكنها لم تعلق على ذلك .. وكثيرا ما كانت تقول مازحة :
- أرى أنك مشتاق إلى هناك .. أبي لا يعترض ولكنه لا يرى في ذهابك فائدة ما دام صديقك ليس متواجدا ..
- ليس متواجدا ؟ أين ذهب ؟ للرعي ؟.. أريد اللحاق به في الكوخ ..
أطرقت هنيهة ثم رفعت رأسها وهي تقول بوجوم :
- ولا هناك .. ذهب للعلاج ..
خفق قلبي بعنف :
- للعلاج ؟ .. هل هو مريض إلى هذا الحد ؟ ولم يخبرني ؟ أين يعالج ؟
- اهدأ .. لقد ذهب عند أحد معارفنا المشهورين ببركته .. سيعود عما قريب إن شاء الله .. هل تريد الخروج للتجول قليلا ؟ لا شك أنك سئمت الجلوس بين الحيطان ..
أحنيت رأسي أن نعم .. ثم انطلقت بين السواقي تحفني أشجار السنديان حتى وصلت إلى المنبع و تراءت لي الربوة التي حدثني عنها صديقي .. ترى هل ألغى فكرة بناء مسكنه هناك ؟ .. الهدوء يسود المكان إلا من خرير المياه .. فكرت في العروج على منزل أبويه لكني خشيت أن أصل و والده غائب .. قفزت إلى صخرة تحف بها المياه من كل جانب وجلست أتملى بمنظر النهر الهادر وقد أخذتني سنة فلا أنتبه إلا و بصري قد وصل إلى أسفل حيث تكونت بحيرة وسط الأشجار ، فأعود أنظر إلى ما تحت قدمي ، وسرعان ما أجدني من جديد أنظر إلى البركة .. ولأول مرة لا يثير في منظر الطبيعة أي إحساس .. هل هو القنوط و اليأس من لقاء غادتي ؟ لكن .. الم أعاهد نفسي على عدم التفكير بها من جديد ؟ .. متى عاهدت نفسي ؟ .. لا أدري إن كنت نسيت أو تناسيت .. ثم إني حتى ولو حاولت التفكير بها ، فسوف أكون قد سببت لنفسي قلقا و عدم استقرار .. أين هي ؟ و كيف السبيل إليها ؟ .. الأفضل أن أعرض عن كل هذا .. هل هو حزني على صديقي و تأثري بحالته ؟ .. ربما .. لكني في قرارة نفسي كنت أحس بشيء مبهم يقض مضجعي كلما تراءى لي وجه حليمة و هي بدورها تعاني في صمت .. كنت أستأنس بشبهها الكبير بغادتي ، وكان هذا يؤلم ضميري و أنا أرى نفسي في مكان كان صديقي أولى به مني .. ما الذي يشدني للبقاء هناك .. ولم لا أغادر البلدة ؟ أين أذهب ؟ .. الشيخ العجوز .. البحر .. شعرت بفرحة غامرة و أنا أتخيل نفسي من جديد في كوخ الصياد مستمعا إلى أحاديثه التي لا تنتهي .. إذن قضي الأمر وما علي إلا أن أخبر حليمة و أباها ثم انتظر الصباح لأنطلق نحو البحر .. نهضت للتو و قفزت من جديد من أعلى الصخرة .. فعادت أصوات المساء تشنف أذني بأنغام الخرير و زقزقة العصافير و خوار البقرات العائدة من الرعي وكأني أسمعها لأول مرة..
وجدت والد حليمة متكئا على مخدة في إحدى الحجرات و عيناه على الخارج يراقب قطيع المعز وهو يهرول نحو الحظيرة .. كدت أبكي من جديد و أنا ألمح العنزة تتقدم القطيع برشاقة .. هل أحست بغياب سيدها ؟
دعاني الوالد إلى الجلوس قائلا :
- أخبرتني حليمة أنك خرجت للتجول .. حسنا فعلت .. أرض الله واسعة و جميلة .. والدنيا عندنا هنا جنة .
- أجل عمي .. وهذا ما جعلني أبقى هنا طيلة هذه المدة .. وقد آن الأوان لكي أغادركم .. لقد كنتم في منتهى الطيبة و الكرم ..
- أعوذ بالله ..لا تقل هذا ..أنت ابني و ما فعلنا شيئا يستحق كل هذا الشكر .. لكن قل لي .. إلى أين ستذهب ؟
هل لك وجهة معينة أم أنك فقط سئمت منا ؟
و أطلق ضحكته الرنانة في الوقت الذي دخلت فيه حليمة بإبريق الشاي وبعض القطائف بالسمن و العسل .
