الموضوع: رحيل مقهى
عرض مشاركة واحدة
قديم 05 / 05 / 2010, 52 : 02 PM   رقم المشاركة : [1]
مسعدالنحلة
كاتب نور أدبي مشارك
 





مسعدالنحلة is on a distinguished road

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: ــــــــــــــــــــ

story2 رحيل مقهى

رحيـــل مقهـــــى





سحابات الدخان تتصاعد في هذا الجو الخانق .. المعبأ برائحة التبغ .. تضايقني .. وتسبب لي موجات من السعال المتلاحق كلما زادت عن الحد .. كانت تشتد وطأتها .. وتؤول إلى أستار كثيفة الرمادية كلما مر الوقت ، وأوغل الليل .. ورغم ذلك كانت جلستي المفضلة هنا .. في هذا المقهى العتيق .. اعتدت سحاباته الخانقة .. ومقاعده البالية .. ورواده الذين تباينت أشكالهم وأعمارهم .. وإن كانت الوجوه نفسها كل يوم .. لا تتغير ، وتوقيت حضورهم لا يتغير .. حتى المقهى منذ عهد بعيد لم يتغير .. المعلم دومة بشاربه الكثيف .. وعمامته الأنيقة المحبوكة على رأسه .. كأنه لا يخلعها أبدا ، وإلا تغير شكلها .. كان هناك شبه كبير بينه وبين الصورة الضخمة المعلقة على الحائط فوق رأسه .. الفرق الوحيد هو فارق السن بينهما .
أرتاد هذا المقهى منذ تعييني في المصلحة .. منذ عشر سنين كاملة .. قادني إليه زميل هو أول من استقبلني بالترحاب ، وكلف نفسه طواعية بالعناية بي ، وبشئوني .. اصطحبني للسمسار واستأجر لي الغرفة التي أسكنها في بدروم أحد البنايات العتيقة القريبة من مقر المصلحة .. ومن المقهى .. تعرفت من خلاله على هذا المقهى ، وعلى معظم رواده .. فقد كان يعرفهم ويعرفونه من طول العشرة .. ولما انتقل زميلي للعمل في بلدة أخرى قريبة من محافظته .. بقيت أنا مواظبا على هذه العادة التي ألفتها .. ولا أستطيع الإقلاع عنها .. رغم الدخان الكثيف والسعال المتلاحق ، ورائحة التبغ النفاذة .. كان هذا المقهى هو ملهاتي الوحيدة .. والحق يقال كنت أستمتع بها .. بل أنتظر موعد انتهاء عملي اليومي ، فأتناول وجبة غذائي في أحد المطاعم القريبة .. وأسرع إلى المقهى .. فأحبس بكوب الشاي المعهود .. وأنتظر في مكاني المفضل في ركن المقهى وفود الرواد تباعا .. كان لكل وقت رواده .. ففي الصباح أصحاب المعاشات والمسنين .. يكون الجو صحوا ، وسماء المقهى صافية نقية .. والسكون مطبقا .. لا تكاد تسمع إلا صوت كنكه صبي المقهى وهو يتنقل بين الرواد كطائر أبو قردان .. يلبي طلباتهم بصوته الرفيع المسرسع ( واحد شاي على مية بيضا وصلحه .. واحد بنزهير على المزاج .. واحد حلبه حصى من اللي قلبك يحبها ...... ) .. كان كنكه يبذل جهدا كبيرا بتعليقاته ليشيع البهجة في هذه الخشب المسندة .. لتدب فيها الروح .. وتعود إلى الحياة .. ورغم محاولاته التي كانت تضيع أدراج الرياح ، إلا أنه لم يكن ييأس ، أو يقلع عن ذلك .. كان يشعر بالانتصار حين ترفرف ابتسامة أو انفراجة فم أحد الرواد .. أو يكشف عن ظلام الكهف الضارب في ظلمة فيه .. أو حين يتململ البعض في مقاعدهم ، ولولا هذه الململة لحسبتهم أمواتا .. لا أحب ارتياد المقهى في هذه الفترة الكئيبة .. شديدة الكآبة .. صارخة السكون والعبوس .. رغم أن نوبة السعال المتلاحق لا تنتابنى فيها .. ورائحة الدخان المعتق غير موجودة لتخنقني .. وسحابات الستارات الباهتة بلون الرماد ليس لها وجود في فراغ المقهى الذي يبدو في هذه الفترة أكثر رحابة واتساعا .. أما فترة الظهيرة .. فقد كان يتوافد فيها الموظفون العُزاب أمثالي ، وبعض المتزوجين الذين فروا من دورهم ، بعد معارك طاحنة ومشاحنات لم يطيقوها مع زوجاتهم .. وكان هؤلاء الموظفون يملأون المكان حيوية ونشاطا .. فهم في عجلة من أمرهم ، أمسك القلق والحيرة بتلابيبهم .. وهزت المشاكل والمشاحنات أعصابهم .. أو داهمتهم الوحدة وقبضت على خناقهم كالعُزاب أمثالي .. الذين لا يشغلهم أسرة أو مسئولية .. تجد رواد فترة الظهيرة أكثر نبضا وحركة .. يساعدهم على ذلك روح الشباب فيهم .. منهم من يفرغ الشحنات المكبوتة في صدره .. يسرد لرفاقه حكاياته ومشاكله في حماس لكسب مناصرتهم لموقفه ، ومنهم من يطرح أزمة يمر بها في محاولة لإيجاد حل أو على الأقل يخخف من ثقلها على نفسه .. ومنهم من يتسامر مع صديق ، أو يلاعبه النرد أو الشطرنج أو الدومينو .. يملأون الجو طرقعة ، وخبطا ، وصياحا .. وسط مجموعة المتحولقين حولهم يؤازرونهم ويلهبون حماسهم ( لزوم القعدة ) .. كانت دائما هذه الفترة تنبض بالإثارة والمرح .. وتتعالى فيها الضحكات والقفشات .. وتتصاعد فيها النكات والدعابات .. كان كنكه صبي المقهى في هذه الفترة يشتعل حركة ونشاطا .. يتنقل كالعصفور المتوتر بين مقاعد الرواد يحمل الصواني بالمشروبات ويتحرك أو يقفز كأنه لاعب في سرك .. كانت تعليقاته وقفشاته الملتهبة تناسب هذا الجو .. أما الدخان فلم يكن يتصاعد كثيرا .. إلا من بعض السجائر المعدودة في أصابع الرواد .. كأنها أنفاس واهنة لمحب هائم .. وزفرات عاشق متيم .. كان هذا الجو يروق لي لذا كنت أحرص على أن أتواجد في المقهى بعد انتهاء العمل مباشرة ، وربما أتناول وجبة غذائي بالمقهى مستعينا ببعض السندويتشات أبتاعها في طريقي .. كنت أقضي باقي اليوم كله في المقهى .. لم أكن أغادر .. ويتبدل الرواد مع مرور الوقت وتتحول الوجوه .. فعندما تميل الشمس إلى المغيب .. وتغمر الأضواء الكهربائية أنحاء المقهى والشوارع والمدينة كلها ، يتوافد الناس من كل صنف ونوع .. منهم التجار الذين حضروا لإبرام الصفقات .. ومنهم أصحاب المهن والحرف الذين أغلقوا محلاتهم وورشهم ، وأتوا لقضاء سهرتهم بين دعاباتهم القوية الشرسة العنيفة ، وخراطيم الشيشة تدور بينهم .. وكركة الجوزة تذمجر في انفعال .. ولم يكن الأمر يخلو من مشاجرات قد تنتهي إلى قسم البوليس .. أو يتكالب الرواد وينجحوا في فضها وإخمادها قبل أن تستفحل .
كانت الوجوه إجمالا هي نفس الوجوه .. .. ولكن كانت تختلف من فترة إلى أخرى .. ففي الصباح المسنون وأرباب المعاشات والذين أثقلت كواهلهم السنون .. وفي الظهيرة الموظفون .. وفي المساء خليط من التجار وأصحاب المهن والحرف وآخرون .. الوحيد الذي لم يكن يتغير خلال الفترات الثلاث .. بخلاف كنكه والمعلم دومه .. هو هنداوي ماسح الأحذية .. بجلبابه العتيق الذي يكاد يغطي جسده النحيل .. وطاقيته البنية التي برقشتها لطع الورنيش بألوانها المتداخلة في عشوائية وارتجال .. ووجهه الأغبر الأشعث الذي يعبر بلا مغالاة عن حالة الفقر والعوز التي يعيشها هذا الكائن .. ينتقل بين أقدام الرواد في وهن وضعف بالغين .. ربما يزداد بعض النشاط في فترة الظهيرة .. مع رواج بضاعته مع فئة الموظفين الذين كانوا يحرصون على تلميع أحذيتهم من آن لآخر .. أما في فترة الصباح فكان هنداوي يفترش جانبا للمقهى من الخارج ، وينتظر بلا أمل يرتجى ، فأرباب المعاشات والمسنون لم يكن يستهويهم مسألة تلميع أحذيتهم .. وربما كانوا يخشون خلعها من أقدامهم فيتعذر عليهم لبسها مرة أخرى .. وربما لتدبير دخولهم الضعيفة للوفاء بشراء بعض الأدوية التي أصبحت من ضرورياتهم .. المهم أنك لم تكن لترى أي منهم يتعامل مع هنداوي من قريب أو من بعيد .. أما في المساء فكان هنداوي يفترش سنتيمترات من الرصيف على مقربة من المقهى .. ويضطجع .. في انتظار أن يمن عليه احد أصحاب المهن والتجار بمسحة حذاء ، أو بنفحة مجانية يتباهى بها بين أقرانة وخاصة التجار .. أصبح وجود هنداوي بهذا المقهى لصيقا بعد أن اختفت المقاهي الأخرى تباعا .. بعد أن فشلت في الصمود أمام حركة التطور والانفتاح التي عمت المجتمع هذه الأيام .. فانتشرت البوتيكات .. ومحلات الكمبيوتر .. ومعارض المحمول .. فتساقطت المقاهي أمام هذا الوافد الجديد كأوراق الشجر وقت الخريف .. وبعد أن بدأت تختفي عادة الجلوس على المقاهي بين الشباب من الجيل الجديد ، وبعد أن حل محلها الشبكة الألكترونية العنكبوتية ( النت ) .. لم يكن هنداوي يبتعد عن المقهى ليلا أو نهارا .. وكثيرا ما كان المعلم دومه يستعين به في مسح وتنظيف المقهى بعد رحيل كل الرواد قرب الفجر .. كان المقهى مصدر عيشه الوحيد .. وكما يقول هو أنه لا يتقن عملا آخر بديلا عن مسح الأحذية .. كنت أشفق عليه كثيرا .. وأنفحه ما تيسر من قطع النقود .. وأعتقد كان هناك من يحذو حذوي .
أصبح مقهانا الوحيد في الحي على قيد الحياة ، بعد أن كانوا خمسة .. لذا فقد زادت حركة الرواد إليه .. كان يعج بهم .. لم تكن تجد موطئ قدم فيه وقت الذروة .. كان المعلم دومه حين يشتد الزحام على مقهاه ، ويتكالب عليه الرواد .. يستأجر مقاعد إضافية من محل الفراشة المجاور .. ليشغل بها الرصيف المتسع أمام المقهى .. رغم مخالفة ذلك لقوانين ولوائح شرطة المرافق ، ولكنه كان يغامر .. خاصة وأن وقت الذروة كان يشتد في الساعات المتأخرة من السهرة .
كنا في شهر يوليه .. وكان الحر في أوجه .. واللزوجة قد تمكنت من كل شيء .. والعرق غزير .. يحيل الملابس إلى البلل .. حتى أنك كنت تشعر بها على جسدك ملتصقة لزجة .. كان الجو هذا العام ، وفي هذا الوقت بالذات أكثر سعيرا .. وأمضى توهجا عن أي عام مضى .