لمحت منها إشارة خفية تدعوه للنهوض .. لا شك أنها تريد أن تفضي غليه بشيء هام يخص الأسرة .. نهض و هو ينظر بأسف إلى الإبريق و القطائف و خرج ، لكن كان بإمكاني رؤيته في الفناء و هو يصغي باهتمام إلى حليمة و قد علت وجهه البغتة .. أما هي فلم أكن المح إلا منديلها المخطط بالأحمر و الأبيض ، وجزءا من كتفها .. ثم شعرت بحركة غير عادية في البيت .. الكل يهرول ..ذهابا وجيئة .. وفي لحظة .. ساد الصمت .. فلم أعد اسمع شيئا و كأن الأرض انشقت عن ساكنيها و ابتلعتهم .. أين يكونون قد ذهبوا وما هذا الأمر الذي جاءت حليمة لتسر به إلى والدها ؟
نهضت بدوري لأستطلع الخبر فلم أجد أحدا .. خرجت و الظلام قد بدأ يسدل ستاره .. وقفلت أتملى بمنظر الليل وقد تلألأت النجوم في السماء الضاربة في السواد .. و أحسست برهبة المنظر خاصة حين رأيت شهابا يشق عنان السماء وخيل لي أن تراتيل شجية تنبعث من الفضاء المترامي الأطراف .. هل هي لحظة صعود روح من الأرواح إلى خالقها ؟
تراءى لي شبح يقترب من المنزل .. لا بد أنه لم يرني لأني لمحته يبحث عن شيء أمام الفرن .. هي حليمة .. ماذا تفعل و عم تبحث ؟ و ما هذا الاختفاء المفاجئ لكل أفراد الأسرة ؟ .. حليمة لن تدخل إلى البيت و تدل حركتها على أنها لا تريد أن يعلم أحد بمجيئها .. هل تريد أن تخفي عني قدومها كي لا اسألها ؟ ..
- حليمة .. ماذا هناك ؟ ماذا يجري ؟ خيرا إن شاء الله ؟
و كأنما لسعتها عقرب .. فانتفضت في مكانها و التفتت إلي غير مصدقة وجودي على عتبة الباب .
- لا شيء .. سوى أن أسرة المفضل طلبت منا مساعدتها في ..
- في ماذا ؟ ..
- لقد عاد المفضل منذ قليل .. صحبة فقيه .. و ..
لم تكمل .. فقد غلبها البكاء ..
- مالك حليمة .. وما الذي جرى ؟ ولم البكاء ؟ هل المفضل بخير ؟
- هو مريض .. مريض جدا .
شعرت بدوار و طنين يملأ أذني و سألتها :
- لماذا لم تأخذوني معكم لرؤيته ؟ أين هو الآن ؟
وفي اللحظة التي خطوت دون وعي نحو المنزل الآخر في الجانب الأعلى من البلدة ، لمحت شبحين يقتربان في تؤدة وهما منهمكان في الحديث بينما انسلت حليمة من جديد وغابت في الظلمة .. ميزت قامة والد حليمة و شخصا عرفت أنه إمام البلدة .. فلم أشعر إلا و أنا أتقدم نحوهما قاطعا همسهما :
- السلام عليكم .. اسمح لي عمي .. كيف حال المفضل ؟ وهل يمكنني رؤيته ؟
سكتا هنيهة و هما ينظران إلى بعضهما البعض ثم قال صاحب البيت :
- صبرا ابني .. لا تتعجل وعد إلى المنزل كي لا تصيبك نزلة برد .
ثم ابتعدا وهما لا يزالان يتحدثان في همس .. التفت إلى جانب الفرن لأجد حليمة قد عادت من جديد ..
اقتربت منها ، و على ضوء النار التي أشعلتها لمحت عينيها المنتفختين من البكاء ..
- حليمة أرجوك .. قولي لي ما الذي يحدث و كيف هو المفضل ؟
في هذه المرة .. نظرت بإمعان في عينيها فتناهت إلي من أعماقهما صرخة مدوية أعقبها نحيب متواصل .
مادت الأرض تحت قدمي .. التفت إلى المنزل هناك ثم عدت أنظر إليها متسائلا فلم أجد غير الجواب نفسه ، و أسمع نفس الصيحة و نفس النحيب .. عادت بي الذاكرة إلى ما كنت أتخيله من ترنيمة شجية تنبعث من السماء فوقف شعر رأسي و أحسست أن قدمي لم تعودا تستطيعان حملي فاستندت إلى كرسي خشبي مرمى إلى جانب الفرن كي لا أسقط .. ثم تلا ذلك مجيئا و ذهابا و هرولة من جديد .. كنت أريد أن أسمع كلاما يطمئنني و يبعد عني ما تمثل لي من حقيقة لا مراء فيها .. لكني ، على العكس من ذلك ، لم أسمع إلا همهمة و لم أر إلا إشارات مبهمة زادت من شجوني .. حتى جاء الضربة القاضية من إمام المسجد وهو يودع والد حليمة قائلا في أسى :
- إنا لله و إنا إليه راجعون .."
بالأمس اختفت غادتي .. و اليوم يغيب صديقي .. فماذا تخبئ لي الأيام ؟
[/align]
رشيد الميموني غير متصل   رد مع اقتباس