قررت أن أحصل على أجازتي السنوية هذا العام .. خلافا للعادة التي جبلت عليها في الأعوام السابقة .. لأنني كنت لا أتصور أن يمر يوم دون أن أمضيه في المقهى التي ملكت علىّ كل كياني وأصبحت مسرح حياتي النابض .. كانت تسري في عروقي مع دمي ، وتملأ رئتي كأنفاسي .. ولكن كان لحرارة الجو القاسية رأيا آخر .. فرأيت أن أحصل على الأجازة السنوية وأقضيها على أحد شواطئ الأسكندرية أو رأس البر .. وفعلا .. حصلت عليها .. بل تمكنت من الاشتراك مع مجموعة من الزملاء في رحلة إلى رأس البر نظمتها المصلحة التى أعمل فيها نظير مبلغ من المال يخصم عند صرف مرتبات الشهر .. أمضيت شهرا كاملا على شاطئ البحر الرحيب الهائل .. بين النسيم الرطب والهواء العليل .. والمناظر الساحرة للموج الثائر تارة .. والناعم الهادئ تارة أخرى .. كنت وحيدا .. لم أنضم لأي من الزملاء ، خاصة وأن كل منهم كان مشغولا بأسرته وأولاده .. ولكني كنت سعيدا رغم ذلك .. ولكن كان شوقي لمقهاي يناديني ويلح علىّ كل فترة .. تحملت الفترة الباقية من الأجازة في صبر .. أغراني عليه هذا الجو الرائع الساحر بين نسيم البر والبحر .. ورغم ذلك كنت أعد الأيام والساعات في شوق وشغف للعودة إلى المقهى الحبيب .. انتهت أيام الأجازة .. وعدنا إلى العمل .. ولم أنتظر حتى الظهيرة .. وقت انتهاء العمل .. بل حصلت على إذن من رئيسي .. متلهفا لأرى مقهاى .. وأجلس على مقعدي في ركني المعتاد .. أتنفس أريج جوها وعبقها المحبب إلى نفسي .. كما أنني اشتقت إلى سحابات الدخان الكثيفة ، والأستار الرمادية التي تحيل الأشياء إلى ضباب .. كنت أنهب الطريق نهبا .. لأصل إلى المقهى قبل أن يتوافد رواد الظهيرة الذين أميل إليهم ، وأستعذب حواراتهم ودعاباتهم .. وتنافساتهم في أدوار النرد والشطرنج والدومينو .. وصلت إلى المقهى .. ولكني لم أجده في مكانه .. ولا في أي مكان آخر .. إنه غير موجود .. رأيت عمالا يقومون بأعمال تكسير وقشير في الحوائط .. بعد أن أزالوا الأبواب الخشبية الضخمة .. تعجبت .. ربما أخطأت في المكان والموقع أو الشارع .. ربما تأثرت ذاكرتي بأجازة رأس البر ففقدت مخزونها من الذكريات .. ولكن محل الفراشة المجاور موجود في مكانه .. أبصرت كومة على الأرض بجوار المحل فاقتربت منها .. إنها هنداوي ماسح الأحذية .. يغط في نوم عميق لا حياة فيه .. تعجبت .. إنه لا ينام في هذا التوقيت .. رحت أحاول إيقاظه .. فتح عينيه بصعوبة .. كأنه يرفض أن يفيق ويرى الأشياء من حوله .. سألته أين المقهى .. سالت دمعة من عينه المنتفخة .. دعكها بظاهر كفه المعروقة .. ارتعشت شفتاه وفتحتي أنفه .. قال بعد جهد ..
ــ رحلت ..
سألته بإلحاح ولهفة ..
ــ وماذا يفعل هؤلاء العمال ؟ ..
أجاب بحسرة ..
ــ محل ( كمبروتر ) ..

ــــــــــــــــــــــــ

نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
توقيع مسعدالنحلة
 
ـــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


مسعدالنحلة غير متصل   رد مع اقتباس